كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

وقوع الصلح ، وتسلم المسلمون مدينة دمياط في تاسع عشري رجب سنة ثمان عشرة وستمائة ، بعد ما أقامت بيد الفرنج سنة وأحد عشر شهرا تنقص ستة أيام ، وسار الفرنج إلى بلادهم ، وعاد السلطان إلى قلعة الجبل. وأخرج كثيرا من الأمراء الذين وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلى الشام ، وفرّق أخبازهم على مماليكه ، ثم تخوّف من أمرائه في سنة إحدى وعشرين بميلهم إلى أخيه الملك المعظم ، فقبض على جماعة منهم وكاتب أخاه الملك الأشرف في موافقته على المعظم ، فقويت الوحشة بين الكامل والمعظم ، واشتدّ خوف الكامل من عسكره وهمّ أن يخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم يجسر على ذلك ، وقدم الأشرف إلى القاهرة فسرّ بذلك سرورا كثيرا وتحالفا على المعاضدة ، وسافر من القاهرة فمال مع المعظم ، فتحير الكامل في أمره وبعث إلى ملك الفرنج يستدعيه إلى عكا ، ووعده بأن يمكنه من بلاد الساحل ، وقصد بذلك أن يشغل سرّ أخيه المعظم.

فلما بلغ ذلك المعظم خطب للسلطان جلال الدين الخوارزميّ وبعث يستنجد به على الكامل ، وأبطل الخطبة للكامل ، فخرج الكامل من القاهرة يريد محاربته في رمضان سنة أربع وعشرين ، وسار إلى العباسة ، ثم عاد إلى قلعة الجبل وقبض على عدّة من الأمراء ومماليك أبيه لمكاتبتهم المعظم ، وأنفق في العسكر ، فاتفق موت الملك المعظم في سلخ ذي القعدة ، وقيام ابنه الملك الناصر داود بسلطنة دمشق ، وطلبه من الكامل الموادعة ، فبعث إليه خلعة سنية وسنجقا سلطانيا وطلب منه أن ينزل له عن قلعة الشوبك ، فامتنع الناصر من ذلك ، فوقعت المنافرة بينهما وعهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأركبه بشعار السلطنة وأنزله بدار الوزارة ، وخرج من القاهرة في العساكر يريد دمشق ، فأخذنا بلس والقدس ، فخرج الناصر داود من دمشق ومعه عمه الأشرف ، وسارا إلى الكامل يطلبان منه الصلح ، فلما بلغ ذلك الكامل رحل من نابلس يريد القاهرة ، فقدمها الناصر والأشرف ، وأقام بها الناصر وسار الأشرف والمجاهد إلى الكامل فأدركاه بتل العجوز ، فأكرمهما وقرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر وإعطاءها للأشرف ، على أن يكون للكامل ما بين عقبة أفيق إلى القاهرة ، وللأشرف من دمشق إلى عقبة أفيق ، وأن يعين بجماعة من ملوك بني أيوب ، فاتفق قدوم الملك الأنبرطور إلى عكا باستدعاء الملك الكامل له ، فتحير الكامل في أمره لعجزه عن محاربته وأخذ يلاطفه ، وشرع الفرنج في عمارة صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب ، فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للكامل عاد من نابلس إلى دمشق واستعدّ للحرب ، فسار إليه الأشرف من تل العجوز وحاصره بدمشق ، وأقام الكامل بتل العجوز وقد تورط مع الفرنج فلم يجد بدّا من إعطائهم القدس على أن لا يجدّد سوره وأن تبقى الصخرة والأقصى مع المسلمين ، ويكون حكم قرى القدس إلى المسلمين ، وأن القرى التي فيما بين عكا ويافا وبين لد والقدس للفرنج ، وانعقدت الهدنة على ذلك لمدّة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوما ، أولها ثامن ربيع

٢٢١

الأوّل سنة ست وعشرين ، ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج ، فكان أمرا مهولا من شدّة البكاء والصراخ ، وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان ، فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والآلات وزجرهم ، وقيل لهم امضوا حيث شئتم ، فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه ، وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعد ما دخل القدس ، وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين. وسيّر الكامل إلى الآفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس ، ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها ، فجدّ في القتال واشتدّ الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل ، فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق ، وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس ، ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر ، وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف ، وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق ، وهي حران (١) والرّها (٢) وسروج وغير ذلك ، ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات ، ثم سار إلى جعبر والرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها ، وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك ، وأقيمت له الخطبة بماردين ، وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط ، ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين ، وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد ، وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر ، ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين ، ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر ، وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند ، فصار الماء دائما فيما بين مصر والمقياس ، وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل ، وخرج من القاهرة إلى بلاد الشام في آخر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين ، واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل ، وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك ، وخرج منها لقتال التتر ، وجعل ابنه الصالح على مقدّمته ، فسار إلى حران فرحل التتر عن خلاط ، ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها ، وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا ، وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين ، فقبض على عدّة من الأمراء.

ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند ، وقد أعجبته كثرة عساكره ، فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبا لثمانية عشر ملكا. وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام ، ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم ، وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني

__________________

(١) حرّان : مدينة عظيمة بينها وبين الرها يوم وبين الرّمة يومان على طريق الموصل الشام.

(٢) الرها : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام.

٢٢٢

أيوب عليه ، ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره ، وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف ، فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها ، وأخذ حران بعد قتال شديد ، وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس ، ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين ، ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه ، فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل ، وعوّضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى ، ونزل بالقلعة وأخذ يتجهز لأخذ حلب ، وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحمّام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمّى ، فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة ، عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة ، استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما.

وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم ، وشغف بسماع الحديث النبويّ ، وحدّث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة ، وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو ، فمن أجاب عنها حظي عنده ، وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه ، وكان للعلم والأدب عنده نفاق ، فقصده الناس لذلك ، وصار يطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا ، وكان مهابا حازما سديد الرأي حسن التدبير عفيفا عن الدماء ، وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره ، ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر أحدا ، وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه ، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها ، فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيا وتفقدها بنفسه ، فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة ، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة ، وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين ، ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعا ، ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء ، وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة ، وكان كثير السياسة حسن المداراة ، وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين ، إلّا أنه كان مغرما بجمع المال مجتهدا في تحصيله ، وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله ، ومن شعره قوله رحمه‌الله تعالى :

إذا تحققتم ما عند صاحبكم

من الغرام فداك القدر يكفيه

أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم

وصاحب البيت أدرى بالذي فيه

وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه ،

٢٢٣

كيف نوم السلطان في ليلته فأنشد :

يا خليليّ خبراني بصدق

كيف طعم الكرى فإني نسيت

ودفن أوّلا بقلعة دمشق ، ثم نقل إلى جوار جامع بني أمية وقبره هناك رحمه‌الله تعالى.

المدرسة الصيرمية

هذه المدرسة من داخل باب الجملون الصغير بالقرب من رأس سويقة أمير الجيوش ، فيما بينها وبين الجامع الحاكميّ ، بجوار الزيادة ، بناها الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم ، أحد أمراء الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب ، وتوفي في تاسع عشر صفر سنة ست وثلاثين وستمائة.

