كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

خارج باب النصر حتى انتهت عمارة هذه المدرسة ، فنقل إليها ودفن فيها.

وإينال هذا ولي نيابة حلب وصار في آخر عمره أتابك العساكر بديار مصر حتى مات ، وكانت جنازته كثيرة الجمع مشى فيها السلطان الملك الظاهر برقوق والعساكر.

مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار

هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة ، كان موضعها قيسارية يعلوها طباق كلها وقف ، فأخذها وهدمها وابتدأ بشق الأساس في يوم السبت خامس جمادى الأولى سنة عشر وثمانمائة ، وجمع لها الآلات من الأحجار والأخشاب والرخام وغير ذلك ، وكان بمدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناه من قلعة الجبل ، بقية من داخلها ، فيها شبابيك من نحاس مكفت بالذهب والفضة وأبواب مصفحة بالنحاس البديع الصنعة المكفت ، ومن المصاحف والكتب في الحديث والفقه وغيره من أنواع العلوم جملة ، فاشترى ذلك من الملك الصالح المنصور حاجي بن الأشرف بمبلغ ستمائة دينار ، وكانت قيمتها عشرات أمثال ذلك ، ونقلها إلى داره. وكان مما فيها عشرة مصاحف طول كل مصحف منها أربعة أشبار إلى خمسة في عرض يقرب من ذلك ، أحدها بخط ياقوت ، وآخر بخط ابن البوّاب ، وباقيها بخطوط منسوبة ، ولها جلود في غاية الحسن معمولة في أكياس الحرير الأطلس ، ومن الكتب النفيسة عشرة أحمال جميعها مكتوب في أوّله الإشهاد على الملك الأشرف بوقف ذلك ، ومقرّه في مدرسته.

فلما كان يوم الخميس ثالث شهر رجب سنة إحدى عشرة وثمانمائة وقد انتهت عمارتها ، جمع بها الأمير جمال الدين القضاة والأعيان ، وأجلس الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزميّ الشافعيّ على سجادة المشيخة وعمله شيخ التصوّف ، ومدرّس الشافعية ، ومدّ سماطا جليلا أكل عليه كلّ من حضر ، وملأ البركة التي توسط المدرسة ماء قد أذيب فيه سكر مزج بماء الليمون ، وكان يوما مشهودا ، وقرّ في تدريس الحنفية بدر الدين محمود بن محمد المعروف بالشيخ زاده الخرزيانيّ ، وفي تدريس المالكية شمس الدين محمد بن البساطيّ ، وفي تدريس الحنابلة فتح الدين أبا الفتح محمد بن نجم الدين محمد بن الباهليّ ، وفي تدريس الحديث النبويّ شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر ، وفي تدريس التفسير شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقينيّ. فكان يجلس من ذكرنا واحدا بعد واحد في كل يوم إلى أن كان آخرهم شيخ التفسير ، وكان مسك الختام ، وما منهم إلّا من يحضر معه ويلبسه ما يليق به من الملابس الفاخرة ، وقرّر عند كلّ من المدرّسين الستة طائفة من الطلبة ، وأجرى لكل واحد ثلاثة أرطال من الخبز في كل يوم ، وثلاثين درهما فلوسا في كل شهر ، وجعل لكل مدرّس ثلاثمائة درهم في كل شهر ، ورتب بها إماما وقومة ومؤذنين وفرّاشين ومباشرين ، وأكثر من وقف الدور عليها ، وجعل فائض

٢٦١

وقفها مصروفا لذريته ، فجاءت في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زيّ وأبدع نظام ، إلّا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أخذ من الناس غصبا ، وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد.

فلما قبض عليه السلطان وقتله في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ، واستولى على أمواله ، حسّن جماعة للسلطان أن يهدم هذه المدرسة ورغبوه في رخامها ، فإنه غاية في الحسن ، وأن يسترجع أوقافها ، فإن متحصلها كثير. فمال إلى ذلك وعزم عليه. فكرّه ذلك للسلطان الرئيس فتح الدين فتح الله كاتب السرّ ، واستشنع أن يهدم بيت بني على اسم الله يعلن فيه بالأذان خمس مرّات في اليوم والليلة ، وتقام به الصلوات الخمس في جماعة عديدة ، ويحضره في عصر كل يوم مائة وبضعة عشر رجلا يقرءون القرآن في وقت التصوّف ، ويذكرون الله ويدعونه ، وتتحلق به الفقهاء لدرس تفسير القرآن الكريم وتفسير حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفقه الأئمة الأربعة ، ويعلّم فيه أيتام المسلمين كتاب الله عزوجل ، ويجري على هؤلاء المذكورين الأرزاق في كل يوم ، ومن المال في كل شهر ، ورأى أن إزالة مثل هذا وصمة في الدين ، فتجرّد له وما زال بالسلطان يرغّبه في إبقائها على أن يزال منها اسم جمال الدين وتنسب إليه ، فإنه من الفتن هدم مثلها. ونحو ذلك ، حتّى رجع إلى قوله وفوّض أمرها إليه ، فدبر ذلك أحسن تدبير.

وهو أنّ موضع هذه المدرسة كان وقفا على بعض الترب ، فاستبدل به جمال الدين أرضا من جملة أراضي الخراج بالجيزة ، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال ، وهدم البناء وبنى موضعه هذه المدرسة ، وتسلّم متولي موضعها الأرض المستبدل بها ، إلى أن قتل جمال الدين وأحيط بأمواله ، فدخل فيما أحيط به هذه الأرض المستبدل بها ، وادّعى السلطان أن جمال الدين افتأت عليه في أخذ هذه الأرض ، وأنه لم يأذن في بيعها من بيت المال ، فأفتى حينئذ محمد شمس الدين المدنيّ المالكيّ بأن بناء هذه المدرسة الذي وقفه جمال الدين على الأرض التي لم يملكها بوجه صحيح لا يصح ، وأنه باق على ملكه إلى حين موته ، فندب عند ذلك شهود القيمة إلى تقويم بناء المدرسة ، فقوّموها باثني عشر ألف دينار ذهبا ، وأثبتوا محضر القيمة على بعض القضاة ، فحمل المبلغ إلى أولاد جمال الدين حتى تسلموه وباعوا بناء المدرسة للسلطان ، ثم استردّ السلطان منهم المبلغ المذكور وأشهد عليه أنه وقف أرض هذه المدرسة بعد ما استبدل بها ، وحكم حاكم حنفيّ بصحة الاستبدال ، ثم وقف البناء الذي اشتراه وحكم بصحته أيضا ، ثم استدعى بكتاب وقف جمال الدين ولخصه ، ثم مزقه وجدّد كتاب وقف يتضمن جميع ما قرّره جمال الدين في كتاب وقفه من أرباب الوظائف ومالهم من الخبز في كل يوم ومن المعلوم في كل شهر ، وأبطل ما كان لأولاد جمال الدين من فائض الوقف ، وأفرد لهذه المدرسة مما كان جمال الدين جعله وقفا عليها عدّة مواضع تقوم بكفاية مصروفها ، وزاد في أوقافها أرضا بالجيزة ،

٢٦٢

وجعل ما بقي من أوقاف جمال الدين على هذه المدرسة ، بعضه وقفا على أولاده ، وبعضه وقفا على التربة التي أنشأها في قبة أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر ، وحكم القضاة الأربعة بصحة هذا الكتاب بعد ما حكموا بصحة كتاب وقف جمال الدين ، ثم حكموا ببطلانه ، ثم لما تمّ ذلك محى من هذه المدرسة اسم جمال الدين ورنكه ، وكتب اسم السلطان الملك الناصر فرج بدائر صحنها من أعلاه ، وعلى قناديلها وبسطها وسقوفها ، ثم نظر السلطان في كتبها العلمية الموقوفة بها فأقرّ منها جملة كتب بظاهر كل سفر منها فصل يتضمن وقف السلطان له ، وحمل كثير من كتبها إلى قلعة الجبل ، وصارت هذه المدرسة تعرف بالناصرية بعد ما كان يقال لها الجمالية.

