كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٤

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦١

فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلى القلعة وتفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ عليهم ، واستخراج ثمنه ، فللحال حضر المذكورون وبيع عليهم ذلك فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف درهم نقرة ، وهذا مهمّ واحد من ألوف مع الذي كان له من المعاليم والجرايات ومنافع المطبخ. ويقال أنه كان يتحصل له من المطبخ السلطاني في كل يوم على الدوام والاستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة ، ولولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة ، فلما تحدّث النشو في الدولة خرّج عليه تخاريج وأغرى به السلطان ، فلم يسمع فيه كلاما ، وما زال على حاله إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده أولاده الملك المنصور أبو بكر ، والملك الأشرف كجك ، والملك الناصر أحمد ، والملك الصالح إسماعيل ، والملك الكامل شعبان ، فصادره في سنة ست وأربعين وسبعمائة ، وأخذ منه مالا كثيرا ، ومما وجد له خمس وعشرون دارا مشرفة على النيل وغيره ، فتفرقت حواشي الملك الكامل أملامه ، فأخذت أم السلطان ملكه الذي كان على البحر ، وكانت دارا عظيمة جدّا ، وأخذت أنقاض داره التي بالمحمودية من القاهرة وأقيم عوضه بالمطبخ السلطانيّ وضرب ابنه أحمد.

جامع الأسيوطيّ

هذا الجامع بطرف جزيرة الفيل مما يلي ناحية بولاق ، كان موضعه في القديم غامرا بماء النيل ، فلما انحسر عن جزيرة الفيل وعمرت ناحية بولاق ، أنشأ هذا الجامع القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر السيوطيّ ناظر بيت المال ، ومات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، ثم جدّد عمارته بعد ما تهدّم وزاد فيه ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزيّ الحمويّ كاتب السرّ ، وأجرى فيه الماء وأقام فيه الخطبة يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ، فجاء في أحسن هندام وأبدع زيّ ، وصلّى فيه السلطان الملك المؤيد شيخ الجمعة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.

جامع الملك الناصر حسن

هذا الجامع يعرف بمدرسة السلطان حسن ، وهو تجاه قلعة الجبل فيما بين القلعة وبركة الفيل ، وكان موضعه بيت الأمير يلبغا اليحياوي الذي تقدّم ذكره عند ذكر الدور ، وابتدأ السلطان عمارته في سنة سبع وخمسين وسبعمائة ، وأوسع دوره وعمله في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل ، فلا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع ، أقامت العمارة فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا ، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم ، عنها نحو ألف مثقال ذهبا. ولقد أخبرني الطواشي مقبل الشاميّ : أنه سمع السلطان حسنا يقول : انصرف على القالب الذي بني عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة ، وهذا القالب مما رمي على الكيمان بعد فراغ العقد المذكور.

١٢١

قال : وسمعت السلطان يقول لولا أن يقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه ، وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها : أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها ، ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع ، ومنه القبلة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها ، ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له ، ومنها البوّابة العظيمة ، ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك. وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع مناير يؤذن عليها ، فتمت ثلاث مناير إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة ، فسقطت المنارة التي على الباب ، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام ، وسلّم من الأيتام ستة أطفال ، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها ، وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم ، ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة ، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن عليّ بن محمد السبكيّ في سقوطها :

أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى

بشيره بمقال سار كالمثل

إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة

لكن لسرّ خفيّ قد تبيّن لي

من تحتها قرىء القرآن فاستمعت

فالوجد في الحال أدّها إلى الميل

لو أنزل الله قرآنا على جبل

تصدّعت رأسه من شدّة الوجل

تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت

من خشية الله لا للضعف والخلل

وغاب سلطانها فاستوحشت ورمت

بنفسها لجوى في القلب مشتعل

فالحمد لله حظّ العين زال بما

قد كان قدّره الرحمن في الأزل

لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة

شيدت بنيانها بالعلم والعمل

ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت

علما فليس بمصر غير مشتغل

فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما ، ومات السلطان قبل أن يتم رخام هذا الجامع ، فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار ، وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافا عظيمة جدّا ، فلم يترك منها إلّا شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم ، وصار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل ، قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلّا ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة ، فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت الدرج التي كان يصعد منها إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء ، ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يرمى منه على القلعة ، وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع ، حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع ، وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله ، وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع

١٢٢

ليتوصل منه إلى داخل الجامع عوضا عن الباب المسدود ، فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة ، وامتنع صعود المؤذنين إلى المنارتين ، وبقي الأذان على درج هذا الباب ، وكان ابتداء هدم ما ذكر في يوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ، ثم لما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في عمارة الجامع بجوار باب زويلة اشترى هذا الباب النحاس والتنور النحاس الذي كان معلقا هناك بخمسمائة دينار ، ونقلا في يوم الخميس سابع عشري شوّال سنة تسع عشرة وثمانمائة ، فركب الباب على البوّابة وعلق التنور تجاه المحراب ، فلما كان في يوم الخميس تاسع شهر رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة ، أعيد الأذان في المئذنتين كما كان ، وأعيد بناء الدرج والبسطة ، وركب باب بدل الباب الذي أخذه المؤيد ، واستمرّ الأمر على ذلك.

الملك الناصر أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاون : جلس على تخت الملك وعمره ثلاث عشرة سنة في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بعد أخيه الملك المظفر حاجي ، وأركب من باب الستارة بقلعة الجبل وعليه شعار السلطنة وفي ركابه الأمراء إلى أن نزل بالإيوان السلطانيّ ، ومدبر والدولة يومئذ الأمير يلبغاروس ، والأمير ألجيبغا المظفريّ ، والأمير شيخو ، والأمير طاز ، وأحمد شادّ الشرابخاناه ، وأرغون الإسماعيليّ فخلع على يلبغاروس واستقرّ في نيابة السلطنة بديار مصر ، عوضا عن الحاج أرقطاي ، وقرّر أرقطاي في نيابة السلطنة بحلب ، وخلع على الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ واستقرّ في الوزارة والاستادارية ، وقرر الأمير أرغون شاه في نيابة السلطنة بدمشق.

فلما دخلت سنة تسع وأربعين ، كثر انكشاف الأراضي من ماء النيل بالبرّ الشرقيّ فيما يلي بولاق إلى مصر ، فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما يلي الجيزة ، وفوّض ذلك للأمير منجك ، فجمع مالا كثيرا وأنفقه على ذلك ، فلم يفد ، فقبض على منجك في ربيع الأوّل ، وحدث الوباء العظيم في هذه السنة ، وأخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنيابة صفد ، وألجيبغا لنيابة طرابلس ، فاستمرّ أجليبغا بها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين ، فركب إلى دمشق وقتل أرغون شاه بغير مرسوم ، فأنكر عليه وأمسك وقتل بدمشق. وفي سنة إحدى وخمسين سار من دمشق عسكر عدّته أربعة آلاف فارس ، ومن حلب ألفا فارس إلى مدينة سنجار ، ومعهم عدّة كثيرة من التركمان ، فحصروها مدّة حتى طلب أهلها الأمان ، ثم عادوا. وترشد السلطان واستبدّ بأمره وقبض على منحك ويلبغاروس ، وقبض بمكة على الملك المجاهد صاحب اليمن ، وقيد وحمل إلى القاهرة ، فأطلق ثم سجن بقلعة الكرك.

