كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

ثم تحدّث مع الأمير بكتاش الفخريّ إلى أن ضمن له التحدّث مع الأمراء ، وسعى في الصلح بينهما وبين الأمراء والمماليك حتى زالت الوحشة ، وظهرا من بيت الأمير كتبغا ، فأحضرهما بين يدي السلطان وقبلا الأرض وأفيضت عليهما التشاريف وجعلهما أمراء على عادتهما ، ونزلا إلى دورهما فحمل إليهما الأمراء ما جرت العادة به من التقادم ، فلم يزل قراسنقر على إمرته إلى أن خلع الملك الناصر محمد بن قلاون من السلطنة وقام من بعده الملك العادل زين الدين كتبغا ، فاستمرّ على حاله إلى أن ثار الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بديار مصر على الملك العادل كتبغا بمنزلة العوجاء من طريق دمشق ، فركب معه قراسنقر وغيره من الأمراء إلى أن فرّ كتبغا ، واستمرّ الأمر لحسام الدين لاجين وتلقب بالملك المنصور ، فلما استقرّ بقلعة الجبل خلع على الأمير قراسنقر وجعله نائب السلطنة بديار مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة ، فباشر النيابة إلى يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة ، فقبض عليه وأحيط بموجوده وحواصله ونوّابه ودواوينه بديار مصر والشام ، وضيق عليه واستقرّ في نيابة السلطنة بعده الأمير منكوتمر ، وعدّ السلطان من أسباب القبض عليه إسرافه في الطمع وكثرة الحمايات وتحصيل الأموال على سائر الوجوه ، مع كثرة ما وقع من شكاية الناس من مماليكه ومن كاتبه شرف الدين يعقوب ، فإنه كان قد تحكم في بيته تحكما زائدا ، وعظمت نعمته وكثرت سعادته ، وأسرف في اتخاذ المماليك والخدم ، وانهمك في اللعب الكثير ، وتعدّى طوره وقراسنقر لا يسمع فيه كلاما ، وحدّثه السلطان بسببه وأغلظ في القول وألزمه بضربه وتأديبه أو إخراجه من عنده ، فلم يعبأ بذلك. وما زال قراسنقر في الاعتقال إلى أن قتل الملك المنصور لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة فأفرج عنه وعن غيره من الأمراء ورسم له بنيابة الصبيبة فخرج إليها ثم نقل منها إلى نيابة حماه بعد موت صاحبها الملك المظفر تقيّ الدين محمود بسفارة الأمير بيبرس الجاشنكير ، والأمير سلار ، ثم نقل من نيابة حماه بعد ملاقاة التتر إلى نيابة حلب ، واستقرّ عوضه في نيابة حماه الأمير زين الدين كتبغا الذي تولى سلطنة مصر والشام ، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة ، وشهد وقعة شقحب مع الملك الناصر محمد بن قلاون ، ولم يزل على نيابة حلب إلى أن خلع الملك الناصر وتسلطن الملك المظفر بيبرس الجاشنكير وصاحب الناصر في الكرك ، فلما تحرّك لطلب الملك واستدعى نوّاب الممالك ، أجابه قراسنقر وأعانه برأيه وتدبيره ، ثم حضر إليه وهو بدمشق وقدّم له شيئا كثيرا وسار معه إلى مصر حتى جلس على تخت ملكه بقلعة الجبل ، فولاه نيابة دمشق عوضا عن الأمير عز الدين الأفرم في شوّال سنة تسع وسبعمائة ، وخرج إليها فسار إلى غزة في عدّة من النوّاب وقبضوا على المظفر بيبرس الجاشنكير وسار به هو والأمير سيف الدين الحاج بهادر إلى الخطارة ، فتلقاهم الأمير استدمر كرجي ، فتسلم منهم بيبرس وقيده وأركبه بغلا وأمر قراسنقر والحاج بهادر بالسير إلى مصر ، فشق على قراسنقر تقييد بيبرس ، وتوهم الشرّ من الناصر ، وانزعج لذلك انزعاجا

٢٤١

كثيرا وألقى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وقال لفرّاشه : الدنيا فانية ، يا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم ، فترجل من حضر من الأمراء ورفعوا كلوتته ووضعوها على رأسه ، ورجع من فوره ومعه الحاج بهادر إلى ناحية الشام وقد ندم على تشييع المظفر بيبرس ، فجدّ في سيره إلى أن عبر دمشق ، وفي نفس السلطان منه كونه لم يحضر مع بيبرس ، وكان قد أراد القبض عليه ، فبعث الأمير نوغاي القبجاقيّ أميرا بالشام ليكون له عينا على الأمير قراسنقر ، ففطن قراسنقر لذلك وشرع نوغاي يتحدّث في حق قراسنقر بما لا يليق حتى ثقل عليه مقامه ، فقبض عليه بأمر السلطنة وسجن بقلعة دمشق ، ثم إن السلطان صرفه عن نيابة دمشق وولاه نيابة حلب بسؤاله ، وذلك في المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، وكتب السلطان إلى عدّة من الأمراء بالقبض عليه مع الأمير أرغون الدوادار ، فلم يتمكن من التحدّث في ذلك لكثرة ما ضبط قراسنقر أموره ولازمه عند قدومه عليه بتقليد نيابة حلب ، بحيث لم يتمكن أرغون من الحركة إلى مكان إلّا وقراسنقر معه ، فكثر الحديث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسك قراسنقر ، حتى بلغ ذلك الأمراء ، وسمعه قراسنقر ، فاستدعى بالأمراء وحضر الأمير أرغون فقال قراسنقر : بلغني كذا وها أنا أقول إن كان حضر معك مرسوم بالقبض عليّ فلا حاجة إلى فتنة ، أنا طائع السلطان ، وهذا سيفي خذه ، ومدّ يده وحل سيفه من وسطه. فقال أرغون وقد علم أن هذا الكلام مكيدة وأن قراسنقر لا يمكن من نفسه : إني لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب بمرسوم السلطان ، وسؤال الأمير ، وحاشا لله أن السلطان يذكر في حق الأمير شيئا من هذا. فقال قراسنقر : غدا نركب ونسافر. وانفض المجلس فبعث إلى الأمراء أن لا يركب أحد منهم لوداعه ، ولا يخرج من بيته ، وفرّق ما عنده من الحوائص ومن الدراهم على مماليكه ليتحملوا به على أوساطهم ، وأمرهم بالاحتراس ، وقدّم غلمانه وحواشيه في الليل وركب وقت الصباح في طلب عظيم ، وكانت عدّة مماليكه ستمائة مملوك قد جعلهم حوله ثلاث حلقات ، وأركب أرغون إلى جانبه وسار على غير الجادّة حتى قارب حلب ، ثم عبرها في العشرين من المحرّم وأعاد أرغون بعد ما أنعم عليه بألف دينار وخلعة وخيل وتحف ، وأقام بمدينة حلب خائفا يترقب ، وشرع يعمل الحيلة في الخلاص ، وصادق العربان ، واختص بالأمير حسام الدين مهنا أمير العرب وبابنه موسى ، وأقدمه إلى حلب وأوقفه على كتب السلطان إليه بالقبض عليه ، وأنه لم يفعل ذلك ولم يزل به حتى أفسد ما بينه وبين السلطان ، ثم أنه بعث يستأذن السلطان في الحج ، فأعجب السلطان ذلك وظنّ أنه بسفره يتم له التدبير عليه لما كان فيه من الاحتراز الكبير ، وأذن له في السفر وبعث إليه بألفي دينار مصرية ، فخرج من حلب ومعه أربعمائة مملوك معدّة بالفرس والجنيب والهجن ، وسار حتى قارب الكرك ، فبلغه أن السلطان كتب إلى النوّاب وأخرج عسكرا من مصر إليه ، فرجع من طريق السماوة إلى حلب وبها الأمير سيف الدين قرطاي نائب الغيبة ، فمنعه من العبور إلى المدينة ولم يمكن أحدا من مماليك قراسنقر أن يخرج إليه ، وكانت مكاتبة السلطان قد