ولم تزل على ذلك حتى قتل الناصر وقدم الأمير شيخ إلى القاهرة واستولى على أمور الدولة ، فتوصل شمس الدين محمد أخو جمال الدين وزوّج ابنته لشرف الدين أبي بكر بن العجميّ موقع الأستادار الأمير شيخ ، حتى أحضر قضاة القضاة وحكم الصدر عليّ بن الأدميّ قاضي القضاة الحنفيّ بردّ أوقاف جمال الدين إلى ورثته من غير استيفاء الشروط في الحكم بل تهوّر فيه وجازف. ولذلك أسباب منها : عناية الأمير شيخ بجمال الدين الأستادار ، فإنه لما انتقل إليه إقطاع الأمير بحاس بعد موت الملك الظاهر برقوق ، استقرّ جمال الدين استاداره كما كان أستادار بحاس ، فخدمه خدمة بالغة ، وخرج الأمير شيخ إلى بلاد الشام واستقرّ في نيابة طرابلس ، ثم في نيابة الشام ، وخدمة جمال الدين له ولحاشيته ومن يلوذ به مستمرّة ، وأرسل مرّة الأمير شيخ من دمشق بصدر الدين بن الأدميّ المذكور في الرسالة إلى الملك الناصر وجمال الدين حينئذ عزيز مصر ، فأنزله وأكرمه وأنعم عليه وولاه قضاء الحنفية وكتابة السرّ بدمشق ، وأعاده إليه وما زال معتنيا بأمور الأمير شيخ ، حتى أنه اتهم بأنه قد مالأه على السلطان ، فقبض عليه السلطان الملك الناصر بسبب ذلك ونكبه ، فلما قتل الناصر واستولى الأمير شيخ على الأمور بديار مصر ، ولى قضاء الحنفية بديار مصر لصدر الدين عليّ بن الأدميّ المذكور ، وولى أستاداره بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسيّ أستادار السلطان ، فخدم شرف الدين أبو بكر بن العجميّ زوج ابنة أخي جمال الدين عنده موقعا ، وتمكن منه فأغراه بفتح الدين فتح الله كاتب السرّ حتى أثخن جراحه عند الملك المؤيد شيخ ، ونكبه بعد ما تسلطن ، واستعان أيضا بقاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ ، فإنه كان عشيره وصديقه من أيام جمال الدين ، ثم استمال ناصر الدين محمد بن البارزيّ موقع الأمير الكبير شيخ ، فقام الثلاثة مع شمس الدين أخي جمال الدين حتى أعيد إلى مشيخة خانكاه بيبرس وغيرها من الوظائف التي أخذت منه ، عند ما قبض عليه الملك الناصر وعاقبه ، وتحدّثوا مع الأمير الكبير في ردّ أوقاف جمال الدين إلى أخيه وأولاده ، فإن الناصر غصبها منهم وأخذ أموالهم وديارهم بظلمه إلى أن فقدوا القوت ، ونحو هذا من القول حتى حرّكوا منه حقدا كامنا على الناصر ، وعلموا منه عصبته لجمال الدين هذا ، وغرض القوم في الباطن

٢٦٣

تأخير فتح الدين والإيقاع به ، فإنه ثقل عليهم وجوده معهم ، فأمر عند ذلك الأمير الكبير بعقد مجلس حضره قضاة القضاة والأمراء وأهل الدولة عنده بالحراقة من باب السلسلة ، في يوم السبت تاسع عشري شهر رجب سنة خمس عشرة ، وتقدّم أخو جمال الدين ليدّعي على فتح الدين فتح الله كاتب السرّ ، وكان قد علم بذلك ووكل بدر الدين حسنا البردينيّ أحد نوّاب الشافعية في سماع الدعوى وردّ الأجوبة ، فعند ما جلس البردينيّ للمحاكمة مع أخي جمال الدين ، نهره الأمير الكبير وأقامه وأمر بأن يكون فتح الله هو الذي يدّعى عليه ، فلم يجد بدّا من جلوسه ، فما هو إلّا أن ادّعى عليه أخو جمال الدين بأنه وضع يده على مدرسة أخيه جمال الدين وأوقافه بغير طريق ، فبادر قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ وحكم برفع يده وعود أوقاف جمال الدين ومدرسته إلى ما نص عليه جمال الدين ، ونفذ بقية القضاة حكمه وانفضوا على ذلك ، فاستولى أخو جمال الدين وصهره شرف الدين على حاصل كبير كان قد اجتمع بالمدرسة من فاضل ربعها ومن مال بعثه الملك الناصر إليها ، وفرّقوه حتى كتبوا كتابا اخترعوه من عند أنفسهم جعلوه كتاب وقف المدرسة ، زادوا فيه أن جمال الدين اشترط النظر على المدرسة لأخيه شمس الدين المذكور وذريته ، إلى غير ذلك مما لفقوه بشهادة قوم استمالوهم فمالوا ، ثم أثبتوا هذا الكتاب على قاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ ، ونفذه بقية القضاة ، فاستمرّ الأمر على هذا البهتان المختلق والإفك المفترى مدّة ، ثم ثار بعض صوفية هذه المدرسة وأثبت محضرا بأن النظر لكاتب السرّ ، فلما ثبت ذلك نزعت يد أخي جمال الدين عن التصرّف في المدرسة ، وتولى نظرها ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السرّ ، واستمر الأمر على هذا ، فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمه به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ما صححوه ، ثم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه ، كل ذلك ميلا مع الجاه وحرصا على بقاء رياستهم ، ستكتب شهادتهم ويسألون.

المدرسة الصرغتمشية

هذه المدرسة خارج القاهرة بجوار جامع الأمير أبي العباس أحمد بن طولون ، فيما بينه وبين قلعة الجبل ، كان موضعها قديما من جملة قطائع ابن طولون ، ثم صار عدّة مساكن ، فأخذها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ رأس نوبة النوب وهدمها وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة ، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين ، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا ، فركب الأمير صرغتمش في يوم الثلاثاء تاسعه وحضر إليه الأمير سيف الدين شيخو العمريّ مدبر الدولة ، والأمير طاشتمر القاسميّ حاجب الحجاب ، والأمير توقتاي الدوادار ، وعامّة أمراء الدولة ، وقضاة القضاة الأربعة ، ومشايخ العلم ، ورتب مدرّس الفقه بها قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الاتقانيّ ، فألقى القوام الدرس ، ثم مدّ سماط جليل بالهمة الملوكية ، وملئت البركة التي بها سكّرا قد أذيب بالماء ،

٢٦٤

فأكل الناس وشربوا وأبيح ما بقي من ذلك للعامّة فانتهبوه ، وجعل الأمير صرغتمش هذه المدرسة وقفا على الفقهاء الحنفية الآفاقية ، ورتب بها درسا للحديث النبويّ ، وأجرى لهم جميعا المعاليم من وقف رتّبه لهم ، وقال أدباء العصر فيها شعرا كثيرا. فقال العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ :

ليهنك يا صرغتمش ما بنيته

لآخراك في دنياك من حسن بنيان

به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة

فلله من زهر ولله من باني

وخلع في هذا اليوم على القوام خلعة سنية وأركبه بغلة رائعة ، وأجازه بعشرة آلاف درهم على أبيات مدحه بها في غاية السماجة وهي :