فلما كان يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة ركب الأمراء على السلطان وهم : طاز وإخوته ويبلغا الشمسيّ ، ويبغوا ، ووقفوا تحت القلعة وصعد الأمير طاز وهو لابس إلى القلعة في عدّة وافرة ، وقبض على السلطان وسجنه بالدور ، فكانت مدّة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر ، وأقيم بدله أخوه الملك الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعا على الاشتغال

١٢٣

بالعلم ، وكتب بخطه نسخة من كتاب دلائل النبوّة للبيهقيّ إلى يوم الاثنين ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، فأقامه الأمير شيخو العمريّ في السلطنة ، وقبض على الصالح ، وكانت مدّة سجنه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما ، فرسم بإمساك الأمير طاز وإخراجه لنيابة حلب. وفي ربيع الأول سنة سبع وخمين هبت ريح عاصفة من ناحية الغرب من أوّل النهار إلى آخر الليل ، اصفرّ منها الجوّ ، ثم احمرّ ، ثم اسودّ فتلف منها شيء كثير. وفي شعبان سنة تسع وخمسين ضرب الأمير شيخو بعض المماليك بسيف فلم يزل عليلا حتى مات. وفي سنة تسع وخمسين كان ضرب الفلوس الجدد ، فعمل كلّ فلس زنة مثقال ، وقبض على الأمير طاز نائب حلب وسجن بالإسكندرية ، وقرّر مكانه في نيابة حلب الأمير منجك اليوسفيّ ، وأمسك الأمير صرغتمش في شهر رمضان منها ، وكانت حرب بين مماليكه ومماليك السلطان ، انتصر فيها المماليك السلطانية ، وقبض على عدّة أمراء ، فأنعم السلطان على مملوكه يلبغا العمريّ الخاصكيّ بتقدمة ألف عوضا عن تنكر بغا الماردانيّ أمير مجلس بحكم وفاته. وفي سنة ستين فرّ منجك من حلب ، فلم يوقف له على خبر ، فأقرّ على نيابة حلب الأمير بيدمر الخوارزميّ ، وسار لغزو سيس فأخذ أدنه بأمان وأخذ طرسوس والمصيصة وعدّة بلاد وأقام بها نوّابا وعاد ، فلما كانت سنة اثنتين وستين عدّى السلطان إلى برّ الجيزة وأقام بناحية كوم برا مدّة طويلة لوباء كان بالقاهرة ، فتنكر الحال بينه وبني الأمير يلبغا إلى ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى ، فركب السلطان في جماعة ليكبس على الأمير يلبغا ، وكان قد أحسن بذلك وخرج عن الخيام وكمن بمكان وهو لابس في جماعته ، فلم يظفر السلطان به ، ورجع فثار به يلبغا فانكسر بمن معه وفرّ يريد قلعة الجبل ، فتبعه يلبغا وقد انضم إليه جمع كثير ، ودخل السلطان إلى القلعة فلم يثبت ، وركب معه أيدمر الدوادار ليتوجه إلى بلاد الشام ، ونزل إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشيّ أمير حاجب ، فبعث في الحال إلى الأمير يبلغا يعلمه بمجيء السلطان إليه ، فبعث من قبضه هو والأمير أيدمر ، ومن حينئذ لم يوقف له على خبر البتة مع كثرة فحص أتباعه وحواشيه عن قبره وما آل إليه أمره ، فكانت مدّة ولايته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وأياما ، وكان ملكا حازما مهابا شجاعا صاحب حرمة وافرة وكلمة نافذة ودين متين ، حلف غير مرّة أنه ما لاط ولا شرب خمرا ولا زنى ، إلّا أنه كان يبخل ويعجب بالنساء ، ولا يكاد يصبر عنهنّ ، ويبالغ في إعطائهنّ المال ، وعادى في دولته أقباط مصر ، وقصد اجتثات أصلهم ، وكره المماليك ، وشرع في إقامة أولاد الناس أمراء ، وترك عشرة بنين وست بنات ، وكان أشقر أنمش ، وقتل وله من العمر بضع وعشرون سنة ، ولم يكن قبله ولا بعده في الدولة التركية مثله.

١٢٤

جامع القرافة

هذا الجامع يعرف الآن بجامع الأولياء ، وهو القرافة الكبرى ، وكان موضعه يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر ، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مورع يعرف بمسجد القبة. قال القضاعيّ : كان القرّاء يحضرون فيه ، ثم بني عليه المسجد الجامع الجديد ، بنته السيدة المعزية في سنة ست وستين وثلاثمائة وهي أمّ العزيز بالله نزار ولد المعز لدين الله ، أمّ ولد من العرب يقال لها تغريد ، وتدعى درزان ، وبنته على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب في شهر رمضان من السنة المذكورة ، وهو على نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة ، وكان بهذا الجامع بستان لطيف في غربيه وصهريج ، وبابه الذي يدخل منه ذو المصاطب الكبير الأوسط تحت المنار العالي الذي عليه مصفح بالحديد إلى حضرة المحراب ، والمقصورة من عدّة أبواب ، وعدّتها أربعة عشر بابا مربعة مطوّبة الأبواب ، قدّام كلّ باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف ، وهو مكندج مزوّق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ ، وفيه مواضع مدهونة ، والسقوف مزوّقة ملوّنة كلها ، والحنايا والعقود التي على العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوّقين شيوخ الكتاميّ والنازوك ، وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة في منحنى حافتيها شاذوران مدرّج بدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر ، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلا رأسه إليها ظنّ أن المدرّج المزوّق كأنه خشب كالمقرنص ، وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أوّل القوس منها ورفع رأسه ، رأى ذلك الذي توهمه مسطحا لا نتوء فيه ، وهذه من أفخر الصنائع عند المزوّقين ، وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم ، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها ، فما يقدرون ، وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوريّ سيد الوزراء الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن ، وكان كثيرا ما يحرّض بينهما ويغري بعضهما على بعض لانه كان أحبّ ما إليه كتاب مصوّرا ، أو النظر إلى صورة ، أو تزويق.

ولما استدعي ابن عزيز من العراق فأفسده ، وكان قد أتى به في محاربة القصير لأنّ القصير كان يشتط في أجرته ويلحق عجب فيه صنعته ، وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط ، وابن عزيز كابن البوّاب ، وقد أمعن شرح ذلك في الكتاب المؤلف فيه ، وهو طبقات المصوّرين المنعوت ، بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوّقين من الناس ، وكان البازوريّ قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز : أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر ظنّ أنها خارجة من الحائط. فقال القصير : لكن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة في الحائط ، فقالوا هذا أعجب ، فأمرهما أن يصنعا ما وعدا به ، فصوّرا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين ، هذه ترى كأنها داخلة في الحائط ، وتلك ترى كأنها خارجه من الحائط ، فصوّر القصير راقصة بثياب بيض في صورة

١٢٥

حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية ، وصوّر ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة جنية صفراء كأنها بارزة من الحنية ، فاستحسن البازوريّ ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيرا من الذهب.

وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتاميّ صورة يوسف عليه‌السلام في الجب وهو عريان ، والجب كله أسود ، إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ ، وكان هذا الجامع من محاسن البناء ، وكان بنو الجوهريّ ، يعظمون بهذا الجامع على كرسيّ في الثلاثة أشهر ، فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق ، ويقوم خادمهم وزهر البان ، وهو شيخ كبير ومعه زنجلة إذا توسط أحدهم في الوعظ ويقول :

وتصدّقي لا تأمني أن تسألي

فإذا سالت عرفت ذلّ السائل

ويدور على الرجال والنساء فيلقى له في الزنجلة ما يسره الله تعالى ، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ ، فإذا فرغ من وعظه فرّق على الفقراء ما قسم لهم ، وأخذ الشيخ ما قسم له ، وهو الباقي ، ونزل عن الكرسيّ. وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون به في ليالي الصيف للحديث في القمر في صحنه ، وفي الشتاء ينامون عند المنبر ، وكان يحصل لقيمه القاضي أبي حفص الأشربة والحلوى وغير ذلك.

قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة : حدّثني الأمير أبو عليّ تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشيّ قال : اجتمعنا ليلة جمعة جماعة من الأمراء ، بنو معز الدولة ، وصالح ، وحاتم ، وراجح ، وأولادهم ، وغلمانهم ، وجماعة ممن يلوذ بنا ، كابن الموفق والقاضي ابن داود ، وأبي المجد بن الصيرفيّ ، وأبي الفضل روزبة ، وأبي الحسن الرضيع ، فعملنا سماطا وجلسنا واستدعينا بمن في الجامع وأبي حفص ، فأكلنا ورفعنا الباقي إلى بيت الشيخ أبي حفص قيم الجامع ، ثم تحدّثنا ونمنا ، وكانت ليلة باردة ، فنمنا عند المنبر وإذا إنسان نصف الليل ممن نام في هذا الجامع من عابري السبيل قد قام قائما وهو يلطم على رأسه ويصيح وامالاه وا مالاه ، فقلنا له : ويلك ما شأنك وما الذي دهاك ومن سرقك وما سرق لك؟ فقال : يا سيدي أنا رجل من أهل طرا يقال لي أبو كريت الحاوي ، أمسى عليّ الليل ونمت عندكم وأكلت من خيركم ، وسع الله عليكم ، ولي جمعة أجمع في سلتي من نواحي طرا والحيّ الكبير والجبل ، كل غريبة من الحيات والأفاعي ما لم يقدر عليه قط حاو غيري ، وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعي وأنا نائم لم أشعر. فقلت له : إيش تقول : فقال : أي والله يا للنجدات ، فقلنا : يا عدوّ الله أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال؟ ثم إنّا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر وطلعنا وازدحمنا فيه ، ومنا من طلع على قواعد العمد فتسلق وبقي واقفا ، وأخذ ذلك الحاوي يحسس وفي يده كنف الحيات ويقول : قبضت الرقطاء ، ثم يفتح السلة ويضع فيها ، ثم يقول قبضت أم قرنين ويفتح ويضع فيها ، ويقول قبضت الفلانيّ والفلانية من الثعابين والحيات وهي معه بأسماء ، ويقول أبو تليس وأبو زعير

١٢٦

ونحن ونقول ايه؟ إلى أن قال : بس انزلوا ما بقي عليّ همّ ، ما بقي يهمكم كبير شيء ، قلنا كيف؟ قال ما بقي إلّا البتراء ورأسين انزلوا ، فما عليكم منهما. قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه. وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفا على رجليه ، وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة ، وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة ، وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيا تحت المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء ، وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ ، فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال : ما أخليه إلّا إلى السلطان ، وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمنيّ.

وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة ، وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات ، وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة ، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها ، وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات ، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها ، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر ، وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب ، ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها ، وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام ، ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه ، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه ، وكان عزيزا عنده ، وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها : نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته ، أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات ، انساب إلى داره منها الحية البتراء ، وذات القرنين ، والعقربان الكبير ، وأبو صوفة ، وما حصلوا لنا إلّا بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة ، ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها ، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها ، أتاني أمر سيدنا الوزير خلد الله نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات ، والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام.

وفي سنة ست عشرة وخمسائة أمر الوزير أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحيّ ، وكيله أبا البركات محمد بن عثمان ، برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونا للسبيل ، ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينا عليها ، ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن ، ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم ، ويؤدّي الأمانة فيها ، ولم يزل هذا

١٢٧

الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو بن العاص سنة أربع وستين وخمسمائة ، عند نزول مرى ملك الفرنج على القاهرة وحصارها كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب ، وكان الذي تولى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر ، وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر ، وسئل عن ذلك فقال : لئلا يخطب فيه لبني العباس. ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر ، وكان مؤذن هذا الجامع في أيام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ ، ثم جدّدت عمارة هذا الجامع في أيام المستنصر بعد حريقه ، وأدركته لما كانت القرافة الكبرى عامرة بسكنى السودان التكاررة ، وهو مقصود للبركة. فلما كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة ، قلّ الساكن بالقرافة وصار هذا الجامع طول الأيام مغلوقا ، وربما أقيمت فيه الجمعة.

جامع الجيزة

بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلاثمائة بأمر الأمير عليّ بن عبد الله بن الإخشيد ، فتقدّم كافور إلى الخازن ببنائه ، فإنه كان قد هدمه النيل وسقط في سنة أربعين وثلاثمائة ، وعمل له مستغلا ، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد جامع همدان ، وهو مسجد مزاحف بن عامر بن بكتل ، وقيل أن عقبة بن عامر في إمرته على مصر أمرهم أن يجمعوا فيه. قال التميميّ : وشارف بناء جامع الجيزة مع أبي بكر الخازن أبو الحسن بن جعفر الطحاويّ ، واحتاجوا إلى عمد للجامع ، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها ونصب بدلها أركانا ، وحمل العمد إلى الجامع ، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا. قال التميمي : وقد كان يعني ابن الطحاويّ يصلي في جامع الفسطاط القديم وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية وأرياف مصر ، وبعضه بناء قرّة بن شريك عامل الوليد بن عبد الملك.

جامع منجك

هذا الجامع يعرف موضعه بالثغرة تحت قلعة الجبل خارج باب الوزير ، أنشأه الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ في مدّة وزارته بديار مصر في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، وصنع فيه صهريجا ، فصار يعرف إلى اليوم بصهريج منجك ، ورتب فيه صوفية وقرّر لهم في كل يوم طعاما ولحما وخبزا ، وفي كلّ شهر معلوما ، وجعل فيه منبرا ورتب فيه خطيبا يصلي بالناس فيه صلاة الجمعة ، وجعل على هذا الموضع عدّة أوقاف منها ناحية بلقينة بالغربية ، وكانت مرصدة برسم الحاشية ، فقوّمت بخمسة وعشرين ألف دينار فاشتراها من بيت المال وجعلها وقفا على هذا المكان.