المدرسة المسرورية

هذه المدرسة بالقاهرة داخل درب شمس الدولة ، كانت دار شمس الخواص مسرور ، أحد خدّام القصر ، فجعلت مدرسة بعد وفاته بوصيته ، وأن يوقف الفندق الصغير عليها ، وكان بناؤها من ثمن ضيعة بالشام كانت بيده بيعت بعد موته ، وتولى ذلك القاضي كمال الدين خضر ، ودرّس فيها ، وكان مسرور ممن اختص بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فقدّمه على حلقته ولم يزل مقدّما إلى الأيام الكاملية ، فانقطع إلى الله تعالى ولزم داره إلى أن مات ، ودفن بالقرافة إلى جانب مسجده ، وكان له برّ وإحسان ومعروف ، ومن آثاره بالقاهرة فندق يعرف اليوم بخان مسرور الصفديّ وله ربع بالشارع.

المدرسة القوصية

هذه المدرسة بالقاهرة في درب سيف الدولة بالقرب من درب ملوخيا ، أنشأها الأمير الكرديّ والي قوص.

مدرسة بحارة الديلم (١)

المدرسة الظاهرية

هذه المدرسة بالقاهرة من جملة خط بين القصرين ، كان موضعها من القصر الكبير يعرف بقاعة الخيم ، وقد تقدّم ذكرها في أخبار القصر. ومما دخل في هذه المدرسة باب الذهب المذكور في أبواب القصر ، فلما أوقع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ الحوطة على

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٢٤

القصور والمناظر ، كما تقدّم ذكره ، نزل القاضي كمال الدين ظاهر ابن الفقيه نصر وكيل بيت المال ، وقوّم قاعة الخيم هذه ، وابتاعها الشيخ شمس الدين محمد بن العماد إبراهيم المقدسيّ شيخ الحنابلة ومدرّس المدرسة الصالحية النجمية ، ثم باعها المذكور للسلطان ، فأمر بهدمها وبناء موضعها مدرسة ، فابتديء بعمارتها في ثاني ربيع الآخر سنة ستين وستمائة ، وفرغ منها في سنة اثنتين وستين وستمائة ، ولم يقع الشروع في بنائها حتى رتب السلطان وقفها ، وكان بالشام ، فكتب بما رتبه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور ، وأن لا يستعمل فيها أحدا بغير أجرة ، ولا ينقص من أجرته شيئا ، فلما كان يوم الأحد خامس صفر سنة اثنتين وستين وستمائة ، اجتمع أهل العلم بها وقد فرغ منها وحضر القرّاء وجلس أهل الدروس كلّ طائفة في إيوان ، منها الشافعية بالإيوان القبليّ ومدرّسهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن الحسن بن رزين الحمويّ ، والحنفية بالإيوان البحريّ ومدرّسهم الصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحلبيّ ، وأهل الحديث بالإيوان الشرقيّ ومدرّسهم الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطيّ ، والقرّاء بالقراءات السبع بالإيوان الغربيّ وشيخهم الفقيه كمال الدين المحليّ ، وقرّروا كلهم الدروس وتناظروا في علومهم ، ثم مدّت الأسمطة لهم فأكلوا ، وقام الأديب أبو الحسين الجزار فأنشد :

ألا هكذا يبني المدارس من بنى

ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا

لقد ظهرت للظاهر الملك همة

بها اليوم في الدارين قد بلغ المنا

تجمّع فيها كلّ حسن مفرّق

فراقت قلوبا للأنام وأعينا

ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه الن

فيسة منها في سرور وفي هنا

وما هي إلّا جنة الخلد أزلفت

له في غد فاختار تعجيلها هنا

وقال السراج الورّاق أيضا قصيدة منها :

مليك له في العلم حبّ وأهله

فلله حبّ ليس فيه ملام

فشيّدها للعلم مدرسة غدا

عراق إليها شيّق وشآم

ولا تذكرن يوما نظّاميّة لها

فليس يضاهي ذا النظّام نظّام

ولا تذكرن ملكا فبيبرس مالك

وكلّ مليك في يديه غلام

ولما بناها زعزعت كلّ بيعة

متى لاح صبح فاستقرّ ظلام

وقد برزت كالروض في الحسن انبأت

بأنّ يديه في النوال غمام

الم تر محرابا كأنّ أزاهرا

تفتّح عنهنّ الغداة كمام

وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب :

قصد الملوك حماك والخلفاء

فافخر فإن محلك الجوزاء

٢٢٥

أنت الذي أمراؤه بين الورى

مثل الملوك وجنده أمراء

ملك تزينت الممالك باسمه

وتجمّلت بمديحه الفصحاء

وترفّعت لعلاه خير مدارس

حلّت بها العلماء والفضلاء

يبقى كما يبقى الزمان وملكه

باق له ولحاسديه فناء

كم للفرنج وللتتار ببابه

رسل مناها العفو والإعفاء

وطريقه لبلادهم موطوءة

وطريقهم لبلاده عذراء

دامت له الدنيا ودام خلدا

ما أقبل الإصباح والإمساء

فلما فرغ هؤلاء الثلاثة من إنشادهم أفيضت عليهم الخلع ، وكان يوما مشهودا ، وجعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم ، وبني بجانبها مكتبا لتعليم أيتام المسلمين كتاب الله تعالى ، وأجرى لهم الجرايات والكسوة ، وأوقف عليها ربع السلطان خارج باب زويلة فيما بين باب زويلة وباب الفرج ، ويعرف ذلك الخط اليوم به فيقال خط تحت الربع ، وكان ربعا كبيرا لكنه خرب منه عدّة دور فلم تعمر ، وتحت هذا الربع عدّة حوانيت هي الآن من أجلّ الأسواق ، وللناس في سكناها رغبة عظيمة ويتنافسون فيها تنافسا يرتفعون فيه إلى الحاكم ، وهذه المدرسة من أجلّ مدارس القاهرة ، إلّا أنها قد تقادم عهدها فرثت وبها إلى الآن بقية صالحة ، ونظرها تارة يكون بيد الحنفية وأحيانا بيد الشافعية ، وينازع في نظرها أولاد الظاهر فيدفعون عنه ، ولله عاقبة الأمور.

المدرسة المنصورية

هذه المدرسة من داخل باب المارستان الكبير المنصوريّ بخط بين القصرين بالقاهرة ، أنشأها هي والقبة التي تجاهها والمارستان ، الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ ، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ ، ورتب بها دروسا أربعة لطوائف الفقهاء الأربعة ، ودرسا للطب ، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ ، ودرسا لتفسير القرآن الكريم ، وميعادا ، وكانت هذه التداريس لا يليها إلّا أجل الفقهاء المعتبرين ، ثم هي اليوم كما قيل :

تصدّر للتدريس كلّ مهوّس

بليسد يسمى بالفقيه المدرّس

فحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا

ببيت قديم شاع في كلّ مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتّى سامها كلّ مفلس

القبة المنصورية : هذه القبة تجاه المدرسة المنصورية ، وهما جميعا من داخل باب المارستان المنصوريّ ، وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدرا ، وبها قبر تضمن الملك المنصور سيف الدين قلاون ، وابنه الملك الناصر محمد بن قلاون ، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون. وبها قاعة جليلة في وسطها فسقية يصل إليها الماء من قوّارة بديعة الزي ، وسائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن ، وهذه القاعة معدّة لإقامة