أرأيتم من حاز الرتبا

وأتى قربا ونفى ريبا

فبدا علما وسما كرما

وما قدما ولقد غلبا

بتقى وهدى وندا وجدا

فعدا وسدى وجبى وحبا

بدى سننا أحيى سننا

حلّى زمنا عند الأدبا

هذا صرغتمش قد سكبت

أيام إمارته السحبا

وأزال الجدب إلى خصب

والضنك إلى رغد قلبا

بإعانة جبّار ربي

ذي العرش وقد بذل النشبا

ملك فطن ركن لسن

حسن بسن ربى الأدبا

لك الكبرا ملك الأمرا

ملك العلما ملك الأدبا

بحر طام غيث هام

قد رسام حامى الغربا

ببشاشته وسماحته

وحماسته جلّى الكربا

وديانته وصيانته

وأمانته حاز الرتبا

أبهى أصلا أسنى نسلا

أعطى فضلا مأوى الغربا

نعم المأوى مصر لمّا

شملت قوما نبلا نجبا

فنمت نورا وسمت نورا

وعلت دورا وأرت طربا

نسقت دررا وسقت دررا

ودعت غررا وحوت أدبا

وخطابته افتخرت وعلت

وسمت وزرت وحوت أدبا

جدّد درسا ثم اجن جنّى

منها ومنى فمعى طلبا

من نازعني نسبي علنا

فاراب لنا نعمت نسبا

كنون أبا لحنفية ث

مّ قوام الدين بدا لقبا

عش في رحب لترى عجبا

من منتجب عجب عجبا

صرغتمش : الناصريّ الأمير سيف الدين رأس نوبة ، جلبه الخواجا الصوّاف في سنة

٢٦٥

سبع وثلاثين وسبعمائة ، فاشتراه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بمائتي ألف درهم فضة ، ثمنها يومئذ نحو أربعة آلاف مثقال ذهبا ، وخلع على الخواجا تشريفا كاملا بحياصة ذهب ، وكتب له توقيعا بمسامحة مائة ألف درهم من متجره ، فلم يعبأ به السلطان ، وصار في أيامه من جملة الجمدارية ، وحكي عن القاضي شرف الدين عبد الوهاب ناظر الخاص أنّ السلطان أنعم على صرغتمس هذا بعشر طاقات أديم طائفيّ ، فلما جاء إلى النشو تردّد إليه مرارا حتى دفعها إليه ، ولم يزل خامل الذكر إلى أن كانت أيام المظفر حاجي بن محمد بن قلاون ، فبعثه مسفرا مع الأمير فخر الدين إياز السلاح دار لما استقرّ في نيابة حلب ، فلما عاد من حلب ترقى في الخدمة وتمكن عند المظفر وتوجه في خدمة الصالح بن محمد بن قلاون إلى دمشق في نوبة يلبغاروس ، وصار السلطان يرجع إلى رأيه ، فلما عاد من دمشق أمسك الوزير علم الدين عبد الله بن زنبور بغير أمر السلطان وأخذ أمواله ، وعارض في أمره الأمير شيخو والأمير طاز ، ومن حينئذ عظم ولم يزل حتى خلع السلطان الملك الصالح وأعيد الناصر حسن بن محمد بن قلاون ، فلما أخرج الأمير شيخو انفرد صرغتمش بتدبير أمور المملكة وفخم قدره ونفذت كلمته ، فعزل قضاة مصر والشام وغيّر النوّاب بالمماليك ، والسلطان يحقد عليه إلى أن أمسكه في العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين ، وقبض معه على الأمير طشتمر القاسميّ حاجب الحجاب ، والأمير ملكتمر المحمديّ وجماعة وحملهم إلى الإسكندرية فسجنوا بها ، وبها مات صرغتمش بعد شهرين واثني عشر يوما من سجنه في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وسبعمائة. وكان مليح الصورة جميل الهيئة ، يقرأ القرآن الكريم ويشارك في الفقه على مذهب الحنفية ، ويبالغ في التعصب لمذهبه ، ويقرّب العجم ويكرمهم ويجلهم إجلالا زائدا ، ويشدو طرفا من النحو ، وكانت أخلاقه شرسة ونفسه قوية ، فإذا بحث في الفقه أو اللغة اشتط ، ولما تحدّث في الأوقاف وفي البريد خاف الناس منه ، فلم يكن أحد يركب خيل البريد إلّا بمرسومه ، ومنع كل من يركب البريد أن يحمل معه قماشا ودراهم على خيل البريد ، واشتدّ في أمر الأوقاف فعمرت في مباشرته ، ولما قبض عليه أخذ السلطان أمواله وكانت شيئا كثيرا يكلّ عنه الوصف.

ذكر المارستانات

قال الجوهريّ في الصحاح : والمارستان بيت المرضى ، معرّب عن ابن السكيت ، وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر : أن الملك مناقيوش بن أشمون أحد ملوك القبط الأول بأرض مصر ، أوّل من عمل البيمارستانات لعلاج المرضى ، وأودعها العقاقير ورتب فيها الأطباء وأجرى عليهم ما يسعهم ، ومناقيوش هذا هو الذي بنى مدينة أخميم ، وبنى مدينة سنتريه. وقال زاهد العلماء أبو سعيد منصور بن عيسى : أوّل من اخترع المارستان وأوجده بقراط بن أبو قليدس ، وذلك أنه عمل بالقرب من داره في موضع من بستان كان له ، موضعا مفردا للمرضى ، وجعل فيه خدما يقومون بمداواتهم وسماه

٢٦٦

اصدولين ، أي مجمع المرضى ، وأوّل من بنى المارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك ، وهو أيضا أوّل من عمل دار الضيافة ، وذلك في سنة ثمان وثمانين ، وجعل في المارستان الأطباء وأجرى لهم الأرزاق ، وأمر بحبس المجذمين لئلا يخرجوا ، وأجرى عليهم ، وعلى العميان الأرزاق. وقال جامع السيرة الطولونية : وقد ذكر بناء جامع ابن طولون وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب ، فيها جميع الشرابات والأدوية ، وعليها خدم ، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة.

مارستان ابن طولون

هذا المارستان موضعه الآن في أرض العسكر ، وهي الكيمان والصحراء التي فيما بين جامع ابن طولون وكوم الجارح ، وفيما بين قنطرة السدّ التي على الخليج ظاهر مدينة مصر ، وبين السور الذي يفصل بين القرافة وبين مصر. وقد دثر هذا المارستان في جملة ما دثر ولم يبق له أثر. وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء : وأمر أحمد بن طولون أيضا ببناء المارستان للمرضى ، فبني لهم في سنة تسع وخمسين ومائتين. وقال جامع السيرة الطولونية : وفي سنة إحدى وستين ومائتين بنى أحمد بن طولون المارستان ، ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان ، ولما فرغ منه حبس عليه دار الديوان ودوره في الأساكفة والقيسارية وسوق الرقيق ، وشرط في المارستان أن لا يعالج فيه جنديّ ولا مملوك ، وعمل حمّامين للمارستان ، إحداهما للرجال والأخرى للنساء ، حبسهما على المارستان وغيره ، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان ، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ ، فإذا أكل فرّوجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطي ماله وثيابه ، وفي سنة اثنتين وستين ومائتين كان ما حبسه على المارستان والعين والمسجد في الجبل الذي يسمى بتنور فرعون ، وكان الذي أنفق على المارستان ومستغله ستين ألف دينار ، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها والأطباء ، وينظر إلى المرضى وسائر الأعلّاء والمحبوسين من المجانين ، فدخل مرّة حتى وقف بالمجانين ، فناداه واحد منهم مغلول : أيّها الأمير اسمع كلامي ، ما أنا بمجنون ، وإنما عملت عليّ حيلة ، وفي نفسي شهوة رمانة عريشية أكبر ما يكون ، فأمر له بها من ساعته ، ففرح بها وهزها في يده ورازها ثم غافل أحمد بن طولون ورمى بها في صدره ، فنضحت على ثيابه ، ولو تمكنت منه لأتت على صدره ، فأمرهم أن يحتفظوا به ، ثم لم يعاود بعد ذلك النظر في المارستان.

مارستان كافور

هذا المارستان بناه كافور الإخشيديّ ، وهو قائم بتدبير دولة الأمير أبي القاسم أنوجور بن محمد الإخشيد بمدينة مصر في سنة ست وأربعين وثلاثمائة.

٢٦٧

مارستان المغافر

هذا المارستان كان في خطة المغافر التي موضعها ما بين العامر من مدينة مصر وبين مصلّى خولان التي بالقرافة ، بناه الفتح بن خاقان في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله ، وقد باد أثره.