١٢٨

منجك : الأمير سيف الدين اليوسفيّ ، لما امتنع أحمد بن الملك الناصر محمد بن قلاون بالكرك وقام في مملكة مصر بعده أخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ، وكان من محاصرته بالكرك ما كان إلى أن أخذ ، فتوجه إليه وقطع رأسه وأحضرها إلى مصر ، وكان حينئذ أحد السلاحدارية ، فأعطى إمرة بديار مصر وتنقل في الدول إلى أن كانت سلطنة الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون ، فأخرجه من مصر إلى دمشق وجعله حاجبا بها موضع ابن طغريل ، فلما قتل الملك المظفر وأقيم بعده أخوه الملك الناصر حسن أقيم الأمير سيف الدين يلبغاروس في نيابة السلطنة بديار مصر ، وكان أخا منجك ، فاستدعاه من دمشق وحضر إلى القاهرة في ثامن شوّال سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، فرسم له بإمرة تقدمة ألف ، وخلع عليه خلع الوزارة فاستقرّ وزيرا وأستادارا ، وخرج في دست الوزارة والأمراء في خدمته من القصر إلى قاعة الصاحب بالقلعة ، فجلس بالشباك ونفذ أمور الدولة ، ثم اجتمع الأمراء وقرأ عليهم أوراقا تتضمن ما على الدولة من المصروف ، ووفر من جامكية المماليك مبلغ ستين ألف درهم في الشهر ، وقطع كثيرا من جوامك الخدم والجواري والبيوتات السلطانية ، ونقص رواتب الدور من زوجات السلطان وجواريه ، وقطع رواتب الأغاني ، وعرض الإسطبل السلطانيّ وقطع منه عدّة أميراخورية وسراخورية وسوّاس وغلمان ، ووفر من راتب الشعير نحو الخمسين إردبا في كل يوم ، وقطع جميع الكلابزية وكانوا خمسين جوقة ، وأبقى منهم جوقتين ، ووفر جماعة من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر ، وأبطل العمارة من بيت السلطان ، وكانت الحوائجخاناه تحتاج في كل يوم إلى أحد وعشرين ألف درهم نقرة ، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم ، وبقي مصروفها في اليوم ثمانية عشر ألف درهم نقرة ، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم ، وبقي القاضي موفق الدين ناظر الدولة وعلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخواص ، ورسم أن لا يستقرّ في المعاملات سوى شاهد واحد وعامل وشاد بغير معلوم ، وأغلظ على الكتاب والدواوين وهدّدهم وتوعدهم فخافوه ، واجتمع بعضهم ببعض واشتوروا في أمرهم واتفقوا على مال يتوزعونه بينهم على قدر حال كل منهم وحملوه إلى منجك سرّا ، فلم يمض من استقراره في الوزارة شهر حتى صار الكتاب وأرباب الدواوين أحباءه وأخلّاءه ، وتمكنوا منه أعظم ما كانوا قبل وزارته ، وحسنوا له أخذ الأموال ، فطلب ولاة الأقاليم وقبض على أقبغا والي الغربية وألزمه بحمل خمسمائة ألف درهم نقرة ، وولى عوضه الأمير استدمر القلنجيّ ، ثم صرفه وولى بدله قطليجا مملوك بكتمر ، واستقرّ باستدمر القلنجي في ولاية القاهرة ، وأضاف له التحدّث في الجهات ، وولى البحرية لرجل من جهته ، وولى قوص لآخر وأوقع الحوطة على موجود إسماعيل الواقدي متولى قوص ، وأخذ جميع خواصه ، وولي طغاي كشف الوجه القبليّ عوضا عن علاء الدين عليّ بن الكورانيّ ، وولى ابن المزوق قوص وأعمالها ، وولى مجد الدين موسى الهدبانيّ الأشمونين عوضا عن ابن الأزكشيّ ، وتسامعت

١٢٩

الولاة وأرباب الأعمال بأن الوزير فتح باب الأخذ على الولايات ، فهرع الناس إليه من جهات مصر والشام وحلب وقصدوا بابه ، ورتب عنده جماعة برسم قضاء الأشغال ، فأتاهم أصحاب الأشغال والحوائج ، وكان السلطان صغيرا حظه من السلطنة أن يجلس بالإيوان يومين في الأسبوع ويجتمع أهل الحل والعقد مع سائر الأمراء فيه ، فإذا انقضت خدمة الإيوان خرج الأمير منكليبغا الفخريّ ، والأمير بيغرا ، والأمير يبلغا تتر والمجديّ ، وأرلان وغيرهم من الأمراء ، ويدخل إلى القصر الأمير يلبغاروس نائب السلطنة ، والأمير سيف الدين منجك الوزير ، والأمير سيف الدين شيخو العمريّ ، والأمير الجيبغا المظفريّ ، والأمير طيبرق ، ويتفق الحال بينهم على ما يرونه ، هذا والوزير أخو النائب متمكن تمكنا زائدا ، وقدم من دمشق جماعة للسعي عند الوزير في وظائف منهم ابن السلعوس وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل وابن عبد الحق ، وتحدّثوا مع ابن الأطروش محتسب القاهرة في أغراضهم ، فسعى لهم حتى تقرّروا فيما عينوا.

ولما دخلت سنة تسع وأربعين عرف الوزير السلطان والأمراء أنه لما ولي الوزارة لم يجد في الإهراء ولا في بيت المال شيئا ، وسأل أن يكون هذا بمحضر من الحكام ، فرسم للقضاة بكشف ذلك فركبوا إلى الإهراء بمصر ، وإلى بيت المال بقلعة الجبل ، وقد حضر الدواوين وسائر المباشرين وأشهدوا عليهم أن الأمير منجك لما باشر الوزارة لم يكن بالإهراء ولا ببيت المال قدح غلة ولا دينار ولا درهم ، وقرئت المحاضر على السلطان والأمراء ، فلما كان بعد ذلك توقف أمر الدولة على الوزير فشكا إلى الأمراء من كثرة الرواتب ، فاتفق الرأي على قطع نحو ستين سوّاقا ، فقطعهم ووفر لحومهم وعليقهم وسائر ما باسمهم من الكساوي وغيرها ، وقطع من العرب الركابة والنجابة ، ومن أرباب الوظائف في بيت السلطان ، ومن الكتاب والمباشرين ما جملته في اليوم أحد عشر ألف درهم وفتح باب المقايضات باقطاعات الأجناد ، وباب النزول عن الإقطاعات بالمال ، فحصل من ذلك مالا كثيرا ، وحكم على أخيه نائب السلطنة بسبب ذلك ، وصار الجنديّ يبيع إقطاعه لكل من أراد ، سواء كان المنزول له جنيدا أو عامّيا ، وبلغ ثمن الإقطاع من عشرين ألف درهم إلى ما دونها. وأخذ يسعى أن تضاف وظيفة نظر الخاص إلى الوزارة ، وأكثر من الحط على ناظر الخاص ، فاحترس ابن زنبور منه وشرع في إبعاده مرّة بعد مرّة مع الأمير شيخو ، فمنع شيخو منجك من التحدّث في الخاص وخرج عليه فشق ذلك على منجك وافترقا عن غير رضى ، فتغير يلبغاروس النائب على شيخو رعاية لأخيه. وسأل أن يعفى من النيابة ، ويعفى منجك من الوزارة ، واستقراره في الأستادارية والتحدّث في عمل حفر البحر ، وأن يستقرّ أستدمر العمريّ المعروف برسلان بصل في الوزارة ، فطلب وكان قد حضر من الكشف وألبس خلع الوزارة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل ، وكان منجك قد عزل من الوزارة في ثالث ربيع الأوّل المذكور ، وتولى أمر شدّ البحر ، فجبى من الأجناد من كل مائة