٢٤٢

قدمت عليه بذلك ، فرحل حينئذ إلى مهنا أمير العرب واستجار به ، فأكرمه وبعث إلى السلطان يشفع فيه ، فلم يجد السلطان بدّا من قبول شفاعة مهنا ، وخيّر قراسنقر فيما يريد ، ثم أخرج عسكرا من مصر والشام لقتال مهنا ، وأخذ قراسنقر فبلغه ذلك فاحترس على نفسه وكتب إلى السلطان يسأله في صرخد ، وقصد بذلك المطاولة ، فأجابه إلى ذلك ومكنه من أخذ حواصله التي بحلب ، وأعطى مملوكه ألف دينار ، فلما قدم عليه لم يطمئن وعبر إلى بلاد الشرق في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، في عدّة من الأمراء يريد خربندا ، فلما وصل إلى الرحبة بعث بابنه فرج ومعه شيء من أثقاله وخيوله وأمواله إلى السلطان بمصر ، ليعتذر من قصده خربندا ، ورحل بمن معه إلى ماردين فتلقاه المغل ، وقام له نوّاب خربندا بالإقامات إلى أن قرب الأردوا ، فركب خربندا إليه وتلقاه وأكرمه ومن معه وأنزلهم منزلا يليق بهم ، وأعطى قراسنقر المراغة من عمل أذربيجان ، وأعطى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم همدان ، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، فلم يزل هناك إلى أن مات خربندا وقام من بعده أبو سعيد بركة بن خربندا ، فشق ذلك على السلطان وأعمل الحيلة في قتل قراسنقر والأفرم وسير إليهما الفداوية ، فجرت بينهم خطوب كثيرة ، ومات قراسنقر بالإسهال ببلد المراغة في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، يوم السبت سابع عشري شوّال ، قبل موت السلطان بيسير ، فلما بلغ السلطان موته في حادي عشر ذي القعدة عند ورود الخبر إليه قال : ما كنت أشتهي يموت إلّا من تحت سيفي ، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي منه ، وذلك أنه كان قد جهز إليه عددا كثيرا من الفداوية ، قتل منهم بسببه مائة وعشرون فداويا بالسيف ، سوى من فقد ولم يوقف له على خير ، وكان قراسنقر جسيما جليلا صاحب رأي وتدبير ومعرفة ، وبشاشة وجه ، وسماحة نفس ، وكرم زائد ، بحيث لا يستكثر على أحد شيئا مع حسن الشاكلة وعظم المهابة والسعادة الطائلة ، وبلغت عدّة مماليكه ستمائة مملوك ، ما منهم إلا من له نعمة ظاهرة وسعادة وافرة ، وله من الآثار بالقاهرة هذه المدرسة ودار جليلة بحارة بهاء الدين فيها كان سكنه.

المدرسة الغزنوية

هذه المدرسة برأس الموضع المعروف بسويقة أمير الجيوش تجاه المدرسة اليازكوجية ، بناها الأمير حسام الدين قايماز النجميّ ، مملوك نجم الدين أيوب ، والد الملوك ، وأقام بها الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن يوسف بن عليّ بن محمد الغزنويّ البغداديّ المقرئ الفقيه الحنفيّ ، ودرس بها فعرفت به ، وكان إماما في الفقه وسمع على الحافظ السلفيّ وغيره ، وقرأ بنفسه وسكن مصر آخر عمره ، وكان فاضلا حسن الطريقة متدينا ، وحدّث بالقاهرة بكتاب الجامع لعبد الرزاق بن همام ، فرواه عنه جماعة ، وجمع كتابا في الشيب والعمر ، وقرأ عليه أبو الحسن السخاويّ ، وأبو عمرو بن الحاجب ، ومولده ببغداد في ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، وتوفي بالقاهرة يوم الاثنين

٢٤٣

النصف من ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، وهي من مدارس الحنفية.

المدرسة البوبكرية

هذه المدرسة بجوار درب العباسي قريبا من حارة الوزيرية بالقاهرة ، بناها الأمير سيف الدين اسنبغا بن الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري الناصريّ ، ووقفها على الفقهاء الحنفية ، وبنى بجانبها حوض ماء للسبيل وسقاية ومكتبا للأيتام ، وذلك في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة ، وبنى قبالتها جامعا ، فمات قبل إتمامه وكان يسكن دار بدر الدين الأمير طرنطاي المجاورة للمدرسة الحسامية ، تجاه سوق الجواري ، فلذلك أنشأ هذه المدرسة بهذا المكان لقربه منه ، ثم لما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة ، جدّد بهذه المدرسة منبرا وصار يقام بها الجمعة. اسنبغا بن بكتمر الأمير ...(١).

المدرسة البقرية

هذه المدرسة في الزقاق الذي تجاه باب الجامع الحاكميّ المجاور للمنبر ، ويتوصل من هذا الزقاق إلى ناحية العطوف ، بناها الرئيس شمس الدين شاكر بن غزيل ، تصغير غزال ، المعروف بابن البقريّ ، أحد مسالمة القبط وناظر الذخيرة في أيام الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاون ، وهو خال الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ ، وأصله من قرية تعرف بدار البقر ، إحدى قرى الغربية ، نشأ على دين النصارى ، وعرف الحساب وباشر الخراج إلى أن أقدمه الأمير شرف الدين بن الأزكشيّ استادار السلطان ومشير الدولة في أيام الناصر حسن ، فاسلم على يديه ، وخاطبه بالقاضي شمس الدين ، وخلع عليه واستقرّ به في نظر الذخيرة السلطانية ، وكان نظرها حينئذ من الرتب الجليلة ، وأضاف إليه نظر الأوقاف والأملاك السلطانية ، ورتبه مستوفيا بمدرسة الناصر حسن ، فشكرت طريقته وحمدت سيرته وأظهر سيادة وحشمة ، وقرّب أهل العلم من الفقهاء ، وتفضل بأنواع من البرّ ، وأنشأ هذه المدرسة في أبدع قالب وأبهج ترتيب ، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية ، وقرّر في تدريسها شيخنا سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ ، ورتب فيها ميعادا وجعل شيخه صاحبنا الشيخ كمال الدين بن موسى الدميريّ الشافعيّ ، وجعل إمام الصلوات بها المقرئ الفاضل زين الدين أبا بكر بن الشهاب أحمد النحويّ ، وكان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته ، وطيب نغمته ، وحسن أدائه ، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ ، ولم يزل ابن البقريّ على حال السيادة والكرامة إلى أن مرض مرض موته ، فأبعد عنه من يلوذ به من النصارى ، وأحضر الكمال الدميريّ وغيره من أهل الخير ، فما زالوا عنده حتى مات وهو يشهد شهادة الإسلام

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٤٤

في سنة ست وسبعين وسبعمائة ، ودفن بمدرسته هذه وقبره بها تحت قبة في غاية الحسن ، وولي نظر الذخيرة بعده أبو غالب ، ثم استجدّ في هذه المدرسة منبر وأقيمت بها الجمعة في تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة علم الدين داود الكوبر كاتب السرّ.

المدرسة القطبية

هذه المدرسة بأوّل حارة زويلة مما يلي الخرنشف في رحبة كوكاي ، عرفت بالست الجليلة عصمة الدين خاتون مؤنسة القطبية ، المعروفة بدار إقبال العلائي ، ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي ، وكان وقفها في سنة خمس وستمائة ، وبها درس للفقهاء الشافعية ، وتصدير قراءات وفقهاء يقرءون.

مدرسة ابن المغربيّ

هذه المدرسة آخر درب الصقالبة فيما بين سويقة المسعوديّ وحارة زويلة ، بناها صلاح الدين يوسف بن ... (١) ابن المغربي رئيس الأطباء ، تجاه داره ، ومات قبل إكمالها فدفن بعد موته في قبة تجاه جامعه المطلّ على الخليج الناصريّ بقرب بركة قرموط ، وصارت هذه المدرسة قائمة بغير إكمال إلى أن هدمها بعض ذريته في سنة أربع عشرة وثمانمائة ، وباع أنقاضها فصار موضعها طاحونة.

المدرسة البيدرية

هذه المدرسة برحبة الأيدمريّ بالقرب من باب قصر الشوك ، فيما بينه وبين المشهد الحسينيّ ، بناها الأمير بيدر الأيدمريّ.