المارستان الكبير المنصوريّ

هذا المارستان بخط بين القصرين من القاهرة ، كان قاعة ست الملك ابنة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ ، ثم عرف بدار الأمير فخر الدين جهاركس بعد زوال الدولة الفاطمية ، وبدار موسك ، ثم عرف بالملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وصار يقال لها لدار القطبية ، ولم تزل بيد ذريته إلى أن أخذها الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ من مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل المعروفة بالقطبية ، وعوّضت عن ذلك قصر الزمرّد برحبة باب العيد في ثامن عشري ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة ، بسفارة الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ مدبر الممالك ، ورسم بعمارتها مارستانا وقبة ومدرسة ، فتولى الشجاعيّ أمر العمارة ، وأظهر من الاهتمام والاحتفال ما لم يسمع بمثله حتى تم الغرض في أسرع مدّة ، وهي أحد عشر شهرا وأيام ، وكان ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع وخلفت ست الملك بها ثمانية آلاف جارية وذخائر جليلة ، منها قطعة ياقوت أحمر زنتها عشرة مثاقيل ، وكان الشروع في بنائها مارستانا أوّل ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

وكان سبب بنائه أنّ الملك المنصور لما توجه وهو أمير إلى غزاة الروم في أيام الظاهر بيبرس سنة خمس وسبعين وستمائة ، أصابه بدمشق قولنج عظيم ، فعالجه الأطباء بأدوية أخذت له من مارستان نور الدين الشهيد فبرأ ، وركب حتى شاهد المارستان فأعجب به ، ونذران آتاه الله الملك أن يبني مارستانا ، فلما تسلطن أخذ في عمل ذلك فوقع الاختيار على الدار القطبية ، وعوّض أهلها عنها قصر الزمرّذ ، وولى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ أمر عمارته ، فأبقى القاعة على حالها وعملها مارستانا ، وهي ذات إيوانات أربعة ، بكلّ إيوان شاذروان ، وبدور قاعتها فقية يصير إليها من الشاذروانات الماء ، واتفق أن بعض الفعلة كان يحفر في أساس المدرسة المنصورية فوجد حق اشنان من نحاس ، ووجد رفيقه قمقما نحاسا مختوما برصاص ، فأحضرا ذلك إلى الشجاعيّ ، فإذا في الحق فصوص ماس وياقوت وبلخش ولؤلؤ ناصع يدهش الأبصار ، ووجد في القمقم ذهبا ، كان جملة ذلك نظير ما غرم على العمارة ، فحمله إلى أسعد الدين كوهيا الناصريّ العدل ، فرفعه إلى السلطان. ولما نجزت العمارة وقف عليها الملك المنصور من الأسلاك بديار مصر وغيرها ما يقارب ألف

٢٦٨

ألف درهم في كلّ سنة ، ورتب مصارف المارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام ، ثم استدعى قدحا من شراب المارستان وشربه وقال : قد وقفت هذا على مثلي فمن دوني ، وجعلته وقفا على الملك والمملوك والجنديّ والأمير والكبير والصغير والحرّ والعبد الذكور والإناث ، ورتب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاج إليه من به مرض من الأمراض ، وجعل السلطان فيه فرّاشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى ، وقرّر لهم المعاليم ، ونصب الأسرّة للمرضى وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها في المرض ، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعا ، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها ، وأفرد قاعة للرمدى ، وقاعة للجرحى ، وقاعة لمن به إسهال ، وقاعة للنساء ، ومكانا للمبرودين ينقسم بقسمين قسم للرجال وقسم للنساء ، وجعل الماء يجري في جميع هذه الأماكن ، وأفرد مكانا لطبخ الطغام والأدوية والأشربة ، ومكانا لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها ، ومواضع يخزن فيها الحواصل ، وجعل مكانا يفرق فيه الأشربة والأدوية ، ومكانا يجلس فيه رئيس اطباء لإلقاء درس طب ، ولم يحص عدّة المرضى بل جعله سبيلا لكل من يرد عليه من غنيّ وفقير ، ولا حدّد مدّة لإقامة المريض به ، بل يرتب منه لمن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه ، ووكل الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جندار في وقف ما عينه من المواضع ، وترتيب أرباب الوظائف وغيرهم ، وجعل النظر لنفسه أيام حياته ، ثم من بعده لأولاده ، ثم من بعدهم لحاكم المسلمين الشافعيّ ، فضمن وقفه كتابا تاريخه يوم الثلاثاء ثالث عشري صفر سنة ثمانين وستمائة ، ولما قرىء عليه كتاب الوقف قال للشجاعيّ : ما رأيت خط الأسعد كاتبي مع خطوط القضاة ، أبصر إيش فيه زغل حتى ما كتب عليه ، فما زال يقرّب لذهنه أن هذا مما لا يكتب عليه إلّا قضاة الإسلام حتى فهم ذلك ، فبلغ مصروف الشراب منه في كل يوم خمسمائة رطل سوى السكّر ، ورتب فيه عدّة ما بين أمين ومباشر ، وجعل مباشرين للإدارة ، وهم الذين يضبطون ما يشترى من أوصناف ، وما يحضر منها إلى المارستان ، ومباشرين لاستخراج مال الوقف ، ومباشرين في المطبخ ، ومباشرين في عمارة الأوقاف التي تتعلق به ، وقرّر في القبة خمسين مقرئا يتناوبون قراءة القرآن ليلا ونهارا ، ورتب بها إماما راتبا ، وجعل بها رئيسا للمؤذنين عند ما يؤذنون فوق منارة ليس في إقليم مصر أجلّ منها ، ورتب بهذه القبة درسا لتفسير القرآن فيه مدرّس ومعيدان وثلاثون طالبا ، ودرس حديث نبويّ ، وجعل بها خزانة كتب وستة خدّام طواشية لا يزالون بها ، ورتب بالمدرسة إماما راتبا ومتصدّرا لإقراء القرآن ، ودروسا أربعة للفقه على المذاهب الأربعة ، ورتب بمكتب السبيل معلمين يقرءان الأيتام ، ورتب للأيتام رطلين من الخبز في كلّ يوم لكلّ يتيم ، مع كسوة الشتاء والصيف.

فلما ولي الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك نظر المارستان ، أنشأ به قاعة للمرضى ، ونحت الحجارة المبنيّ بها الجدر كلها حتى صارت كأنها جديدة ، وجدّد تذهيب