٢٢٦

الخدّام الملوكية الذين يعرفون اليوم في الدولة التركية بالطواشية ، وأحدهم طواشي ، وهذه لفظة تركية ، أصلها بلغتهم طابوشي ، فتلاعبت بها العامة وقالت طواشي ، وهو الخصيّ ، ولهؤلاء الخدّام في كلّ يوم ما يكفيهم من الخبز النقيّ واللحم المطبوخ ، وفي كلّ شهر من المعاليم الوافرة ما فيه غنية لهم ، وأدركتهم ولهم حرمة وافرة وكلمة نافذة وجانب مرعيّ ، ويعدّ شيخهم من أعيان الناس ، يجلس على مرتبة ، وبقية الخدّام في مجالسهم لا يبرحون في عبادة ، وكان يستقرّ في وظائف هذه الخدمة أكابر خدّام السلطان ، ويقيمون عنهم نوّابا يواظبون الإقامة بالقبة ، ويرون مع سعة أحوالهم وكثرة أموالهم من تمام فخرهم وكمال سيادتهم ، انتماءهم إلى خدمة القبة المنصورية ، ثم تلاشى الحال بالنسبة إلى ما كان ، والخدّام بهذه القاعة إلى اليوم ، وقصد الملوك بإقامة الخدّام في هذه القاعة التي يتوصل إلى القبة منها ، إقامة ناموس الملك بعد الموت كما كان في مدّة الحياة ، وهم إلى اليوم لا يمكنون أحدا من الدخول إلى القبة ، إلّا من كان من أهلها ، ولله دريحي بن حكم البكريّ الجيانيّ المغربيّ الملقب بالغزال لجماله حيث يقول :

أرى أهل الثراء إذا توفوا

بنوا تلك المقابر بالصخور

أبو إلّا مباهاة وتيها

على الفقراء حتى في القبور

وفي هذه القبة دروس للفقهاء على المذاهب الأربعة ، وتعرف بدروس وقف الصالح ، وذلك أنّ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون ، قصد عمارة مدرسة فاخترمته المنية دون بلوغ غرضه ، فقام الأمير ارغون العلائيّ زوج أمه في وقف قرية تعرف بدهمشا الحمام من الأعمال الشرقية عن أمّ الملك الصالح ، فاثبته بطريق الوكالة عنها ، ورتب ما كان الملك الصالح إسماعيل قرّره في حياته لو أنشأ مدرسة ، وجعل ذلك الأمير أرغون مرتبا لمن يقوم به في القبة المنصورية ، وهو وقف جليل يتحصل منه في كل سنة نحو الأربعة آلاف دينار ذهبا. ثم لما كانت الحوادث وخربت الناحية المذكورة ، تلاشى أمر وقف الصالح وفيه إلى اليوم بقية ، وكان لا يلي تدريس دروسه إلا قضاة القضاة ، فوليه الآن الصبيان ومن لا يؤهل لو كان الإنصاف له. وفي هذه القبة أيضا قرّاء يتناوبون القراءة بالشبابيك المطلة على الشارع طول الليل والنهار ، وهم من جهة ثلاثة أوقاف ، فطائفة من جهة وقف الملك الصالح إسماعيل ، وطائفة من جهة الوقف السيفيّ ، وهو منسوب إلى الملك المنصور سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاون. وبهذه القبة إمام راتب يصلّى بالخدّام والقرّاء وغيرهم الصلوات الخمس ، ويفتح له باب فيما بين القبة والمحراب يدخل منه من يصلّي من الناس ، ثم يغلق بعد انقضاء الصلاة. وبهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدّة أحمال من الكتب في أنواع العلوم ، مما وقفه الملك المنصور وغيره ، وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرّق في أيدي الناس. وفي هذه القبة خزانة بها ثياب المقبورين بها ، ولهم فرّاش معلوم بمعلوم لتعهدهم ، ويوضع ما يتحصل من مال أوقاف

٢٢٧

المارستان بهذه القبة تحت أيدي الخدّام ، وكانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدا من أمراء مصر والشام فإنه ينزل من قلعة الجبل وعليه التشريف والشر بوش وتوقد له القاهرة ، فيمرّ إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ، وعمل ذلك من عهد سلطنة المعز أيبك ومن بعده ، فنقل ذلك إلى القبة المنصورية وصار الأمير يحلف عند القبر المذكور ، ويحضر تحليفه صاحب الحجاب ، وتمدّ أسمطة جليلة بهذه القبة ، ثم ينصرف الأمير ويجلس له في طول شارع القاهرة إلى القلعة أهل الأغاني لتزفه في نزوله وصعوده ، وكان هذا من جملة منتزهات القاهرة ، وقد بطل ذلك منذ انقرضت دولة بني قلاون. ومن جملة أخبار هذه القبة : أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة ، بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة ، ثم أمر بنقل أبيه من القلعة ، فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين ، والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخيّ ، وحضروا بعد صلاة العشاء الآخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر ، وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية ، فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلّى على الجنازة ، وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها ، وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم ، وقيل عاشره ، ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمة كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها ، وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور ، وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة ، ومدّت أسمطة كثيرة ، وتفرّقت الناس أطعمتها حتى امتلأت الأيدي بها ، وكانت إحدى الليالي الغرّ ، كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة ، وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالا كثيرا ، وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا ، فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها ، وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة ، فعند ما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء ، فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة ، وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ ، وصعد منبرا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر ، فلم يسعد فيها بحظ ، وذلك أنه افتتحها بقوله :

زرو الديك وقف على قبريهما

فكأنني بك قد نقلت إليهما

فعند ما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائما وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدّة حنقه وقال : ما وجد هذا شيئا يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ ، بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له

٢٢٨

فيه ، إلّا أنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت ، فلم يصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء ، وصعد السلطان إلى قلعة الجبل ، ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدّد له وقفا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه ، فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك ، فرغّبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه ، فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية ، وعلى خمسين مقرئا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة ، وإمام راتب يصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة ، وستة خدّام يقيمون بالقبة ، وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين ، وكتب بذلك كتاب وقف وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس.

فلما تمّ ذلك تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة كريمة. وذلك ليلة الاثنين رابع ذي القعدة سنة تسعين وستمائة ، فاجتمع القرّاء والوعاظ والمشايخ والفقراء والقضاة لذلك ، وخلع على عامة أرباب الوظائف والوعاظ ، وفرّقت في الناس صدقات جمة وعمل مهم عظيم احتفل فيه الوزير احتفالا زائدا ، وبات الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة والأمير الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس بالقبة ، وحضر السلطان ومعه الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وعليه سواده ، فخطب الخليفة خطبة بليغة حرّض فيها على أخذ العراق من التتار ، فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان على الوزير تشريفا سنيا ، وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة ، اجتمع القرّاء والوعاظ والفقهاء والأعيان بالقبة المنصورية لقراءة ختمة شريفة ، ونزل السلطان الملك الأشرف وتصدّق بمال كثير ، وآخر من نزل إلى القبة المنصورية من ملوك بني قلاون السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة إحدى وستين وسبعمائة ، وحضر عنده بالقبة مشايخ العلم وبحثوا في العلم ، وزار قبر أبيه وجدّه ، ثم خرج فنظر في أمر المرضى بالمارستان وتوجه إلى قلعة الجبل.

