كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

جامع الإسماعيليّ

أنشأه الأمير أرغون الإسماعيليّ على البركة الناصرية في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.

جامع الزاهد

هذا الجامع بخط المقس خارج القاهرة ، كان موضعه كوم تراب فنقله الشيخ المعتقد أحمد بن ... (١) المعروف بالزاهد ، وأنشأ موضعه هذا الجامع ، فكمل في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، وهدم بسببه عدّة مساجد قد خرب ما حولها ، وبني بأنقاضها هذا الجامع ، وكان ساكنا مشهورا بالخير يعظ الناس بالجامع الأزهر وغيره ، ولطائفة من الناس فيه عقيدة حسنة ، ولم يسمع عنه إلّا خير ، مات يوم الجمعة سابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة وثمانمائة ، أيام الطاعون ودفن بجامعه.

جامع ابن المغربيّ

هذا الجامع بالقرب من بركة قرموط مطلّ على الخليج الناصريّ ، أنشأه صلاح الدين يوسف بن المغربيّ رئيس الأطباء بديار مصر وبنى بجانبه قبة دفن فيها وعمل به درسا وقرّاء ومنبرا يخطب عليه في يوم الجمعة ، وكان عامرا بعمارة ما حوله ، فلما خرب خط بركة قرموط تعطل وهو آيل إلى أن ينقض ويباع كما بيعت أنقاض غيره.

جامع الفخريّ

هذا الجامع بجوار دار الذهب التي عرفت بدار بها در الأعسر المجاورة لقبو الذهب من خط بين السورين فيما بين الخوخة وباب سعادة ، ويتوصل إليه أيضا من درب العدّاس المجاورة لحارة الوزيرية ، أنشأه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأستادار في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ، وخطب فيه يوم الجمعة ثامن عشري شعبان من السنة المذكورة ، وعمل فيه عدّة دروس ، وأوّل من خطب فيه الشيخ ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباريّ الشافعيّ ، ثم تركه تنزها عنه ، وفي يوم الأحد ثامن شهر رمضان جلس فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماويّ الشافعيّ للتدريس ، وأضيف إليه مشيخة التصوّف ، وقرّر قاضي القضاة شمس الدين محمد الديريّ المقدسيّ الحنفيّ في تدريس الحنفية ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد المالكي ، وحضر البرماويّ وظيفة التصوّف بعد عصر يومه ، فمات الأمير فخر الدين في نصف شوّال منها ولم يكمل فدفن هناك.

__________________

(١) بياض في الأصل.

١٤١

الجامع المؤيدي

هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله ، كان موضعه خزانة شمائل حيث يسجن أرباب الجرائم ، وقيسارية سنقر الأشقر ، ودرب الصفيرة ، وقيسارية بهاء الدين أرسلان. أنشأه السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ الظاهري ، فهو الجامع لمحاسن البنيان ، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه ، أن منشئه سيد ملوك الزمان ، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنو شروان ، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان ، ويعجب من عرف أوّليته من تبديل الأبدال ، وتنقل الأمور من حال إلى حال بينا هو سجن تزهق فيه النفوس ويضام المجهود ، إذ صار مدارس آيات وموضع عبادات ومحل سجود ، فالله يعمره ببقاء منشئه ويعلي كلمة الأيمان بدوام ملك بانيه.

همم الملوك إذا أراد واذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

ملك محاه حوادث الأزمان

إنّ البناء إذا تعاظم قدره

أضحى يدل على عظيم الشان

وأوّل ما ابتدئ به في أمر هذا الجامع ، أن رسم في رابع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، بانتقال سكان قيسارية سنقر الأشقر التي كانت تجاه قيسارية الفاضل ، ثم نزل جماعة من أرباب الدولة في خامسه من قلعة الجبل ، وابتدئ في الهدم في القيسارية المذكورة ، وما يجاورها ، فهدمت الدور التي كانت هناك في درب الصفيرة ، وهدمت خزانة شمائل فوجد بها من رمم القتلى ورؤوسهم شيء كثير ، وأفرد لنقل ما خرج من التراب عدّة من الجمال والحمير بلغت علائقهم في كل يوم خمسمائة عليقة. وكان السبب في اختيار هذا المكان دون غيره أن السلطان حبس في خزانة شمائل هذه أيام تغلّب الأمير منطاش وقبضه على المماليك الظاهرية ، فقاسى في ليلة من البق والبراغيث شدائد ، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدا لله عزوجل ، ومدرسة لأهل العلم ، فاختار لذلك هذه البقعة وفاء لنذره.

وفي رابع جمادى الآخرة كان ابتداء حفر الأساس ، وفي خامس صفر سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقع الشروع في البناء ، واستقرّ فيه بضع وثلاثون بنّاء ، ومائة فاعل ، ووفيت لهم ولمباشريهم أجورهم من غير أن يكلف أحد في العمل فوق طاقته ، ولا سخّر فيه أحد بالقهر ، فاستمرّ العمل إلى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأوّل ، فأشهد عليه السلطان أنه وقف هذا مسجدا لله تعالى ، ووقف عليه عدّة مواضع بديار مصر وبلاد الشام ، وتردّد ركوب السلطان إلى هذه العمارة عدّة مرار. وفي شعبان طلبت عمد الرخام وألواح الرخام لهذا الجامع ، فأخذت من الدور والمساجد وغيرها ، وفي يوم الخميس سابع عشري شوّال نقل

١٤٢

باب مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون والتنور النحاس المكفت إلى هذه العمارة ، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار ، وهذا الباب هو الذي عمل لهذا الجامع ، وهذا التنور هو التنور المعلق تجاه المحراب ، وكان الملك الظاهر برقوق قد سدّ باب مدرسة السلطان حسن وقطع البسطة التي كانت قدّامه كما تقدّم ، فبقي مصراعا الباب والسدّ من ورائهما حتى نقلا مع التنور الذي كان معلقا هناك. وفي ثامن عشرية دفنت ابنة صغيرة للسلطان في موضع القبة الغربية من هذا الجامع ، وهي ثاني ميت دفن بها ، وانعقدت جملة ما صرف في هذه العمارة إلى سلخ ذي الحجة سنة تسع عشرة على أربعين ألف دينار ، ثم نزل السلطان في عشري المحرّم إلى هذه العمارة ودخل خزانة الكتب التي عملت هناك ، قد حمل إليها كتبا كثيرة في أنواع العلوم ، كانت بقلعة الجبل ، وقدّم له ناصر الدين محمد البارزيّ كاتب السرّ خمسمائة مجلد ، قيمتها ألف دينار ، فأقرّ ذلك بالخزانة وأنعم على ابن البارزيّ بأن يكون خطيبا وخازن المكتب هو ومن بعده من ذرّيته.