١٣٠

دينار درهما ، ومن التجار والمتعيشين في مصر والقاهرة من كل واحد عشرة دراهم إلى خمسة دراهم إلى درهم ، ومن أصحاب الأملاك والدور في مصر والقاهرة على كل قاعة ثلاثة دراهم ، وعلى كل طبقة درهمين ، وعلى كل مخزن أو اصطبل درهما ، وجعل المستخرج في خان مسرور بالقاهرة ، والمشدّ على المستخرج الأمير بيلك ، فجبى مال كبير ، وأما استدمر فإن أحوال الدولة توقفت في أيامه ، فسأل في الإعفاء فأعفي وأعيد منجك إلى الوزارة بعد أربعين يوما ، وقد تمنع تمنعا كبيرا ، ولما عاد إلى الوزارة فتح باب الولايات بالمال ، فقصده الناس وسعوا عنده ، فولى وعزل وأخذ في ذلك مالا كثيرا. فيقال أنه أخذ من الأمير مازان لما نقله من المنوفية إلى الغربية ، ومن ابن الغسانيّ لما نقله من الأشمونين إلى البهنساوية ، ومن ابن سلمان لما ولاه منوف ستة آلاف دينار ، ووفر إقطاع شادّ الدواوين وجعله باسم المماليك السلطانية ، ووفر جوامكهم ورواتبهم ، وشرع أوباش الناس في السعي عنده في الوظائف والمباشرات بمال ، وأتوه من البلاد فقضى أشغالهم ولم يردّ أحدا طلب شيئا ، ووقع في أيامه الفناء العظيم ، فانحلت إقطاعات كثيرة ، فاقتضى رأي الوزير أن يوفر الجوامك والرواتب التي للحاشية ، وكتب لسائر أرباب الوظائف وأصحاب الأشغال والمماليك السلطانية مثالات بقدر جوامك كل منهم ، وكذلك لأرباب الصدقات ، فأخذ جماعة من الأقباط ومن الكتاب ومن الموقعين إقطاعات في نظير جوامكهم ، وتوفر في الدولة مال كبير عن الجوامك والرواتب.

ولما دخلت سنة خمسين رسم الأمير منجك الوزير لمتولي القاهرة بطلب أصحاب الأرباع ، وكتابة جميع أملاك الحارات والأزقة ، وسائر أخطاط مصر والقاهرة ، ومعرفة أسماء سكانها ، والفحص عن أربابها ليعرف من توفر عنه ملك بموته في الفناء ، فطلبوا الجميع وأمعنوا في النظر ، فكان يوجد في الحارة الواحدة والزقاق الواحد ما يزيد على عشرين دارا خالية لا يعرف أربابها ، فختموا على ما وجدوه من ذلك ومن الفنادق والخانات والمخازن حتى يحضر أربابها. وفي شعبان عزل ولاة الأعمال وأحضرهم إلى القاهرة ، وولى غيرهم وأضاف إلى كل وال كشف الجسور التي في عمله ، وضمن الناس سائر جهات القاهرة ومصر ، بحيث أنه لا يتحدّث أحد معه من المقدّمين والدواوين والشادّين ، وزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم ، وخلع عليه ونودي له بمصر والقاهرة ، فاشتدّ ظلمه وعسفه وكثرت حوادثه. فلما كانت ليالي عيد الفطر ، عرّف الوزير الأمراء أن سماط العيد ينصرف عليه جملة ولا ينتفع به أحد ، فأبطله ولم يعمل تلك السنة. وفي ذي القعدة توقف حال الدولة ووقف مماليك السلطان وسائر المعاملين والحوائجكاشية ، وانزعج السلطان والأمراء بسبب ذلك على الوزير ، فاحتج بكثرة الكلف ، وطلب الموفق ناظر الدولة فقال : إن الإنعامات قد كثرت والكلف تزايدت ، وقد كانت الحوائجخاناه في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في اليوم ينصرف فيها مبلغ ثلاثة عشر ألف درهم ، واليوم ينصرف فيها اثنان

١٣١

وعشرون ألف درهم ، فكتبت أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها ، وبمتحصل الخاص ومصروفه ، فجاءت أوراق الدولة ومتحصلها عشرة آلاف ألف درهم ، وكلفها أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم ، ووجد الأنعام من الخاص والجيش بما خرج من البلاد زيادة على إقطاعات الأمراء ، فكان زيادة على عشرين ألف دينار سوى جملة من الغلال ، وأن الذي استجدّ على الدولة من حين وفاة الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين إلى مستهل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة. وكانت جملة الإنعامات والإقطاعات بنواحي الصعيد والفيوم وبلاد الملك والوجه البحريّ وما أعطى من الرزق للخدّام والجواري سبعمائة ألف ألف وألف ألف وستمائة ألف ، معينة بأسماء أربابها من أمير وخادم وجارية ، وكانت النساء قد أسرفن في عمل القمصان والبغالطيق ، حتى كان يفضل من القميص كثير على الأرض ، وسعة الكم ثلاثة أذرع ، ويسمينه البهطلة ، وكان يغرم على القميص ألف درهم وأكثر ، وبلغ إزار المرأة إلى ألف درهم ، وبلغ الخف والسرموزة إلى خمسمائة درهم ، وما دونها إلى مائة درهم. فأمر الوزير منجك بقطع أكمام النساء وأخرق بهنّ ، وأمر الوالي بتتبع ذلك ، ونودي بمنع النساء من عمل ذلك ، وقبض على جماعة منهنّ ، وركب على سور القاهرة صور نساء عليهنّ تلك القمصان بهيئة نساء قد قتلن عقوبة على ذلك ، فانكففن عن لبسها ، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف المثمنة ، ونودي في القياسر من باع إزار حرير ماله للسلطان ، فنودي على إزار ثمنه سبعمائة وعشرون درهما فبلغ ثمانين درهما ولم يجسر أحد أن يشتريه ، وبالغ الوزير في الفحص عن ذلك حتى كشف دكاكين غسالي الثياب وقطع ما وجد من ذلك ، فامتنع النساء من لبس ما أحدثنه من تلك المنكرات ، ولما عظم ضرر الفار أيضا من كثرة شكاية الناس فيه ، فلم يسمع فيه الوزير قولا ، وقام في أمره الأمير مغلطاي أميراخور ، فاستوحش منه الوزير ، واتفق أنه كان قد حج محمد بن يوسف مقدّم الدولة في محمل كبير بلغ عليق جماله في اليوم مائتي عليقة ، ولما قدم في المحرّم مع الحاج أهدى للنائب وللوزير وللأمير طاز وللأمير صرغتمش هدايا جليلة ، ولم يهد للأمير شيخو ، ولا للأمير مغلطاي شيئا ، ثم لما عاب عليه الناس ذلك أهدى بعد عدّة أيام للأمير شيخو هديه فردّها عليه ، ثم أنه أنكر على الوزير في مجلس السلطان ما يفعله ولاة البر وما عليه مقدّم الدولة من كثرة المال ، وأغلظ في القول ، فرسم بعزل الولاة والقبض على المقدّم محمد بن يوسف وابن عمه المقدّم أحمد بن زيد ، فلم يسع الوزير غير السكوت.