هذه المدرسة بجوار القبة المنصورية من شرقيها ، كان موضعها حمّاما ، فأمر السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ بإنشاء مدرسة موضعها ، فابتدىء في عملها ووضع أساسها وارتفع بناؤها عن الأرض إلى نحو الطراز المذهب الذي بظاهرها ، فكان من خلعه ما كان ، فلما عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى مملكة مصر ، في سنة ثمان وتسعين وستمائة ، أمر بإتمامها ، فكملت في سنة ثلاث وسبعمائة ، وهي من أجلّ مباني القاهرة ، وبابها من أعجب ما عملته أيدي بني آدم ، فإنه من الرخام الأبيض البديع الزيّ. الفائق الصناعة ، ونقل إلى القاهرة من مدينة عكا ، وذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما فتح عكا عنوة في سابع عشر جمادى الأولى ، سنة تسعين وستمائة ، أقام الأمير علم

٢٢٩

الدين سنجر الشجاعيّ لهدم أسوارها وتخريب كنائسها ، فوجد هذه البوّابة على باب كنيسة من كنائس عكا ، وهي من رخام ، قواعدها وأعضادها وعمدها ، كل ذلك متصل بعضه ببعض ، فحمل الجميع إلى القاهرة وأقام عنده إلى أن قتل الملك الأشرف ، وتمادى الحال على هذا أيام سلطنة الملك الناصر محمد الأولى ، فلما خلع وتملك كتبغا ، أخذ دار الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ ليعملها مدرسة ، فدل على هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمير بيدرا ، فإنها كانت قد انتقلت إليه ، وعملها كتبغا على باب هذه المدرسة. فلما خلع من الملك وأقيم الناصر محمد ، اشترى هذه المدرسة قبل إتمامها والإشهاد بوقفها ، وولى شراءها وصيه قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ، وأنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جليلة ، لكنها دون قبة أبيه ، ولما كملت نقل إليها أمّه بنت سكباي بن قراجين ، ووقف على هذه المدرسة قيسارية أمير على بخط الشرابشيين من القاهرة ، والربع الذي يعلوها ، وكان يعرف بالدهيشة ، ووقف عليها أيضا حوانيت بخط باب الزهومة من القاهرة ، ودار الطعم خارج مدينة دمشق ، فلما مات ابنه انوك من الخاتون طغاي في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، وعمره ثماني عشرة سنة ، دفنه بهذه القبة وعمل عليها وقفا يختص بها ، وهو باق إلى اليوم يصرف لقرّاء وغير ذلك.

وأوّل من رتّب في تدريس المدرسة الناصرية من المدرّسين ، قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ، ليدرّس فقه المالكية بالإيوان الكبير القبلي ، وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغنيّ الحرّانيّ ، ليدرّس فقه الحنابلة بالإيوان الغربيّ ، وقاضي القضاة أحمد بن السروجيّ الحنفيّ ، ليدرّس فقه الحنفية بالإيوان الشرقيّ ، والشيخ صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل الشافعيّ ، ليدرّس فقه الشافعية بالإيوان البحريّ. وقرّر عند كلّ مدرّس منهم عدّة من الطلبة ، وأجرى عليهم المعاليم ، ورتب بها إماما يؤمّ بالناس في الصلوات الخمس ، وجعل بها خزانة كتب جليلة ، وأدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية ، يجلس بدهليزها عدّة من الطواشية ، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها ، وكان يفرّق بها على الطلبة والقرّاء وسائر أرباب الوظائف بها السكّر في كلّ شهر ، لكل أحد منهم نصيب ، ويفرّق عليهم لحوم الأضاحي في كلّ سنة ، وقد بطل ذلك وذهب ما كان لها من الناموس ، وهي اليوم عامرة من أجلّ المدارس.

المدرسة الحجازية

هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة ، بجوار قصر الحجازية ، كان موضعها بابا من أبواب القصر يعرف بباب الزمرّذ ، أنشأتها الست الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازية ، ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، زوجة الأمير بكتمر الحجازيّ ، وبه عرفت. وجعلت بهذه المدرسة درسا للفقهاء الشافعية ، قرّرت فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين

٢٣٠

عمر بن رسلان البلقينيّ ، ودرسا للفقهار المالكية ، وجعلت بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة ، ورتبت لها إماما راتبا يقيم بالناس الصلوات الخمس ، وجعلت بها خزانة كتب ، وأنشأت بجوارها قبة من داخلها لتدفن تحتها ، ورتبت بشباك هذه القبة عدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلا ونهارا ، وأنشأت بها منارا عاليا من حجارة ليؤذن عليه ، وجعلت بجوار المدرسة مكتبا للسبيل فيه عدّة من أيتام المسلمين ، ولهم مؤدّب يعملهم القرآن الكريم ، ويجري عليهم في كلّ يوم لكل منهم من الخبز النقيّ خمسة أرغفة ، ومبلغ من الفلوس ، ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف ، وجعلت على هذه الجهات عدّة أوقاف جليلة يصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السنية ، وكان يفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك ، وفي عيد الأضحى اللحم ، وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطعام ، وقد بطل ذلك ولم يبق غير المعلوم في كل شهر ، وهي من المدارس الكبسة ، وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدّة من الطواشية ، ولا يمكنون أحدا من عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلّا القرّاء فقط وقت قراءتهم خاصة. واتفق مرّة أن شخصا من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه ، فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له : أن فلانا دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل ، فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنبا عظيما وفعلا محذورا ، وطلب ذلك المقرئ وأمر به فضرب بين يديه وصار يقول له : تدخل على خوند بغير سراويل ، وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لو لا ما حصل من شفاعة الناس فيه ، وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلّا الأمراء الأكابر ، ثم صار يليها الخدّام وغيرهم ، وكان إنشاؤها في سنة احدى وستين وسبعمائة ، ولما ولي الأمير جمال الدين يوسف البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق ، وعمر بجانب هذه المدرسة البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوقو ، وعمر بجانب هذه المدرسة داره ، ثم مدرسته ، صار يحبس في المدرسة الحجازية من يصادره أو يعاقبه حتى امتلأت بالمسجونين والأعوان المرسمين عليهم ، فزالت تلك الأبهة وذهب ذلك الناموس ، واقتدى بجمال الدين من سكن بعده من الأستادارية في داره ، وجعلوا هذه المرسة سجنا ، ومع ذلك فهي من أبهج مدارس القاهرة إلى الآن.

المدرسة الطيبرسية

هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة ، وهي غريبة مما يلي الجهة البحرية ، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداريّ نقيب الجيوش ، وجعلها مسجدا لله تعالى زيادة في الجامع الأزهر ، وقرّر بها درسا للفقهاء الشافعية ، وأنشأ بجوارها ميضأة وحوض ماء سبيل ترده الدواب ، وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها حتى جاءت في أبدع زي وأحسن قالب وأبهج ترتيب ، لما فيها من إتقان العمل وجودة الصناعة بحيث أنه لم يقدر أحد على محاكاة ما فيها من صناعة الرخام ، فان جميعه أشكال المحاريب ، وبلغت النفقة عليها جملة كثيرة ، وانتهت عمارتها في سنة تسع وسبعمائة ، ولها بسط تفرش في يوم الجمعة كلها

٢٣١

منقوشة بأشكال المحاريب أيضا ، وفيها خزانة كتب ولها إمام راتب.