وفي سابع عشر شهر ربيع الآخر منها سقط عشرة من الفعلة ، مات منهم أربعة وحمل ستة بأسوإ حال. وفي يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الجمعة به ، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبليّ ، وخطب وصلّى بالناس عز الدين عبد السلام المقدسيّ أحد نوّاب القضاة الشافعية نيابة عن ابن البارزيّ كاتب السرّ. وفي يوم السبت خامس شهر رمضان منها ابتدئ بهدم ملك بجوار ربع الملك الظاهر بيبرس ، مما اشتراه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الاستادار ليعمل ميضأة ، واستمرّ العمل هناك ولازم الأمير فخر الدين الإقامة بنفسه ، واستعمل مماليكه والزامه فيه وجدّ في العمل كلّ يوم ، فكملت في سلخه بعد خمسة وعشرين يوما ، ووقع الشروع في بناء حوانيت على بابها من جهة تحت الربع ، ويعلوها طباق ، وبلغت النفقة على الجامع إلى أخريات شهر رمضان هذا ، سوى عمارة الأمير فخر الدين المذكور ، زيادة على سبعين ألف دينار ، وتردّد السلطان إلى النظر في هذا الجامع غير مرّة. فلما كان في أثناء شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ظهر بالمئذنة التي أنشئت على بدنة باب زويلة التي تلي الجامع إعوجاج إلى جهة دار التفاح ، فكتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم ، وعرض على السلطان فرسم بهدمها ، فوقع الشروع في الهدم يوم الثلاثاء رابع عشرية ، واستمرّ في كل يوم ، فسقط يوم الخميس سادس عشرية منها حجر هدم ملكا تجاه باب زويلة ، هلك تحته رجل ، فغلق باب زويلة خوفا على المارّة من يوم السبت إلى آخر يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى ، مدّة ثلاثين يوما ، ولم يعهد وقوع مثل هذا قط منذ بنيت القاهرة. وقال أدباء العصر في سقوط المنارة المذكورة شعرا كثيرا ، منه ما قاله حافظ الوقت شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر الشافعيّ رحمه‌الله :

لجامع مولانا المؤيد رونق

منارته تزهو من الحسن والزين

١٤٣

تقول وقد مالت عليهم تمهّلوا

فليس على جسمي أضرّ من العين

فتحدّث الناس أنه في قوله بالعين قصد التورية لتخدم في العين التي تصيب الأشياء فتتلفها ، وفي الشيخ بدر الدين محمود العينتابيّ فإنه يقال له العينيّ أيضا.

فقال المذكور يعارضه :

منارة كعروس الحسن إذ جليت

وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط

ما أوجب الهدم إلّا خشية الحجر

يعرّض بالشهاب ابن حجر وكل منهما لم يصب الغرض ، فإن العينيّ بدر الدين محمودا ناظر الأحباس ، والشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر ، كل منهما ليس له في المئذنة تعلق حتى تخدم التورية ، وأقعد منهما بالتورية من قال :

على البرج من بابي زويلة أسّست

منارة بيت الله والمعهد المنجي

فأخلى بها البرج اللعين أمالها

ألا فاصرخوا يا قوم باللّعن للبرج

وذلك أن الذي ولى تدبير أمر الجامع المؤيديّ هذا ، وولى نظر عمارته بهاء الدين محمد بن البرجيّ ، فخدمت التورية في البرجي كما ترى ، وتداول هذا الناس فقال آخر :

عتبنا على ميل المنار زويلة

وقلنا تركت الناس بالميل في هرج

فقال قريني برج نحس أمالني

فلا بارك الرحمن في ذلك البرج

وقال الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن كمال الجوجريّ أحد الشهود :

منارة لثواب الله قد بنيت

فكيف هدّت فقالوا نوضح الخبرا

أصابت العين أحجارا بها انفلقت

ونظرة العين قالوا تفلق الحجرا

وقال آخر :

منارة قد هدمت بالقضا

والناس في هرج وفي رهج

أمالها البرج فمالت به

فلعنة الله على البرج

وفي ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين استقرّ الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر في تدريس الشافعية ، والشيخ يحيى بن محمد بن أحمد العجيسيّ البجائيّ المغربيّ في تدريس المالكية ، وعز الدين عبد العزيز بن عليّ بن الفخر البغداديّ في تدريس الحنابلة ، وخلع عليهم بحضرة السلطان ، فدرس ابن حجر بالمحراب في يوم الخميس ثالث عشرة ، ونزل السلطان وأقبل ليحضر عنده ، وهو في إلقاء الدرس ومنعه من القيام له ، فلم يقم واستمرّ فيما هو بصدده ، وجلس السلطان عنده مليا ، ثم درّس يحيى

١٤٤

المغربيّ في يوم الخميس خامس عشرة ، ودرّس فيه أيضا الفخر البغداديّ ، وحضر معهما قضاة القضاة والمشايخ. وفي سابع عشرة استقرّ بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد العينتابيّ ناظر الأحباس في تدريس الحديث النبويّ ، واستقرّ شمس الدين محمد بن يحيى في تدريس القراءات السبع. وفي يوم الجمعة حادي عشرة شوّال منها نزل السلطان إلى هذا الجامع وقد تقدّم إلى المباشرين من أمسه بتهيئة السماط العظيم للمدّة فيه ، والسّكّر الكثير لتملأ البركة التي بالصحن من السّكّر المذاب والحلوى الكثيرة ، فهيىء ذلك كله وجلس السلطان بكرة النهار بالقرب من البركة في الصحن على تخت ، واستعرض الفقهاء فقرّر من وقع اختياره عليه في الدروس ، ومدّ السماط العظيم بأنواع المطاعم ، وملئت البركة بالسّكّر المذاب ، فأكل الناس ونهبوا وارتووا من السّكّر المذاب وحملوا منه ومن الحلوى ما قدروا عليه. ثم طلب قاضي القضاة شمس الدين محمد بن سعد الديريّ الحنفيّ وخلع عليه كاملية صوف بفرو سمور ، واستقرّ في مشيخة التصوّف وتدريس الحنفية ، وجلس بالمحراب والسلطان عن يمينه ويليه ابنه المقام الصارميّ إبراهيم ، وعن يساره قضاة القضاة ومشايخ العلم ، وحضر أمراء الدولة ومباشروها ، فألقى درسا مفيدا إلى أن قرب وقت الصلاة ، فدعا بفض المجلس ، ثم حضرت الصلاة فصعد ناصر الدين محمد بن البارزيّ كاتب السرّ المنبر فخطب وصلّى ، ثم خلع عليه واستقرّ خطيبا وخازن الكتب ، وخلع على شهاب الدين أحمد الأذرعيّ الإمام واستقرّ في إمامة الخمس وركب السلطان وكان يوما مشهودا. ولما مات المقام الصارميّ إبراهيم بن السلطان دفن بالقبة الشرقية ونزل السلطان حتى شهد دفنه في يوم الجمعة ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين ، وأقام حتى صلّى به الخطيب محمد البارزيّ كاتب السرّ صلاة الجمعة بعد ما خطب خطبة بليغة ، ثم عاد إلى القلعة وأقام القرّاء على قبره يقرءون القرآن أسبوعا والأمراء وسائر أهل الدولة يتردّدون إليه ، وكانت ليالي مشهودة. وفي يوم السبت آخره استقرّ في نظر الجامع المذكور الأمير مقبل الدوادار وكاتب السرّ ابن البارزيّ ، فنزلا إليه جميعا وتفقدا أحواله ونظرا في أموره ، فلما مات ابن البارزي في ثامن شوّال منها انفرد الأمير مقبل بالتحدّث إلى أن مات السلطان في يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين وثمانمائة ، فدفن بالقبة الشرقية ولم تكن عمرت ، فشرع في عمارتها حتى كملت في شهر ذي القعدة منها ، وكذلك الدرج التي يصعد منها إلى باب هذا الجامع من داخل باب زويلة ، لم تعمل إلّا في شهر رمضان منها ، وبقيت بقايا كثيرة من حقوق هذا الجامع لم تعمل منها القبة التي تقابل القبة المدفون تحتها السلطان والبيوت المعدّة لسكن الصوفية وغير ذلك ، فأفرد لعمارتها نحو من عشرين ألف دينار واستقرّ نظر هذا الجامع بعد موت السلطان بيد كاتب السرّ.

