كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

تعرف ... (١) وأول من ولي التدريس بها ابن زين التجار ، فعرفت به ، ثم درس بها بعدد ابن قطيطة بن الوزان ، ثم من بعده كمال الدين أحمد بن شيخ الشيوخ ، وبعده الشريف القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الحنفيّ قاضي العسكر الأرموي ، فعرفت به. وقيل لها المدرسة الشريفة من عهده إلى اليوم ، ولو لا ما يتناوله الفقهاء من المعلوم بها لخربت ، فإن الكيمان ملاصقة لها بعد ما كان حولها أعمر موضع في الدنيا ، وقد ذكر حبس المعونة عند ذكر السجون من هذا الكتاب.

المدرسة القمحية

هذه المدرسة بجوار الجامع العتيق بمصر ، كان موضعها يعرف بدار الغزل ، وهو قيسارية يباع فيها الغزل ، فعدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية ، وكان الشروع فيها للنصف من المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة ، ووقف عليها قيسارية الورّاقين ، وعلوها بمصر ، وضيعة بالفيوم تعرف بالحنبوشية ، ورتب فيها أربعة من المدرّسين عند كل مدرّس عدّة من الطلبة ، وهذه المدرسة أجل مدرسة للفقهاء المالكية ، ويتحصل لهم من ضيعتهم التي بالفيوم قمح يفرّق فيهم ، فلذلك صارت لا تعرف إلّا بالمدرسة القمحية إلى اليوم ، وقد أحاط بها الخراب ، ولو لا ما يتحصل منها للفقهاء لدثرت. وفي شعبان سنة خمس وعشرين وثمانمائة أخرج السلطان الملك الأشرف برسباي الدقماقيّ ناحيتي الاعلام والحنبوشية ، وكانتا من وقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على هذه المدرسة ، وأنعم بهما على مملوكين من مماليكه ليكونا إقطاعا لهما.

مدرسة يازكوج

هذه المدرسة بسوق الغزل في مدينة مصر ، وهي مدرسة معلقة بناها ... (٢).

مدرسة ابن الأرسوفيّ

هذه المدرسة كانت بالبزازين التي تجاور خط النخالين بمصر ، عرفت بابن الأرسوفيّ التاجر العسقلانيّ ، وكان بناؤها في سنة سبعين وخمسمائة ، وهو عفيف الدين عبد الله بن محمد الأرسوفيّ ، مات بمصر في يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

٢٠١

مدرسة منازل العز

هذه المدرسة كانت من دور الخلفاء الفاطميين ، بنتها أمّ الخليفة العزيز بالله بن المعز ، وعرفت بمنازل العز ، وكانت تشرف على النيل ، وصارت معدّة لنزهة الخلفاء ، وممن سكنها ناصر الدولة حسين بن حمدان إلى أن قتل ، وكان بجانبها حمّام يعرف بحمّام الذهب من جملة حقوقها ، وهي باقية. فلما زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف ، أنزل في منازل العز الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فسكنها مدّة ، ثم إنه اشتراها والحمّام والإصطبل المجاور لها من بيت المال في شهر شعبان سنة ست وستين وخمسمائة ، وأنشأ فندقين بمصر بخط الملاحين ، وأنشأ ربعا بجوار أحد الفندقين ، واشترى جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة ، فلما أراد أن يخرج من مصر إلى الشام وقف منازل العز على فقهاء الشافعية ، ووقف عليها الحمّام وما حولها ، وعمر الاصطبل فندقا عرف بفندق النخلة ووقفه عليها ، ووقف عليها الروضة ، ودرّس بها شهاب الدين الطوسيّ وقاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العليّ السكريّ ، وعدّة من الأعيان. وهي الآن عامرة بعمارة ما حولها.

الملك المظفر تقيّ الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان ، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، قدم إلى القاهرة في ... (١) واستنابه السلطان على دمشق في المحرّم سنة إحدى وسبعين ، ثم نقله إلى نيابة حماه ، وسلّم إليه سنجار لما أخذها في ثاني رمضان سنة ثمان وسبعين ، فأقام بها ولحق السلطان على حلب فقدم عليه في سابع صفر سنة تسع وسبعين ، فأقام إلى أن بعثه إلى القاهرة نائبا عنه بديار مصر عوضا عن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، فقدمها في شهر رمضان سنة تسع وسبعين ، وأنعم عليه بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش ، وأبقى عليه مدينة حماه. ثم خرج بعساكر مصر إلى السلطان وهو بدمشق في سنة ثمانين لاجل أخذ الكرك من الفرنج ، فسار إليها وحصرها مدّة ثم رجع مع السلطان إلى دمشق ، وعاد إلى القاهرة في شعبان وقد أقام السلطان على مملكة مصر ابنه الملك العزيز عثمان ، وجعل الملك المظفر كافلا له وقائما بتدبير دولته ، فلم يزل على ذلك إلى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ، فصرف السلطان أخاه الملك العادل عن حلب وأعطاه نيابة مصر ، فغضب الملك المظفر وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد المسير إلى بلاد المغرب واللحاق بغلامه بهاء الدين قراقوش التقويّ ، فبلغ السلطان ذلك فكتب إليه ولم يزل به حتى زال ما به ، وسار إلى السلطان فقدم عليه دمشق في ثالث عشري شعبان ، فأقرّه على حماه والمعرّة ومنبج ، وأضاف إليه ميافارقين ، فلحق به أصحابه ما خلا مملوكه زين الدين بوزيا ، فإنه سار إلى

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٠٢

بلاد المغرب ، وكانت له في أرض مصر وبلاد الشام أخبار وقصص ، وعرفت له مواقف عديدة في الحرب مع الفرنج ، وآثار في المصافات ، وله في أبواب البرّ أفعال حسنة ، وله بمدينة الفيوم مدرستان إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية ، وبنى مدرسة بمدينة الرها ، وسمع الحديث من السلفيّ وابن عوف ، وكان عنده فضل وأدب ، وله شعر حسن ، وكان جوادا شجاعا مقداما شديد البأس عظيم الهمة كثير الإحسان ، ومات في نواحي خلاط ليلة الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، ونقل إلى حماه فدفن بها في تربة بناها على قبره ابنه الملك المنصور محمد.

مدرسة العادل

هذه المدرسة بخط الساحل بجوار الربع العادليّ من مدينة مصر الذي وقف على الشافعيّ ، عمرها الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، درس بها قاضي القضاة تقيّ الدين أبو عليّ الحسين بن شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه جلال الدين أبي محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس. فعرفت به ، وقيل لها مدرسة ابن شاس إلى اليوم ، وهي عامرة ، وعرف خطها بالقشاشين وهي للمالكية.

مدرسة ابن رشيق

هذه المدرسة للمالكية ، وهي بخط حمّام الريش من مدينة مصر ، كان الكاتم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة ، قاصدين الحج ، دفعوا للقاضي علم الدين بن رشيق مالا بناها به ، ودرّس بها فعرفت به ، وصار لها في بلاد التكرور سمعة عظيمة ، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال.

