كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

من طعامهم سألهم عمرو : كم أنفقتم؟ قالوا : عشرين ألف دينار ، قال عمرو : لا حاجة لنا بصنيعكم بعد اليوم أدّوا إلينا عشرين ألف دينار ، فجاءه النفر من القبط ، فاستأذنوه إلى قراهم وأهليهم ، فقال لهم عمرو : كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا : لم نر إلّا حسنا ، فقال الرجل الذي قال في المرّة الأولى : إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا ، فغضب عمرو ، وأمر به فطلب إليه أصحابه ، وأخبروه أنه لا يدري ما يقول ، حتى خلصوه.

فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، أرسل في طلب ذلك القبطيّ ، فوجدوه قد هلك ، فعجب عمرو من قوله ويقال : إنّ عمرو بن العاص قال : فلما طعن عمر بن الخطاب ، قلت هو ما قال القبطيّ ، فلما حدّثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانيّ قلت : لم يعن هذا إنما عنى من قتله المسلمون ، فلما قتل عثمان عرفت أن ما قال الرجل حق ، فلما فرغ القبط من صنيعهم ، أمر عمرو بن العاص بطعام ، فصنع لهم وأمرهم أن يحضروا لذلك ، فصنع لهم الثريد والعراق ، وأمر أصحابه بلباس الأكسية ، واشتمال الصمّاء والقعود على الركب ، فلما حضرت الروم ، وضعوا كراسي الديباج ، فجلسوا عليها ، وجلست العرب إلى جوانبهم ، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة العظيمة من الثريد ، وينهش من ذلك اللحم ، فيتطاير على من إلى جنبه من الروم ، فبشعت الروم ذلك ، وقالت : أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم : أولئك أصحاب المشورة ، وهؤلاء أصحاب الحرب.

وقال الكنديّ : وذكر يزيد بن أبي حبيب : أنّ عدد الجيش الذين كانوا مع عمرو بن العاص خمسة عشر ألفا وخمسمائة ، وذكر عبد الرحمن بن سعيد بن مقلاص : أنّ الذي جرت سهمانهم في الحصن من المسلمين اثنا عشر ألفا وثلثمائة بعد من أصيب منهم في الحصار بالقتل والموت ، ويقال : إنّ الذين قتلوا في هذا الحصار من المسلمين دفنوا في أصل الحصن.

وذكر القضاعيّ : أنّ مصر فتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم سنة عشرين ، وقيل : فتحت سنة ست عشرة ، وهو قول الواقديّ ، وقيل : فتحت والإسكندرية سنة خمس وعشرين ، والأكثر على أنها فتحت قبل عام الرّمادة ، وكانت الرّمادة في آخر سنة سبع عشرة ، وأول ثمان عشرة.

ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة؟

وقد اختلف في فتح مصر ، فقال قوم : فتحت صلحا ، وقال آخرون : إنما فتحت عنوة ، فأمّا الذين قالوا كان فتح مصر بصلح ، فإنّ حسين بن شفي قال : لما فتح عمرو بن

٨١

العاص الإسكندرية بقي من الأسارى بها ممن بلغ الخراج ، وأحصي يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان ، فاختلف الناس على عمرو في قسمهم ، فكان أكثر المسلمين يريد قسمها ، فقال عمرو : لا أقدر على قسمها ، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها ، وأنّ المسلمين طلبوا قسمها ، فكتب إليه عمر رضي‌الله‌عنه : لا تقسمها ، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين ، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم ، فأقرّها عمرو ، وأحصى أهلها ، وفرض عليهم الخراج ، فكانت مصر كلها صلحا بفريضة : دينارين دينارين ، إلّا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلّا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم ، لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ، ولا عقد ، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.

وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب : مصر كلها صلح إلّا الإسكندرية فإنها فتحت عنوة.

وقال عبد الله بن أبي جعفر : حدّثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال : للقبط عهد عند فلان ، وعهد عن فلان ، فسمي ثلاثة نفر ، وفي رواية : إنّ عهد أهل مصر كان عند كبرائهم ، وفي رواية : سألت شيخا من القدماء عن فتح مصر ، قلت له : فإن ناسا يذكرون أنه لم يكن لهم عهد ، فقال : ما يبالي أن لا يصلي من قال : إنه ليس لهم عهد ، فقلت : فهل كان لهم كتاب؟ فقال : نعم ، كتب ثلاثة : كتاب عند ظلما صاحب إخنا ، وكتاب عند قرمان صاحب رشيد ، وكتاب عند بحنس صاحب البرلس ؛ قلت : كيف كان صلحهم؟ قال : دينارين على كل إنسان جزية ، وأرزاق المسلمين ، قلت : فتعلم ما كان من الشروط؟ قال : نعم ، ستة شروط : لا يخرجون من ديارهم ، ولا تنزع نساؤهم ، ولا كفورهم ، ولا أراضيهم ، ولا يزاد عليهم.