طيبرس : بن عبد الله الوزيريّ ، كان في ملك الأمير بدر الدين بيلبك مملوك الخارندار الظاهريّ نائب السلطنة ، ثم انتقل إلى الأمير بدر الدين بيدرا ، وتنقل في خدمته حتى صار نائب الصبيبة ، ورأى مناما للمنصور لاجين يدل على أنه يصير سلطان مصر ، وذلك قبل أن يتقلد السلطنة وهو نائب الشام ، فوعده إن صارت إليه السلطنة أن يقدّمه وينوّه به ، فلما تملك لاجين استدعاه وولاه نقابة الجيش بديار مصر عوضا عن بلبان الفاخريّ ، في سنة سبع وتسعين وستمائة ، فباشر النقابة مباشرة مشكورة إلى الغاية ، من إقامة الحرمة وأداء الأمانة والعفة المفرطة ، بحيث أنه ما عرف عنه أنه قبل من أحد هدية البتة مع التزام الديانة والمواظبة على فعل الخير والغنى الواسع ، وله من الآثار الجميلة الجامع والخانقاه بأراضي بستان الخشاب المطلة على النيل خارج القاهرة ، فيما بينها وبين مصر بجوار المنشأة ، وهو أوّل من عمر في أراضي بستان الخشاب ، وقد تقدّم ذكر ذلك ، ومن آثاره أيضا هذه المدرسة البديعة الزي ، وله على كل من هذه الأماكن أوقاف جليلة ، ولم يزل في نقابة الجيش إلى أن مات في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبعمائة ، ودفن في مكان بمدرسته هذه ، وقبره بها إلى وقتنا هذا ، ووجد له من بعده مال كثير جدّا ، وأوصى إلى الأمير علاء الدين عليّ الكوارنيّ ، وجعل الناظر على وصيته الأمير أرغون نائب السلطنة ، واتفق انه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضر إليه مباشروه حساب مصروفها ، فلما قدّم إليه استدعى بطشت فيه ماء وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف على شيء منها وقال : شيء خرجنا عنه لله تعالى لا نحاسب عليه ، ولهذه المدرسة شبابيك في جدار الجامع تشرف عليه ، ويتوصل من بعضها إليه ، وما عمل ذلك حتى استفتى الفقهاء فيه فأفتوه بجواز فعله ، وقد تداولت أيدي نظار السوء على أوقاف طيبرس هذا فخرب أكثرها وخرب الجامع والخانقاه ، وبقيت هذه المدرسة عمرها الله بذكره.

المدرسة الأقبغاوية

هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر على يسرة من يدخل إليه من بابه الكبير البحريّ ، وهي تشرف بشبابيك على الجامع مركبة في جداره ، فصارت تجاة المدرسة الطيبرسية. كان موضعها دار الأمير الكبير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس ، وميضأة للجامع ، فأنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون ، وجعل بجوارها قبة ومنارة من حجارة منحوتة ، وهي أوّل مئذنة عملت بديار مصر من الحجر بعد المنصورية ، وإنما كانت قبل ذلك تبنى بالآجر ، بناها هي والمدرسة المعلم ابن السيوفيّ رئيس المهندسين في الأيام الناصرية ، وهو الذي تولى بناء جامع الماردينيّ خارج باب زويلة ، وبنى مئذنته أيضا. وهي مدرسة مظلمة ليس عليها من

٢٣٢

بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة ، وذلك أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أيدمر الحليّ مالا ، وأمهل حتى تصرّفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم ، فهدمها وبنى موضعها هذه المدرسة ، وأضاف إلى اغتصاب البقعة أمثال ذلك من الظلم ، فبناها بأنواع من الغصب والعسف ، وأخذ قطعة من سور الجامع حتى ساوى بها المدرسة الطيبرسية ، وحشر لعملها الصناع من البنائين والنجارين والحجارين والمرخمين والفعلة ، وقرّر مع الجميع أن يعمل كل منهم فيها يوما في كلّ أسبوع بغير أجرة ، فكان يجتمع فيها في كل أسبوع سائر الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر ، فيجدّون في العمل نهارهم كله بغير أجرة ، وعليهم مملوك من مماليكه ولّاه شدّ العمارة ، لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشدّ بأسا ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتا ، فلقي العمال منه مشقات لا توصف ، وجاء مناسبا مولاه. وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرخام والدهان وغيره من غير أن يدفع في شيء منه ثمنا البتة ، وإنما كان يأخذ ذلك إما بطريق الغصب من الناس ، أو على سبيل الخيانة من عمائر السلطان. فإنه كان من جملة ما بيده شدّ العمائر السلطانية ، وناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلى هذه العمارة إلّا وضرب فيها من الصناع عدّة ضربا مؤلما ، فيصير ذلك الضرب زيادة على عمله بغير أجرة ، فيقال فيه : كملت خصالك هذه بعماري.

فلما فرغ من بنائها جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة ، وكان الشريف شرف الدين عليّ بن شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ ، يؤمّل أن يكون مدرّسها ، وسعى عنده في ذلك فعمل بسطا على قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة ، ورشاه بها ففرشت هناك ، ولما تكامل حضور الناس بالمدرسة وفي الذهن أنّ الشريف يلي التدريس ، وعرف أنه هو الذي أحضر البسط التي قد فرشت ، قال الأمير أقبغا لمن حضر : لا أولي في هذه الأيام أحدا ، وقام فتفرّق الناس ، وقرّر فيها درسا للشافعية ولي تدريسه ... (١) ودرسا للحنفية ولي تدريسه ... (٢) وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم شيخ ، وقرّر بها طائفة من القرّاء يقرءون القرآن بشباكها ، وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم وفرّاشين وقومة ومباشرين ، وجعل النظر للقاضي الشافعيّ بديار مصر ، وشرط في كتاب وقفه أن لا يلي النظر أحد من ذريته ، ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويلة بخط تحت الربع ، وقرية بالوجه القبلي. وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا ، إلّا أنه تعطل منها الميضأة وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار على بئر الساقية التي كانت برسمها.

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٢٣٣

اقبغا عبد الواحد : الأمير علاء الدين ، أحضره إلى القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال ، فاشتراه منه الملك الناصر محمد بن قلاون ولقبه باسم تاجره الذي أحضره ، فحظي عنده وعمله شادّ العمائر ، فنهض فيها نهضة أعجب منه السلطان وعظمه حتى عمله أستادار السلطان بعد الأمير مغلطاي الجماليّ ، في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، وولاه مقدّم المماليك ، فقويت حرمته وعظمت مهابته حتى صار سائر من في بيت السلطان يخافه ويخشاه ، وما برح على ذلك إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر ، فقبض عليه في يوم الاثنين سلخ المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، وأمسك أيضا ولديه وأحيط بماله وسائر أملاكه ، ورسم عليه الأمير طيبغا المجديّ وبيع موجوده من الخيل والجمال والجواري والقماش والأسلحة والأواني ، فظهر له شيء عظيم إلى الغاية ، من ذلك أنه بيع بقلعة الجبل ، وبها كانت تعمل حلقات مبيعة سراويل امرأته بمبلغ مائتي ألف درهم فضة ، عنها نحو عشرة آلاف دينار ذهب ، وبيع له أيضا قبقاب وشرموزة وخف نسائيّ بمبلغ خمسة وسبعين ألف درهم فضة ، عنها زيادة على ثلاثة آلاف دينار ، وبيعت بدلة مقانع بمائة ألف درهم ، وكثرت المرافعات عليه من التجار وغيرهم ، فبعث السلطان إليه شادّ الدواوين يعرّفه أنه أقسم بتربة الشهيد ، يعني أباه ، أنه متى لم يعط هؤلاء حقهم وإلّا سمّرتك على جمل وطفت بك المدينة ، فشرع أقبغا في استرضائهم وأعطاهم نحو المائتي ألف درهم فضة ، ثم نزل إليه الوزير نجم الدين محمود بن سرور المعروف بوزير بغداد ومعه الحاج إبراهيم بن صابر مقدّم الدولة ، لمطالبته بالمال ، فأخذا منه لؤلؤا وجواهر نفيسة وصعدا بها إلى السلطان ، وكان سبب هذه النكبة أنه كان قد تحكم في أمور الدولة السلطانية وأرباب الأشغال أعلاهم وأدناهم بما اجتمع له من الوظائف ، وكان عنده فرّاش غضب عليه وأوجعه ضربا ، فانصرف من عنده وخدم في دار الأمير أبي بكر ولد السلطان ، فبعث أقبغا يستدعي بالفرّاش إليه ، فمنعه منه أبو بكر وأرسل إليه مع أحد مماليكه يقول له : إني أريد أن تهبني هذا الغلام ولا تشوّش عليه ، فلما بلّغه المملوك الرسالة اشتدّ حنقه وسبه سبا فاحشا وقال له : قل لأستاذك يسيّر الفرّاش وهو جيد له. وكان قبل ذلك اتفق أن الأمير أبا بكر خرج من خدمة السلطان إلى بيته ، فإذا الأمير أقبغا قد بطح مملوكا وضربه ، فوقف أبو بكر بنفسه وسأل أقبغا في العفو عن المملوك وشفع فيه ، فلم يلتفت أقبغا إليه ولا نظر إلى وجهه ، فخجل أبو بكر من الناس لكونه وقف قائما بين يدي أقبغا وشفع عنده فلم يقم من مجلسه لوقوفه ، بل استمرّ قاعدا وأبو بكر واقف على رجليه ، ولا قبل مع ذلك شفاعته ، ومضى وفي نفسه منه حنق كبير. فلما عاد إليه مملوكه وبلّغه كلام أقبغا بسبب هذا الفرّاش ، أكد ذلك عنده ما كان من الأحنة ، وأخذ في نفسه إلى أن مات أبوه الملك الناصر وعهد إليه من بعده ، وكان قد التزم أنه إن ملّكه الله ، ليصادرنّ أقبغا وليضربنّه بالمقارع. وقال للفراش : اقعد في بيتي ، وإذا حضر أحد لأخذك عرفت ما أعمل معه. وأخذ أقبغا