المدرسة الفائزية

هذه المدرسة في مصر بخط ... (١) أنشأها الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزيّ قبل وزارته ، في سنة ست وثلاثين وستمائة ، ودرّس بها القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة ، ثم قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزريّ ، وهي للشافعية.

المدرسة القطبية

هذه المدرسة بالقاهرة في خط سويقة الصاحب بداخل درب الحريريّ ، كانت هي

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٠٣

والمدرسة السيفية من حقوق دار الديباج التي تقدّم ذكرها ، وأنشأ هذه المدرسة الأمير قطب الدين خسرو بن بلبل بن شجاع الهدبانيّ ، في سنة سبعين وخمسمائة ، وجعلها وقفا على الفقهاء الشافعية ، وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.

المدرسة السيوفية

هذه المدرسة بالقاهرة ، وهي من جملة دار الوزير المأمون البطائجيّ ، وقفها السلطان السيد الأجل الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب على الحنفية ، وقرّر في تدريسها الشيخ مجد الدين محمد بن محمد الجبتي ، ورتب له في كل شهر أحد عشر دينارا ، وباقي ريع الوقف يصرفه على ما يراه للطلبة الحنفية المقرّرين عنده على قدر طبقاتهم ، وجعل النظر للجبتي ، ومن بعده إلى من له النظر في أمور المسلمين ، وعرفت بالمدرسة السيوفية ، من أجل أن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها ، وهي الآن تجاه سوق الصنادقيين ، وقدوهم القاضي محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فإنه قال في كتاب الروضة الزاهرة في خطط المعزية القاهرة : مدرسة السيوفية وهي للحنفية ، وقفها عز الدين فرحشاه قريب صلاح الدين وما أدري كيف وقع له هذا الوهم ، فإن كتاب وقفها موجود ، قد وقفت عليه ولخصت منه ما ذكرته ، وفيه أن واقفها السلطان صلاح الدين وخطه على كتاب الوقف ونصه : الحمد لله وبه توفيقي ، وتاريخ هذا الكتاب تاسع عشرى شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، ووقف على مستحقيها اثنين وثلاثين حانوتا بخط سويقة أمير الجيوش وباب الفتوح وحارة برجوان ، وذكر في آخر كتاب وقفها أن الواقف أذن لمن حضر مجلسه من العدول في الشهادة والقضاء على لفظه بما تضمنه المسطور ، فشهدوا بذلك وأثبتوا شهادتهم آخره ، وحكم حاكم المسلمين على صحة هذا الوقف بعد ما خاصم رجل من أهل هذا الوقف في ذلك ، وأمضاه. لكنه لم يذكر في الكاتب اسجال القاضي بثبوته بل ذكر رسم شهادة الشهود على الواقف ، وهم عليّ بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاريّ الدمشقيّ ، والقاسم بن يحيى بن عبد الله بن قاسم الشهرزوريّ ، وعبد الله بن عمر بن عبد الله الشافعيّ ، وعبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن قريش المخزوميّ ، وموسى بن حكر بن موسك الهدبانيّ في آخرين. وهذه المدرسة هي أوّل مدرسة وقفت على الحنفية بديار مصر ، وهي باقية بأيديهم.

المدرسة الفاضلية

هذه المدرسة بدرب ملوخيا من القاهرة ، بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ ، بجوار داره ، في سنة ثمانين وخمسمائة ، ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية ، وجعل فيها قاعة للإقراء ، أقرأ فيها الإمام أبو محمد الشاطبيّ ناظم الشاطبية ، ثم تلميذه أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبيّ ، ثم الشيخ عليّ بن موسى الدهان وغيرهم ، ورتب لتدريس فقه المذهبين الفقيه أبا القاسم عبد الرحمن بن سلامة الاسكندرانيّ ، ووقف

٢٠٤

بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم ، يقال أنها كانت مائة ألف مجلد ، وذهبت كلها. وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها ، لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة ، والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوريّ ، مسهم الضرّ ، فصاروا يبيعون كلّ مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب ، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية ، فتفرّقت ، وبها إلى الآن مصحف قرآن كبير القدر جدّا ، مكتوب بالخط الأوّل الذي يعرف بالكوفيّ ، تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان ، ويقال أن القاضي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار ، على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غريبه ، وعليه مهابة وجلالة ، وإلى جانب المدرسة كتّاب برسم الأيتام ، وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها ، وقد تلاشت لخراب ما حولها.

عبد الرحيم : بن عليّ بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد القاضي الفاضل محيي الدين أبو عليّ ابن القاضي الأشرف اللخميّ العسقلانيّ البيسانيّ المصريّ الشافعيّ ، كان أبوه يتقلد قضاء مدينة بيسان ، فلهذا نسبوا إليها ، وكانت ولادته بمدينة عسقلان في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الجلال ، صاحب ديوان الإنشاء في أيام الحافظ لدين الله ، وعنه أخذ صناعة الإنشاء ، ثم خدم بالإسكندرية مدّة ، فلما قام بوزارة مصر العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك ، خرج أمره إلى والي الإسكندرية بتسييره إلى الباب ، فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش ، فلما مات الموفق بن الجلال في سنة ست وستين وخمسمائة ، وكان القاضي الفاضل ينوب عنه في ديوان الإنشاء ، عينه الكامل بن شاور وسعى له عند أبيه الوزير شاور بن مجير ، فأقرّه عوضا عن ابن الجلال في ديوان الإنشاء ، فلما ملك أسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره ، وأعجبه اتقائه وسمته ونصحه ، فاستكتبه إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فاستخلصه وحسن اعتقاده فيه ، فاستعان به على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده ، فجعله وزيره ومشيره ، بحيث كان لا يصدر أمرا إلا عن مشورته ، ولا ينفذ شيئا إلا عن رأيه ، ولا يحكم في قضية إلا بتدبيره ، فلما مات صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان في المكانة والرفعة ، وتقلد الأمر ، فلما مات العزيز وقام من بعده ابنه الملك المنصور بالملك ودبر أمره عمه الأفضل ، كان معهما على حاله إلى أن وصل الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر ، وخرج الأفضل لقتاله ، فمات منكوبا أحوج ما كان إلى الموت عند تولى الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة ، ودفن بتربته من القرافة الصغرى.

قال ابن خلكان وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وتمكن منه غاية

٢٠٥

التمكن ، وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين ، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره ، أنّ مسودّات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق ، إذا جمعت ما تقصر عن مائة ، وهو مجيد في أكثرها. وقال عبد اللطيف البغداديّ : دخلنا عليه فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب ، وهو يكتب ويملى على اثنين ، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام ، وكأنه يكتب بجملة أعضائه ، وكان لغرام في الكتابة وتحصيل الكتب ، وكان له الدين والعفاف والتقى والمواظبة على أوراد الليل ، والصيام وقراءة القرآن ، وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد ، ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن ، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو ، ولكن قوّة الدراية توجب له قلة اللحن ، وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئا إلّا في طاعة ، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره.