٢٦٩

الطراز بظاهر المدرسة والقبة ، وعمل خمية تظل الأقفاص طولها مائة ذراع ، قام بذلك من ماله دون مال الوقف ، ونقل أيضا حوض ماء كان برسم شرب البهائم من جانب باب المارستان وأبطله لتاذي الناس بنتن رائحة ما يجتمع قدّامه من الأوساخ ، وأنشأ سبيل ماء يشرب منه الناس عوض الحوض المذكور ، وقد تورّع طائفة من أهل الديانة عن الصلاة في المدرسة المنصورية والقبة ، وعابوا المارستان لكثرة عسف الناس في عمله ، وذلك أنه لما وقع اختيار السلطان على عمل الدار القطبية مارستانا ندب الطواشي حسام الدين بلالا المغيثيّ للكلام في شرائها ، فساس الأمر في ذلك حتى أنعمت مؤنسة خاتون ببيعها على أن تعوّض عنها بدار تلمها وعيالها ، فعوّضت قصر الزمرّذ برحبة باب العيد مع مبلغ مال حمل إليها ، ووقع البيع على هذا ، فندب السلطان الأمير سنجر الشجاعيّ للعمارة ، فأخرج النساء من القطبية من غير مهلة ، وأخذ ثلاثمائة أسير وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدّم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم في الدار القطبية ، ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا ، وشدّد عليهم في ذلك ، وكان مهابا ، فلازموا العمل عنده ، ونقل من قلعة الروضة ما احتاج إليه من العمد الصوّان والعمد الرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك ، وصار يركب إليها كلّ يوم وينقل الأنقاض المذكورة على العجل إلى المارستان ، ويعود إلى المارستان فيقف مع الصناع على الأساقيل حتى لا يتوانوا في عملهم ، وأوقف مماليكه بين القصرين ، فكان إذا مرّ أحد ولو جلّ ألزموه أن يرفع حجرا ويلقيه في موضع العمارة ، فينزل الجنديّ والرئيس عن فرسه حتى يفعل ذلك ، فترك أكثر الناس المرور من هناك ، ورتبوا بعد الفراغ من العمارة ، وترتيب الوقف فتيا صورتها ما يقول أئمة الدين في موضع أخرج أهله منه كرها ، وعمر بمستحثين يعسفون الصناع ، وأخرب ما عمره الغير ونقل إليه ما كان فيه فعمر به ، هل تجوز الصلاة فيه أم لا ، فكتب جماعة من الفقهاء لا تجوز فيه الصلاة ، فما زال المجد عيسى بن الخشاب حتى أوقف الشجاعيّ على ذلك ، فشق عليه ، وجمع القضاة ومشايخ العلم بالمدرسة المنصورية وأعلمهم بالفتيا فلم يجبه أحد منهم بشيء سوى الشيخ محمد المرجانيّ فإنه قال : أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها ، وأقول الآن أنه يكره الدخول من بابها ، ونهض قائما فانفض الناس. واتفق أيضا أن الشجاعيّ ما زال بالشيخ محمد المرجانيّ ، يلح في سؤاله أن يعمل ميعاد وعظ بالمدرسة المنصورية حتى أجاب بعد تمنع شديد ، فحضر الشجاعيّ والقضاة ، وأخذ المرجانيّ في ذكر ولاة الأمور من الملوك والأمراء والقضاة ، وذمّ من يأخذ الأراضي غصبا ، ويستحث العمال في عمائره وينقص من أجورهم وختم بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان / ٢٧] وقام ، فسأله الشجاعيّ الدعاء له فقال : يا علم الدين قد دعا لك ودعا عليك من هو خير مني ، وذكر قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ من ولى من أمر أمّتي

٢٧٠

شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه» وانصرف. فصار الشجاعيّ : من ذلك في قلق ، وطلب الشيخ تقيّ الدين محمد بن دقيق العيد وكان له فيه اعتقاد حسن وفاوضه في حديث الناس في منع الصلاة في المدرسة ، وذكر له أن السلطان إنما أراد محاكاة نور الدين الشهيد والاقتداء به لرغبته في عمل الخير ، فوقع الناس في القدح فيه ، ولم يقدحوا في نور الدين. فقال له : إن نور الدين أسر بعض ملوك الفرنج وقصد قتله ، ففدى نفسه بتسليم خمسة قلاع وخمسمائة ألف دينار حتى أطلقه ، فمات في طريقه قبل وصوله مملكته ، وعمر نور الدين بذلك المال مارستانه بدمشق من غير مستحث ، فمن أين يا علم الدين تجد مالا مثل هذا المال وسلطانا مثل نور الدين ، غير أن السلطان له نيته ، وأرجو له الخير بعمارة هذا الموضع ، وأنت إن كان وقوفك في عمله بنية نفع الناس فلك الأجر ، وإن كان لأجل أن يعلم أستاذك علوّ همتك فما حصلت على شيء. فقال الشجاعيّ : الله المطلع على النيات ، وقرّر ابن دقيق العيد في تدريس القبة.

قال مؤلفه : إن كان التحرّج من الصلاة لأجل أخذ الدار القطبية من أهلها بغير رضاهم وإخراجهم منها بعسف واستعمال أنقاض القلعة بالروضة ، فلعمري ما تملك بني أيوب الدار القطبية وبناؤهم قلعة الروضة وإخراجهم أهل القصور من قصورهم التي كانت بالقاهرة وإخراج سكان الروضة من مساكنهم ، إلّا كأخذ قلاون الدار المذكورة وبنائها بما هدمه من القلعة المذكورة وإخراج مؤنسة وعيالها من الدار القطبية ، وأنت إن أمعنت النظر وعرفت ما جرى تبين لك أن ما القوم إلّا سارق من سارق ، وغاصب من غاصب ، وإن كان التحرّج من الصلاة لأجل عسف العمال وتسخير الرجال ، فشيء آخر بالله عرّفني ، فإني غير عارف من منهم لم يسلك في أعماله هذا السبيل ، غير أن بعضهم أظلم من بعض ، وقد مدح غير واحد من الشعراء هذه العمارة ، منهم شرف الدين البوصيريّ فقال :

ومدرسة ود الخورنق أنّه

لديها خطير والسدير غدير

مدينة علم والمدارس حولها

قرى أو نجوم بدر هنّ منير

تبدّت فأخفى الظاهرية نورها

وليس يظهر للنجوم ظهور

بناء كأنّ النحل هندس شكله

ولانت له كالشمع فيه صخور

بناها سعيد في بقاع سعيدة

بها سعدت قبل المدارس نور

ومن حيثما وجّهت وجهك نحوها

تلقّتك منها نضرة وسرور

إذا قام يدعو الله فيها مؤذن

فما هو إلّا للنجوم سمير

المارستان المؤيدي

هذا المارستان فوق الصوّة تجاه طبلخاناه قلعة الجبل ، حيث كانت مدرسة الأشرف

٢٧١

شعبان بن حسين التي هدمها الناصر فرج بن برقوق ، وبابه هو حيث كان باب المدرسة ، إلّا أنه ضيق عما كان ، أنشأه المؤيد شيخ في مدّة أوّلها جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ، وآخرها رجب سنة ثلاث وعشرين ، ونزل فيه المرضى في نصف شعبان ، وعملت مصارفه من جملة أوقاف الجامع المؤيديّ المجاور لباب زويلة ، فلما مات الملك المؤيد في ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين تعطل قليلا ، ثم سكنه طائفة من العجم المستجدّين في ربيع الأوّل منها ، وصار منزلا للرسل الواردين من البلاد إلى السلطان ، ثم عمل فيه منبر ورتب له خطيب وإمام ومؤذنون وبوّاب وقومة ، وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة ، فاستمرّ جامعا تصرف معاليم أرباب وظائفه المذكورين من وقف الجامع المؤيدي.

ذكر المساجد

قال ابن سيده : المسجد الموضع الذي يسجد فيه. وقال الزجاج : كلّ موضع يتعبد فيه فهو مسجد ، ألا ترى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وقوله عزوجل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة / ١١٤] المعنى على هذا المذهب أنه من أظلم ممن خالف قبلة الإسلام ، وقد كان حكمه أن لا يجيء على مفعل ، لأن حق اسم المكان والمصدر من فعل يفعل أن يجيء على مفعل ، ولكنه أحد الحروف التي شذت فجاءت على مفعل. قال سيبويه : وأما المسجد فإنهم جعلوه اسما للبيت ، ولم يأت على فعل يفعل ، كما قال في المدق : أنه اسم للجود ، يعني أنه ليس على الفعل ، ولو كان على الفعل لقيل مدق لأنه آلة والآلات تجىء على مفعل كمخزن ومكنس ومكسح ، والمسجدة الجمرة المسجود عليها ، وقوله تعالى وإن المساجد لله ، قيل هي مواضع السجود من الإنسان ، الجبهة واليدان والركبتان والرجلان. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب النقط على الخطط عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ : أنه كان في مصر الفسطاط من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد. وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة : وأحصى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله المساجد التي لا غلة لها فكانت ثمانمائة مسجد ، فأطلق لها في كلّ شهر من بيت المال تسعة آلاف ومائتين وعشرين درهما ، وفي سنة خمس وأربعمائة حبس الحاكم بأمر الله سبع ضياع منها ، اطفيح وطوخ على القرّاء. والمؤذنين بالجوامع ، وعلى ملء المصانع والمارستان ، وفي ثمن الأكفان. وذكر ابن المتوّج أن عدّة المساجد بمصر في زمنه أربعمائة وثمانون مسجدا ذكرها.