٢٣٤

يترقب الفرّاش ، وأقام أناسا للقبض عليه فلم يتهيأ له مسكه.

فلما أفضى الأمر إلى أبي بكر ، استدعى الأمير قوصون وكان هو القائم حينئذ بتدبير أمور الدولة ، وعرّفه ما التزمه من القبض على أقبغا وأخذ ماله وضربه بالمقارع ، وذكر له ولعدّة من الأمراء ما جرى له منه ، وكان لقوصون بأقبغا عناية ، فقال للسلطان : السمع والطاعة ، يرسم السلطان بالقبض عليه ومطالبته بالمال ، فإذا فرغ ماله يفعل السلطان ما يختاره. وأراد بذلك تطاول المدّة في أمر أقبغا ، فقبض عليه ووكل به رسل ابن صابر ، حتى أنه بات ليلة قبض عليه من غير أن يأكل شيئا ، وفي صبيحة تلك الليلة تحدّث الأمراء مع السلطان في نزوله إلى داره محتفظا به حتى يتصرّف في ماله ويحمله شيئا بعد شيء ، فنزل مع المجدي وباع ما يملكه وأورد المال. فلما قبض على الحاج إبراهيم بن صار وأقيم ابن شمس موضعه ، أرسله السلطان إلى بيت أقبغا ليعصره ويضربه بالمقارع ويعذبه ، فبلغ ذلك الأمير قوصون ، فمنع منه وشنّع على السلطان كونه أمر بضربه بالمقارع ، وأمر بمراجعته ، فحنق من ذلك وأطلق لسانه على الأمير قوصون ، فلم يزل به من حضره من الأمراء حتى سكت على مضض.

وكان قوصون يدبر في انتقاض دولة أبي بكر إلى أن خلعه وأقام بعده أخاه الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاون ، وعمره نحو السبع سنين ، وتحكم في الدولة. فأخرج أقبغا هو وولده من القاهرة وجعله من جملة أمراء الدولة بالشام ، فسار من القاهرة في تاسع ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على حيز الأمير مسعود بن خطير بدمشق ومعه عياله ، فأقام بها إلى أن كانت فتنة الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وعصيانه بالكرك على أخيه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون ، فاتهم أقبغا بأنه بعث مملوكا من مماليكه إلى الكرك ، وأن الناصر أحمد خلع عليه ، وضربت البشائر بقلعة الكرك وأشاع أن أمراء الشام قد دخلوا في طاعته وحلفوا له ، وأن أقبغا قد بعث إليه مع مملوكه يبشره بذلك ، فلما وصل إلى الملك الصالح كتاب عساف أخى شطي بذلك ، وصل في وقت وروده كتاب نائب الشام الأمير طقزدمر يخبر فيه بأن جماعة من أمراء الشام قد كاتبوا أحمد بالكرك وكاتبهم ، وقد قبض عليهم ومن جملتهم أقبغا عبد الواحد ، فرسم بحمله مقيدا ، فحمل من دمشق إلى الإسكندرية وقتل بها في آخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة.

وكان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير ، وجمع من الأموال شيئا كثيرا ، وأقام جماعة من أهل الشرّ لتتبع أولاد الأمراء وتعرّف أحوال من افتقر منهم أو احتاج إلى شيء ، فلا يزالون به حتى يعطوه مالا على سبيل القرض بفائدة جزيلة إلى أجل ، فإذا استحق المال أعسفه في الطلب وألجأه إلى بيع ماله من الأملاك ، وحلها إن كانت وقفا بعنايته به ، وعين لعمل هذه الحيل شخصا يعرف بابن القاهريّ ، وكان إذا دخل لأحد من القضاة في

٢٣٥

شراء ملك أو حل وقف لا يقدر على مخالفته ولا يجد بدّا من موافقته. ومن غريب ما يحكى عن طمع أقبغا ، أن مشدّ الحاشية دخل عليه وفي إصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بريق ، فقال له أقبغا : إيش هو هذا الخاتم ، فأخذ يعظمه وذكر أنه من تركة أبيه. فقال : بكم حسبوه عليك؟ فقال : بأربعمائة درهم. فقال : أرنيه. فناوله إياه فأخذه وتشاغل عنه ساعة ثم قال له : والله فضيحة أن نأخذ خاتمك ، ولكن خذه أنت وهات ثمنه ، ودفعه إليه وألزمه بإحضار الأربعمائة درهم ، فما وسعه إلّا أن أحضرها إليه ، فعاقبه الله بذهاب ماله وغيره ، وموته غريبا.

المدرسة الحسامية

هذه المدرسة بخط المسطاح من القاهرة قريبا من حارة الوزيرية ، بناها الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوريّ نائب السلطنة بديار مصر ، إلى جانب داره ، وجعلها برسم الفقهاء الشافعية ، وهي في وقتنا هذا تجاه سوق الرقيق ، ويسلك منها إلى درب العدّاس وإلى حارة الوزيرية وإلى سويقة الصاحب وباب الخوخة وغير ذلك ، وكان بجانبها طبقة لخياط فطلبت منه بثلاثة أمثال ثمنها فلم يبعها ، وقيل لطرنطاي لو طلبته لاستحيى منك ، فلم يطلبه وتركه وطبقته وقال : لا أشوّش عليه.

طرنطاي : بن عبد الله الأمير حسام الدين المنصوريّ ، رباه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في خدمه إلى أن تقلد سلطنة مصر ، فجعله نائب السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ ، وخلع عليه في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة ، فباشر ذلك مباشرة حسنة إلى أن كانت سنة خمس وثمانين ، فخرج من القاهرة بالعساكر إلى الكرك وفيها الملك المسعود نجم الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش ، ابنا الملك الظاهر بيبرس ، في رابع المحرّم ، وسار إليها فوافاه الأمير بدر الدين الصوّانيّ بعساكر دمشق في ألفي فارس ، ونازلا الكرك وقطعا الميرة عنها واستفسدا رجال الكرك حتى أخذا خضرا وسلامش بالأمان في خامس صفر ، وتسلم الأمير عز الدين طرنطاي الموصليّ نائب الشوبك مدينة الكرك واستقرّ في نيابة السلطنة بها ، وبعث الأمير طرنطاي بالبشارة إلى قلعة الجبل ، فوصل البريد بذلك في ثامن صفر ، ثم قدم بابني الظاهر ، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأوّل وأكرم الأمير طرنطاي ورفع قدره ثم بعثه إلى أخذ صهيون وبها سنقر الأشقر ، فسار بالعساكر من القاهرة في سنة ست وثمانين ، ونازلها وحصرها حتى نزل إليه سنقر بالأمان وسلّم إليه قلعة صهيون ، وسار به إلى القاهرة ، فخرج السلطان إلى لقائه وأكرمه.