وحكى لي ابن القطان أحد كتابه قال : لما خطب صلاح الدين بمصر للإمام المستضيء بأمر الله ، تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الديوان العزيز وملوك الشرق ، ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم ، فأوغر إلى العماد الكاتب أن يكتب ، فكتب واحتفل وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجحا بها فقال : لا أحتاج أن أقف عليها ، وأمر بختمها وتسليمها إلى النجاب والعماد يبصر. قال : ثم أمرني أن ألحق النجاب ببلبيس وأن أفض الكتب وأكتب صدورها ونهايتها ، ففعلت ورجعت بها إليه ، فكتب على حذوها وعرضها على السلطان فارتضاها وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجاب ، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه ، ولباسه البياض لا يبلغ جميع ما عليه دينارين ، ويركب معه غلام وركابيّ ، ولا يمكن أحدا أن يصحبه ، ويكثر زيارة القبور وتشييع الجنائز وعيادة المرضى ، وله معروف في السرّ والعلانية ، وأكثر أوقاته يفطر بعد ما يتهوّر الليل ، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يغطيها الطيلسان ، وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدا به ، ولأصحاب الأدب عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمنّ عليهم ، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء ، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم أو بالإعراض عنهم ، وكان دخله في كلّ سنة من إقطاع ورباع وضياع خمسين ألف دينار سوى متاجره للهند والمغرب وغيرهما ، وكان يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة ، وله نسّاخ لا يفترون ، ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب : أنّ عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا ، وهذا قبل موته بعشرين سنة. وحكى لي ابن صورة الكتبيّ : أن ابنه القاضي الأشرف التمس مني أن أطلب له نسخة الحماسة ليقرأها ، فأعلمت القاضي الفاضل ، فاستحضر من الخادم الحماسات ، فأحضر له خمسا وثلاثين نسخة ، وصار ينفض نسخة نسخة ويقول : هذه بخط فلان ، وهذه عليها خط فلان ، حتى أتى على الجميع وقال : ليس فيها ما يصلح للصبيان ، وأمرني أن أشتري له نسخة بدينار.

٢٠٦

المدرسة الأزكشية

هذه المدرسة بالقاهرة على رأس السوق الذي كان يعرف بالخروقيين ، ويعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش ، بناها الأمير سيف الدين أيازكوج الأسديّ ، مملوك أسد الدين شيركوه ، وأحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وجعلها وقفا على الفقهاء من الحنفية فقط ، في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ، وكان أيازكوج رأس الأمراء الأسدية بديار مصر في أيام السلطان صلاح الدين ، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان ، وكان الأمير فخر الدين جهاركس رأس الصلاحية ، ولم يزل على ذلك إلى أن مات في يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، ودفن بسفح المقطم بالقرب من رباط الأمير فخر الدين بن قزل.

المدرسة الفخرية

هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين سويقة الصاحب ودرب العدّاس ، عمرها الأمير الكبير فخر الدين أبو الفتح عثمان بن قزل الباروميّ ، أستادار الملك الكامل محمد بن العادل ، وكان الفراغ منها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وكان موضعها أخيرا يعرف بدار الأمير حسام الدين ساروح بن أرتق شادّ الدواوين ، ومولد الأمير فخر الدين في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بحلب ، وتنقل في الخدم حتى صار أحد الأمراء بديار مصر ، وتقدّم في أيام الملك الكامل ، وصار أستاداره وإليه أمر المملكة وتدبيرها إلى أن سافر السلطان من القاهرة يريد بلاد المشرق ، فمات بحرّان بعد مرض طويل في ثامن عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين وستمائة ، وكان خيّرا كثير الصدقة يتفقد أرباب البيوت ، وله من الآثار سوى هذه المدرسة المسجد الذي تجاهها ، وله أيضا رباط بالقرافة وإلى جانبه كتاب سبيل ، وبنى بمكة رباطا.

المدرسة السيفية

هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين ، وموضعها من جملة دار الديباج ، قال ابن عبد الظاهر كانت دارا وهي من المدرسة القطبية ، فسكنها شيخ الشيوخ ، يعني صدر الدين محمد بن حموية ، وبنيت في وزارة صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكران سيف الإسلام ، ووقفها وولى فيها عماد الدين ولد القاضي صدر الدين ، يعني ابن درباس ، وسيف الإسلام هذا اسمه طفتكين بن أيوب.

طفتكين : ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الأيوبيّ ، سيّره أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلاد اليمن في سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، فملكها واستولى على كثير من بلادها ، وكان شجاعا كريما مشكور السيرة حسن السياسة ، قصده الناس من البلاد الشاسعة يستمطرون إحسانه وبرّه ، وسار إليه

٢٠٧

شرف الدين بن عنين ومدحه بعدّة قصائد بديعة ، فأجزل صلاته وأكثر من الإحسان إليه ، واكتسب من جهته مالا وافرا ، وخرج من اليمن ، فلما قدم إلى مصر والسلطان إذ ذاك الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين ، ألزمه أرباب ديوان الزكاة بدفع زكاة ما معه من المتجر فعمل :

ما كلّ من يتسمى بالعزيز لها

أهل ولا كلّ برق سحبه غدقه

بين العزيزين فرق في فعالهما

هذّاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه

وتوفي سيف الإسلام في شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالمنصورة ، وهي مدينة باليمن اختطها رحمه‌الله تعالى.

المدرسة العاشورية

هذه المدرسة بحارة زويلة من القاهرة ، بالقرب من المدرسة القطبية الجديدة ورحبة كوكاي. قال ابن عبد الظاهر : كانت دار اليهوديّ ابن جميع الطبيب ، وكان يكتب لقراقوش ، فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروج الأسديّ ، زوجة الأمير أيازكوج الأسديّ ، ووقفتها على الحنفية ، وكانت من الدور الحسنة ، وقد تلاشت هذه المدرسة وصارت طول الأيام مغلوقة لا تفتح إلّا قليلا ، فإنها في زقاق لا يسكنه إلّا اليهود ومن يقرب منهم في النسب.

المدرسة القطبية

هذه المدرسة في أوّل حارة زويلة برحبة كوكاي ، عرفت بالست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون ، المعروفة بدار إقبال العلائي ، ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وشقيقة الملك الأفضل قطب الدين أحمد ، وإليه نسبت ، وكانت ولادتها في سنة ثلاث وستمائة ، ووفاتها ليلة الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، وكانت قد سمعت الحديث وخرّج لها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهريّ أحاديث ثمانيات حدّثت بها ، وكانت عاقلة دينة فصيحة ، لها أدب وصدقات كثيرة ، وتركت مالا جزيلا ، وأوصت ببناء مدرسة يجعل فيها فقهاء وقرّاء ، ويشترى لها وقف يغلّ ، فبنيت هذه المدرسة ، وجعل فيها درس للشافعية ودرس للحنفية. وقرّاء ، وهي إلى اليوم عامرة.

المدرسة الخرّوبية

هذه المدرسة على شاطيء النيل من مدينة مصر ، أنشأها تاج الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن علي الخروبيّ ، لما أنشأ بيتا كبيرا مقابل بيت أخيه عز الدين قبليه على شاطىء النيل ، وجعل فيه هذه المدرسة ، وهي ألطف من مدرسة أخيه ، وبجنبها مكتب سبيل ، ووقف عليها أوقافا ، وجعل بها مدرّس حديث فقط ، مات بمكة في آخر المحرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة.