الجامع الأشرفيّ

هذا الجامع فيما بين المدرسة السيوفية وقيسارية العنبر ، كان موضعه حوانيت تعلوها

١٤٥

رباع ومن ورائها ساحات كانت قياسر بعضها وقف على المدرسة القطبية ، فابتدأ الهدم فيها بعد ما استبدلت بغيرها أوّل شهر رجب سنة ست وعشرين وثمانمائة ، وبنى مكانها ، فلما عمر الإيوان القبليّ أقيمت به الجمعة في سابع جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ، وخطب به الحمويّ الواعظ وقد ولى الخطابة المذكورة.

الجامع الباسطيّ

هذا الجامع بخط الكافوريّ من القاهرة ، كان موضعه من جملة أراضي البستان ، ثم صار مما اختط كما تقدّم ذكره ، فأنشأه القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقيّ ناظر الجيوش في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ، ولم يسخر أحدا في عمله بل وفيّ لهم أجورهم حتى كمل في أحسن هندام وأكيس قالب وأبدع زيّ ترتاح النفوس لرؤيته وتبتهج عند مشاهدته ، فهو الجامع الزاهر والمعبد الباهي الباهر ، ابتدئ فيه بإقامة الجمعة في يوم الجمعة الثاني من صفر سنة ثلاث وعشرين ، ورتب في خطابته فتح الدين أحمد بن محمد بن النقاش أحد شهود الحوانيت وموقعي القضاة ، ثم رتب به صوفية ، وولى مشيخة التصوّف عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسيّ الشافعيّ ، أحد نوّاب الحكم ، فكان ابتداء حضورهم بعد عصر يوم السبت أوّل شهر رجب منها ، وأجرى للفقراء الصوفية الخبز في كلّ يوم ، والمعلوم في كلّ شهر ، وبنى لهم مساكن وحفر صهريجا يملأ من ماء النيل ويسبل في كل يوم ، فعمّ نفعه وكثر خيره. ثم تجدّد في بولاق جامع ابن الجابي وجامع ابن السنيتيّ ، وتجدّد في مصر جامع الحسنات بخط دار النحاس ، وفي حكر الصبان الجامع المعروف بالمستجد ، وبجامع الفتح ، وفي حارة الفقراء جامع عبد اللطيف الطواشيّ الساقي. وتجدّد في خارج القاهرة بسويقة صفية جامع ابن درهم ونصف ، وفي خط معدّية فريج جماع كزل بغا ، وفي رأس درب النيديّ جامع حارس الطير ، وفي سويقة عصفور جامع القاضي أمين الدين بجانب زاوية الفقيه المعتقد أبي عبد الله محمد الفارقانيّ ، بنى في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة ، وبخط البراذعيين ورأس حارة الحرمين جامع الحاج محمد المعروف بالمسكين مهتار ناظر الخاص. وتجدّد في المراغة جامع الشيخ أبي بكر المعرّف ، بناه الحاج أحمد القماح ، وأقيمت خطبة بخانكاه الأمير جاني بك الأشرفيّ خارج باب زويلة ، وتوفي يوم الخميس سابع عشرى ربيع الأوّل سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة ، وبخط باب اللوق جامع مقدّم السقائين قريبا من جامع الست نصرة ، وبخط تحت الربع خارج باب زويلة جامع.

وتجدّد بالصحراء قريبا من تربة الظاهر برقوق خطبة في تربة السلطان الملك الأشرف برسباي الدقاقيّ. وتجدد في آخر سويقة أمير الجيوش بالقاهرة جامع أنشأه الفقير المعتقد محمد الغمريّ ، وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة رابع ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين

١٤٦

وثمانمائة قبل أن يكمل. وتجدّد في زاوية الشيخ أبي العباس البصير التي عند قنطرة الخرق خطبة. وتجدّد في حدرة الكماجيين من أراضي اللوق خطبة بزاوية مطلة على غيط العدّة ، وتجدّد بالصحراء خطبة في تربة الأمير مشير الدولة كافور الزمام ، وتوفي في خامس عشر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثمانمائة. وتجدّد بخط الكافوريّ خطبة أحدثها بنو وفاء في جامع لطيف جدّا. وتجدّد بمدرسة ابن البقريّ من القاهرة أيضا خطبة في أيام المؤيد شيخ. وتجدّد بحارة الديلم خطبة في مدرسة أنشأها الطواشي مشير الدولة المذكور. وتجدّد عند قنطرة قدادار خطبة أنشأها شاكر البناء ، وخطبة بالقرب منها في جامع أنشأه الحاج إبراهيم البرددار الشهير بالحمصانيّ ، أحد الفقراء الأحمدية السطوحية في حدود الثلاثين والثمانمائة.

ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه

أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم‌الله تعالى ،

وما كان من الأحداث في ذلك

اعلم أن الله عزوجل لما بعث نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم ، وهم كلهم أهل شرك وعبادة لغير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب ، كان من أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة ، فكانت الصحابة رضوان الله عليهم حوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتمون إليه في كلّ وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت ، فمنهم من كان يحترف في الأسواق ، ومنهم من كان يقوم على نخله ، ويحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل وقت ، ومنهم طائفة عند ما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت ، فإذا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مسألة ، أو حكم بحكم ، أو أمر بشيء ، أو فعل شيأ وعاه من حضر عنده من الصحابة ، وفات من غاب عنه علم ذلك ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قد خفي عليه ما علمه حمل بن مالك بن النابغة ، من الأعراب من هذيل ، في دية الجنين وخفي عليه. وكان يفتي في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعريّ وسلمان الفارسيّ رضي‌الله‌عنهم.

فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلف أبو بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، تفرّقت الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردّة ، ومنهم من خرج لقتال أهل الشام ، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق ، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر رضي‌الله‌عنه عدّة ، فكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر رضي‌الله‌عنه قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن لم يكن عنده فيها علم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأل من بحضرته من الصحابة رضي‌الله‌عنهم عن ذلك ، فإن وجد عندهم

١٤٧

علما من ذلك رجع إليه وإلّا اجتهد في الحكم.

ولما مات أبو بكر وولي أمر الأمّة من بعده عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فتحت الأمصار وزاد تفرّق الصحابة رضي‌الله‌عنهم فيما افتتحوه من الأقطار ، فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو غيرها من البلاد ، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكم به ، وإلّا اجتهد أمير تلك البلدة في ذلك ، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجود عند صاحب آخر ، وقد حضر المدنيّ ما لم يحضر المصريّ ، وحضر المصريّ ما لم يحضر الشامي ، وحضر الشاميّ ما لم يحضر البصريّ ، وحضر البصريّ ما لم يحضر الكوفيّ ، وحضر الكوفيّ ما لم يحضر المدنيّ. كلّ هذا موجود في الآثار ، وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأوقات ، وحضور غيره. ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب ، فيدري كلّ واحد منهم ما حضر ، ويفوته ما غاب عنه ، فمضى الصحابة رضي‌الله‌عنهم على ما ذكرنا ، ثم خلف بعدهم التابعون الآخرون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدّم ذكرها ، فإنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة ، فكانوا لا يتعدّون فتاويهم إلّا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة ، رضي‌الله‌عنهم ، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما ، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه ، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما ، ثم أتى من بعد التابعين رضي‌الله‌عنهم فقهاء الأمصار ، كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريج بمكة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان البتيّ وسوار بالبصرة ، والأوزاعيّ بالشام ، والليث بن سعد بمصر. فجروا على تلك الطريق من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده ، فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم ، وهو موجود عند غيرهم.