ولم يزل على مكانته إلى أن مات الملك المنصور وقام في السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون ، فقبض عليه في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع

٢٣٦

وثمانين ، وعوقب حتى مات يوم الاثنين خامس عشرة بقلعة الجبل ، وبقي ثمانية أيام بعد قتله مطروحا بحبس القلعة ، ثم أخرج في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة وقد لف في حصير وحمل على جنوية إلى زاوية الشيخ أبي السعود بالقرافة ، فغسله الشيخ عمر السعوديّ شيخ الزواية وكفنه من ماله ودفنه خارج الزاوية ليلا ، وبقي هناك إلى سلطنة العادل كتبغا ، فأمر بنقل جثته إلى تربته التي أنشأها بمدرسته هذه.

وكان سبب القبض عليه وقتله ، أن الملك الأشرف كان يكرهه كراهة شديدة ، فإنه كان يطرح جانبه في أيام أبيه ، ويغض منه ويهين نوّابه ويؤذي من يخدمه ، لأنه كان يميل إلى أخيه الملك الصالح علاء الدين عليّ بن قلاون ، فلما مات الصالح عليّ وانتقلت ولاية العهد إلى الأشرف خليل بن قلاون ، مال إليه من كان ينحرف عنه في حياة أخيه إلّا طرنطاي ، فإنه ازداد تماديا في الإعراض عنه وجرى على عادته في أذى من ينسب إليه ، وأغرى الملك المنصور بشمس الدين محمد بن السلعوس ناظر ديوان الأشرف حتى ضربه وصرفه عن مباشرة ديوانه ، والأشرف مع ذلك يتأكد حنقه عليه ولا يجد بدّا من الصبر إلى أن صار له الأمر بعد أبيه ، ووقف الأمير طرنطاي بين يديه في نيابة السلطنة على عادته وهو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة عليه ، وأخذ الأشرف في التدبير عليه إلى أن نقل له عنه أنه يتحدّث سرّا في إفساد نظام المملكة وإخراج الملك عنه ، وأنه قصد أن يقتل السلطان وهو راكب في الميدان الأسود الذي تحت قلعة الجبل عند ما يقرب من باب الإصطبل ، فلم يحتمل ذلك. وعندها سير أربعة ميادين والأمير طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية حتى انتهى إلى رأس الميدان وقرب من باب الإصطبل ، وفي الظنّ أنه يعطف إلى باب سارية ليكمل التسيير على العادة ، فعطف إلى جهة القلعة وأسرع ودخل من باب الإصطبل ، فبادر الأمير طرنطاي عندما عطف السلطان وساق فيمن معه ليدركوه ، ففاتهم وصار بالإصطبل فيمن خف معه من خواصه ، وما هو إلّا أن نزل الأشرف من الركوب فاستدعى بالأمير طرنطاي ، فمنعه الأمير زين الدين كتبغا المنصوريّ عن الدخول إليه وحذره منه وقال له : والله إني أخاف عليك منه فلا تدخل عليه إلا في عصبة تعلم أنهم يمنعونك منه إن وقع أمر تكرهه ، فلم يرجع إليه وغرّه أن أحدا لا يجسر عليه لمهابته في القلوب ومكانته من الدولة ، وأن الأشرف لا يبادره بالقبض عليه وقال لكتبغا : والله لو كنت نائما ما جسر خليل ينبهني. وقام ومشى إلى السلطان ودخل ومعه كتبغا ، فلما وقف على عادته بادر إليه جماعة قد أعدّهم السلطان وقبضوا عليه ، فأخذه اللكم من كلّ جانب والسلطان يعدّد ذنوبه ويذكر له إساءته ويسبه. فقال له يا خوند : هذا جميعه قد عملته معك ، وقدّمت الموت بين يديّ ، ولكن والله لتندمنّ من بعدي. هذا والأيدي تتناوب عليه حتى أنّ بعض الخاصكية قلع عينه وسحب إلى السجن ، فخرج كتبغا وهو يقول : إيش أعمل ويكرّرها ، فأدركه الطلب وقبض عليه أيضا ، ثم آل آمر كتبغا بعد ذلك إلى أن ولي سلطنة مصر ، وأوقع الأشرف الحوطة على أموال طرنطاي

٢٣٧

وبعث إلى داره الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ ، فوجد له من العين ستمائة ألف دينار ، ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل مصري ، عنها زيادة على مائة وسبعين قنطارا فضة سوى الأواني ، ومن العدد والأسلحة والأقمشة والآلات والخيول والمماليك ما يتعذر إحصاء قيمته ، ومن الغلات والأملاك شيء كثير جدّا ، ووجد له من البضائع والأموال المسفرة على اسمه والودائع والمقارضات والقنود والأعسال والأبقار والأغنام والرقيق وغير ذلك شيء يجل وصفه ، هذا سوى ما أخفاه مباشروه بمصر والشام ، فلما حملت أمواله إلى الأشرف جعل يقلبها ويقول :

من عاش بعد عدوّه

يوما فقد بلغ المنى

واتفق بعد موت طرنطاي أن ابنه سأل الدخول على السلطان الأشرف فأذن له ، فلما وقف بين يديه جعل المنديل على وجهه وكان أعمى ، ثم مدّ يده وبكى وقال : شيء لله ، وذكر أنّ لأهله أياما ما عندهم ما يأكلونه ، فرق له وأفرج عن أملاك طرنطاي وقال : تبلغوا بريعها ، فسبحان من بيده القبض والبسط.

المدرسة المنكوتمرية

هذه المدرسة بحارة بهاء الدين من القاهرة ، بناها بجوار داره الأمير سيف الدين منكوتمر الحساميّ نائب السلطنة بديار مصر ، فكملت في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة ، وعمل بها درسا للمالكية قرّر فيه الشيخ شمس الدين محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسيّ المالكيّ ، ودرسا للحنفية درّس فيه ... (١) وجعل فيها خزانة كتب وجعل عليها وقفا ببلاد الشام ، وهي اليوم بيد قضاة الحنفية يتولون نظرها ، وأمرها متلاش وهي من المدارس الحسنة.

منكوتمر : هو أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ ، ترقى في خدمته واختص به اختصاصا زائدا إلى أن ولي مملكة مصر بعد كتبغا ، في سنة ست وتسعين وستمائة ، فجعله أحد الأمراء بديار مصر ، ثم خلع عليه خلع نيابة السلطنة عوضا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ ، يوم الأربعاء النصف من ذي القعدة ، فخرج سائر الأمراء في خدمته إلى دار النيابة وباشر النيابة بتعاظم كثير ، وأعطى المنصب حقه من الحرمة الوافرة والمهابة التي تخرج عن الحدّ ، وتصرّف في سائر أمور الدولة من غير أن يعارضه السلطان في شيء البتة ، وبلغت عبرة إقطاعه في السنة زيادة على مائة ألف دينار.