٢٠٨

مدرسة المحليّ

هذه المدرسة على شاطىء النيل داخل صناعة التمر ظاهر مدينة مصر ، أنشأها رئيس التجار برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ ابن بنت العلامة شمس الدين محمد بن اللبان ، وينتمي في نسبه إلى طلحة بن عبيد الله ، أحد العشرة رضي‌الله‌عنهم ، وجعل هذه المدرسة بجوار داره التي عمرها في مدّة سبع سنين ، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار ، وجعل بجوارها مكتب سبيل ، لكن لم يجعل بها مدرّسا ولا طلبة ، وتوفي ثاني عشري ربيع الأوّل سنة ست وثمانمائة عن مال عظيم ، أخذ منه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق مائة ألف دينار ، وكان مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ولم يكن مشكور السيرة في الديانة ، وله من المآثر تجديد جامع عمرو بن العاص ، فإنه كان قد تداعى إلى السقوط ، فقام بعمارته حتى عاد قريبا مما كان عليه ، شكر الله له ذلك.

المدرسة الفارقانية

هذه المدرسة بابها شارع في سويقة حارة الوزيرية من القاهرة ، فتحت في يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وسبعين وستمائة ، وبها درس للطائفة الشافعية ، ودرس للطائفة الحنفية ، أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانيّ السلاحدار ، كان مملوكا للأمير نجم الدين أمير حاجب ، ثم انتقل إلى الملك الظاهر بيبرس ، فترقّى عنده في الخدم حتى صار أحد الأمراء الأكابر ، وولاه الأستادارية ، وناب عنه بديار مصر مدّة غيبته ، وقدّمه على العساكر غير مرّة ، وفتح له بلاد النوبة ، وكان وسيما جسيما شجاعا مقداما حازما ، صاحب دراية بالأمور وخبرة بالأحوال والتصرّفات ، مدبرا للدول ، كثير البرّ والصدقة ، ولما مات الملك الظاهر وقام من بعده في ملك مصر ابنه الملك السعيد بركة قان ، ولّاه نيابة السلطنة بديار مصر بعد موت الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار ، فأظهر الحزم وضم إليه طائفة منهم شمس الدين أقوش ، وقطليجا الروميّ ، وسيف الدين قليج البغداديّ ، وسيف الدين بيجو البغداديّ ، وسيف الدين شعبان أمير شكار ، وبكتمر السلاحدار ، وكانت الخاصكية تكرهه فاتفقوا مع مماليك بيلبك الخازندار على القبض عليه ، وتحدّثوا مع الملك السعيد في ذلك ، وما زالوا به حتى قبضوا عليه بمساعدة الأمير سيف الدين كوندك الساقي لهم ، وكان قد ربي مع السعيد في المكتب ، فلم يشعر وهو قاعد بباب القلة من القلعة إلّا وقد سحب وضرب ونتفت لحيته وجرّ ، وقد ارتكب في إهانته أمر شنيع ، إلى البرج فسجن به ليالي قليلة ، أخرج منه ميتا في أثناء سنة ست وسبعين وستمائة ، وجهل قبره.

المدرسة المهذبية

هذه المدرسة خارج باب زويلة من خط حارة حلب بجوار حمّام قماري ، بناها

٢٠٩

الحكيم مهذب الدين أبو سعيد محمد بن علم الدين بن أبي الوحش بن أبي الخير بن أبي سليمان بن أبي حليقة ، رئيس الأطباء ، كان جدّه الرشيد أبو الوحش نصرانيا متقدّما في صناعة الطب ، فأسلم ابنه علم الدين في حياته ، وكان لا يولد له ولد فيعيش ، فرأت أمّه وهي حامل به قائلا يقول : هيئوا له حلقة فضة قد تصدّق بوزنها ، وساعة يوضع من بطن أمّه تثقب أذنه وتوضع فيها الحلقة. ففعلت ذلك فعاش ، فعاهدت أمّه أباه أن لا يقلعها من أذنه ، فكبر وجاءته أولاد وكلهم يموت ، فولد له ابنه مهذب الدين أبو سعيد ، فعمل له حلقة فعاش ، وكان سبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل محمد بن العادل أمر بعض خدّامه أن يستدعي بالرشيد الطبيب من الباب ، وكان جماعة من الأطباء بالباب ، فقال الخادم من هو منهم؟ فقال السلطان أبو حليقة ، فخرج فاستدعاه بذلك ، فاشتهر بهذا الاسم ، ومات الرشيد في سنة ست وسبعين وستمائة.

المدرسة الخرّوبية

هذه المدرسة بظاهر مدينة مصر تجاه المقياس بخط كرسيّ الجسر ، أنشأها كبير الخرابية بدر الدين محمد بن محمد بن عليّ الخروبيّ ، بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة وضمها ثم واو ساكنة بعدها باء موحدة ثم ياء آخر الحروف ، التاجر في مطابخ السكّر ، وفي غيرها بعد سنة خمسين وسبعمائة ، وجعل مدرّس الفقه بها الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل ، والمعيد الشيخ سراج الدين عمر البلقيني ، ومات سنة اثنتين وستين وسبعمائة ، وأنشأ أيضا ربعين بخط دار النحاس من مصر البلقيني ، ومات سنة وربعين مقابل المقياس بالقرب من مدرسته ، ولبدر الدين هذا أخ من أبيه أسنّ منه يقال له صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ ، عاش بعد أخيه وأنجب في أولاده ، وأدركت لهم أولادا نجباء ، وكان أوّلا قليل المال ، ثم تموّل وأنشأ تربة كبيرة بالقرافة ، فيما بين تربة الإمام الشافعيّ وتربة الليث بن سعد ، مقابل السروتين ، وجدّدها حفيده نور الدين عليّ بن عز الدين محمد بن صلاح الدين ، وأضاف إليها مطهرة حسنة ، ومات سنة تسع وستين وسبعمائة ، وشرط بدر الدين في مدرسته أن لا يلي بها أحد من العجم. وظيفة من الوظائف. فقال في كل وظيفة منها ، ويكون من العرب دون العجم ، وكانت له مكارم ، جهز مرّة ابن عقيل إلى الحج بنحو خمسمائة دينار.

المدرسة الخروبية

هذه المدرسة بخط الشون قبليّ دار النحاس من ظاهر مدينة مصر ، أنشأها عز الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ ، وهي أكبر من مدرسة عمه بدر الدين ، إلّا أنه مات سنة ست وسبعين وسبعمائة قبل استيفاء ما أراد أن يجعل فيها ، فليس لها مدرّس ولا طلبة ، ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة ، ونشأ في دنيا عريضة رحمه‌الله تعالى.

٢١٠

المدرسة الصاحبية البهائية

هذه المدرسة كانت بزقاق القناديل من مدينة مصر ، قرب الجامع العتيق ، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في سنة أربع وخمسين وستمائة ، وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر ، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف ، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل. قال القضاعيّ : ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر.

وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم ـ بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياء آخر الحروف بعدها ميم ـ ابن حنا ـ بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف ـ الوزير الصاحب بهاء الدين ، ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة ، وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة ، واشتهرت كفايته وعرفت في الدولة نهضته ودرايته ، فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة ، بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير ، وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها ، فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار ، وجميع الأعيان والأكابر ، إلى داره ، واستبدّ بجميع التصرّفات ، وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي ، وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه ، فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه ، ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه ، وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله ، وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية ، فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر ، أقرّه على ما كان عليه في حياة والده ، فدبر الأمور وساس الأحوال ، وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء ، مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلّا وصدّه الله عنه ، ولم يجد ما يتعلق به عليه ، ولا ما يبلغ به مقصوده منه ، وكان عطاؤه واسعا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به ، ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة ، وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح ، والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم ، والمبادرة إلى امتثال أوامرهم ، والعفة عن الأموال ، حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلّا أن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره ، وكثرة الصدقات في السرّ والعلانية ، وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر ، وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم ، وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه :

وقائل قال لي نبه لنا عمرا

فقلت إنّ عليا قد تنبه لي

مالي إذا كنت محتاجا إلى عمر

من حاجة فلينم حسبي انتباه علي

٢١١

وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضا :

يمم عليا فهو بحر الندى

وناده في المضلع المعضل

فرفده بحر على مجدب

ووفده مفض إلى مفصل

يسرع إن سيل نداه وهل

أسرع من سيل أتى من علي

إلّا أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة ، وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالا ، وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة ، واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة ، ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد ، والصاحب زين الدين ، فعوّضه الله عنهما بأولادهما ، فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور ، وما مات حتى صار جدّ جدّ ، وهو على المكانة وافر الحرمة ، في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ، ودفن بتربته من قرافة مصر ، ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ ، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة ، وحقود بارزة وكامنة ، فأوقع الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق ، وكان مع الملك السعيد بها ، وأخذ خطه بمائة ألف دينار ، وجهزه على البريد إلى مصر ، ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد ، وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار ، وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه ، وطولبوا بالمال.

وأوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين محمد ، ابن بانيها الوزير الصاحب بهاء الدين إلى أن مات يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة ثمان وستين وستمائة ، فوليها من بعده ابنه محيي الدين أحمد بن محمد إلى أن توفي يوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة ، فدرّس فيها بعده الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين إلى أن مات في يوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة ، فدرّس بها ولده الصاحب شرف الدين وتوارثها أبناء الصاحب يلون نظرها وتدريسها إلى أن كان آخرهم صاحبنا الرئيس شمس الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدين ، وليها بعد أبيه عز الدين ، ووليها عز الدين بعد بدر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الصاحب بهاء الدين ، فلما مات صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة ، وضع بعض نوّاب القضاة يده على ما بقي لها من وقف ، وأقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذكر الله وإقام الصلاة ، لا يأويها أحد لخراب ما حولها ، وبها شخص يبيت بها كي لا يسرق ما بها من أبواب ورخام ، وكان لها خزانة كتب جليلة فنقلها شمس الدين محمد بن الصاحب وصارت تحت يده إلى أن مات ، فتفرّقت في أيدي الناس ، وكان قد عزم على نقلها إلى شاطيء النيل بمصر ، فمات قبل ذلك.

٢١٢

ولما كان في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ، أخذ الملك الناصر فرج بن برقوق عمد الرخام التي كانت بهذه المدرسة ، وكانت كثيرة العدد جليلة القدر ، وعمل بدلها دعائم تحمل السقوف إلى أن كانت أيام الملك المؤيد الشيخ ، وولي الأمير تاج الدين الشوبكيّ الدمشقي ولاية القاهرة ومصر وحسبة البلدين وشدّ العمائر السلطانية ، فهدم هذه المدرسة في أخريات سنة سبع عشرة وأوائل سنة ثماني عشرة وثمانمائة ، وكانت من أجلّ مدارس الدنيا وأعظم مدرسة بمصر ، يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها ويتشاحنون في سكنى بيوتها ، حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة ، ثم تلاشى أمرها حتى هدمت وسيجهل عن قريب موضعها ، ولله عاقبة الأمور.

المدرسة الصاحبية

هذه المدرسة بالقاهرة في سويقة الصاحب ، كان موضعها من جملة دار الوزير يعقوب بن كلس ، ومن جملة دار الديباج ، أنشأها الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر ، وجعلها وقفا على المالكية ، وبها درس نحو وخزانة كتب ، وما زالت بيد أولاده.

فلما كان في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ، جدّد عمارتها القاضي علم الدين إبراهيم بن عبد اللطيف بن إبراهيم المعروف بابن الزبير ، ناظر الدولة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون ، واستجدّ فيها منبرا فصار يصلّى بها الجمعة إلى يومنا هذا ، ولم يكن قبل ذلك بها منبر ولا تصلّى فيها الجمعة.

عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن عليّ صفيّ الدين أبو محمد الشنيبيّ الدميريّ المالكيّ ، المعروف بابن شكر ، ولد بناحية دميرة إحدى قرى مصر البحرية في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، ومات أبوه فتزوّجت أمّه بالقاضي الوزير الأعز فخر الدين مقدام ابن القاضي الأجل أبي العباس أحمد بن شكر المالكيّ ، فرباه ونوّه باسمه لأنه كان ابن عمه ، فعرف به وقيل له ابن شكر ، وسمع صفيّ الدين من الفقيه أبي الظاهر إسماعيل بن مكيّ بن عوف ، وأبي الطيب عبد المنعم بن يحيى وغيره ، وحدّث بالقاهرة ودمشق ، وتفقه على مذهب مالك ، وبرع فيه ، وصنف كتابا في الفقه كان كلّ من حفظه نال منه خطأ وافرا ، وقصد بذلك أن يتشبه بالوزير عون الدين بن هبيرة ، كانت بداية أمره أنه لما سلّم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وأفرد له من الأبواب الديوانية الزكاة بمصر والجبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية واسنا وطنبدى ، استخدم العادل في مباشرة ديوان هذه المعاملة الصفيّ بن شكر هذا ، وكان ذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، ومن حينئذ اشتهر ذكره وتخصص بالملك العادل ، فلما استقل بمملكة مصر في