٢٧٢

المسجد بجوار دير البعل

قد تقدّم (١) في أخبار الكنائس والديارات من هذا الكتاب خبر دير البعل ، وأنه يعرف بدير الفطير ، ولما كان في سنة خمس وسبعين وستمائة خرج جماعة من المسلمين إلى دير البعل فرأوا آثار محاريب بجوار الدير فعرّفوا الصاحب بهاء الدين بن حنا ذلك ، فسير المهندسين لكشف ما ذكر ، فعادوا إليه وأخبروه أنه آثار مسجد ، فشاور الملك الظاهر بيبرس وعمره مسجدا بجانب الدير ، وهو عامر إلى الآن ، وبتّ به وهو من أحسن مشترقات مصر ، وله وقف جيد ومرتب يقوم به نصارى الدير.

مسجد ابن الجباس

هذا المسجد خارج باب زويلة بالقرب من مصلّى الأموات دون باب اليانسية ، عرف بالشيخ أبي عبد الله محمد بن عليّ بن أحمد بن محمد بن جوشن المعروف بابن الجباس بجيم وباء موحدة بعدها ألف وسين مهملة ـ القرشيّ العقيليّ الفقيه الشافعيّ المقرئ ، كان فاضلا صالحا زاهدا عابدا مقرئا ، كتب بخطه كثيرا وسمع الحديث النبويّ ، ومولده يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بالقاهرة ، ووفاته ... (٢)

مسجد ابن البناء

هذا المسجد داخل باب زويلة ، وتسميه العوامّ سام بن نوح النبيّ عليه‌السلام ، وهو من مختلفاتهم التي لا أصل لها ، وإنما يعرف بمسجد ابن البناء ، وسام بن نوح لعله لم يدخل أرض مصر البتة ، فإن الله سبحانه وتعالى لما نجّى نبيه نوحا من الطوفان خرج معه من السفينة أولاده الثلاثة ، وهم سام وحام ويافث ، ومن هذه الثلاثة ذرأ الله سائر بني آدم كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات / ٧٧] فقسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة ، فصار لسام بن نوح العراق وفارس إلى الهند ثم إلى حضر موت وعمان والبحرين وعالج ويبرين والدوووبار والدهناء وسائر أرض اليمن والحجاز ، ومن نسله الفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب والنبط والعماليق. وصار لحام بن نوح الجنوب مما يلي أرض مصر مغرّبا إلى المغرب الأقصى ، ومن نسله الحبشة والزنج والقبط سكان مصر وأهل النوبة والأفارقة أهل إفريقية وأجناس البربر ، وصار ليافث بن نوح بحر الخرز مشرّقا إلى الصين ، ومن نسله الصقالبة والفرنج والروم والغوط وأهل الصين واليونانيون والترك.

__________________

(١) قوله تقدّم : يقصد به سيأتي ذكره.

(٢) بياض في الأصل.

٢٧٣

وقد بلغني أن هذا المسجد كان كنيسة لليهود القرّايين تعرف بسام بن نوح ، وأن الحاكم بأمر الله أخذ هذه الكنيسة لما هدم الكنائس وجعلها مسجدا ، وتزعم اليهود القرّايون الآن بمصر أن سام بن نوح مدفون هنا ، وهم إلى الآن يحلفون من أسلم منهم بهذا المسجد. أخبرني به قاضي اليهود إبراهيم بن فرج الله بن عبد الكافي الداوديّ العانانيّ ، وليس هذا بأوّل شيء اختلقته العامّة.

وابن البناء : هذا هو محمد بن عمر بن أحمد بن جامع بن البناء أبو عبد الله الشافعيّ المقرئ ، سمع من القاضي مجلي ، وأبي عبد الله الكيزانيّ وغيره ، وحدّث وأقرأ القرآن ، وانتفع به جماعة. وهو منقطع بهذا المسجد ، وكان يعرف خطه بخط بين البابين ، ثم عرف بخط الأقفاليين ، ثم هو الآن يعرف بخط الضبيين وباب القوس. ومات ابن البناء هذا في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، واتفق لي عند هذا المسجد أمر عجيب ، وهو أني مررت من هناك يوما أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، والقاهرة يومئذ لا يمرّ الإنسان بشارعها حتى يلقى عناء من شدّة ازدحام الناس لكثرة مرورهم ركبانا ومشاة ، فعند ما حاذيت أوّل هذا المسجد إذا برجل يمشي أمامي وهو يقول لرفيقه : والله يا أخي ما مررت بهذا المكان قط إلّا وانقطع نعلي ، فو الله ما فرغ من كلامه حتى وطئ شخص من كثرة الزحام على مؤخر نعله وقد مدّ رجله ليخطو فانقطع تجاه باب المسجد ، فكان هذا من عجائب الأمور وغرائب الاتفاق.

مسجد الحلبيين

هذا المسجد فيما بين باب الزهومة ودرب شمس الدولة ، على يسرة من سلك من حمّام خشيبة طالبا البندقانيين. بني على المكان الذي قتل فيه الخليفة الظاهر نصر بن عباس الوزير ودفنه تحت الأرض ، فلما قدم طلائع بن رزيك من الأشمونين إلى القاهرة باستدعاء أهل القصر له ليأخذ بثار الخليفة ، وغلب على الوزارة ، استخرج الظافر من هذا الموضع ونقله إلى تربة الصر وبنى موضعه هذا المسجد وسماه المشهد ، وعمل له بابين أحدهما هذا الباب الموجود ، والباب الثاني كان يتوصل منه إلى دار المأمون البطائحيّ التي هي اليوم مدرسة تعرف بالسيوفية. وقد سدّ هذا الباب ، وما برح هذا المسجد يعرف بالمشهد إلى أن انقطع فيه محمد بن أبي الفضل بن سلطان بن عمار بن تمام أبو عبد الله الحلبيّ الجعبريّ المعروف بالخطيب ، وكان صالحا كثير العبادة زاهدا منقطعا عن الناس ، ورعا وسمع الحديث وحدّث ، وكان مولده في شهر رجب سنة أربع وعشرين وستمائة بقلعة جعبر ، ووفاته بهذا المسجد ، وقد طالت إقامته فيه يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة ، ودفن بمقابر باب النصر رحمه‌الله ، وهذا المسجد من أحسن مساجد القاهرة وأبهجها.

٢٧٤

مسجد الكافوريّ

هذا المسجد كان في البستان الكافوريّ من القاهرة بناه الوزير المأمون أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ ، في سنة ست عشرة وخمسمائة ، وتولى عمارته وكيله أبو البركات محمد بن عثمان ، وكتب اسمه عليه ، وهو باق إلى اليوم بخط الكافوريّ ، ويعرف هناك بمسجد الخلفاء ، وفيه نخل وشجر وهو مرخم برخام حسن.

مسجد رشيد

هذا المسجد خارج باب زويلة بخط تحت الربع على يسرة من سلك من دار التفاح يريد قنطرة الخرق ، بناه رشيد الدين البهائيّ.