وأما مذاهب أهل مصر : فقال أبو سعيد بن يونس : إن عبيد بن مخمر المغافريّ يكنى أبا أمية ، رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شهد فتح مصر ، روى عنه أبو قبيل. يقال أنه كان أوّل من أقرأ القرآن بمصر. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرميّ كان فقيها عفيفا شريفا ، ولد سنة عشر ومائة ، وكان أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسين ومائة ، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة ، وذكر عن أبي قبيل وغيره أن يزيد بن أبي حبيب أوّل من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام ، وفي رواية ابن يونس ومسائل الفقه ، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدّثون في الفتن والترغيب. وعن عون بن سليمان الحضرميّ قال : كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال ، رجلان من الموالي ورجل من العرب ، فأما العربيّ فجعفر بن ربيعة ، وأما الموليان فيزيد بن

١٤٨

أبي حبيب ، وعبد الله بن أبي جعفر. فكان العرب انكروا ذلك ، فقال عمر بن عبد العزيز : ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون. وعن ابن أبي قديد كانت البيعة إذا جاءت للخليفة أوّل من يبايع عبد الله بن أبي جعفر ويزيد بن أبي حبيب ثم الناس بعد. وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن حيوة بن شريح قال : دخلت على حسين بن شفي بن مانع الأصبحيّ وهو يقول : فعل الله بفلان. فقلت : ما له؟ فقال : عمد إلى كتابين كان شفي سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما ، أحدهما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كذا ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، والآخر ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة ، فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب. قال أبو سعيد بن يونس : يعني بقوله الخولة والرباب مركبين كبيرين من سفن الجسر كانا يكونان عند رأس الجسر مما يلي الفسطاط يجوز من تحتهما لكبرهما المراكب. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق ، أوّل من رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث ، توفي سنة أربع وثمانين ومائة انتهى. وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره ، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبويّ وتقييده ، فكان أوّل من دوّن العلم محمد بن شهاب الزهريّ ، وكان أوّل من صنف وبوّب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة ، ومعمر بن راشد باليمن ، وابن جريج بمكة ، ثم سفيات الثوريّ بالكوفة ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، والوليد بن مسلم بالشام ، وجرير بن عبد الحميد بالريّ ، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان ، وهشيم بن بشير بواسط ، وتفرّد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف ، فوصلت أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البلاد البعيدة إلى من لم تكن عنده ، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها ، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأوّلة من الأحاديث ، وعرف الصحيح من السقيم ، وزيف الاجتهاد المؤدّي إلى خلاف كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى ترك عمله ، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه ، وقيام الحجة عليه ، وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي‌الله‌عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحدة الأيام الكثيرة ، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث ، وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة ، وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى بعد سنة سبعين ومائة ، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلّا من أشار به القاضي أبو يوسف رحمه‌الله ، واعتنى به ، وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه ، وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة ، اختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسيّ ، وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلّا أبوابا ، وحمل عن ابن وهب وعن ابن القاسم وغيره علما كثيرا

١٤٩

وعاد إلى الأندلس ، فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره ، وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه ، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه ، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعيّ ، وقد كان مذهب الإمام مالك أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن الذي يقال له بسطور ، قبل يحيى بن يحيى ، وهو أوّل من أدخل مذهب مالك الأندلس ، وكانت إفريقية الغالب عليها السنن والآثار إلى أن قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسيّ بمذهب أبي حنيفة ، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضي افريقية بمذهب أبي حنيفة ، ثم لما ولي سحنون بن سعيد التنوخيّ قضاء افريقية ، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم ، وكانوا مالكية ، فتوارثوا القضاء كما تتوارث الضياع.

ثم إن المعز بن باديس حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب ، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلهم إلى مذهب مالك إلى اليوم ، رغبة فيما عند السلطان ، وحرصا على طلب الدنيا ، إذ كان القضاء والافتاء جميع تلك المدن وسائر القرى لا يكون إلّا لمن تسمى بالفقه على مذهب مالك ، فاضطرّت العامّة إلى أحكامهم وفتاواهم ، ففشا هذا المذهب هناك فشوّا طبق تلك الأقطار ، كما فشا مذهب أبي حنيفة ببلاد المشرق ، حيث أن أبا حامد الاسفراينيّ لما تمكن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد ، قرّر معه استخلاف أبي العباس أحمد بن محمد البارزيّ الشافعيّ عن أبي محمد بن الأكفانيّ الحنفيّ قاضي بغداد ، فأجيب إليه بغير رضى الأكفانيّ وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية ، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبين ، وقدم بعد ذلك أبو العلاء صاعد بن محمد قاضي نيسابور ورئيس الحنفية بخراسان ، فأتاه الحنفية فثارت بينهم وبين أصحاب أبي حامد فتنة ارتفع أمرها إلى السلطان ، فجمع الخليفة القادر الأشراف والقضاة وأخرج إليهم رسالة تتضمن : أن الاسفراينيّ أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النصح والشفقة والأمانة ، وكانت على أصول الدخل والخيانة ، فلما تبين له أمره ووضح عنده خبث اعتقاده فيما سأل فيه من تقليد البارزيّ الحكم بالحضرة من الفساد والفتنة والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم ، صرف البارزيّ وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه ، وحمل الحنفيين على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز ، وتقدّم إليهم بأن لا يلقوا أبا حامد ولا يقضوا له حقا ولا يردّوا عليه سلاما ، وحلع على أبي محمد الأكفانيّ ، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة ، وظهر التسخط عليه والانحراف عنه وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة واتصل ببلاد الشام ومصر.

١٥٠

أوّل من قدم بعلم مالك : إلى مصر عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى مولى جمح ، وكان فقيها روى عنه الليث وابن وهب ورشيد بن سعد ، وتوفي بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة ، ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم ، فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوفر اصحاب مالك بمصر ، ولم يكن مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله يعرف بمصر. قال ابن يونس : وقدم إسماعيل بن اليسع الكوفيّ قاضيا بعد ابن لهيعة ، وكان من خير قضاتنا ، غير أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة ، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة ، وكان مذهبه إبطال الأحباس ، فثقل أمره على أهل مصر وسئموه ، ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعيّ محمد بن ادريس إلى مصر مع عبد الله بن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة ، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها كبني عبد الحكم والربيع بن سليمان وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ ، وكتبوا عن الشافعيّ ما ألفه ، وعملوا بما ذهب إليه ، ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر.

قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر : ولم يزل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال : ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع ، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها ، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين ، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون. قال : وأمر أن تصلّى التراويح في شهر رمضان خمس تراويح ، ولم يزل أهل مصر يصلون ست تراويح حتى جعلها أرجون خمسا في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين ، ومنع من التثويب ، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد ، وأمر بالتغليس بصلاة الصبح ، وذلك أنهم أسفروا بها ، وما زال مذهب مالك ومذهب الشافعيّ رحمهما‌الله تعالى يعمل بهما أهل مصر ، ويولى القضاء من كان يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله ، إلى أن القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة.

فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة وعمل به في القضاء والفتيا وأنكر ما خالفه ، ولم يبق مذهب سواه ، وقد كان التشيع بأرض مصر معروفا قبل ذلك. قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن عبد الله بن لهيعة أنه قال : قال يزيد بن أبي حبيب : نشأت بمصر وهي علوية ، فقلبتها عثمانية. وكان ابتداء التشيع في الإسلام أن رجلا من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه أسلم ، فقيل له عبد الله بن سبأ ، وعرف بابن

١٥١

السوداء ، وصار ينتقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم ، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ، ونزل البصرة في سنة ثلاث وثلاثين فجعل يطرح على أهلها مسائل ولا يصرّح ، فأقبل عليه جماعة ومالوا إليه وأعجبوا بقوله ، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر وهو يومئذ على البصرة ، فأرسل إليه فلما حضر عنده سأله ما أنت فقال رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال ما شيء بلغني عنك ، أخرج عني. فخرج حتى نزل الكوفة ، فأخرج منها فسار إلى مصر واستقرّ بها وقال في الناس العجب ممن يصدّق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع ، وتحدّث في الرجعة حتى قبلت منه ، فقال بعد ذلك : أنه كان لكل نبيّ وصيّ ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن علي بن أبي طالب وصيه في الخلافة على أمّته ، واعلموا أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق ، فانهضوا في هذا الأمر وابدؤوا بالطعن على أمرائكم ، فأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس ، وبث دعاته وكاتب من مال إليه من أهل الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم ، وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعونها في عيب ولاتهم ، فيكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل المصر الآخر بما يضعون حتى ملوا بذلك الأرض إذاعة ، وجاء إلى أهل المدينة من جميع الأمصار ، فأتوا عثمان رضي‌الله‌عنه في سنة خمسة وثلاثين وأعلموه ما أرسل به أهل الأمصار من شكوى عمالهم ، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة ، وأسامة بن زيد إلى البصرة ، وعمار بن ياسر إلى مصر ، وعبد الله بن عمر إلى الشام ، لكشف سير العمال. فرجعوا إلى عثمان إلّا عمارا وقالوا : ما أنكرنا شيئا. وتأخر عمار فورد الخبر إلى المدينة بأنه قد استماله عبد الله ابن السوداء في جماعة ، فأمر عثمان عماله أن يوافوه بالموسم ، فقدموا عليه واستشاروه ، فكلّ أشار برأي ، ثم قدم المدينة بعد الموسم فكان بينه وبين عليّ بن أبي طالب كلام فيه بعض الجفاء بسبب إعطائه أقاربه ورفعه لهم على من سواهم ، وكان المنحرفون عن عثمان قد تواعدوا يوما يخرجون فيه بأمصارهم إذ سار عنها الأمراء ، فلم يتهيأ لهم الوثوب ، وعند ما رجع الأمراء من الموسم تكاتب المخالفون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون ، وكان أمير مصر من قبل عثمان رضي‌الله‌عنه ، عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ ، فلما خرج في شهر رجب من مصر في سنة خمس وثلاثين استخلف بعده عقبة بن عامر الجهنيّ في قول الليث بن سعد. وقال يزيد بن أبي حبيب : بل استخلف على مصر السائب بن هشام العامريّ وجعل على الخراج سليم بن عنز التجيبيّ ، فانتزى محمد بن أبي حذيفة بن عتية بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف في شوّال من السنة المذكورة ، وأخرج عقبة بن عامر من الفسطاط ، ودعا إلى خلع عثمان رضي‌الله‌عنه ، واسعر البلاد وحرّض على عثمان بكلّ شيء يقدر عليه ، فكان يكتب الكتب على لسان أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا على ظهور البيوت ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم

١٥٢

تلويح المسافر ، ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق المدينة بمصر ، ثم يرسلون رسلا يخبرون بهم الناس ليلقوهم ، وقد أمرهم إذا لقيهم الناس أن يقولوا ليس عندنا خبر الخبر في الكتب ، فيجيء رسول أولئك الذين دس فيذكر مكانهم فيتلقاهم ابن أبي حذيفة والناس يقولون : نتلقى رسل أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا لقوهم قالوا لهم ما الخبر؟ قالوا : لا خبر عندنا ، عليكم بالمسجد ليقرأ عليكم كتاب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجتمع الناس في المسجد اجتماعا ليس فيه تقصير ، ثم يقوم القارئ بالكتاب فيقول : إنا نشكو إلى الله وإليكم ما عمل في الإسلام وما صنع في الإسلام ، فيقوم أولئك الشيوخ من نواحي المسجد بالبكاء فيبكون ، ثم ينزل عن المنبر ويتفرّق الناس بما قريء عليهم.

فلما رأت ذلك شيعة عثمان رضي‌الله‌عنه اعتزلوا محمد بن أبي حذيقة ونابذوه ، وهم معاوية بن خديج ، وخارجة بن حذاقة ، وبسر بن أرطاة ، ومسلمة بن مخلد ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ ، ومقسم بن بجرة ، وحمزة بن سرح بن كلال ، وأبو الكنود سعد بن مالك الأزديّ ، وخالد بن ثابت الفهميّ ، في جمع كثير وبعثوا سلمة بن مخزمة التجيبيّ إلى عثمان ليخبره بأمرهم وبصنيع ابن أبي حذيفة ، فبعث عثمان رضي‌الله‌عنه سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم ، فبلغ ذلك ابن أبي حذيفة فخطب الناس وقال : ألا إن الكذا والكذا قد بعث إليكم سعد بن مالك ليقلّ جماعتكم ويشتت كلمتكم ويوقع التجادل بينكم ، فانفروا إليه ، فخرج منهم مائة أو نحوها ، وقد ضرب فسطاطه وهو قائل : فقلبوا عليه فسطاطه وشجوه وسبوه ، فركب راحلته وعاد راجعا من حيث جاء. وقال: ضربكم الله بالذلّ والفرقة ، وشتت أمركم ، وجعل بأسكم بينكم ، ولا أرضاكم بأمير ، ولا أرضاه عنكم. وأقبل عبد الله بن سعد حتى بلغ جسر القلزم ، فإذا بخيل لابن أبي حذيفة ، فمنعوه أن يدخل فقال : ويلكم دعوني أدخل على جندي فأعلمهم بما جئت به ، فإني قد جئتهم بخير. فأبوا أن يدعوه فقال : والله لوددت أني دخلت عليهم وأعلمتهم بما جئت به ثم مت ، فانصرف إلى عسقلان. وأجمع محمد بن أبي حذيفة على بعث جيش إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فقال : من يتشرّط في هذا البعث؟ فكثر عليه من يشترط. فقال : إنما يكفينا منكم ستمائة رجل ، فشرّط من أهل مصر ستمائة رجل على كل مائة منهم رئيس وعلى جماعتهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ ، وهم كنانة بن بشر بن سليمان التجيبيّ ، وعروة بن سليم الليثيّ ، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ ، وسودان بن ريان الأصبحيّ ، وذرع بن يشكر النافعيّ ، وسجن رجال من أهل مصر في دورهم منهم : فلما بلغ ذلك كنانة بن بشر وكان رأس الشيعة الأولى ، دفع عن معاوية ما كره ، ثم قتل عثمان رضي‌الله‌عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، فدخل الركب إلى مصر وهم يرتجزون :

خذها إليك وأحذرنّ أبا الحسن

١٥٣

إنا نمرّ الحرب إمرار الوسن

بالسيف كي تخمد نيران الفتن

فلما دخلوا المسجد صاحوا إنا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله. فلما رأى ذلك شيعة عثمان قاموا وعقدوا لمعاوية بن خديج عليهم وبايعوه على الطلب بدم عثمان ، فسار بهم معاوية إلى الصعيد ، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة فالتقوا بدقناس من كورة البهنسا فهزم أصحاب ابن أبي حذيفة ، ومضى معاوية حتى بلغ برقة ، ثم رجع إلى الاسكندرية فبعث ابن أبي حذيفة بحيش آخر عليهم قيس بن حرمل فاقتتلوا بخربتا أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين ، فقتل قيس وسار معاوية بن أبي سفيان إلى مصر ، فنزل سلمنت من كورة عين شمس في شوّال ، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر ، فمنعوه أن يدخلها ، فبعث إليه معاوية إنّا لا نريد قتال أحد إنما جئنا نسأل القود لعثمان ، ادفعوا إلينا قاتليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر ، وهما رأس القوم ، فامتنع ابن أبي حذيفة وقال لو طلبت منا جديا أرطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك. فقال معاوية بن أبي سفيان لابن أبي حذيفة : اجعل بيننا وبينكم رهنا ، فلا يكون بيننا وبينكم حرب. فقال ابن أبي حذيفة : فإني أرضى بذلك ، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة وخرج في الرهن ، هو وابن عيسى. وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة وغيرهم من قتلة عثمان ، فلما بلغوا لدّ سجنهم بها معاوية وسار إلى دمشق ، فهربوا من السجن ، غير أبي شمر بن أبرهة فإنه قال : لا أدخله أسيرا وأخرج منه آبقا ، وتبعهم صاحب فلسطين فقتلهم ، واتبع عبد الرحمن بن عديس رجل من الفرس فقال له عبد الرحمن بن عديس : اتق الله في دمي فإني بايعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، فقال له : الشجر في الصحراء كثير فقتله.