٢١٣

سنة ست وتسعين وخمسمائة عظم قدره ، ثم استوزره بعد الصنيعة بن النجار ، فحل عنده محل الوزراء الكبار والعلماء المشاورين ، وباشر الوزارة بسطوة وجبروت وتعاظم ، وصادر كتاب الدولة واستصفى أموالهم ، ففرّ منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد ، واستشفع بالخليفة الناصر ، وأحضر كتابه إلى الملك العادل يشفع فيه ، وهرب منه القاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش ، والقاضي الأسعد أسعد بن مماتي صاحب ديوان المال ، والتجآ إلى الملك الظاهر بحلب ، فأقاما عنده حتى ماتا ، وصادر بني حمدان وبني الحباب وبني الجليس ، وأكابر الكتاب ، والسلطان لا يعارضه في شيء ، ومع ذلك فكان يكثر التغضب على السلطان ويتجنى عليه وهو يحتمله إلى أن غضب في سنة سبع وستمائة ، وحلف أنه ما بقي يخدم ، فلم يحتمله ، وولى الوزارة عوضا عنه القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر ، وأخرجه من مصر بجميع أمواله وحرمه وغلمانه ، وكان نقله على ثلاثين جملا ، وأخذ أعداؤه في إغراء السلطان به وحسنوا له أن يأخذ ماله ، فأبى عليهم ولم يأخذ منه شيئا ، وسار إلى آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلى أن مات الملك العادل في سنة خمسين وستمائة ، فطلبه الملك الكامل محمد بن الملك العادل لما استبدّ بسلطنة ديار مصر بعد أبيه ، وهو في نوبة قتال الفرنج على دمياط حين رأى أن الضرورة داعية لحضوره بعد ما كان يعاديه ، فقدم عليه في ذي القعدة منها وهو بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط ، فتلقاه وأكرمه وحادثه فيما نزل به من موت أبيه ومحاربة الفرنج ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب ، واضطراب أرض مصر بثورة العربان ، وكثرة خلافهم ، فشجعه وتكفل له بتحصيل المال وتدبير الأمور ، وسار إلى القاهرة فوضع يده في مصادرات أرباب الأموال بمصر والقاهرة من الكتاب والتجار ، وقرّر على الأملاك مالا ، وأحدث حوادث كثيرة ، وجمع مالا عظيما أمدّ به السلطان ، فكثر تمكنه منه وقويت يده وتوفرت مهابته ، بحيث أنه لما انقضت نوبة دمياط وعاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل كان ينزل إليه ويجلس عنده بمنظرته التي كانت على الخليج ، ويتحدّث معه في مهمات الدولة ، ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة وهو وزير في يوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وكان بعيد الغور جماعا للمال ضابطا له من الإنفاق في غير واجب ، قد ملأت هيبته الصدور ، وانقاد له على الرغم والرضي الجمهور ، وأخمد جمرات الرجال ، وأضرم رمادا لم يخطر إيقاده على بال ، وبلغ عند الملك الكامل بحيث أنه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيوب ، والملك العادل أبي بكر ليزوراه في يوم عيد فقاما على رأسه قياما ، وأنشد زكيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن وهيب القوصيّ قصيدة زاد فيها حين رأى الملكين قياما على رأسه :

لو لم تقم لله حقّ قيامه

ما كنت تقعد والملوك قيام

وقطع في وزارته الأرزاق ، وكانت جملتها أربعمائة ألف دينار في السنة ، وتسارع

٢١٤

أرباب الحوائج والأطماع ومن كان يخافه إلى بابه ، وملؤا طرقاته وهو يهينهم ، ولا يحفل بشيخ منهم وهو عالم ، وأوقع بالرؤساء وأرباب البيوت حتى استأصل شأفتهم عن آخرهم ، وقدّم الأراذل في مناصبهم ، وكان جلدا قويا حل به مرّة دوسطاريا قوية وأزمنت فيئس منه الأطباء ، وعند ما اشتدّ به الوجع وأشرف على الهلاك ، استدعى بعشرة من وجوه الكتاب كانوا في حبسه وقال : أنتم في راحة وأنا في الألم ، كلّا والله ، واستحضر المعاصير وآلات العذاب وعذبهم فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل إلى الصبح ، وبعد ثلاثة أيام ركب وكان يقول كثيرا : لم يبق في قلبي حسرة إلّا كون البيسانيّ لم تتمرّغ شيبته على عتباتي ، يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ ، فإنه مات قبل وزارته ، وكان دريّ اللون تعلوه حمرة ، ومع ذلك فكان طلق المحيا حلو اللسان حسن الهيئة ، صاحب دهاء مع هوج ، وخبث في طيش ، ورعونة مفرطة ، وحقد لا تخبو ناره ، ينتقم ويظنّ أنه لم ينتقم ، فيعود ، وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد ، ويتخذ الرؤساء كلهم أعداءه ولا يرضى لعدوّه بدون الهلاك والاستئصال ، ولا يرحم أحدا إذا انتقم منه ، ولا يبالي بعاقبة ، وكان له ولأهله كلمة يرونها ويعملون بها. كما يعمل بالأقوال الإلهية ، وهي إذا كنت دقماقا فلا تكن وتدا ، وكان الواحد منهم يعيدها في اليوم مرّات ويجعلها حجة عند انتقامه ، وكان قد استولى على الملك العادل ظاهرا وباطنا ، ولا يمكن أحدا من الوصول إليه ، حتّى الطبيب والحاجب والفرّاش عليهم عيون له لا يتكلم أحد منهم فضل كلمة خوفا منه ، وكان أكبر أغراضه إبادة أرباب البيوت ومحو آثارهم وهدم ديارهم وتقريب الأسقاط وشرار الفقهاء ، وكان لا يأخذ من مال السلطان فلسا ولا ألف دينار ، ويظهر أمانة مفرطة ، فإذا لاح له مال عظيم احتجنه ، وبلغ إقطاعه في السنة مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، وكان قد عمي فأخذ يظهر جلدا عظيما وعدم استكانة ، وإذا حضر إليه الأمراء والأكابر وجلسوا على خوانه يقول : قدّموا اللون الفلانيّ للأمير فلان والصدر فلان ، والقاضي فلان ، وهو يبني أموره في معرفة مكان المشار إليه برموز ومقدّمات ، يكابر فيها دوائر الزمان ، وكان يتشبه في ترسله بالقاضي الفاضل ، وفي محاضراته بالوزير عون الدين بن هبيرة ، حتى اشتهر عنه ذلك ، ولم يكن فيه أهلية هذا لكنه كان من دهاة الرجال ، وكان إذا لحظ شخصا لا يقنع له إلا بكثرة الغنى ونهاية الرفعة ، وإذا غضب على أحد لا يقنع في شأنه إلا بمحو أثره من الوجود ، وكان كثيرا ما ينشد :

إذا حقّرت امرأ فاحذر عداوته

من يزرع الشوك لم يحصد به عنبا

وينشد كثيرا :

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنني

صديقك إنّ الرأي عنك لعازب

وأخذه مرّة مرض من حمى قوية ، وحدث به النافض ، وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال ، فما تأثر ولا ألقى جنبه إلى الأرض حتى ذهبت وهو كذلك ، وكان يتعزز على

٢١٥

الملوك الجبابرة ، وتقف الرؤساء على بابه من نصف الليل ومعهم المشاعل والشمع ، وعند الصباح يركب فلا يراهم ولا يرونه ، لأنه إمّا أن يرفع رأسه إلى السماء تيها ، وإمّا أن يعرّج إلى طريق غير التي هم بها ، وإمّا أن يأمر الجنادرة التي في ركابه بضرب الناس وطردهم من طريقه. ويكون الرجل قد وقف على بابه طول الليل ، إمّا من أوّله أو من نصفه بغلمانه ودوابه ، فيطرد عنه ولا يراه ، وكان له بوّاب يأخذ من الناس مالا كثيرا ومع ذلك يهينهم إهانة مفرطة ، وعليه للصاحب في كل يوم خمسة دنانير ، منها ديناران برسم الفقاع ، وثلاثة دنانير برسم الحلوى ، وكسوة غلمانه ونفقاته عليه أيضا ، ومع ذلك اقتنى عقارا وقرى ، ولما كان بعد موت الصاحب قدم من بغداد رسول الخليفة الظاهر ، وهو محيي الدين أبو المظفر بن الجوزيّ ، ومعه خلعة الخليفة للملك الكامل ، وخلع لأولاده ، وخلعة للصاحب صفيّ الدين ، فلبسها فخر الدين سليمان كاتب الإنشاء ، وقبض الملك الكامل على أولاده تاج الدين يوسف ، وعز الدين محمد وحبسهما ، وأوقع الحوطة على سائر موجوده رحمه‌الله وعفا عنه.