المسجد المعروف بزرع النوى

هذا المسجد خارج باب زويلة بخط سوق الطيور ، على يسرة من سلك من رأس المنجبية طالبا جامع قوصون والصليبة ، وتزعم العامّة أنه بني على قبر رجل يعرف بزرع النوى ، وهو من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا أيضا من افتراء العامّة الكذب ، فإن الذين أفردوا أسماء الصحابة رضي‌الله‌عنهم كالإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ في تاريخه الكبير ، وابن أبي خيثمة ، والحافظ أبي عبد الله بن منذر ، والحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ ، والحافظ أبي عمر بن عبد البرّ ، والفقيه الحافظ أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم ، لم يذكر أحد منهم صحابيا يعرف بزرع النوى. وقد ذكر في أخبار القرافة من هذا الكتاب من قبر بمصر من الصحابة ، وذكر في أخبار مدينة فسطاط مصر أيضا من دخل مصر من الصحابة ، وليس هذا منهم ، وهذا إن كان هناك قبر فهو لأمين الأمناء أبي عبد الله الحسين بن طاهر الوزان ، وكان من أمره أن الخليفة الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصور بن العزيز بالله خلع عليه للوساطة بينه وبين الناس ، والتوقيع عن الحضرة في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعمائة ، وكان قبل ذلك يتولى بيت المال فاستخدم فيه أخاه أبا الفتح مسعودا ، وكان قد ظفر بمال يكون عشرات وصياغات وأمتعة وطرائف وفرش وغير ذلك في عدّة آدر بمصر ، وجميعه مما خلفه قائد القوّاد الحسين بن جوهر القائد ، فباع المتاع وأضاف ثمنه إلى العين ، فحصل منه مال كثير ، وطالع الحاكم بأمر الله به أجمع لورثة قائد القوّاد ، ولم يتعرّض منه لشيء ، وكثرت صلات الحاكم وعطاؤه وتوقيعاته ، فانطلق في ذلك فاتصل به عن أمين الأمناء بعض التوقف ، فخرجت إليه رقعة بخطه في الثامن والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وأربعمائة نسختها ، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله :

أصبحت لا أرجو ولا أتقي

إلّا إلهي وله الفضل

٢٧٥

جدّي نبيّ وإمامي أبي

وديني الإخلاص والعدل

ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، المال مال الله عزوجل ، والخلق عيال الله ، ونحن أمناؤه في الأرض ، أطلق أزراق الناس ولا تقطعها والسلام. ولم يزل على ذلك إلى أن بطل أمره في جمادى الآخرة من سنة خمس وأربعمائة ، وذلك أنه ركب مع الحاكم على عادته ، فلما حصل بحارة كتامة خارج القاهرة ضرب رقبته هناك ودفن في هذا الموضع تخمينا ، واستحضر الحاكم جماعة الكتّاب بعد قتله وسأل رؤساء الدواوين عما يتولاه كل واحد منهم ، وأمرهم بلزوم دواوينهم وتوفرهم على الخدمة ، وكانت مدّة نظر ابن الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحضرة ، وهي رتبة الوزارة ، سنتين وشهرين وعشرين يوما ، وكان توقيعه عن الحضرة الإمامية الحمد لله وعليه توكلي.

مسجد الذخيرة

هذا المسجد تحت قلعة الجبل بأوّل الرميلة تجاه شبابيك مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون التي تلي بابها الكبير الذي سدّه الملك الظاهر برقوق ، أنشأه ذخيرة الملك جعفر متولي الشرطة. قال ابن المأمون في تاريخه : في هذه السنة ، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة ، استخدم ذخيرة الملك جعفر في ولاية القاهرة والحسبة بسجل أنشأه ابن الصيرفيّ ، وجرى من عسفه وظلمه ما هو مشهور ، وبنى المسجد الذي ما بين الباب الجديد إلى الجبل الذي هو به معروف ، وسمّي مسجد لا بالله ، بحكم أنه كان يقبض الناس من الطريق ويعسفهم ، فيحلفونه ويقولون له لا بالله ، فيقيدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة ، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلّا صانع مكره ، أو فاعل مقيد ، وكتبت عليه هذه الأبيات المشهورة :

بنى مسجدا لله من غير حله

وكانّ بحمد الله غير موفق

كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها

لك الويل لا تزني ولا تتصدّقي

وكان قد أبدع في عذاب الجناة وأهل الفساد ، وخرج عن حكم الكتّاب فابتلى بالأمراض الخارجة عن المعتاد ، ومات بعد ما عجل الله له ما قدّمه ، وتجنب الناس تشييعه والصلاة عليه ، وذكر عنه في حالتي غسله وحلوله بقبره ما يعيذ الله كلّ مسلم من مثله. وقال ابن عبد الظاهر : مسجد الذخيرة تحت قلعة الجبل ، وذكر ما تقدّم عن ابن المأمون.

مسجد رسلان

هذا المسجد بحارة اليانسية ، عرف بالشيخ الصالح رسلان لإقامته به ، وقد حكيت عنه كرامات ، ومات به في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، وكان يتقوّت من أجرة خياطته للثياب ، وابنه عبد الرحمن بن محمد بن رسلان أبو القاسم كان فقيها محدّثا مقرئا ، مات في سنة سبع وعشرين وستمائة.

٢٧٦

مسجد ابن الشيخيّ

هذا المسجد بخط الكافوريّ مما يلي باب القنطرة وجهة الخليج مجاور لدار ابن الشيخي ، أنشأه المهتار ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ الشيخيّ مهتار السلطان بالإصطبلات السلطانية ، وقرّر فيه شيخنا تقيّ الدين محمد بن حاتم ، فكان يعمل فيه ميعادا يجتمع الناس فيه لسماع وعظه ، وكان ابن الشيخي هذا حشما فخورا خيّرا يحب أهل العلم والصلاح ، ويكرمهم. ولم نر بعده في رتبته مثله ، ومات ليلة الثلاثاء أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.

مسجد يانس

هذا المسجد كان تجاه باب سعادة خارج القاهرة. قال ابن المأمون في تاريخه : وكان الأجلّ المأمون يعني الوزير محمد بن فاتك البطائحيّ ، قد ضم إليه عدّة من مماليك الأفضل بن أمير الجيوش ، من جملتهم يانس ، وجعله مقدّما على صبيان جلسه ، وسلّم إليه بيت ماله ، وميزه في رسومه. فلما رأى المذكور في ليلة النصف من شهر رجب ، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة ، ما عمل في المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة من الهمة ووفور الصدقات وملازمة الصلوات ، وما حصل فيه من المثوبات ، كتب رقعة يسأل فيها أن يفسح له في بناء مسجد بظاهر باب سعادة ، فلم يجبه المأمون إلى ذلك وقال له : ما ثم مانع من عمارة المساجد ، وأرض الله واسعة ، وإنما هذا الساحل فيه معونة للمسلمين وموردة للسقائين ، وهو مرسى مراكب الغلة ، والمضرّة في مضايقة المسلمين فيه منه ، ولو لم يكن المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة محرسا لما استجدّ ، حتى إنّا لم نخرج بساحته الأولى ، فإن أردت أن تبني قبليّ مسجد الريفي أو على شاطيء الخليج فالطريق ثم سهلة. فقبّل الأرض وامتثل الأمر ، فلما قبض على المأمون وأمّرّ الخليفة يانس المذكور ولم يزل ينقله إلى أن استخدمه في حجبة بابه ، سأله في مثل ذلك فلم يجبه ، إلى أن أخذ الوزارة فبناه في المكان المذكور. وكانت مدّته يسيرة ، فتوفي قبل إتمامه وإكماله ، فكمله أولاده بعد وفاته.

انتهى. وقد تقدّم خبر وزارة أبي الفتح ناظر الجيوش يانس الأرمنيّ هذا عند ذكر الحارة اليانسية من هذا الكتاب.

مسجد باب الخوخة

هذا المسجد تجاه باب الخوخة بجوار مدرسة أبي غالب. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة : ولما سكن المأمون الأجلّ دار الذهب وما معها ، يعني في أيام النيل للنزهة عند سكن الخليفة الآمر بأحكام الله بقصر اللؤلؤة المطل على الخليج ، رأى قبالة باب الخوخة محرسا ، فاستدعى وكيله وأمره بأن يزيل المحرس المذكور

٢٧٧

ويبني موضعه مسجدا ، وكان الصناع يعملون فيه ليلا ونهارا ، حتى أنه تفطر بعد ذلك واحتيج إلى تجديده.