وقال محمد بن أبي حذيفة في الليلة التي قتل في صباحها عثمان : فإن يكن القصاص لعثمان فسنقتل من الغد ، فقتل من الغد ، وكان قتل ابن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر ومن كان معهم من الرهن في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. فلما بلغ عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه مصاب بن أبي حذيفة ، بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ على مصر وجمع له الخراج والصلاة ، فدخلها مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين ، واستمال الخارجية بخربتا ودفع إليهم أعطياتهم ، ووفد عليه وفدهم فأكرمهم وأحسن إليهم ، ومصر يومئذ من جيش عليّ رضي‌الله‌عنه إلّا أهل خربتا الخارجين بها. فلما ولي علي رضي‌الله‌عنه قيس بن سعد ، وكان من ذوي الرأي ، جهد معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها ، فامتنع عليهما بالدهاء والمكايدة ، فلم يقدرا على أن يلجأ مصر حتى كان معاوية قيسا من قبل عليّ رضي‌الله‌عنه ، فكان معاوية يحدّث رجالا من ذوي رأي قريش فيقول : ما ابتدعت من مكايدة قط أعجب إليّ من مكايدة كدت بها قيس بن سعد حين امتنع مني ، قلت لأهل الشام لا تسبوا قيسا ولا

١٥٤

تدعوا إلى غزوة ، فإن قيسا لنا شيعة تأتينا كتبه ونصيحته سرّا ، ألا ترون ما ذا يفعل بإخوانكم النازلين عنده بخربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويؤمّن سربهم ويحسن إلى كل راكب يأتيه منهم. قال معاوية : وطفقت أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق ، فسمع بذلك جواسيس عليّ بالعراق فأنهاه إليه محمد بن أبي بكر ، وعبد الله بن جعفر ، فاتّهم قيسا فكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وبخربتا يومئذ عشرة آلاف ، فأبى قيس أن يقاتلهم وكتب إلى عليّ رضي‌الله‌عنه أنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم ، وأهل الحفاظ منهم ، وقد رضوا مني بأن أو من سربهم واجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست بكائدهم بأمر أهون عليّ وعليك من الذي أفعل بهم ، وهم أسود العرب ، منهم بسر بن أرطاة ، وسلمة بن مخلد ، ومعاوية بن خديج. فأبى عليه إلّا قتالهم ، فأبى قيس أن يقاتلهم. وكتب إلى عليّ رضي‌الله‌عنه ، إن كنت تهتمني فاعزلني وابعث غيري. وكتب معاوية رضي‌الله‌عنه إلى بعض بني أمية بالمدينة : أن جرى الله قيس بن سعد خيرا فإنه قد كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان ، واكتموا ذلك فإنني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا ، حتى بلغ عليا رضي‌الله‌عنه ذلك فقال : من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة بدّل قيس وتحوّل. فقال عليّ ويحكم إنه لم يفعل فدعوني. قالوا : لتعزلنه ، فإنه قد بدّل. فلم يزالوا به حتى كتب إليه إني قد احتجت إلى قربك ، فاستخلف على عملك واقدم. فلما قرأ الكتاب قال : هذا من مكر معاوية ، ولو لا الكذب لمكرت به مكرا يدخل عليه بيته ، فوليها قيس بن سعد إلى أن عزل عنها أربعة أشهر وخمسة أيام ، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين ، ثم وليها الاشتر مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وذلك أن عبد الله بن جعفر كان إذا أراد أن لا يمنعه عليّ شيئا قال له بحق جعفر. فقال له أسألك بحق جعفر الا بعثت الاشتر إلى مصر ، فإن ظهرت فهو الذي تحب وإلّا استرحت منه. ويقال : كان الأشتر قد ثقل على عليّ رضي‌الله‌عنه وأبغضه وقلاه فولاه وبعثه ، فلما قدم مصر لقي بما يلقي العمال به هناك ، فشرب شربة عسل فمات. فلما أخبر عليّ بذلك قال لليدين وللفم ، وسمع عمرو بن العاص بموت الأشتر فقال : إن لله جنودا من عسل. أو قال إنّ لله جنودا من العسل.

ثم وليها محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي‌الله‌عنهم ، وجمع له صلاتها وخراجها ، فدخلها للنصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ، فلقيه قيس بن سعد فقال له : إنه لا يمنعني نصحي لك عزله إيايّ ، ولقد عزلني عن غير وهن ولا عجز ، فاحفظ ما أوصيك به. يدم صلاح حالك : دع معاوية بن خديج ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة ومن ضوى إليهم على ما هم عليه ، لا تكفهم عن رأيهم ، فإن أتوك ولم يفعلوا فاقبلهم ، وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم ، وانظر هذا الحيّ من مضر ، فأنت أولى بهم مني ، فألن لهم

١٥٥

جناحك وقرّب عليهم مكانك وارفع عنهم حجابك ، وانظر هذا الحيّ من مدلج ، فدعهم وما غلبوا عليه يكفوا عنك شأنهم ، وأنزل الناس من بعد على قدر منازلهم ، فإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل ، فإنّ هذا لا ينقصك ولن تفعل ، إنك والله ما علمت لتظهر الخيلاء وتحب الرياسة وتسارع إلى ما هو ساقط عنك ، والله موفقك. فعمل محمد بخلاف ما أوصاه به قيس ، فبعث إلى ابن خديج والخارجة معه يدعوهم إلى بيعته ، فلم يجيبوه. فبعث إلى دور الخارجة فهدمها ونهب أموالهم وسجن ذراريهم فنصبوا له الحرب وهموا بالنهوض إليه. فلما علم أنه لا قوّة له بهم أمسك عنهم ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية ، وأن ينصب لهم جسر انتقيوس يجوزون عليه ولا يدخلون الفسطاط ، ففعلوا ولحقوا بمعاوية.