المدرسة البديرية

هذه المدرسة بجوار باب سرّ المدرسة الصالحية النجمية ، كان موضعها من جملة تربة القصر التي تقدّم ذكرها ، فنبش شخص من الناس يعرف بناصر الدين محمد بن محمد بن بدير العباسيّ ما هنالك من قبور الخلفاء ، وأنشأ هذه المدرسة في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ، وعمل فيها درس فقه للفقهاء الشافعية ، درس فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ ، وهي مدرسة صغيرة لا يكاد يصعد إليها أحد ، والعباسيّ هذا من قرية بطرف الرمل يقال لها العباسية ، وله في مدينة بلبيس مدرسة وقد تلاشت بعد ما كانت عامرة مليحة.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٤٥

المدرسة الملكية

هذه المدرسة بخط المشهد الحسينيّ من القاهرة ، بناها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار تجاه داره ، وعمل فيها درسا للفقهاء الشافعية ، وخزانة كتب معتبرة ، وجعل لها عدّة أوقاف ، وهي إلى الآن من المدارس المشهورة ، وموضعها من جملة رحبة قصر الشوك ، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر الرحاب من هذا الكتاب ، ثم صار موضع هذه المدرسة دارا تعرف بدار ابن كرمون صهر الملك الصالح.

المدرسة الجمالية

هذه المدرسة بجوار درب راشد من القاهرة على باب الزقاق المعروف قديما بدرب سيف الدولة نادر ، بناها الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ ، وجعلها مدرسة للحنفية ، وخانقاه للصوفية ، وولى تدريسها ومشيخة التصوّف بها الشيخ علاء الدين عليّ بن عثمان التركمانيّ الحنفيّ ، وتداولها ابنه قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ ، وابنه قاضي القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ ، ثم قريبهم حميد الدين حماد ، وهي الآن بيد ابن حميد الدين المذكور ، وكان شأن هذه المدرسة كبيرا يسكنها أكابر فقهاء الحنفية ، وتعدّ من أجلّ مدارس القاهرة ، ولها عدّة أوقاف بالقاهرة وظواهرها وفي البلاد الشامية ، وقد تلاشى أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها ، وتخريبهم أوقافها ، وتعطل منها حضور الدرس والتصوّف ، وصارت منزلا يسكنه أخلاط ممن ينسب إلى اسم الفقه ، وقرب الخراب منها ، وكان بناؤها في سنة ثلاثين وسبعمائة.

مغلطاي : ابن عبد الله الجماليّ ، الأمير علاء الدين ، عرف بخرز ، وهي بالتركية عبارة عن الديك بالعربية ، اشتراه الملك الناصر محمد بن قلاون ونقله وهو شاب من الجامكية إلى الأمرة على إقطاع الأمير صارم الدين إبراهيم الإبراهيميّ نقيب المماليك السلطانية ، المعروف بزير الأمرة ، في صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة ، وصار السلطان ينتدبه في التوجه إلى المهمات الخاصة به ، ويطلعه على سرّه ، ثم بعثه أمير الركب إلى الحجاز في هذه السنة ، فقبض على الشريف أسد الدين رميتة بن أبي نميّ صاحب مكة ، وأحضره إلى قلعة الجبل في ثامن عشر المحرّم سنة تسع عشرة وسبعمائة مع الركب ، فأنكر عليه السلطان سرعة دخوله لما أصاب الحاج من المشقة في الإسراع بهم ، ثم إنه جعل إستادار السلطان لما قبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله ناظر الخواص ، عند وصوله من دمشق بعد سفره إليها لإحضار شمس الدين غبريال ، فيوم حضر خلع عليه وجعل استادارا عوضا عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائيّ ، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، ثم أضاف إليه الوزارة وخلع عليه في يوم الخميس ثامن رمضان سنة

٢٤٦

أربع وعشرين عوضا عن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام بعد ما استعفى من الوزارة ، اعتذر بأنه رجل غتميّ ، فلم يعفه السلطان وقال : أنا أخلي من يباشر معك ويعرّفك ما تعمل ، وطلب شمس الدين غبريال ناظر دمشق منها وجعله ناظر الدولة ، رفيقا للوزير الجماليّ ، فرفعت قصة إلى السلطان وهو في القصر من القلعة ، فيها الحط على السلطان بسبب تولية الجماليّ الوزارة والماس حاجبا ، وأنه بسبب ذلك أضاع أوضاع المملكة وأهانها وفرّط في أموال المسلمين والجيش ، وأن هذا لم يفعله أحد من الملوك ، فقد وليت الحجابة لمن لا يعرف يحكم ولا يتكلم بالعربيّ ولا يعرف الإحكام الشرعية ، ووليت الوزارة والاستادارية لشاب لا يعرف يكتب اسمه ، ولا يعرف ما يقال له ، ولا يتصرّف في أمور المملكة ولا في الأموال الديوانية إلا أرباب الأقلام ، فإنهم يأكلون المال ويحيلون على الوزير. فلما وقف السلطان عليها ، أوقف عليها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ، المعروف بالفخر ناظر الجيش. فقال : هذه ورقة الكتّاب البطالين ، ممن انقطع رزقه وكثر حسده ، وقرّر مع السلطان أن يلزم الوزير ناظر الدولة وناظر الخواص بإحضار أوراق في كل يوم تشتمل على أصل الحاصل ، وما حمل في ذلك اليوم من البلاد والجهات ، وما صرف. وأنه لا يصرف لأحد شيء البتة إلّا بأمر السلطان وعلمه.

فلما حضر الوزير الجماليّ أنكر عليه السلطان وقال له : إن الدواوين تلعب بك ، وأمر فأحضر التاج إسحاق ، وغبريال ، ومجد الدين بن لعيبة ، وقرّر معهم أن يحضروا آخر كلّ يوم أوراقا بالحاصل والمصروف ، وقد فصلت بأسماء ما يحتاج إلى صرفه وإلى شرائه وبيعه ، فصاروا يحضرون كلّ يوم الأوراق إلى السلطان وتقرأ عليه ، فيصرف ما يختار ويوقف ما يريد ، ورسم أيضا أن مال الجيزة كله يحمل إلى السلطان ولا يصرف منه شيء. ثم لما كانت الفتنة بثغر الإسكندرية بين أهلها وبين الفرنج ، وغضب السلطان على أهل الإسكندرية ، بعث بالجماليّ إليها ، فسار من القاهرة في أثناء رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، ودخل إليها فجلس بالخمس واستدعى بوجوه أهل البلد ، وقبض على كثير من العامّة ، ووسط بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم ، وصادر أرباب الأموال حتى لم يدع أحدا له ثروة ، حتى ألزمه بمال كثير ، فباع الناس حتى ثياب نسائهم في هذه المصادرة ، وأخذ من التجار شيئا كثيرا مع ترفقه بالناس فيما يرد عليه من الكتب بسفك الدماء ، وأخذ الأموال ، ثم أحضر العدد التي كانت بالثغر مرصدة برسم الجهاد ، فبلغت ستة آلاف عدّة ، ووضعها في حاصل وختم عليه وخرج من الإسكندرية بعد عشرين يوما وقد سفك دماء كثيرة ، وأخذ منها مائتي ألف دينار للسلطان وعاد إلى القاهرة ، فلم يزل على حاله إلى أن صرف عن الوزارة في يوم الأحد ثاني شوّال سنة ثمان وعشرين ، ورسم أن توفر وظيفة الوزارة من ولاية وزير ، فلم يستقرّ أحد في الوزارة وبقي الجماليّ على وظيفة الأستادارية ، وكان سبب عزله عن الوزارة توقف حال الدولة وقلة الواصل إليها ، فعمل عليه الفخر ناظر

٢٤٧

الجيش والتاج إسحاق بسبب تقديمه لمحمد بن لعيبة ، فإنه كان قد استقرّ في نظر الدولة والصحبة والبيوت وتحكم في الوزير وتسلم قياده ، فكتبت مرافعات في الوزير وأنه أخذ مالا كثيرا من مال الجيزة ، فخرج الأمير أيتمش المجديّ بالكشف عليه ، وهمّ السلطان بإيقاع الحوطة به ، فقام في حقه الأمير بكتمر الساقي حتى عفي عنه وقبض على كثير من الدواوين. ثم إنه سافر إلى الحجاز ، فلما عاد توفي بسطح عقبة إيلة في يوم الأحد سابع عشر المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. فصبّر وحمل إلى القاهرة ودفن بهذه الخانقاه في يوم الخميس حادي عشري المحرّم المذكور بعد ما صلّى عليه بالجامع الحاكميّ ، وولى السلطان بعده الأستادارية الأمير أقبغا عبد الواحد ، وكان ينوب عن الجماليّ في الأستادارية الطنقش مملوك الأفرم ، نقله إليها من ولاية الشرقية ، وكان الجماليّ حسن الطباع يميل إلى الخير مع كثرة الحشمة ، ومما شكر عليه في وزارته أنه لم يبخل على أحد بولاية مباشرة ، وأنشأ ناسا كثيرا ، وقصد من سائر الأعمال ، وكان يقبل الهدايا ويحب التقادم ، فحلت له الدنيا وجمع منها شيئا كثيرا ، وكان إذا أخذ من أحد شيئا على ولاية لا يعزله حتى يعرف أنه قد اكتسب قدر ما وزنه له ، ولو أكثر عليه في السعي ، فإذا عرف أنه أخذ ما غرمه عزله وولى غيره ، ولم يعرف عنه أنه صادر أحدا ولا اختلس مالا ، وكانت أيامه قليلة الشرّ ، إلّا أنه كان يعزل ويولي بالمال ، فتزايد الناس في المناصب ، وكان له عقب بالقاهرة غير صالحين ولا مصلحين.