ولما عمل الملك المنصور الروك المعروف بالروك الحساميّ ، فوّض تفرقة منالات

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٣٨

إقطاعات الأجناد له ، فجلس في شباك دار النيابة بقلعة الجبل ، ووقف الحجاب بين يديه ، وأعطى لكل تقدمة منالات ، فلم يجسر أحد أن يتحدّث في زيادة ولا نقصان خوفا من سوء خلقه وشدّة حمقه ، وبقي أياما في تفرقة المنالات والناس على خوف شديد. فإنّ أقلّ الإقطاعات كان في أيام الملك المنصور قلاون عشرة آلاف درهم في السنة ، وأكثره ثلاثين ألف درهم. فرجع في الروك الحساميّ أكثر إقطاعات الحلقة إلى مبلغ عشرين ألف درهم وما دونها ، فشق ذلك على الأجناد ، وتقدّم طائفة منهم ورموا منالاتهم التي فرّقت عليهم ، لأن الواحد منهم وجد مناله بحق النصف مما كان له قبل الروك ، وقالوا لمنكوتمر : إما أن تعطونا ما يقوم بكلفنا وإلّا فخذوا أخبازكم ونحن نخدم الأمراء أو نصير بطالين. فغضب منكوتمر وأخرق بهم وتقدّم إلى الحجاب فضربوهم ، وأخذوا سيوفهم وأودعوهم السجون ، وأخذ يخاطب الأمراء بفحش ويقول : أيما قوّاد شكا من خبزه؟ ويقول نقول للسلطان فعلت به ، وفعلت إيش يقول للسلطان ، إن رضي يخدم وإلّا إلى لعنة الله ، فشق ذلك على الأمراء وأسرّوا له الشرّ ، ثم إنه لم يزل بالسلطان حتى قبض على الأمير بدر الدين بيسرى ، وحسن له إخراج أكابر الأمراء من مصر ، فجرّدهم إلى سيس ، وأصبح وقد خلا له الجوّ ، فلم يرض بذلك حتى تحدّث مع خوشداشيته بأنه لا بدّ أن ينشئ له دولة جديدة ويخرج طفجي وكرجي من مصر ، ثم إنه جهز حمدان بن صلغاي إلى حلب في صورة أنه يستعجل العساكر من سيس ، وقرّر معه القبض على عدّة من الأمراء ، وأمّر عدّة أمراء جعلهم له عدّة وذخرا ، وتقدّم إلى الصاحب فخر الدين الخليليّ بأن يعمل أوراقا تتضمن أسماء أرباب الرواتب ليقطع أكثرها ، فلم تدخل سنة ثمان وتسعين حتى استوحشت خواطر الناس بمصر والشام من منكوتمر ، وزاد حتى أراد السلطان أن يبعث بالأمير طغا إلى نيابة طرابلس ، فتنصل طغا من ذلك ، فلم يعفه السلطان منه ، وألح منكوتمر في إخراجه وأغلظ للأمير كرجي في القول ، وحط على سلار وبيبرس الجاشنكير وأنظارهم ، وغض منهم ، وكان كرجي شرس الأخلاق ضيق العطن سريع الغضب ، فهمّ غير مرّة بالفتك بمنكوتمر ، وطفجي يسكن غضبه ، فبلغ السلطان فساد قلوب الأمراء والعسكر ، فبعث قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الروميّ الحنفيّ إلى منكوتمر يحدّثه في ذلك ويرجعه عما هو فيه ، فلم يلتفت إلى قوله وقال : أنا مالي حاجة بالنيابة ، أريد أخرج مع الفقراء فلما بلغ السلطان عنه ذلك استدعاه وطيب خاطره ووعده بسفر طفجي بعد أيام ، ثم القبض على كرجي بعده ، فنقل هذا للأمراء ، فتحالفوا وقتلوا السلطان كما قد ذكر في خبره ، وأوّل من بلغه خبر مقتل السلطان الأمير منكوتمر ، فقام إلى شباك النيابة بالقلعة فرأى باب القلة وقد انفتح وخرج الأمراء والشموع تقد والضجة قد ارتفعت فقال : والله قد فعلوها ، وأمر فغلقت أبواب دار النيابة ، وألبس مماليكه آلة الحرب ، فبعث الأمراء إليه بالأمير الحسام أستادار ، فعرّفه بمقتل السلطان وتلطف به حتى نزل وهو مشدود الوسط بمنديل ، وسار به إلى باب القلة والأمير طفجي قد

٢٣٩

جلس في مرتبة النيابة ، فتقدّم إلى طفجي وقبل يده ، فقام إليه وأجلسه بجانبه ، وقام الأمراء في أمر منكوتمر يشفعون فيه ، فأمر به إلى الجب وأنزلوه فيه ، وعندما استقرّ به أدليت له القفة التي نزل فيها ، وتصايحوا عليه بالصعود فطلع عليهم ، وإذا كرجي قد وقف على رأس الجبّ في عدّة من المماليك السلطانية ، فأخذ يسب منكوتمر ويهينه وضربه بلت ألقاه ، وذبحه بيده على الجبّ وتركه وانصرف ، فكان بين قتل أستاذه وقتله ساعة من الليل ، وذلك في ليلة الجمعة عاشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين.

المدرسة القراسنقرية

هذه المدرسة تجاه خانقاه الصلاح سعيد السعداء ، فيما بين رحبة باب العيد وباب النصر ، كان موضعها وموضع الربع الذي بجانبها الغربيّ مع خانقاه بيبرس ، وما في صفها إلى حمام الأعسر وباب الجوّانية ، كلّ ذلك من دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها ، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ نائب السلطنة ، سنة سبعمائة. وبنى بجوار بابها مسجدا معلقا ومكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز ، وجعل بهذه المدرسة درسا للفقهاء ، ووقف على ذلك داره التي بحارة بهاء الدين وغيرها ، ولم يزل نظر هذه المدرسة بيد ذرّية الواقف إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة ، ثم انقرضوا. وهي من المدارس المليحة ، وكنا نعهد البريدية إذا قدموا من الشام وغيرها لا ينزلون إلّا في هذه المدرسة حتى يتهيأ سفرهم ، وقد بطل ذلك من سنة تسعين وسبعمائة.

قراسنقر بن عبد الله : الأمير شمس الدين الجوكندار المنصوريّ ، صار إلى الملك المنصور قلاون وترقى في خدمته إلى أن ولاه نيابة السلطنة بحلب في شعبان سنة اثنتين وثمانين وستمائة ، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقرديّ ، فلم يزل فيها إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاون ، فلما توجه الأشرف إلى فتح قلعة الروم عاد بعد فتحها إلى حلب وعزل قراسنقر عن نيابتها ، وولى عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطناحيّ ، وذلك في أوائل شعبان سنة إحدى وتسعين ، وكانت ولايته على حلب تسع سنين. فلما خرج السلطان من مدينة حلب خرج في خدمته وتوجه مع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر في عدّة من الأمراء لقتال أهل جبال كسروان ، فلما عاد سار مع السلطان من دمشق إلى القاهرة ولم يزل بها إلى أن ثار الأمير بيدرا على الأشرف ، فتوجه معه وأعان على قتله ، فلما قتل بيدرا فرّ قراسنقر ولاجين في نصف المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. واختفيا بالقاهرة إلى أن استقرّ الأمر للملك الناصر محمد بن قلاون ، وقام في نيابة السلطنة وتدبير الدولة الأمير زين الدين كتبغا ، فظهرا في يوم عيد الفطر وكانا عند فرارهما يوم قتل بيدرا أطلعا الأمير بيحاص الزينيّ مملوك الأمير كتبغا نائب السلطنة على حالهما ، فأعلم استاذه بأمرهما وتلطف به حتى تحدّث في شأنهما مع السلطان ، فعفا عنهما ،

٢٤٠