المدرسة الشريفية

هذه المدرسة بدرب كركامة على رأس حارة الجودرية من القاهرة ، وقفها الأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل دحية بن جعفر بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، الجعفريّ الزينبيّ ، أمير الحاج والزائرين ، وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية ، وتمت في سنة اثنتي عشرة وستمائة ، وهي من مدارس الفقهاء الشافعية.

قال ابن عبد الظاهر : وجرى له في وقفها حكاية مع الفقيه ضياء الدين بن الورّاق ، وذلك أن الملك العادل سيف الدين أبا بكر ، يعني ابن أيوب ، لما ملك مصر وكان قد دخلها على أنه نائب للملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف ، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك ، فأحضر الناس للحلف ، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق ، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك ، فأحضر الناس للحلف ، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق ، فلما شرع الناس في الحلف قال الفقيه ضياء الدين : ما هذا الحلف ، بالأمس حلفتم للمنصور ، فإن كانت تلك الأيمان باطلة ، فهذه باطلة ، وإن كانت تلك صحيحة فهذه باطلة.

فقال الصاحب صفيّ الدين بن شكر للعادل : أفسد عليك الأمور هذا الفقيه. وكان الفقيه لم يحضر إلى ابن شكر ولا سلّم عليه ، فأمر العادل بالحوطة على جميع موجود الفقيه وماله وأملاكه ، واعتقاله بالرصد مرسما عليه فيه ، لأنه كان مسجده ، فأقام مدّة سنين على هذه الصورة ، فلما كان في بعض الأيام وجد غرّة من المترسمين فحضر إلى دار الوزارة

٢١٦

بالقاهرة ، فبلغ العادل حضوره ، فخرج إليه. فقال له الفقيه : اعلم والله أني لا حاللتك ولا أبرأتك ، أنت تتقدّمني إلى الله في هذه المدّة ، وأنا بعدك أطالبك بين يدي الله تعالى. وتركه وعاد إلى مكانه ، فحضر الشريف فخر الدين بن ثعلب إلى الملك العادل فوجده متألما حزينا ، فسأله ، فعرّفه. فقال : يا مولانا ولم تجرّد السم في نفسك؟ فقال : خذ كل ما وقعت الحوطة عليه وكلّ ما استخرج من أجرة أملاكه وطيب خاطره ، وأما الفقيه ضياء الدين فإنه أصبح وحضرت إليه جماعة من الطلبة للقراءة عليه. فقال لهم : رأيت البارحة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : يكون فرجك على يد رجل من أهل بيتي صحيح النسب ، فبينما هم في الحديث وإذا بغبرة ثارت من جهة القرافة ، فانكشفت عن الشريف ابن ثعلب ومعه الموجود كله ، فلما حضر عرّفه الجماعة المنام ، فقال : يا سيدي اشهد على أن جميع ما أملكه وقف وصدقة ، شكرا لهذه الرؤيا. وخرج عن كل ما يملكه ، وكان من جملة ذلك المدرسة الشريفية لأنها كانت مسكنه ووقف عليها أملاكه ، وكذلك فعل في غيرها ، ولم يحالل الفقيه الملك العادل ، ومات الملك العادل بعد ذلك ، ومات الفقيه بعده بمدّة ، ومات الشريف إسماعيل بن ثعلب بالقاهرة في سابع عشر رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة.

المدرسة الصالحية

هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة ، كان موضعها من جملة القصر الكبير الشرقيّ ، فبنى فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين المدرستين ، فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس في قطعة من القصر في ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة ، ودك أساس المدارس في رابع عشر ربيع الآخر سنة أربعين ، ورتب فيها دروسا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة إحدى وأربعين وستمائة ، وهو أوّل من عمل بديار مصر دروسا أربعة في مكان ، ودخل في هذه المدارس باب القصر المعروف بباب الزهومة ، وموضعه قاعة شيخ الحنابلة الآن ، ثم اختط ما وارء هذه المدارس في سنة بضع وخمسين وستمائة ، وجعل حكر ذلك للمدرسة الصالحية ، وأوّل من درّس بها من الحنابلة قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ الحنبليّ الصالحيّ ، وفي يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وأربعين وستمائة ، أقام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ في نيابة السلطنة بديار مصر ، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية هذه مع نوّاب دار العدل ، وانتصب لكشف المظالم ، واستمرّ جلوسه بها مدّة. ثم إن الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس ، وقف الصاغة التي تجاهها ، وأماكن بالقاهرة وبمدينة المحلة الغربية ، وقطع أراضي جزائر بالأعمال الجيزية والأطفيحية على مدرسين أربعة ، عند كل مدرّس معيدان وعدّة طلبة. وما يحتاج إليه من أئمة ومؤذنين وقومة وغير ذلك ، وثبت وقف ذلك على يد

٢١٧

قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعيّ ، ونفذه قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات محمد بن هبة الله بن شكر المالكيّ ، وذلك في سنة سبع وسبعين وستمائة ، وهي جارية في وقفها إلى اليوم. فلما كان في يوم الجمعة حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاثين وسبعمائة ، رتب الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك جمال الدين الغزاويّ خطيبا بإيوان الشافعية من هذه المدرسة ، وجعل له في كل شهر خمسين درهما ، ووقف عليه وعلى مؤذنين وقفا جاريا ، فاستمرّت الخطبة هناك إلى يومنا هذا.