المدرسة الفارسية

هذه المدرسة بخط الفهادين من أوّل العطوفية بالقاهرة ، كان موضعها كنيسة تعرف بكنيسة الفهادين ، فلما كانت واقعة النصارى في سنة ست وخمسين وسبعمائة ، هدمها الأمير فارس الدين البكيّ ، قريب الأمير سيف الدين آل ملك الجو كندار ، وبنى هذه المدرسة ووقف عليها وقفا يقوم بما تحتاج إليه.

المدرسة السابقية

هذه المدرسة داخل قصر الخلفاء الفاطميين من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان داخل دار الخلافة ، ويتوصل إلى هذه المدرسة الآن من تجاه حمّام البيسريّ بخط بين القصرين ، وكان يتوصل إليها أيضا من باب القصر المعروف بباب الريح من خط الركن المخلق ، وموضعه الآن قيسارية الأمير جمال الدين يوسف الأستادار. بنى هذه المدرسة الطواشي الأمير سابق الدين مثقال الأنوكيّ مقدّم المماليك السلطانية الأشرفية ، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية ، قرّر في تدريسه شيخنا شيخ الشيوخ سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ ، وجعل فيها تصدير قراءات وخزانة كتب ، وكتابا يقرأ فيه أيتام المسلمين ، وبنى بينها وبين داره التي تعرف بقصر سابق الدين حوض ماء للسبيل ، هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار لما بنى داره المجاورة لهذه المدرسة ،

٢٤٨

ولى سابق الدين تقدمة المماليك بعد الطواشي شرف الدين مختصر الطغتمريّ ، في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة ، ثم تنكر عليه الأمير يلبغا الخاصكيّ القائم بدولة الملك الأشرف شعبان بن حسين وضربه ستمائة عصا وسجنه ونفاه إلى أسوان ، في آخر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستين ، فلم يكن غير قليل حتى قتل الأمير يلبغا ، فاستدعي الأشرف سابق الدين من قوص ، وصرف ظهير الدين مختارا المعروف بشاذروان عن التقدمة ، وأعاده إليها ، فاستمرّ إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة.

المدرسة القيسرانية

هذه المدرسة بجوار المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب ، فيما بينها وبين باب الخوخة ، كانت دارا يسكنها القاضي الرئيس شمس الدين محمد بن إبراهيم القيسرانيّ أحد موقعي الدست بالقاهرة ، فوقفها قبل موته مدرسة ، وذلك في ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة ، وكان حشما كبير الهمة ، سعى بالأمير سيف الدين بهادر الدمرداشيّ في كتابة السرّ بالقاهرة ، مكان علاء الدين عليّ بن فضل الله العمريّ ، فلم يتم ذلك ، ومات الأمير بهادر فانحط جانبه ، وكانت دنياه واسعة جدّا ، وله عدّة مماليك يتوصل بهم إلى السعي في أغراضه عند أمراء الدولة ، وكان ينسب إلى شح كبير.

المدرسة الزمامية

هذه المدرسة بخط رأس البندقانيين من القاهرة ، فيما بين البندقانيين وسويقة الصاحب ، بناها الأمير الطواشي زين الدين مقبل الروميّ ، زمام الآدر الشريفة للسلطان الظاهر برقوق في سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، وجعل بها درسا وصوفية ومنبرا يخطب عليه في كل جمعة ، وبينها وبين المدرسة الصاحبية دون مدى الصوت ، فيسمع كلّ من صلّى بالموضعين تكبير الآخر ، وهذا وأنظاره بالقاهرة من شنيع ما حدث في غير موضع ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم على إزالة هذه المبتدعات.

المدرسة الصغيرة

هذه المدرسة فيما بين البندقانيين وطواحين الملحيين ، ويعرف خطها ببيت محب الدين ناظر الجيوش ، ويعرف أيضا بخط بين العواميد ، بنتها الست أيديكن زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصريّ ، في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

مدرسة تربة أمّ الصالح

هذه المدرسة بجوار المدرسة الأشرفية بالقرب من المشهد النفيسيّ ، فيما بين القاهرة

٢٤٩

ومصر ، موضعها من جملة ما كان بستانا ، أنشأها الملك المنصور قلاون ، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ في سنة اثنتين وثمانين وستمائة ، برسم أمّ الملك الصالح علاء الدين عليّ بن الملك المنصور قلاون ، فلما كمل بناؤها نزل إليها الملك المنصور ومعه ابنه الصالح عليّ ، وتصدّق عند قبرها بمال جزيل ، ورتب لها وقفا حسنا على قرّاء وفقهاء. وغير ذلك. وكانت وفاتها في سادس عشر شوّال سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

مدرسة ابن عرّام

هذه المدرسة بجوار جامع الأمير حسين بحكر جوهر النوبيّ من برّ الخليج الغربيّ خارج القاهرة ، أنشأها الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام ، وكان من فضلاء الناس ، تولى نيابة الإسكندرية وكتب تاريخا وشارك في علوم ، فلما قتل الأمير بركة بسجن الإسكندرية ثارت مماليكه على الأمير الكبير برقوق حنقا لقتله ، فأنكر الأمير برقوق قتله وبعث الأمير يونس النوروزيّ دواداره لكشف ذلك ، فنبش عنه قبره فإذا فيه ضربات عدّة إحداهنّ في رأسه ، فاتهم ابن عرّام بقتله من غير إذن له في ذلك ، فأخرج بركة من قبره وكان بثيابه من غير غسل ولا كفن ، وغسله وكفنه ، وأحضر ابن عرّام معه فسجن بخزانة شمائل داخل باب زويلة من القاهرة ، ثم عصر وأخرج يوم الخميس خامس عشر رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ، من خزانة شمائل ، وأمر به فسمّر عريان بعد ما ضرب عند باب القلة بالمقارع ستة وثمانين بحضرة الأمير قطلودمر الخازندار ، والأمير مامور حاجب الحجاب ، فلما أنزل من القلعة وهو مسمر على الجمل أنشد :

لك قلبي بحلّه فدمي لم تحلّه

لك من قلبي المكان فلم لا تحلّه

قال إن كنت مالكا فلي الأمر كلّه

وما هو إلّا أن وقف بسوق الخيل تحت القلعة وإذا بمماليك بركة قد أكبت عليه تضربه بسيوفها حتى تقطع قطعا وحز رأسه ، وعلّق على باب زويلة وتلاعبت أيديهم ، فأخذوا حد أذنه ، وأخذوا حد رجله ، واشترى آخر قطعة من لحمه ولاكها ، ثم جمع ما وجد منه ودفن بمدرسته هذه. فقال في ذلك صاحبنا الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار :

بدت أجزاء عرّام خليل

مقطعة من الضرب الثقيل

وأبدت أبحر الشعر المراثي

محرّرة بتقطيع الخليل

المدرسة المحمودية

هذه المدرسة بخط الموازنيين خارج باب زويلة تجاه دار القردمية ، يشبه أن موضعها كان في القديم من جملة الحارة التي كانت تعرف بالمنصورية ، أنشأها الأمير جمال الدين

٢٥٠

محمود بن عليّ الأستادار في سنة سبع وتسعين وسبعمائة ، ورتب بها درسا ، وعمل فيها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها ، وهي باقية إلى اليوم لا يخرج لأحد منها كتاب إلّا أن يكون في المدرسة ، وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كلّ فنّ ، وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر.