المسجد المعروف بمعبد موسى

هذا المسجد بخط الركن المخلق من القاهرة تجاه باب الجامع الأقمر المجاور لحوض السبيل ، وعلى يمنة من سلك من بين القصرين طالبا حبة باب العيد. أوّل من اختطه القائد جوهر عندما وضع القاهرة. قال ابن عبد الظاهر : ولما بنى القائد جوهر القصر دخل فيه دير العظام ، وهو المكان المعروف الآن بالركن المخلق ، قبالة حوض الجامع الأقمر ، وقريب دير العظام ، والمصريون يقولون بئر العظمة ، فكره أن يكون في القصر دير فنقل العظام التي كانت به والرّمم إلى دير بناه في الخندق ، لأنه كان يقال إنها كانت عظام جماعة من الحواريين ، وبنى مكانها مسجدا من داخل السور ، يعني سور القصر. وقال جامع سيرة الظاهر بيبرس : وفي ذي الحجة سنة ستين وستمائة ظهر بالمسجد الذي بالركن المخلق من القاهرة حجر مكتوب عليه. هذا معبد موسى بن عمران عليه‌السلام ، فجدّدت عمارته وصار يعرف بمعبد موسى من حينئذ ، ووقف عليه ربع بجانبه ، وهو باق إلى وقتنا هذا.

مسجد نجم الدين

هذا المسجد ظاهر باب النصر ، أنشأه الملك الأفضل نجم الدين أبو سعيد أيوب بن شادي يعقوب بن مروان الكرديّ ، والد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وجعل إلى جانبه حوض ماء للسبيل ترده الدواب في سنة ست وستين وخمسمائة ، ونجم الدين هذا قدم هو وأخوه أسد الدين شيركوه من بلاد الأكراد إلى بغداد ، وخدم بها وترقى في الخدم حتى صار دزدارا بقلعة تكريت ومعه أخوه ، ثم إنه انتقل عنها إلى خدمة الملك المنصور عماد الدين أتابك زنكي بالموصل ، فخدمه حتى مات ، فتعلق بخدمة ابنه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فرقّاه وأعطاه بعلبك ، وحج من دمشق سنة خمس وخمسمائة ، فلما قدم ابنه صلاح الدين يوسف بن أيوب معه عمه أسد الدين شيركوه من عند نور الدين محمود إلى القاهرة ، وصار إلى وزارة العاضد بعد موت شيركوه ، قدم عليه أبوه نجم الدين في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وخمسمائة ، وخرج العاضد إلى لقائه وأنزله بمناظر اللؤلؤة ، فلما استبدّ صلاح الدين بسلطنة مصر بعد موت الخليفة العاضد أقطع أباه نجم الدين الإسكندرية البحيرة إلى أن مات بالقاهرة ، في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجة ، سنة ثمان وستين وخمسمائة ، وقيل في ثامن عشرة من سقطة عن ظهر فرسه خارج باب النصر ، فحمل إلى داره فمات بعد أيام ، وكان خيّرا جوادا متدينا محبا لأهل العلم والخير ، وما مات حتى رأى

٢٧٨

من أولاده عدّة ملوك ، وصار يقال له أبو الملوك ، ومدحه العماد الأصبهانيّ بعدّة قصائد ، ورثاه الفقيه عمارة بقصيدته التي أوّلها :

هي الصدمة الأولى فمن بان صبره

على هول ملقاه تعاظم أمره

مسجد صواب

هذا المسجد خارج القاهرة بخط الصليبة ، عرف بالطواشي شمس الدين صواب مقدّم المماليك السلطانية ، ومات في ثامن رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة ، ودفن به وكان خيرا دينا فيه صلاح.

المسجد بجوار المشهد الحسينيّ

هذا المسجد أنهيّ في مستهل شهر رجب سنة اثنتين وستين وستمائة ، للملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، وهو بدار العدل ، أن مسجدا على باب مشهد السيد الحسين عليه‌السلام ، وإلى جانبه مكان من حقوق القصر بيع وحمل ثمنه للديوان ، وهو ستة آلاف درهم ، فسأل السلطان عن صورة المسجد وهذا الموضع ، وهل كل منهما بمفرده أو عليهما حائط دائر ، فقيل له إن بينهما زرب قصب ، فأمر بردّ المبلغ وأبقى الجميع مسجدا ، وأمر بعمارة ذلك مسجدا لله تعالى.

مسجد الفجل

هذا المسجد بخط بين القصرين تجاه بيت البيسريّ ، أصله من مساجد الخلفاء الفاطميين ، أنشأه على ما هو عليه الآن الأمير بشتاك أخذ قصر أمير سلاح ، ودار أقطوان الساقي ، وأحد عشر مسجدا ، وأربعة معابد كانت من عمارة الخلفاء وأدخلها في عمارته التي تعرف اليوم بقصر بشتاك ، ولم يترك من المساجد والمعابد سوى هذا المسجد فقط ، ويجلس فيه بعض نوّاب القضاة المالكية للحكم بين الناس ، وتسميه العامّة مسجد الفجل ، وتزعم أن النيل الأعظم كان يمرّ بهذا المكان ، وأن الفجل كان يغسل موضع هذا المسجد فعرف بذلك ، وهذا القول كذب لا أصل له ، وقد تقدّم في هذا الكتاب ما كان عليه موضع القاهرة قبل بنائها ، وما علمت أن النيل كان يمرّ هناك أبدا ، وبلغني أنه عرف بمسجد الفجل من أجل أن الذي كان يقوم به كان يعرف بالفجل ، والله أعلم.

مسجد تبر

هذا المسجد خارج القاهرة مما يلي الخندق ، عرف قديما بالبئر ، والجميزة ، وعرف بمسجد تبر ، وتسميه العامّة مسجد التبن وهو خطأ ، وموضعه خارج القاهرة قريبا من

٢٧٩

المطرية. قال القضاعيّ : مسجد تبر بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، أنفذه المنصور فسرقه أهل مصر ودفنوه هناك ، وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة ، ويعرف بمسجد البئر والجميزة. وقال الكنديّ في كتاب الأمراء : ثم قدمت الخطباء إلى مصر برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة ، لينصبوه في المسجد الجامع ، وقامت الخطباء فذكروا أمره.

وتبر هذا أحد الأمراء الأكابر في أيام الأستاذ كافور الإخشيديّ ، فلما قدم جوهر القائد من المغرب بالعساكر ثار تبر الإخشيديّ هذا في جماعة من الكافورية والإخشيدية وحاربه ، فانهزم بمن معه إلى أسفل الأرض ، فبعث جوهر يستعطفه فلم يجب وأقام على الخلاف ، فسير إليه عسكرا حاربه بناحية صهرجت فانكسر وصار إلى مدينة صور التي كانت على الساحل في البحر ، فقبض عليه بها وأدخل إلى القاهرة على فيل ، فسجن إلى صفر سنة ستين وثلاثمائة ، فاشتدّت المطالبة عليه ، وضرب بالسياط وقبضت أمواله ، وحبس عدّة من أصحابه بالمطبق في القيود إلى ربيع الآخر منها ، فجرح نفسه وأقام أياما مريضا ومات ، فسلخ بعد موته وصلب عند كرسي الجبل. وقال ابن عبد الظاهر أنه حشي جلدة تبنا وصلب ، فربما سمت العامّة مسجده بذلك لما ذكرناه ، وقيل أن تبرا هذا خادم الدولة المصرية ، وقبره بالمسجد المذكور. قال مؤلفه : هذا وهم وإنما هو تبر الإخشيديّ.

مسجد القطبية

هذا المسجد كان حيث المدرسة المنصورية بين القصرين والله أعلم.

ذكر الخوانك

الخوانك جمع خانكاه ، وهي كلمة فارسية معناها بيت ، وقيل أصلها خونقاه ، أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. والخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة ، وجعلت لتخلي الصوفية فيها لعبادة الله تعالى. قال الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيريّ رحمه‌الله : اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لا فضيلة فوقها ، فقيل لهم الصحابة ، ولما أدرك أهل العصر الثاني ، سميّ من صحب الصحابة التابعين ، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص خواص الناس ممن لهم شدّة عناية بأمر الدين الزهّاد والعبّاد ، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق ، فكلّ فريق ادّعوا أنّ فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف ، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.

٢٨٠