قبة الصالح : هذه القبة بجوار المدرسة الصالحية ، كان موضعها قاعة شيخ المالكية ، بنتها عصمة الدين والدة خليل شجرة الدر ، لأجل مولاها الملك الصالح نجم الدين أيوب عندما مات ، وهو على مقاتلة الفرنج بناحية المنصورة ، في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة ، فكتمت زوجته شجرة الدر موته خوفا من الفرنج ولم تعلم بذلك أحدا سوى الأمير فخر الدين بن يوسف بن شيخ الشيوخ ، والطواشي جمال الدين محسن فقط ، فكتما موته عن كلّ أحد ، وبقيت أمور الدولة على حالها ، وشجرة الدرّ تخرج المناشير والتواقيع والكتب وعليها علامة بخط خادم يقال له سهيل ، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان ، وأشاعت أن السلطان مستمرّ المرض ولا يمكن الوصول إليه ، فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان إلى أن أنفذت إلى حصن كيفا وأحضرت الملك المعظم توران شاه بن الصالح ، وأما الملك الصالح فإن شجرة الدرّ أحضرته في حراقة من المنصورة إلى قلعة الروضة تجاه مدينة مصر من غير أن يشعر به أحد إلّا من أيتمنته على ذلك ، فوضع في قاعة من قاعات قلعة الروضة إلى يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة ، فنقل إلى هذه القبة بعد ما كانت شجرة الدرّ قد عمرتها على ما هي عليه ، وخلعت نفسها من سلطنة مصر ونزلت عنها لزوجها عز الدين أيبك قبل نقله ، فنقله الملك المعز أيبك ونزل ومعه الملك الأشرف موسى ابن الملك المسعود وسائر المماليك البحرية والجمدارية والأمراء من قلعة الجبل إلى قلعة الروضة ، وأخرج الملك الصالح في تابوت وصلّى عليه بعد صلاة الجمعة ، وسائر الأمراء وأهل الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه ، وقطع المماليك شعور رؤوسهم وساروا به إلى هذه الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه ، السلطانان ونزلا إلى القبة ، وحضر القضاة وسائر المماليك وأهل الدولة وكافة الناس وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر ، وعمل عزاء للملك الصالح بين القصرين بالدفوف مدّة ثلاثة أيام ، آخرها يوم الاثنين. ووضع عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه ، ورتب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها ، وجعلت النظر فيها للصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وذريته ، وهي بيدهم إلى اليوم ، وما أحسن قول الأديب جمال الدين أبي المظفر عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد بن محمد بن عمر بن أبي القاسم بن تخمش الواسطيّ ، المعروف بابن السنيرة الشاعر ، لما مرّ هو والأمير نور الدين تكريت بالقاهرة بين

٢١٨

القصرين ونظر إلى تربة الملك الصالح هذه ، وقد دفن بقاعة شيخ المالكية فأنشد :

بنيت لأرباب العلوم مدارسا

لتنجو بها من هول يوم المهالك

وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا

تحلّ به إلّا إلى جنب مالك

وذلك أن هذه القبة التي فيها قبر الملك الصالح ، مجاورة لإيوان الفقهاء المالكية المنتمين إلى الإمام مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه ، فقصد التورية بمالك الإمام المشهور ، ومالك خازن النار ، أعاذنا الله منها.

المدرسة الكاملية

هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة ، وتعرف بدار الحديث الكاملية ، أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بن مروان في سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وهي ثاني دار عملت للحديث. فإن أوّل من بنى دارا على وجه الأرض ، الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق ، ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبويّ ، ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية ، ووقف عليها الربع الذي بجوارها على باب الخرنشف ، ويمتدّ إلى الدرب المقابل للجامع الأقمر ، وهذا الربع من إنشاء الملك الكامل ، وكان موضع من جملة القصر الغربيّ ، ثم صار موضعا يسكنه القماحون. وكان موضع المدرسة سوقا للرقيق ودارا تعرف بابن كستول. وأوّل من ولي تدريس الكاملية الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن بن عليّ بن دحية ، ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن بن عليّ بن دحية ، ثم الحافظ عبد العظيم المندريّ ، ثم الرشيد العطار. وما برحت بيد أعيان الفقهاء إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة ، فتلاشت كما تلاشى غيرها ، وولى تدريسها صبيّ لا يشارك الأناسيّ إلّا بالصورة ، ولا يمتاز عن البهيمة إلّا بالنطق ، واستمرّ فيها دهرا لا يدرّس بها حتى نسيت أو كادت تنسى دروسها ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

الملك الكامل : ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ الأيوبيّ ، خامس ملوك بني أيوب الأكراد بديار مصر ، ولد في خامس عشري ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وخمسمائة ، وخلف أباه الملك العادل على بلاد الشرق ، فلما استولى على مملكة مصر ، قدم الملك الكامل إلى القاهرة في سنة ست وتسعين وخمسمائة ، ونصبه أبوه نائبا عنه بديار مصر ، وأقطعه الشرقية وجعله وليّ عهده ، وحلف له الأمراء ، وأسكنه قلعة الجبل ، وسكن العادل في دار الوزارة بالقاهرة وصار يحكم بديار مصر مدّة غيبة الملك العادل ببلاد الشام وغيرها بمفرده. فلما مات الملك العادل ببلاد الشام ، استقل الملك الكامل بمملكة مصر في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة وهو على محاربة الفرنج بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط ،

٢١٩

وقد ملكوا البرّ الغربيّ. فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان ، وثارت العربان بنواحي أرض مصر وكثر خلافهم واشتدّ ضررهم ، وقام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ ، المعروف بابن المشطوب ، وكان أجلّ الأمراء الأكابر ، وله لفيف من الأكراد الهكارية ، يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز إبراهيم بن العادل ، ووافقه على ذلك كثير من الأمراء ، فلم يجد الكامل بدّا من الرحيل في الليل جريدة ، وسار من العادلية إلى أشموم طناح ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان ، فركب كل واحد هواه ولم يعرّج واحد منهم على آخر ، وتركوا أثقالهم وسائر ما معهم ، فاغتنم الفرنج الفرصة وعبروا إلى برّ دمياط واستولوا على جميع ما تركه المسلمون ، وكان شيئا عظيما ، وهمّ الملك الكامل بمفارقة أرض مصر ، ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت العساكر ، وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق باشموم ، فاشتدّ عضده بأخيه ، وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام ، ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج ، وكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف موسى شاه يستحثه على الحضور ، وصدّر المكاتبة بهذه الأبيات :

يا مسعدي إن كنت حقا مسعفي

فانهض بغير تلبث وتوقف

واحثت قلوصك مرقلا (١) أو موجفا(٢)

بتجشم (٣) في سيرها وتعسف (٤)

واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ

إلّا على باب المليك الأشرف

واقر السلام عليه من عبد له

متوقع لقدومه متشوّف

وإذا وصلت إلى حماه فقل له

عني بحسن توصل وتلطف

إن تأت عبدك عن قليل تلقه

ما بين كلّ مهند ومثقف

أو تبط عن إنجاده فلقاؤه

بك في القيامة في عراص (٥) الموقف

وجدّ الكامل في قتال الفرنج وأمر بالنفير في ديار مصر ، وأتته الملوك من الأطراف ، فقدّر الله أخذ الفرنج لدمياط بعد ما حاصروها ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما ، ووضعوا السيف في أهلها ، فرحل الكامل من أشموم ونزل بالمنصورة وبعث يستنفر الناس ، وقوي الفرنج حتى بلغت عدّتهم نحو المائتي ألف راجل ، وعشرة آلاف فارس ، وقدم عامّة أهل أرض مصر ، وأتت النجدات من البلاد الشامية وغيرها ، فصار المسلمون في جمع عظيم إلى الغاية بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعين ألفا ، وكانت بين الفريقين خطوب آلت إلى

__________________

(١) مرقلا : مسرعا.

(٢) أوجف دابته : حثها وحملها على الإسراع في السير.

(٣) جشّمه الأمر : كلفه إياه وحمله عليه على كره ومشقة.

(٤) التعسف : الأخذ بالعنف والقوّة.

(٥) عراص : جمع عرصة : ساحة الدار.

٢٢٠