محمود بن عليّ بن أصفر ، عينه الأمير جمال الدين الأستادار ولي شدّ باب رشيد بالإسكندرية مدّة ، وكانت واقعة الفرنج بها في سنة سبع وستين وسبعمائة ، وهو مشدّ ، فيقال إنّ ماله الذي وجد له حصله يومئذ ، ثم إنه سار إلى القاهرة فلما كانت أيام الظاهر برقوق خدم أستادارا عند الأمير سودون باق ، ثم استقرّ شادّ الدواوين إلى أن مات الأمير بهادر المنجكيّ أستادار السلطان ، فاستقرّ عوضا عنه في وظيفة الأستادارية يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة ، ثم خلع عليه في يوم الخميس خامسة ، واستقرّ مشير الدولة ، فصار يتحدّث في دواوين السلطنة الثلاثة ، وهي الديوان المفرد الذي يتحدّث فيه الأستادار ، وديوان الوزارة ويعرف بالدولة ، وديوان الخاص المتعلق بنظر الخواص ، وعظم أمره ونفذت كلمته لتصرّفه في سائر أمور المملكة. فلما زالت دولة الملك الظاهر برقوق بحضور الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب ، في يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بعساكر الشام إلى القاهرة ، واختفى الظاهر ثم أمسكه ، هرب هو وولده ، فنهبت دوره ، ثم إنه ظهر من الاستتار في يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة ، وقدّم للأمير يلبغا الناصريّ مالا كثيرا فقبض عليه وقيده وسجنه بقلعة الجبل وأقيم بدله في الأستادارية الأمير علاء الدين أقبغا الجوهريّ. فلما زالت دولة يلبغا الناصريّ بقيام الأمير منطاش عليه ، قبض على أقبغا الجوهريّ فيمن قبض عليه من الأمراء ، وأفرج عن الأمير محمود في يوم الاثنين ثامن شهر رمضان ، وألبسه قباء مطرّزا بذهب وأنزله إلى داره ، ثم قبض عليه وسجن بخزانة الخاص في يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة في عدّة من الأمراء والمماليك ، عند عزم منطاش على السفر لحرب برقوق عند خروجه من الكرك ومسيره إلى دمشق ، فكانت جملة ما حمله الأمير محمود من الذهب العين للأمير يلبغا الناصريّ وللأمير منطاش ثمانية وخمسين قنطارا من الذهب المصريّ ، منها ثمانية عشر قطنارا في ليلة واحدة ، فلم يزل في الاعتقال إلى أن خرج المماليك مع الأمير بوطا في ليلة الخميس ثاني صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ، فخرج معهم وأقام بمنزله إلى أن عاد الملك الظاهر برقوق إلى المملكة في رابع عشر صفر ، فخلع عليه واستقرّ أستادار السلطان على عادته في يوم الاثنين تاسع عشري جمادى الأولى من السنة المذكورة ، عوضا عن الأمير قرقماس الطشتمريّ بعد وفاته ، ثم خلع على ولده الأمير ناصر الدين محمد بن محمود في يوم الخميس ثاني عشري صفر سنة أربع وتسعين وسبعمائة ، واستقرّ نائب السلطنة بثغر الإسكندرية عوضا عن الأمير ألطنبغا المعلم ، فقويت حرمة الأمير محمود ونفذت كلمته إلى يوم الاثنين حادي عشر رجب من

٢٥١

السنة المذكورة ، فثار عليه المماليك السلطانية بسبب تأخر كسوتهم ، ورموه من أعلى القلعة بالحجارة وأحاطوا به وضربوه يريدون قتله ، لو لا أن شاء الله أغاثه بوصول الخبر إلى الأمير الكبير ايتمش ، وكان يسكن قريبا من القلعة ، فركب بنفسه وساق حتى أدركه وفرّق عنه المماليك ، وسار به إلى منزله حتى سكنت الفتنة ، ثم شيعه إلى داره. فكانت هذه الواقعة مبدأ انحلال أمره ، فإن السلطان صرفه عن الأستادارية وولى الأمير الوزير ركن الدين عمر بن قايماز في يوم الخميس رابع عشرة ، وخلع على الأمير محمود قباء بطرز ذهب ، واستقرّ على أمرته ، ثم صرف ابن قايماز عن الأستادارية وأعيد محمود في يوم الاثنين خامس عشر رمضان ، وأنعم على ابن قايماز بإمرة طلبخاناه ، فجدّد بثغر الإسكندرية دار ضرب عمل فيها فلوس ناقصة الوزن ، ومن حينئذ اختل حال الفلوس بديار مصر. ثم لما خرج الملك الظاهر إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين ، سار في ركابه ، ثم حضر إلى القاهرة في يوم الأربعاء سابع صفر سنة سبع وتسعين وسبعمائة قبل حضور السلطان ، وكان دخوله يوما مشهودا ، فلما عاد السلطان إلى قلعة الجبل حدث منه تغير على الأمير محمود في يوم السبت ثالث عشري ربيع الأوّل ، وهمّ بالإيقاع به ، فلما صار إلى داره بعث إليه الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ يطلب منه خمسمائة ألف دينار ، وإن توقف يحيط به ويضربه بالمقارع ، فنزل إليه وقرّر الحال على مائة وخمسين ألف دينار ، فطلع على العادة إلى القلعة في يوم الاثنين خامس عشريه ، فسبه المماليك السلطانية ورجموه ، ثم إن السلطان غضب عليه وضربه في يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر بسبب تأخر النفقة ، وأخذ أمره ينحل ، فولى السلطان الأمير صلاح الدين محمد ابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير تنكز أستادارية الأملاك السلطانية ، في يوم الاثنين خامس رجب ، وولى علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ في رمضان التحدّث في دار الضرب بالقاهرة والإسكندرية ، والتحدّث في المتجر السلطانيّ ، فوقع بينه وبين الأمير محمود كلام كثير ورافعه ابن الطبلاويّ بحضرة السلطان ، وخرّج عليه من دار الضرب ستة آلاف درهم فضة ، فألزم السلطان محمودا بحمل مائة وخمسين ألف دينار ، فحملها وخلع عليه عند تكميله حملها في يوم الأحد تاسع عشري رمضان ، وخلع أيضا على ولده الأمير ناصر الدين ، وعلى كاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب الإسكندرانيّ ، وعلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ ، ثم إن محمود أوعك بدنه فنزل إليه السلطان في يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة يعوده ، فقدّم له عدّة تقادم قبل بعضها وردّ بعضها ، وتحدّث الناس أنه استقلها. فلما كان يوم السبت سادس صفر سنة ثمان وتسعين بعث السلطان إلى الأمير محمود الطواشي شاهين الحسني فأخذ زوجتيه وكاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب ، وأخذ مالا وقماشا على حمالين وصار بهما إلى القلعة ، هذا ومحمود مريض لازم الفراش ، ثم عاد من يومه وأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن محمود وحمله إلى القلعة ، ثم نزل ابن غراب ومعه الأمير الي باي الخازندار في يوم الأحد سابعه ، وأخذا من ذخيرة بدار محمود خمسين ألف دينار ، وفي يوم الخميس حادي عشرة صرف محمود عن الأستادارية واستقرّ عوضه