فلما كان في رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين ، قبض على الوزير منجك وقيد ووقعت الحوطة على سائر حواصله ، فوجدت له زردخاناه حمل خمسين جملا ، ولم يظهر من النقد كثير مال ، فأمر بعقوبته. فلما خوّف أقرّ بصندوق فيه جوهر وقال : سائر ما كان يتحصل لي من النقد كنت اشتري به أملاكا وضياعا وأصناف المتاجر ، فأحيط بسائر أمواله وحمل إلى الإسكندرية مقيدا ، واستقرّ الأمير بلبان السنانيّ نائب الكبيرة أستادارا عوض منجك

١٣٢

بعد حضوره منها ، وأضيفت الوزارة إلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخاص ، فلم يزل منجك مسجونا بالإسكندرية إلى أن خلع الملك الناصر حسن وأقيم بدله في المملكة أخوه الملك الصالح صالح ، فأمر بالإفراج عن الأمير شيخو والأمير منجك فحضرا إلى القاهرة في رجب سنة اثنتين وخمسين ، ولما استقرّ الأمير منجك بالقاهرة بعث إليه الأمير شيخو خمس رؤوس خيل وألفي دينار ، وبعث إليه جميع الأمراء بالتقادم ، وأقام بطالا يجلس على حصير فوقه ثوب سرج عتيق ، وكلما أتاه أحد من الأمراء يبكي ويتوجع ويقول أخذ جميع مالي حتى صرت على الحصير ، ثم كتب فتوى تتضمن أن رجلا مسجونا في قيد هدّد بالقتل إن لم يبع أملاكه ، وأنّه خشي على نفسه القتل ، فوكل في بيعها. فكتب له الفقهاء لا يصح بيع المكره. ودار على الأمراء وما زال بهم حتى تحدّثوا له مع السلطان في ردّ أملاكه عليه ، فعارضهم الأمير صرغتمش ، ثم رضي أن يردّ عليه من أملاكه ما أنعم به السلطان على مماليكه ، فاستردّ عدّة أملاك وأقام إلى أن قام يلبغاروس بحلب فاختفى منجك وطلب فلم يوجد ، وأطلق النداء عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه ، وألزم عربان العائد باقتفاء أثره فلم يوقف له على خبر ، وكبس عليه عدّة أماكن بالقاهرة ومصر وفتش عليه حتى في داخل الصهريج الذي بجامعه فأعيى أمره ، وأدرك السلطان السفر لحرب يلبغاروس فشرع في ذلك إلى يوم الخميس رابع شعبان ، فخرج الأمير طاز بمن معه.

وفي يوم الاثنين سابعه ، عرض الأمير شيخو والأمير صرغتمش أطلابهما ، وقد وصل الأميرا طاز إلى بلبيس فحضر إليه من أخبره أنه رأى بعض أصحاب منجك ، فسير إليه وأحضره وفتشه فوجد معه كتاب منجك إلى أخيه يلبغاروس ، وفيه أنه مختف عند الحسام الصفديّ استاداره ، فبعث الكتاب إلى الأمير شيخو فوافاه والأطلاب خارجة ، فاستدعى بالحسام وسأله فأنكر فعاقبه الأمير صرغتمش فلم يعترف ، فركب إلى بيت الحسام بجوار الجامع الأزهر وهجمه فإذا بمنجك ومعه مملوك ، فكتفه وسار به مشهورا بين الناس وقد هرعوا من كلّ مكان إلى القلعة ، فسجن بالإسكندرية إلى أن شفع فيه الأمير شيخو فأفرج عنه في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين ، ورسم أن يتوجه إلى صفد بطالا ، فسار إليها من غير أن يعبر إلى القاهرة ، فلما خلع الملك الصالح صالح وأعيد السلطان حسن في شوّال منها ، نقل منجك من صفد وأنعم عليه بنيابة طرابلس عوضا عن أيتمش الناصريّ ، فسار إليها وأقام بها إلى أن قبض على الأمير طاز نائب حلب في سنة تسع وخمسين ، فولي منجك عوضا عنه ولم يزل بحلب إلى أن فرّ منها في سنة ستين ، فلم يعرف له خبر ، وعوقب بسببه خلق كثير ، ثم قبض عليه بدمشق في سنة إحدى وستين فحمل إلى مصر وعليه بشت صوف عسليّ ، وعلى رأسه مئزر صوف ، فلم يؤاخذه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه ببلاد الشام ، وجعله طرخاناه يقيم حيث شاء من البلاد الإسلامية ، وكتب له بذلك. فلما قتل السلطان حسن وأقيم من بعده في المملكة الملك المنصور محمد بن المظفر حاجي في جمادى الأولى سنة

١٣٣

اثنتين وستين ، خامر الأمير بيدمر نائب الشام على الأمير يلبغا العمريّ القائم بتدبير دولة الملك المنصور ، ووافقه جماعة من الأمراء منهم الأمير منجك ، فخرج الأمير يلبغا بالمنصور والعساكر من قلعة الجبل إلى البلاد الشامية ، فوافى دمشق ومشى الناس بينه وبين الأمير بيدمر حتى تمّ الصلح ، وحلف الأمير يلبغا أنه لا يؤذي بيدمر ولا منجك ، فنزلا من قلعة دمشق وقيدهما وبعث بهما إلى الإسكندرية فسجنا بها إلى أن خلع الأمير يلبغا المنصور وأقام بدله الملك الأشرف شعبان بن حسين وقتل الأمير يلبغا ، فأفرج الملك الأشرف عن منجك وولاه نيابة السلطنة بدمشق عوضا عن الأمير عليّ الماردانيّ في جمادى الأولى سنة تسع وستين ، فلم يزل في نيابة دمشق إلى أن حضر إلى السلطان زائرا في سنة سبعين بتقادم كثيرة جليلة ، وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن استدعاه السلطان في سنة خمس وسبعين إلى مصر وفوّض إليه نيابه السلطنة بديار مصر ، وعمله أتابك العساكر وجعل تدبير المملكة إليه ، وأن يخرج الأمّهات للبلاد الشامية ، وأن يولي ولاة أقاليم مصر والكشاف ويخرج الإقطاعات بمصر من عبرة ستمائة دينار إلى ما دونها ، وكانت عادة النوّاب قبله أن لا يخرج من الإقطاعات إلّا ما عبرته أربعمائة دينار فما دونها ، فعمل النيابة على قالب جائر وحرمة وافرة إلى أن مات حتف أنفه في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة ، وله من العمر نيف وستون سنة ، وشهد جنازته سائر الأعيان ، ودفن بتربته المجاورة لجامعه هذا ، وله سوى الجامع المذكور من الآثار بديار مصر خان منجك في القاهرة ، ودار منجك برأس سويقة العزي بالقرب من مدرسة السلطان حسن ، وله بالبلاد الشامية عدّة آثار من خانات وغيرها رحمه‌الله.

الجامع الأخضر

هذا الجامع خارج القاهرة بخط فم الخور ، عرف بذلك لأنّ بابه وقبته فيهما نقوش وكتابات خضر ، والذي أنشأه خازندار الأمير شيخو واسمه ... (١).

جامع البكجريّ

هذا الجامع بحكر البكجريّ قريبا من الدكة ، تعطلت الصلاة فيه منذ خربت تلك الجهات.

جامع السروجيّ

هذا الجامع بحكر ... (٢).

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) بياض في الأصل.

١٣٤

جامع كرجي

هذا الجامع بحكر أقوش.