فلما أجمع عليّ رضي‌الله‌عنه ومعاوية على الحكمين أغفل عليّ أن يشترط على معاوية أن لا يقاتل أهل مصر. فلما انصرف عليّ إلى العراق بعث معاوية رضي‌الله‌عنه عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه في جيوش أهل الشام إلى مصر ، فاقتتلوا قتالا شديدا انهزم فيه أهل مصر ، ودخل عمرو بأهل الشام الفسطاط ، وتغيب محمد بن أبي بكر ، فأقبل معاوية بن خديج في رهط ممن يعينه على من كان يمشي في قتل عثمان ، وطلب ابن أبي بكر فدلتهم عليه امرأة. فقال : احفظوني في أبي بكر ، فقال معاوية بن خديج : قتلت ثمانين رجلا من قومي في عثمان ، وأتركك وأنت صاحبه؟ فقتله ثم جعله في جيفة حمار ميت ، فأحرقه بالنار ، فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر ، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين. ثم ولي عمرو بن العاص مصر من بعده ، فاستقبل بولايته هذه الثانية شهر ربيع الأوّل ، وجعل إليه الصلاة والخراج ، وكانت مصر قد جعلها معاوية له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة على مصلحتها ، ثم خرج إلى الحكومة واستخلف على مصر ابنه عبد الله بن عمرو ، وقتل خارجة بن حذافة ورجع عمرو إلى مصر فأقام بها ، وتعاقد بنو ملجم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ رضي‌الله‌عنه وعمرو ومعاوية رضي‌الله‌عنهما ، وتواعدوا على ليلة من رمضان سنة أربعين ، فمضى كل منهم إلى صاحبه ، فلما قتل عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه واستقرّ الأمر لمعاوية كانت مصر جندها وأهل شوكتها عثمانية ، وكثير من أهلها علوية. فلما مات معاوية ومات ابنه يزيد بن معاوية كان على مصر سعيد بن يزيد الأزديّ على صلاتها ، فلم يزل أهل مصر على الشنان له ، والإعراض عنه ، والتكبر عليه ، منذ ولاه يزيد بن معاوية حتى مات يزيد في سنة أربع وستين. ودعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه ، فقامت الخوارج بمصر في أمره ، وأظهروا دعوته كانوا يحسبونه على مذهبهم ، وأوفدوا منهم وفدا إليه ، فسار منهم نحو الألفين من مصر وسألوه أن يبعث إليهم بأمير يقومون معه ويوازرونه ، وكان كريب بن أبرهة الصباح وغيره من أشراف مصر يقولون : ما ذا نرى من العجب أن هذه الطائفة المكتتمة تأمر فينا وتنهي ونحن لا نستطيع أن

١٥٦

نردّ أمرهم ، ولحق بابن الزبير ناس كثير من أهل مصر ، وكان أوّل من قدم مصر برأي الخوارج حجر بن الحارث بن قيس المذحجيّ ، وقيل حجر بن عمرو ، ويكنى بأبي الورد ، وشهد مع عليّ صفين ، ثم صار من الخوارج وحضر مع الحرورية النهروان ، فخرج وصار إلى مصر برأي الخوارج وأقام بها حتى خرج منها إلى ابن الزبير في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ على مصر. فلما مات يزيد بن معاوية وبويع ابن الزبير بعده بالخلافة ، بعث إلى مصر بعبد الرحمن بن جحدم الفهريّ ، فقدمها في طائفة من الخوارج فوثبوا على سعيد بن يزيد فاعتزلهم ، واستمرّ ابن جحدم ، وكثرت الخوارج بمصر منها وممن قدم من مكة ، فأظهروا في مصر التحكيم ودعوا إليه ، فاستعظم الجند ذلك وبايعه الناس على غلّ في قلوب ناس من شيعة بني أمية ، منهم كريب بن أبرهة ، ومقسم بن بجرة ، وزياد بن حناطة التجيبيّ ، وعابس بن سعيد وغيرهم ، فصار أهل مصر حينئذ ثلاث طوائف ، علوية وعثمانية وخوارج. فلما بويع مروان بن الحكم بالشام في ذي القعدة سنة أربع وستين كانت شيعته من أهل مصر مع ابن جحدم ، فكاتبوه سرّا حتى أتى مصر في أشراف كثيرة ، وبعث ابنه عبد العزيز بن مروان في جيش إلى إيلة ليدخل من هناك مصر ، وأجمع ابن جحدم على حربه ومنعه ، فحفر الخندق في شهر ، وهو الخندق الذي بالقرافة ، وبعث بمراكب في البحر ليخالف إلى عيالات أهل الشام ، وقطع بعثا في البرّ وجهز جيشا آخر إلى إيلة لمنع عبد العزيز من المسير منها ، فغرقت المراكب ونجا بعضها وانهزمت الجيوش ونزل مروان عين شمس ، فخرج إليه ابن جحدم في أهل مصر ، فتحاربوا واستجرّ القتل فقتل من الفريقين خلق كثير ، ثم إن كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد وزياد بن حناطة وعبد الرحمن بن موهب المغافريّ دخلوا في الصلح بين أهل مصر وبين مروان ، فتم ودخل مروان إلى الفسطاط لغرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين ، فكانت ولاية ابن جحدم تسعة أشهر ، ووضع العطاء فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا لا نخلع بيعة ابن الزبير ، فقتل منهم ثمانين رجلا ، قدّمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم وهم يقولون إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين ، فلم نكن لننكث بيعته ، وضرب عنق الأكدر بن حمام بن عامر سيد لخم وشيخها ، وحضر هو وأبوه فتح مصر ، وكانا ممن ثار إلى عثمان رضي‌الله‌عنه ، فتنادى الجند قتل الأكدر ، فلم يبق أحد حتى لبس سلاحه ، فحضر باب مروان منهم زيادة على ثلاثين ألفا ، وخشي مروان وأغلق بابه حتى أتاه كريب بن أبرهة وألقى عليه رداءه وقال للجند : انصرفوا أنا له جار ، فما عطف أحد منهم وانصرفوا إلى منازلهم ، وكان للنصف من جمادى الآخرة ، ويومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص ، فلم يستطع أحد أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان ، ومن حينئذ غلبت العثمانية على مصر فتظاهروا فيها بسب عليّ رضي‌الله‌عنه ، وانكفت السنة العلوية والخوارج.

فلما كانت ولاية قرّة بن شريك العبسيّ على مصر من قبل الوليد بن عبد الملك في

١٥٧

سنة تسعين ، خرج إلى الإسكندرية في سنة إحدى وتسعين ، فتعاقدت السراة من الخوارج بالإسكندرية على الفتك به ، وكانت عدّتهم نحوا من مائة ، فعقدوا لرئيسهم المهاجر بن أبي المثنى التجيبيّ ، أحد بني (١) فهم عليهم عند منارة الإسكندرية وبالقرب منهم رجل يكنى أبا سليمان ، فبلغ قرّة ما عزموا عليه ، فأتى لهم قبل أن يتفرّقوا فأمر بحبسهم في أصل منارة الإسكندرية ، وأحضر قرّة وجوه الجند فسألهم فأقرّوا فقتلهم ، ومضى رجل ممن كان يرى رأيهم إلى أبي سليمان فقتله ، فكان يزيد بن أبي حبيب إذا أراد أن يتكلم بشيء فيه تقية من السلطان تلفت وقال : احذروا أبا سليمان ، ثم قال الناس كلهم من ذلك اليوم أبو سليمان. فلما قام عبد الله بن يحيى الملقب بطالب الحق في الحجاز على مروان بن محمد الجعديّ ، قدم إلى مصر داعيته ودعا الناس فبايع له ناس من تجيب وغيرهم ، فبلغ ذلك حسان بن عتاهية صاحب الشرطة فاستخرجهم ، فقتلهم حوثرة بن سهيل الباهليّ أمير مصر من قبل مروان بن محمد ، فلما قتل مروان وانقضت أيام بني أمية ببني العباس في سنة ثلاث وثلاثين ومائة ، خمدت جمرة أصحاب المذهب المروانيّ وهم الذين كانوا يسبون عليّ بن أبي طالب ويتبرّؤون منه ، وصاروا منذ ظهر بنو العباس يخافون القتل ويخشون أن يطلع عليهم أحد إلّا طائفة كانت بناحية الواحات وغيرها ، فإنهم أقاموا على مذهب المروانية دهرا حتى فنوا ، ولم يبق لهم الآن بديار مصر وجود البتة.