٢٥٢

الأمير سيف الدين قطلوبك العلائيّ أستادار الأمير الكبير ايتمش ، وقرّر سعد الدين بن غراب ناظر الديوان المفرد ، فاجتمع مع ابن الطبلاويّ على عداوة محمود والسعي في إهلاكه ، وسلّم ابن محمود إلى ابن الطبلاويّ في تاسع عشر ربيع الأوّل ليستخلص منه مائة ألف دينار ، ونزل الطواشي صندل المنجكيّ ، والطواشي شاهين الحسنيّ في ثالث عشرية ، ومعهما ابن الطبلاويّ ، فأخذا من خربة خلف مدرسة محمود زيرين كبيرين وخمسة أزيار صغارا وجد فيها ألف ألف درهم فضة ، فحملت إلى القلعة ، ووجد أيضا بهذه الخربة جرّتان في إحداهما ستة آلاف دينار وفي الأخرى أربعة آلاف درهم فضة وخمسمائة درهم ، وقبض على مباشري محمود ومباشري ولده ، وعوقب محمود ، ثم أوقعت الحوطة على موجود محمود في يوم الخميس سابع جمادى الأولى ، ورسم عليه ابن الطبلاويّ في داره ، وأخذ مماليكه وأتباعه ، ولم يدع عنده غير ثلاث مماليك صغار ، وظهرت أموال محمود شيئا بعد شيء ، ثم سلّم إلى الأمير فرج شادّ الدواوين في خامس جمادى الآخرة فنقله إلى داره وعاقبه وعصره في ليلته ، ثم نقل في شعبان إلى دار ابن الطبلاويّ فضربه وسعطه وعصره ، فلم يعترف بشيء ، وحكى عنه أنه قال لو عرفت أني أعاقب ما اعترفت بشيء من المال ، وظهر منه في هذه المحنة ثبات وجلد وصبر مع قوّة نفس وعدم خضوع ، حتى أنه كان يسب ابن الطبلاويّ إذا دخل إليه ولا يرفع له قدرا ، ثم إن السلطان استدعاه إلى ما بين يديه يوم السبت أوّل صفر سنة تسع وتسعين ، وحضر سعد الدين بن غراب فشافهه بكل سوء ورافعه في وجهه حتى استغضب السلطان على محمود ، وأمر بمعاقبته حتى يموت ، فأنزل إلى بيت الأمير حسام الدين حسين ابن أخت الفرس شادّ الدواوين ، وكان أستادار محمود ، فلم يزل عنده في العقوبة إلى أن نقل من داره إلى خزانة شمائل في ليلة الجمعة ثالث جمادى الأولى وهو مريض ، فمات بها في ليلة الأحد تاسع رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة ، ودفن من الغد بمدرسته وقد أناف على الستين سنة ، وكان كثير الصلاة والعبادة مواظبا على قيام الليل ، إلّا أنه كان شحيحا مسيكا شرها في الأموال ، رمى الناس منه في رماية البضائع بداوه إذا نسبت إلى ما حدث من بعده ، كانت عافية ونعمة ، وأكثر من ضرب الفلوس بديار مصر حتى فسد بكثرتها حال إقليم مصر ، وكان جملة ما حمل من ماله بعد نكبته هذه مائة قنطار ذهبا وأربعين قنطارا ، عنها ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار عينا ، وألف ألف درهم فضة ، وأخذ له من البضائع والغلال والقنود والأعسال ما قيمته ألف ألف درهم وأكثر.

المدرسة المهذبية

هذه المدرسة بحارة حلب خارج القاهرة عند حمام قماريّ ، بناها الحكيم مهذب الدين محمد بن أبي الوحش المعروف بابن أبي حليقة ، تصغير حلقة ، رئيس الأطباء بديار مصر ، ولي رياسة الأطباء في حادي عشر رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة ، واستقرّ مدرّس الطب بالمارستان المنصوريّ.

٢٥٣

المدرسة السعدية

هذه المدرسة خارج القاهرة بقرب حدرة البقر على الشارع المسلوك فيه من حوض ابن هنس إلى الصليبة ، وهي فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل ، كان موضعها يعرف بخط بستان سيف الإسلام ، وهي الآن في ظهر بيت قوصون المقابل لباب السلسلة من قلعة الجبل ، بناها الأمير شمس الدين سنقر السعديّ نقيب المماليك السلطانية ، في سنة خمس عشرة وسبعمائة ، وبنى بها أيضا رباطا للنساء ، وكان شديد الرغبة في العمائر محبا للزراعة ، كثير المال ظاهر الغنى ، وهو الذي عمر القرية التي تعرف اليوم بالنحريرية من أعمال الغربية ، وكان إقطاعه ، ثم إنه أخرج من مصر بسبب نزاع وقع بينه وبين الأمير قوصون في أرض أخذها منه ، فسار إلى طرابلس وبها مات في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

المدرسة الطفجية

هذه المدرسة بخط حدرة البقر أيضا ، أنشأها الأمير سيف الدين طفجي الأشرفيّ ، ولها وقف جيد.

طفجي : الأمير سيف الدين ، كان من جملة مماليك الملك الأشرف خليل بن قلاون ، ترقّى في خدمته حتى صار من جملة أمراء ديار مصر ، فلما قتل الملك الأشرف قام طفجي في المماليك الأشرفية وحارب الأمير بيدرا المتولي لقتل الأشرف حتى أخذه وقتله ، فلما أقيم الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد قتل بيدرا ، صار طفجي من أكابر الأمراء ، واستمرّ على ذلك بعد خلع الملك الناصر بكتبغا مدّة أيامه إلى أن خلع الملك العادل كتبغا وقام في سلطنة مصر الملك المنصور لاجين ، وولى مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر نيابة السلطنة بديار مصر ، فأخذ يواحش أمراء الدولة بسوء تصرّفه ، واتفق أن طفجي حج في سنة سبع وتسعين وستمائة ، فقرّر منكوتمر مع المنصور أنه إذا قدم من الحج يخرجه إلى طرابلس ويقبض على أخيه الأمير سيف الدين كرجي ، فعندما قدم طفجي من الحجاز في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة ، رسم له بنيابة طرابلس ، فثقل عليه ذلك وسعى بإخوته الأشرفية حتى أعفاه السلطان من السفر ، فسخط منكوتمر وأبى الإسفر طفجي وبعث إليه يلزمه بالسفر ، وكان لاجين منقادا لمنكوتمر لا يخالفه في شيء ، فتواعد طفجي وكرجي مع جماعة من المماليك وقتلوا لاجين ، وتولى قتله كرجي ، وخرج فإذا طفجي في انتظاره على باب القلة من قلعة الجبل ، فسرّ بذلك وأمر بإحضار من بالقلعة من الأمراء ، وكانوا حينئذ يبيتون بالقلعة دائما ، وقتل منكوتمر في تلك الليلة وعزم على أنه يتسلطن ويقيم كرجي في نيابة السلطنة ، فخذله الأمراء. وكان الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح قد خرج في غزاة وقرب حضوره ، فاستمهلوه بما يريد إلى أن يحضر ، فأخر سلطنته وبقي

٢٥٤

الأمراء في كل يوم يحضرون معه في باب القلة ، ويجلس في مجلس النيابة والأمراء عن يمينه وشماله ، ويمدّ سماط السلطان بين يديه ، فلما حضر أمير سلاح بمن معه من الأمراء ، نزل طفجي والأمراء إلى لقائهم بعد ما امتنع امتناعا كثيرا ، وترك كرجي يحفظ القلعة بمن معه من المماليك الأشرفية ، وقد نوى طفجي الشرّ للأمراء الذين قد خرج إلى لقائهم ، وعرف ذلك الأمراء المقيمون عنده في القلعة ، فاستعدّوا له. وسار هو والأمراء إلى أن لقوا الأمير بكتاش ومعه من الأشرفية أربعمائة فارس تحفظه حتى يعود من اللقاء إلى القلعة ، فعندما وافاه بقبة النصر وتعانقا أعلمه بقتل السلطان ، فشقّ عليه ، وللوقت جرّد الأمراء سيوفهم وارتفعت الضجة ، فساق طفجي من الحلقة والأمراء وراءه إلى أن أدركه قراقوش الظاهريّ وضربه بسيف ألقاه عن فرسه إلى الأرض ميتا ، ففرّ كرجي ، ثم أخذ وقتل وحمل طفجي في مزبلة من مزابل الحمّامات على حمار إلى مدرسته هذه فدفن بها ، وقبره هناك إلى اليوم. وكان قتله في يوم الخميس سادس عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة ، بعد خمسة أيام من قتل لاجين ومنكوتمر.

المدرسة الجاولية

هذه المدرسة بجوار الكبش ، فيما بين القاهرة ومصر ، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وعمل بها درسا وصوفية ، ولها إلى هذه الأيام عدّة أوقاف.

سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الجاوليّ ، كان مملوك جاولي أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس ، وانتقل بعد موت الأمير جاولي إلى بيت قلاون ، وخرج في أيام الأشرف خليل بن قلاون إلى الكرك ، واستقرّ في جملة البحرية بها إلى أيام العادل كتبغا ، فحضر من عند نائب الكرك ومعه حوائجخاناه ، فرفعه كتبغا وأقامه على الخوشخاناه السلطانية ، وصحب الأمير سلار وواخاه فتقدّم في الخدمة ، وبقي أستادارا صغيرا في أيام بيبرس وسلار ، فصار يدخل على السلطان الملك الناصر ويخرج ويراعي مصالحه في أمر الطعام ويتقرّب إليه ، فلما حضر من الكرك جهزه إلى غزة نائبا في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، عوضا عن الأمير سيف الدين قطلوا أقتمر عبد الخالق بعد إمساكه ، وأضاف إليه مع غزة الساحل والقدس وبلد الخليل وجبل نابلس ، وأعطاه إقطاعا كبيرا بحيث كان للواحد من مماليكه إقطاع يعمل عشرين ألفا وخمسة وعشرين ألفا ، وعمل نيابة غزة على القالب الجائر إلى أن وقعت بينه وبين الأمير تنكز نائب الشام بسبب دار كانت له تجاه جامع تنكز خارج دمشق من شمالها ، أراد تنكز أن يبتاعها منه فأبى عليه ، فكتب فيه إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فأمسكه في ثامن عشري شعبان سنة عشرين وسبعمائة ، واعتقله نحوا من ثمان سنين ، ثم أفرج عنه في سنة تسع وعشرين ، وأعطاه أمرة أربعين ، ثم بعد مدّة أعطاه

٢٥٥

أمرة مائة وقدّمه على ألف وجعله من أمراء المشورة ، فلم يزل على هذا إلى أن مات الملك الناصر ، فتولى غسله ودفنه. فلما ولي الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون سلطنة مصر أخرجه إلى نيابة حماه ، فأقام بها مدّة ثلاثة أشهر ثم نقله إلى نيابة غزة ، فحضر إليها وأقام بها نحو ثلاثة أشهر أيضا ، ثم أحضره إلى القاهرة وقرّره على ما كان عليه ، وولى نظر المارستان بعد نائب الكرك عند ما أخرج إلى نيابة طرابلس ، ثم توجه لحصار الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وهو ممتنع في الكرك ، فأشرف عليه في بعض الأيام الناصر أحمد من قلعة الكرك وسبه وشيخه ، فقال له الجاوليّ : نعم أنا شيخ نحس ، ولكن الساعة ترى حالك مع الشيخ النحس ، ونقل المنجنيق إلى مكان يعرفه ورمى به فلم يخطئ القلعة وهدم منها جانبا ، وطلع بالعسكر وأمسك أحمد وذبحه صبرا. وبعث برأسه إلى الصالح إسماعيل ، وعاد إلى مصر فلم يزل على حاله إلى أن مات في منزله بالكبش يوم الخميس تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ودفن بمدرسته ، وكانت جنازته حافلة إلى الغاية.

قد سمع الحديث وروى وصنف شرحا كبيرا على مسند الشافعيّ رحمه‌الله ، وأفتى في آخر عمره على مذهب الشافعيّ ، وكتب خطه على فتاوى عديدة ، وكان خبيرا بالأمور ، عارفا بسياسة الملك ، كفوا لما وليه من النيابات وغيرها ، لا يزال يذكر أصحابه في غيبتهم عنه ويكرمهم إذا حضروا عنده ، وانتفع به جماعة من الكتاب والعلماء والأكابر ، وله من الآثار الجميلة الفاضلة جامع بمدينة غزة في غاية الحسن ، وله بها أيضا حمّام مليح ، ومدرسة للفقهاء الشافعية ، وخان للسبيل ، وهو الذي مدّن غزة وبنى بها أيضا مارستانا ، ووقف عليه عن الملك الناصر أوقافا جليلة ، وجعل نظره لنواب غزة وعمر بها أيضا الميدان والقصر ، وبنى ببلد الخليل عليه‌السلام جامعا سقفه منه حجر نقر ، وعمل الخان العظيم بقاقون ، والخان بقرية الكثيب ، والقناطر بغابة أرسوف ، وخان رسلان في حمراء بيسان ، ودارا بالقرب من باب النصر داخل القاهرة ، ودارا بجوار مدرسته على الكبش ، وسائر عمائره ظريفة أنيقة محكمة متقنة مليحة ، وكان ينتمي إلى الأمير سلار ويجل ذكره.

المدرسة الفارقانية

هذه المدرسة خارج باب زويلة من القاهرة ، فيما بين حدرة البقر وصليبة جامع ابن طولون ، وهي الآن بجوار حمّام الفارقانيّ تجاه البندقدارية ، بناها والحمام المجاور لها الأمير ركن الدين بيبرس الفارقانيّ ، وهو غير الفارقانيّ المنسوب إليه المدرسة الفارقانية بحارة الوزيرية من القاهرة.

المدرسة البشيرية

هذه المدرسة خارج القاهرة بحكر الخازن المطل على بركة الفيل ، كان موضعها

٢٥٦

مسجدا يعرف بمسجد سنقر السعديّ الذي بنى المدرسة السعدية ، فهدمه الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجمدار الناصريّ ، وبنى موضعه هذه المدرسة في سنة إحدى وستين وسبعمائة ، وجعل بها خزانة كتب ، وهي من المدارس اللطيفة.

المدرسة المهمندارية

هذه المدرسة خارج باب زويلة فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل ، يعرف خطها اليوم بخط جامع الماردانيّ خارج الدرب الأحمر ، وهي تجاه مصلّى الأموات على يمنة من سلك من الدرب الأحمر طالبا جامع الماردانيّ ، ولها باب آخر في حارة اليانسية بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار ، ونقيب الجيوش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، وجعلها مدرسة وخانقاه ، وجعل طلبة درسها من الفقهاء الحنفية ، وبنى إلى جانبها القيسارية والربع الموجودين الآن.

مدرسة ألجاي

هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل ، كان موضعها وما حولها مقبرة ، ويعرف الآن خطها بخط سويقة العزي ، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين الجاي في سنة ثمان وستين وسبعمائة ، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية ، ودرسا للفقهاء الحنفية ، وخزانة كتب ، وأقام بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة ، وهي من المدارس المعتبرة الجليلة ، ودرّس بها شيخنا جلال الدين البنانيّ الحنفيّ ، وكانت سكنه.

ألجاي بن عبد الله اليوسفيّ الأمير سيف الدين ، تنقل في الخدم حتى صار من جملة الأمراء بديار مصر ، فلما أقام الأمير الأستدمر الناصريّ بأمر الدولة بعد قتل الأمير يلبغا الخاصكي العمريّ ، في شوّال سنة ثمان وستين وسبعمائة ، قبض على الجاي في عدّة من الأمراء وقيدهم وبعث بهم إلى الإسكندرية ، فسجنوا إلى عاشر صفر سنة تسع وستين ، فأفرج الملك الأشرف شعبان بن حسين عنه وأعطاه أمرة مائة ، وتقدمة ألف ، وجعله أمير سلاح برّاني ، ثم جعله أمير سلاح أتابك العساكر ، وناظر المارستان المنصوريّ عوضا عن الأمير منكلي بغا الشمسيّ ، في سنة أربع وسبعين وسبعمائة ، وتزوّج بخوند بركة أم السلطان الملك الأشرف ، فعظم قدره واشتهر ذكره ، وتحكم في الدولة تحكما زائدا إلى يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة ، فركب يريد محاربة السلطان بسبب طلبه ميراث أمّ السلطان بعد موتها ، فركب السلطان وأمراؤه وبات الفريقان ليلة الأربعاء على الاستعداد للقتال إلى بكرة نهار الأربعاء تواقع الجاي مع أمراء السلطان إحدى عشرة وقعة انكسر في آخرها الجاي وفرّ إلى جهة بركة الحبش ، وصعد من الجبل من عند الجبل الأحمر إلى قبة النصر ووقف هناك ، فاشتدّ على السلطان فبعث إليه خلعة بنيابة حماه ، فقال لا أتوجه إلّا

٢٥٧

ومعي مماليكي كلهم وجميع أموالي ، فلم يوافقه السلطان على ذلك ، وبات الفريقان على الحرب ، فانسلّ أكثر مماليك الجاي في الليل إلى السلطان ، وعند ما طلع النهار يوم الخميس بعث السلطان عساكره لمحاربة الجاي بقبة النصر ، فلم يقاتلهم وولى منهزما والطلب وراءه إلى ناحية الخرقانية بشاطئ النيل ، قريبا من قليوب ، فتحير وقد أدركه العسكر ، فألقى نفسه بفرسه في البحر يريد النجاة إلى البرّ الغربيّ فغرق بفرسه. ثم خلص الفرس وهلك الجاي ، فوقع النداء بالقاهرة وظواهرها على إحضار مماليكه ، فأمسك منهم جماعة وبعث السلطان الغطاسين إلى البحر تتطلبه فتبعوه حتى أخرجوه إلى البرّ في يوم الجمعة تاسع المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة ، فحمل في تابوت على لباد أحمر إلى مدرسته هذه وغسل وكفن ودفن بها ، وكان مهابا جبارا عسوفا عتيا ، تحدّث في الأوقاف فشدّد على الفقهاء وأهان جماعة منهم ، وكان معروفا بالإقدام والشجاعة.