جامع الفاخريّ

هذا الجامع بسويقة الخادم الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوريّ مقدّم المماليك السلطانية ، ومات في سابع ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة ، وكان ذا مهابة وأخلاق حسنة مع سطوة شديدة ، ولهم بلبان الفاخريّ الأمير سيف الدين نقيب الجيوش ، مات في سنة سبع وتسعين وستمائة ، وولي نقابة الجيش بعد طيبرس الوزيريّ ، وكان جوادا عارفا بأمر الأجناد خيرا كثير الترف.

جامع ابن عبد الظاهر

هذا الجامع بالقرافة الصغرى قبليّ قبر الليث بن سعد ، كان موضعه يعرف بالخندق ، أنشأه القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر الجذاميّ السعديّ الروحيّ من ولد روح بن زنباع الجذاميّ ، بجوار قبر أبيه ، وأوّل ما أقيمت به الخطبة في يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة ، وكان يوما مشهودا لكثرة من حضر من الأعيان. ولد بالقاهرة في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة ، وسمع من ابن الجميزيّ وغيره ، وحدّث وكتب في الإنشاء ، وساد في دولة المنصور قلاون بعقله ورأيه وهمته ، وتقدّم على والده القاضي محيي الدين وهو ماهر في الإنشاء والكتابة ، بحيث كان من جملة من يصرّفهم بأمره ونهيه ، وكان الملك المنصور يعتمد عليه ويثق به ، ولما ولي القاضي فخر الدين بن لقمان الوزارة قال له الملك المنصور : من يلي عوضك كتابة السرّ؟ فقال القاضي : فتح الدين بن عبد الظاهر ، فولّاه كتابة السرّ عوضا عن ابن لقمان ، وتمكن من السلطان وحظي عنده ، حتى أنّ الوزير فخر الدين بن لقمان ناول السلطان كتابا فأحضر ابن عبد الظاهر لقراءته على عادته ، فلما أخذ الكتاب من السلطان أمر الوزير أن يتأخر حتى يقرأه فتأخر الوزير ، ثم إن ابن لقمان صرف عن الوزارة وأعيد إلى ديوان الإنشاء فتأدّب معه ، فلما ولي وزارة الملك الأشرف خليل بن قلاون شمس الدين بن السلعوس قال لفتح الدين : اعرض عليّ كل يوم ما تكتبه. فقال : لا سبيل لك إلى ذلك ولا يطلع على أسرار السلطان إلّا هو ، فإن اخترتم وإلّا عينوا عوضي ، فلما بلغ السلطان ذلك قال : صدق ولم يزل على حاله إلى أن مات ، وأبوه حيّ بدمشق في النصف من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، فوجد في تركته قصيدة مرثية قد عملها في رفيقه تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمّد بن الأثير لما مرض وطال مرضه ، فاتفق أن عوفي ابن الأثير ولم يتأخر ابن عبد الظاهر بعد عافيته سوى ليال يسيرة ومرض ومات ، فرثاه ابن الأثير بعد موته وولى

١٣٥

وظيفة كتابة السرّ عوضا عنه ، ولم يكن ابن عبد الظاهر مجيدا في صناعة الإنشاء إلّا أنه دبر الديوان وباشره أحسن مباشرة ومن شعره :

إن شئت تنظرني وتنظر حالتي

فانظر إذا هبّ النسيم قبولا

فتراه مثلي رقة ولطافة

ولأجل قلبك لا أقول عليلا

فهو الرسول إليك مني ليتني

كنت اتخذت مع الرسول سبيلا

ولم يزل هذا الجامع عامرا إلى أن حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة ، واختلت القرافة لخراب ما حوله ، وهو اليوم قائم على أصوله.

جامع بساتين الوزير التي على بركة الحبس (١)

جامع الخندق

هذا الجامع بناحية الخندق خارج القاهرة ، ولم يزل عامرا بعمارة الخندق ، فلما خربت مساكن الخندق تلاشى أمره ونقلت منه الجمعة وبقي معطلا إلى شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة ، فأخذ الأمير طوغان الحسنيّ الدوادار عمده الرخام وسقوفه وترك جدرانه ومنارته ، وهي باقية وعما قليل تدثر كما دثر غيرها مما حولها.

جامع جزيرة الفيل (٢)

جامع الطواشي

هذا الجامع خارج القاهرة فيما بين باب الشعرية وباب البحر ، أنشأه الطواشي جوهر السحرتيّ اللالا ، وهو من خدّام الملك الناصر محمد بن قلاون ، ثم إنه تأمّر في تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

جامع كراي

هذا الجامع بالريدانية خارج القاهرة ، عمره الأمير سيف الدين كراي المنصوريّ في سنة إحدى وسبعمائة لكثرة ما كان هناك من السكان ، فلما خربت تلك الأماكن تعطل هذا الجامع وهو الآن قائم وجميع ما حوله داثر ، وعما قليل يدثر.

جامع القلعة

هذا الجامع بقلعة الجبل أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة

__________________

(١) هكذا ورد في الأصل.

(٢) هكذا ورد في الأصل.

١٣٦

وسبعمائة ، وكان أوّلا مكانه جامع قديم وبجواره المطبخ السلطانيّ والحوائجخاناه والفراشخاناه ، فهدم الجميع وأدخلها في هذا الجامع ، وعمره أحسن عمارة وعمل فيه من الرخام الفاخر الملوّن شيئا كثيرا ، وعمر فيه قبة جليلة وجعل عليه مقصورة من حديد بديعة الصنعة ، وفي صدر الجامع مقصورة من حديد أيضا برسم صلاة السلطان ، فلما تمّ بناؤه جلس فيه السلطان بنفسه واستدعى جميع المؤذنين بالقاهرة ومصر وسائر الخطباء والقرّاء ، وأمر الخطباء فخطب كلّ منهم بين يديه ، وقام المؤذنون فأذنوا ، وقرأ القرّاء ، فاختار الخطيب جمال الدين محمد بن محمد بن الحسن القسطلانيّ خطيب جامع عمرو وجعله خطيبا بهذا الجامع ، واختار عشرين مؤذنا رتبهم فيه ، وجعل به قراء ودرسا وقاريء مصحف ، وجعل له من الأوقاف ما يفضل عن مصارفه ، فجاء من أجلّ جوامع مصر وأعظمها وبه إلى اليوم يصلي سلطان مصر صلاة الجمعة ، والذي يخطب فيه ويصلي بالناس الجمعة قاضي القضاة الشافعيّ.

جامع قوصون

هذا الجامع داخل باب القرافة تجاه خانقاه قوصون ، أنشأه الأمير سيف الدين قوصون ، وعمر بجانبه حماما ، فعمرت تلك الجهة من القرافة بجماعة الخانقاه والجامع ، وهو باق إلى يومنا.

جامع كوم الريش

هذا الجامع عمارة دولات شاه.

جامع الجزيرة الوسطى

أنشأه الطواشي مثقال خادم تذكار ابنة الملك الظاهر بيبرس وهو عامر إلى يومنا هذا.

جامع ابن صارم

هذا الجامع بخط بولاق خارج القاهرة أنشأه محمد بن صارم شيخ بولاق فيما بين بولاق وباب البحر.