فلما كان في إمارة حميد بن قحطبة على مصر من قبل أبي جعفر المنصور ، قدم إلى مصر عليّ بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب داعية لأبيه وعمه ، فذكر ذلك لحميد فقال : هذا كذب ، ودسّ إليه أن تغيّب ، ثم بعث إليه من الغد فلم يجده ، فكتب بذلك إلى أبي جعفر المنصور فعزل حميدا وسخط عليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين ومائة ، وولى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة ، فظهرت دعوة بني حسن بن عليّ بمصر ، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله ، وهو أوّل علويّ قدم مصر ، وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن ربيعة بن حبيش الصدفيّ ، وكان جدّه ربيعة بن حبيش من خاصة عليّ بن أبي طالب وشيعته ، وحضر الدار في قتل عثمان رضي‌الله‌عنه ، فاستشار خالد أصحابه الذين بايعوا له ، فأشار عليهم بعضهم أن يبيت يزيد بن حاتم في العسكر ، وكان الأمراء قد صاروا منذ قدمت عساكر بني العباس ينزلون في العسكر الذي بني خارج الفسطاط من شماليه ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، وأشار عليه آخرون أن لا يحوز بيت المال ، وأن يكون خروجهم في الجامع ، فكره خالد أن يبيت يزيد بن حاتم ، وخشي على اليمانية ، وخرج منهم رجل قد شهد أمرهم حتى أتى إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج وهو يومئذ على الفسطاط ، فخبّره أنهم

__________________

(١) أحد بني ... «لم يقل بني من».

١٥٨

الليلة يخرجون ، فمضى عبد الله إلى يزيد بن حاتم وهو بالعسكر ، فكان من أمرهم ما كان لعشر من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة ، فانهزموا. ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين في ذي الحجة من السنة المذكورة إلى مصر ونصبوه في المسجد الجامع ، وقامت الخطباء فذكروا أمره ، وحمل عليّ بن محمد إلى أبي جعفر المنصور وقيل إنه اختفى عند عسامة بن عمرو بقرية طره ، فمرض بها ومات فقبر هناك ، وحمل عسامة إلى العراق فحبس إلى أن ردّه المهديّ محمد بن أبي جعفر إلى مصر ، وما زالت شيعة عليّ بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق ، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختليّ أمير مصر وفرّق فيهم الأموال ليتجملوا بها ، وأعطى كل رجل ثلاثين دينارا ، والمرأة خمسة عشر دينارا ، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين ، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوّال منها ، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية ، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه ، فزاده ثلاثين درة ، ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل ، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجنديّ مائة سوط ، فضربها وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوّال سنة ثلاث وأربعين ومائتين ، وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق ، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، أنه بويع له ، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقرّ على جمع من الناس بايعوه ، فضرب بعضهم بالسياط ، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب إلى العراق في شهر رمضان.

ومات المتوكل في شوّال ، فقام من بعده ابنه محمد المستنصر ، فورد كتابه إلى مصر بأن لا يقبل علويّ ضيعة ، ولا يركب فرسا ، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها ، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلّا العبد الواحد ، ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة ، وكتب إلى العمال بذلك ، ومات المستنصر في ربيع الآخر ، وقام المستعين ، فأخرج يزيد ستة رجال من الطالبيين إلى العراق في رمضان سنة خمسين ومائتين ، ثم أخرج ثمانية منهم في رجب سنة إحدى وخمسين ، وخرج جابر بن الوليد المدلجيّ بأرض الإسكندرية في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ، واجتمع إليه كثير من بني مدلج فبعث إليه محمد بن عبيد الله بن يزيد بجيش من الإسكندرية فهزمهم وظفر بما معهم ، وقوي أمره وأتاه الناس من كلّ ناحية ، وضوى إليه كل من يومي إليه بشدّة ونجدة ، فكان ممن أتاه عبد الله المريسيّ وكان لصا خبيثا ، ولحق به جريج النصرانيّ وكان من شرار النصارى. وأولي بأسهم ، ولحق به أبو حرملة فرج النوبيّ وكان فاتكا فعقد له جابر على سنهور وسخا وشرقيون وبنا ، فمضى أبو حرملة في جيش عظيم ، فأخرج العمال وجبى الخراج ولحق به عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن

١٥٩

محمد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي يقال له ابن الأرقط ، فقوّده أبو حرملة وضم إليه الأعراب وولاه بنا وبوصير وسمنود ، فبعث يزيد أمير مصر بجمع من الأتراك في جمادى الآخرة فقاتلهم ابن الأرقط وقتل منهم ، ثم ثبتوا له فانهزم وقتل من أصحابه كثير وأسر منهم كثير ، ولحق ابن الأرقط بأبي حرملة في شرقيون فصار إلى عسكر يزيد فانهزم أبو حرملة. وقدم مزاحم بن خاقان من العراق في جيش ، فحارب أبا حرملة حتى أسر في رمضان ، واستأمن ابن الأرقط ، فأخذ وأخرج إلى العراق في ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين ففرّ منهم ، ثم ظفر به وحبس ، ثم حمل إلى العراق في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين بكتاب ورد على أحمد بن طولون ، ومات أبو حرملة في السجن لأربع بقين من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين ، وأخذ جابر بعد حروب وحمل إلى العراق في رجب سنة أربع وخمسين ، وخرج في إمرة أرجون التركيّ رجل من العلويين يقال له بغا الأكبر ، وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسين بن عليّ بالصعيد ، فحاربه أصحاب أرجون وفرّ منهم فمات ، ثم خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين الإسكندرية وبرقة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين ، والأمير يومئذ أحمد بن طولون ، وسار في جمع إلى الصعيد فقتل في الحرب وأتي برأسه إلى الفسطاط في شعبان وخرج ابن الصوفيّ العلويّ بالصعيد وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب ، ودخل اسنا في ذي القعدة سنة خمس وخمسين ، ونهبها وقتل أهلها ، فبعث إليه ابن طولون بجيش فحاربوه فهزمهم في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين بهو ، فبعث ابن طولون إليه بجيش آخر فالتقيا بأخميم في ربيع الآخر فانهزم ابن الصوفيّ وترك جميع ما معه وقتلت رجالته ، فأقام ابن الصوفيّ بالواح سنتين ثم خرج إلى الأشمونين في المحرّم سنة تسع وخمسين وسار إلى أسوان لمحاربة أبي عبد الرحمن العمريّ ، فظفر به العمريّ وبجميع جيشه وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ولحق ابن الصوفيّ بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة ، فبعث إليه ابن طولون بعثا فاضطرب أمره مع أصحابه فتركهم ومضى إلى عيذاب ، فركب البحر إلى مكة فقبض عليه بها وحمل إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فصار إلى المدينة ومات بها.

وفي إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون أنكر رجل من أهل مصر أن يكون أحد خيّرا من أهل البيت ، فوثبت إليه العامّة فضرب بالسياط يوم الجمعة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين. وفي إمارة ذكا الأعور على مصر كتب على أبواب الجامع العتيق ذكر الصحابة والقرآن فرضيه جمع من الناس وكرهه آخرون ، فاجتمع الناس في رمضان سنة خمس وثلاثمائة إلى دار ذكا يتشكرونه على ما أذن لهم فيه ، فوثب الجند بالناس فنهب قوم وجرح آخرون ومحي ما كتب على أبواب الجامع ، ونهب الناس في المسجد والأسواق ، وأفطر الجند يومئذ وما زال أمر الشيعة يقوى بمصر إلى أن دخلت سنة خمسين

١٦٠