مدرسة أمّ السلطان

هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل ، يعرف خطها الآن بالتبانة ، وموضعها كان قديما مقبرة لأهل القاهرة ، أنشأتها الست الجليلة الكبرى بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة ، وعملت بها درسا للشافعية ، ودرسا للحنفية ، وعلى بابها حوض ماء للسبيل. وهي من المدارس الجليلة ، وفيها دفن ابنها الملك الأشرف بعد قتله.

بركة : الست الجليلة خوند أمّ الملك الأشرف شعبان بن حسين ، كانت أمة مولدة ، فلما أقيم ابنها في مملكة مصر عظم شأنها وحجت في سنة سبعين وسبعمائة بتجمل كثير وبرج زائد ، وعلى محفتها العصائب السلطانية والكؤسات تدق معها ، وسار في خدمتها من الأمراء المقدّمين : بشتاك العمريّ رأس نوبة ، وبهادر الجماليّ ، ومائة مملوك من المماليك السلطانية أرباب الوظائف ، ومن جملة ما كان معها قطار جمال محملة محائر قد زرع فيها البقل والخضراوات إلى غير ذلك مما يجل وصفه ، فلما عادت في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة خرج السلطان بعساكره إلى لقائها ، وسار إلى البويب في سادس عشر المحرّم ، وتزوّجت بالأمير الكبير الجاي اليوسفيّ ، وبها طال واستطال ، ماتت في ثامن عشر ذي القعدة سنة أربع وسبعين وسبعمائة ، وكانت خيرة عفيفة لها برّ كثير ومعروف معروف ، تحدّث الناس بحجتها عدّة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة في تلك المشاهد الكريمة ، وكان لها اعتقاد في أهل الخير ومحبة في الصالحين ، وقبرها موجود بقبة هذه المدرسة ، وأسف السلطان على فقدها ، ووجد وجدا كبيرا لكثرة حبه لها ، واتفق أنها لما ماتت أنشد الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى الأعرج السعدي :

في ثامن العشرين من ذي قعدة

كانت صبيحة موت أمّ الأشرف

٢٥٨

فالله يرحمها ويعظم أجره

ويكون في عاشور موت اليوسفيّ

فكان كما قال ؛ وغرق الجاي اليوسفيّ كما تقدّم ذكره في يوم عاشوراء.

المدرسة الأيتمشية

هذه المدرسة خارج القاهرة داخل باب الوزير تحت قلعة الجبل برأس التبانة ، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين ايتمش البجاسيّ ، ثم الظاهريّ في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ، وجعل بها درس فقه للحنفية ، وبنى بجانبها فندقا كبيرا يعلوه ربع ، ومن ورائها خارج باب الوزير حوض ماء للسبيل وربعا ، وهي مدرسة ظريفة.

ايتمش بن عبد الله الأمير الكبير سيف الدين البجاسيّ ثم الظاهريّ ، كان أحد المماليك اليلبغاوية.

المدرسة المجدية الخليلية

هذه المدرسة بمصر ، يعرف موضعها بدرب البلاد ، عمرها الشيخ الإمام مجد الدين أبو محمد عبد العزيز بن الشيخ الإمام أمين الدين أبي عليّ الحسين بن الحسن بن إبراهيم الخليليّ الداريّ ، فتمت في شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة ، وقرّر فيها مدرّسا شافعيا ومعيدين وعشرين نفرا طلبة ، وإماما راتبا ، ومؤذنا ، وقيما لكنسها وفرشها ووقود مصابيحها. وإدارة ساقيتها ، وأجرى الماء إلى فسقيتها ، ووقف عليها غيطا بناحية بارنبار من أعمال المزاحميتين ، وبستانا بمحلة الأمير من المزاحميتين بالغربية ، وغيطا بناحية نطوبس ، وربع غيط بظاهر ثغر رشيد ، وبستانا ونصف بستان بناحية بلقس ، ورباعا بمدينة مصر.

ومجد الدين هذا هو والد الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليليّ ، ودرّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين إلى حين وفاته ، وتوفي مجد الدين بدمشق في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمانين وستمائة ، وكان مشهورا بالصلاح.

المدرسة الناصرية بالقرافة

هذه المدرسة بجوار قبة الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي‌الله‌عنه من قرافة مصر ، أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ورتب بها مدرّسا يدرّس الفقه على مذهب الشافعيّ ، وجعل له في كل شهر من المعلوم عن التدريس أربعين دينارا ، معاملة صرف كل دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم ، وعن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير ، ورتب له من الخبز في كل يوم ستين رطلا بالمصريّ ، وراويتين من ماء النيل ، وجعل فيها معيدين وعدّة من الطلبة ، ووقف عليها حمّاما بجوارها ، وفرنا تجاهها ، وحوانيت بظاهرها ، والجزيرة التي يقال لها جزيرة الفيل ببحر النيل خارج القاهرة ،

٢٥٩

وولى تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان ، ثم خلت من مدرّس ثلاثين سنة ، واكتفى فيها بالمعيدين وهم عشرة أنفس ، فلما كانت سنة ثمان وسبعين وستمائة ولى تدريسها قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن رزين الحمويّ بعد عزله من وظيفة القضاء ، وقرّر له نصف المعلوم. فلما مات وليها الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم ، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر السنجاريّ التدريس قرّر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف.

المدرسة المسلمية

هذه المدرسة بمدينة مصر في خط السيوريين ، أنشأها كبير التجار ناصر الدين محمد بن مسلّم ـ بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد اللام ـ البالسيّ الأصل ابن بنت كبير التجار شمس الدين محمد بن بسير ـ بفتح الباء أوّل الحروف وكسر السين المهملة ثم ياء آخر الحروف بعدها راء ـ ومات في سنة ست وسبعين وسبعمائة ، قبل أن تتمّ. فوصى بتكملتها وأفرد لها مالا ووقف عليها دورا وأرضا بناحية قليوب ، وشرط أن يكون فيها مدرس مالكيّ ومدرّس شافعيّ ومؤدّب أطفال وغير ذلك ، فكملها مولاه ووصيه الكبير كافور الخصيّ الروميّ بعد وفاة استاذه ، وهي الآن عامرة ، وبلغ ابن مسلَّم هذا من وفور المال وعظم السعادة ما لم يبلغه أحد ممن أدركناه ، بحيث أنه جاء نصيب أحد أولاده نحو مائتي ألف دينار مصرية ، وكان كثير الصدقات على الفقراء ، مقترا على نفسه إلى الغاية ، وله أيضا مطهرة عظيمة بالقرب من جامع عمرو بن العاص ، ونفعها كبير ، وله أيضا دار جليلة على ساحل النيل بمصر ، وكان أبوه تاجرا سفارا بعد ما كان حمالا ، فصاهر ابن بسير ورزق محمدا هذا من ابنته ، فنشأ على صيانة ورزق الحظ الوافر في التجارة وفي العبيد ، فكان يبعث أحدهم بمال عظيم إلى الهند ، ويبعث آخر بمثل ذلك إلى بلاد التكرور (١) ، ويبعث آخر إلى بلاد الحبشة ، ويبعث عدّة آخرين إلى عدّة جهات من الأرض ، فما منهم من يعود إلّا وقد تضاعفت فوائد ماله أضعافا مضاعفة.

مدرسة اينال

هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من باب حارة الهلالية بخط القماحين ، كان موضعها في القديم من حقوق حارة المنصورة ، أوصى بعمارتها الأمير الكبير سيف الدين اينال اليوسفيّ ، أحد المماليك اليلبغاوية. فابتدأ بعملها في سنة أربع وتسعين ، وفرغت في سنة خمس وتسعين وسبعمائة ، ولم يعمل فيها سوى قرّاء يتناوبون قراءة القرآن على قبره ، فإنه لما مات في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وسبعمائة دفن

__________________

(١) بلاد التكرور : بلاد تنسب إلى قبيل من السودان في أقصى جنوب المغرب وأهلها أشبه بالزنوج ، وقيل هي مدينة عظيمة في السودان.

٢٦٠