جامع الكيمختي

هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الجنيّة ، وهو بجانب موضع الكيمخت على شاطىء الخليج من جملة أرض الطبالة ، كان موضعه دارا اشتراها معلم الكيمخت ، وكان يعرف بالحمويّ ، وعملها جامعا فضمن المعلم بعده رجل يعرف بالرومي فوقف عليه مواضع وجدّد له مئذنة في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانمائة ، ووسع في الجامع قطعة كانت

١٣٧

منشرا ، وكان قبل ذلك قد جدّد عمارته شخص يعرف بالفقيه زين الدين ريحان بعد سنة تسعين وسبعمائة ، وعمر بجانبه مساكن ، وهو الآن عامر بعمارة ما حوله.

جامع الست مسكة

هذا الجامع بالقرب من قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير خارج القاهرة ، أنشأته الست مسكة جارية الملك الناصر محمد بن قلاون ، وأقيمت فيه الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، وقد ذكرت مسكة هذه عند ذكر الأحكار.

جامع ابن الفلك

هذا الجامع بسويقة الجميزة من الحسينية خارج القاهرة ، أنشأه مظفر الدين بن الفلك.

جامع التكروريّ

هذا الجامع في ناحية بولاق التكروريّ ، وهذه الناحية من جملة قرى الجيزة ، كانت تعرف بمنية بولاق ، ثم عرف ببولاق التكروريّ ، فإنه كان نزل بها الشيخ أبو محمد يوسف بن عبد الله التكروريّ ، وكان يعتقد فيه الخير وجرّبت بركة دعائه وحكيت عنه كرامات كثيرة ، منها أن امرأة خرجت من مدينة مصر تريد البحر ، فأخذ السودان ابنها وساروا به في مركب وفتحوا القلع ، فجرت السفينة وتعلقت المرأة بالشيخ تستغيث به ، فخرج من مكانه حتى وقف على شاطيء النيل ودعا الله سبحانه وتعالى فسكن الريح ووقفت السفينة عن السير ، فنادى من في المركب يطلب منهم الصبيّ فدفعوه إليه وناوله لأمّه ، وكان بمصر رجل دباغ أتاه عفص فأخذه منه أصحاب السلطان ، فأتى إلى الشيخ وشكا إليه ضرورته ، فدعا ربه فردّ الله عليه عفصه بسؤال أصحاب السلطان له في ذلك ، وكان يقال له لم لا تسكن المدينة فيقول : إني أشمّ رائحة كريهة إذا دخلتها. ويقال أنه كان في خلافة العزيز بن المعز ، وأن الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ جمع له جزأ في مناقبه ، ولما مات بني عليه قبة وعمل بجانبه جامع جدّده ووسعه الأمير محسن الشهابيّ مقدّم المماليك ، وولى تقدمة المماليك عوضا عن الطواشي عنبر السحرتيّ ، أوّل صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ومات في ... (١) ثم أن النيل مال على ناحية بولاق هذه فيما بعد سنة تسعين وسبعمائة ، وأخذ منها قطعة عظيمة كانت كلها مساكن ، فخاف أهل البلدان أن يأخذ ضريح الشيخ والجامع لقربهما منه ، فنقلوا الضريح والجامع إلى داخل البلد وهو باق إلى يومنا هذا.

__________________

(١) بياض في الأصل.

١٣٨

جامع البرقية

هذا الجامع بالقرب من باب البرقية بالقاهرة ، عمره الأمير مغلطاي الفخريّ أخو الأمير الماس الحاجب ، وكمل في المحرّم سنة ثلاثين وسبعمائة ، وكان ظالما عسوفا متكبرا جبارا ، قبض عليه مع أخيه الماس في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وقتل معه.

جامع الحرّانيّ

هذا الجامع بالقرافة الصغرى في بحري الشافعيّ ، عمره ناصر الدين بن الحرّانيّ الشرابيشيّ في سنة تسع وعشرين وسبعمائة.

جامع بركة

هذا الجامع بالقرب من جامع ابن طولون ، يعرف خطه بحدرة ابن قميحة ، عمره شخص من الجند يعرف ببركة ، كان يباشر أستادارية الأمراء ومات بعد سنة إحدى وثمانمائة.

جامع بركة الرطليّ

هذا الجامع كان يعرف موضعه ببركة الفول من جملة أرض الطبالة ، فلما عمرت بركة الرطليّ كما تقدّم ذكره أنشئ هذا الجامع ، وكان ضيقا قصير السقف ، وفيه قبة تحتها قبر يزار ، وهو قبر الشيخ خليل بن عبد ربه خادم الشيخ عبد العال ، وتوفي في المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، فلما سكن الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة البشريّ بجوار هذا الجامع هدمه ووسع فيه وبناه هذا البناء في سنة أربع عشرة وثمانمائة. وولد البشريّ في سابع ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة ، وتنقل في الخدم الديوانية حتى ولي نظر الدولة إلى أن قتل الأمير جمادي الدين يوسف الأستادار ، فاستقرّ بعده في الوزارة بسفارة فتح الدين فتح الله بن كاتب السرّ في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ، فباشر الوزارة بضبط جيد لمعرفته الحساب والكتابة ، إلّا أنها كانت أيام محن احتاج فيها إلى وضع يده وأخذ الأموال بأنواع الظلم ، فلما قتل الملك الناصر فرج واستبدّ الملك المؤيد شيخ صرفه عن الوزارة في يوم الخميس خامس جمادى الأولى سنة ست عشرة وثمانمائة ، ودفن بالقرافة ، وهذا الجامع عامر بعمارة ما حوله.

جامع الضوة

هذا الجامع فيما بين الطبلخاناه السلطانية وباب القلعة المعروف بباب المدرّج على رأس الضوّة ، أنشأه الأمير الكبير شيخ المحمودي لما قدم من دمشق بعد قتل الملك الناصر فرج ، وإقامة الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله العباسيّ ابن محمد في سنة خمس عشرة

١٣٩

وثمانمائة ، وسكن بالإصطبل السلطانيّ فشرع في بناء دار يسكنها ، فلما استبدّ بسلطنة مصر وتلقب بالملك المؤيد استغنى عن هذه الدار ، وكانت لم تكمل ، فعملها جامعا وخانقاه ، وصارت الجمعة تقام به.

جامع الحوش

هذا الجامع في داخل قلعة الجبل بالحوش السلطانيّ ، أنشأه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ، فصار يصلي فيه الخدّام وأولاد الملوك من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن قتل الناصر فرج.

جامع الاصطبل

هذا الجامع في الإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل عمره ... (١).

جامع ابن التركمانيّ (٢)

هذا الجامع بالمقس خارج القاهرة.

جامع ... (٣)

هذا الجامع بخط السبع سقايات فيما بين القاهرة ومصر يطلّ على بركة قارون أنشأه ...(٤).

جامع الباسطيّ

هذا الجامع في بولاق خارج القاهرة ، أدركت موضعه وهو مطلّ على النيل طول السنة ، أنشأه شخص من عرض الفقهاء يعرف ... (٥) في سنة سبع عشرة وثمانمائة.

جامع الحنفيّ

هذا الجامع خارج القاهرة أنشأه الشيخ شمس الدين محمد بن حسن بن عليّ الحنفيّ ، في سنة سبع عشرة وثمانمائة.

جامع ابن الرفعة

هذا الجامع خارج القاهرة بحكر الزهريّ ، أنشأه الشيخ فخر الدين عبد المحسن بن الرفعة بن أبي المجد العدويّ.

__________________

(١) بياض في الأصل.

١٤٠