وقال يزيد بن أبي حبيب عن أبي جمعة مولى عقبة قال : كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي‌الله‌عنه : يسأله أرضا يسترفق بها عند قرية عقبة ، فكتب له معاوية : بألف ذراع في ألف ذراع ، فقال له مولى له كان عنده : انظر أصلحك الله أرضا صالحة ، فقال له عقبة : ليس لنا ذلك إنّ في عهدهم شروطا ستة لا يؤخذ من أنفسهم شيء ، ولا من نسائهم ، ولا من أولادهم ، ولا يزاد عليهم ، ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم ، وأنا شاهد لهم بذلك.

وعن يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن حطان : أنه كان لقريات من مصر منهنّ : أم دنين وبلهيت عهد ، وإنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما سمع بذلك ، كتب إلى عمرو يأمره أن يخبرهم ، فإن دخلوا في الإسلام فذاك ، وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم ، وقال يحيى بن أيوب وخالد بن حميد : ففتح الله أرض مصر كلها بصلح غير الإسكندرية ، وثلاث

٨٢

قريات ظاهرت الروم على المسلمين سلطيس (١) ومصيل (٢) وبلهيت (٣) ، فإنه كان للروم جمع ، فظاهروا الروم على المسلمين ، فلما ظهر عليها المسلمون استحلوها ، وقالوا : هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية ، فكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر : أن يجعل الإسكندرية ، وهؤلاء الثلاث قريات ذمّة للمسلمين ، ويضربون عليهم الخراج ، ويكون خراجهم ، وما صالح عليه القبط كله قوّة للمسلمين لا يجعلون فيئا ، ولا عبيدا ، ففعلوا ذلك إلى اليوم.

وقال آخرون : بل فتحت مصر عنوة بلا عهد ، ولا عقد. قال سفيان بن وهب الخولانيّ : لما افتتحنا مصر بغير عهد ، ولا عقد ، قام الزبير بن العوّام فقال : اقسمها يا عمرو بن العاص ، فقال عمرو : والله لا أقسمها ، فقال الزبير : والله لنقسمنها ، كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر ، فقال عمرو : والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب إلى عمر ، فكتب إليه عمر : أقرّها حتى يغزو منها حبل الحبلة ، وصولح الزبير على شيء أرضي به ، وقال ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة : إنّ مصر فتحت عنوة ، وعن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال : سمعت أشياخنا يقولون : إنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ، ولا عقد منهم ، أبي يحدّثنا عن أبيه ، وكان فيمن شهد فتح مصر ، وعن أبي الأسود عن عروة : إنّ مصر فتحت عنوة ، وعن عمرو بن العاص أنه قال : لقد قعدت مقعدي هذا ، وما لأحد من قبط مصر عليّ عهد ، ولا عقد إلّا أهل أنطابلس (٤) كان لهم عهد يوفي به إن شئت قبلت ، وإن شئت خمست ، وإن شئت بعت. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنّ عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد ، ولا عقد ، وأنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه حبس درها وضرعها أن يخرج منه شيء نظرا للإسلام وأهله.

وعن يزيد بن أسلم قال : كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده ، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد ، فمن أسلم منهم أقامه ومن أقام منهم قوّمه ، وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم ، فسأل عمر عراك بن مالك ، فقال عراك : ما سمعت لهم بعهد ولا عقد ، وإنما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد ، فكتب عمر إلى حيّان : أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم ، وقال يحيى بن عبد الله بن بكير : خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية في سفينة ، فاحتاج إلى رجل يجذف ، فسخر رجلا من القبط ، فكلم في

__________________

(١) سلطيس : من قرى مصر القديمة. معجم البلدان ج ٣ / ٢٣٦.

(٢) مصيل : من قرى مصر كان أهلها ممن أعان على عمرو بن العاص فسباهم وحملهم إلى المدينة. معجم البلدان ج ٥ / ١٤٥.

(٣) بلهيت : في معجم البلدان : بلهيب من قرى مصر. ج ١ / ٤٩٢.

(٤) أنطابلس : معناه بالرومية خمس مدن وهي مدينة بين الإسكندرية وبرقة. معجم البلدان ج ١ / ٢٦٦.

٨٣

ذلك ، فقال : إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم.

وقال ابن لهيعة عن الصلت بن أبي عاصم : إنه قرأ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح : أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.

وعن عبيد الله بن أبي جعفر : أن كاتب حيان حدّثه : أنه احتيج إلى خشب لصناعة الجزيرة ، فكتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يذكر ذلك له ، وأنه وجد خشبا عند بعض أهل الذمّة ، وأنه كره أن يأخذها منهم حتى يعلمه ، فكتب إليه عمر : خذها منهم بقيمة عدل ، فإني لم أجد لأهل مصر عهدا أفي لهم به ، وقال عمر بن عبد العزيز لسالم : أنت تقول ليس لأهل مصر عهد؟ قال : نعم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : أنّ عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في رهبان يترهبون بمصر ، فيموت أحدهم ، وليس له وارث ، فكتب إليه عمر : أن من كان منهم له عقب ، فادفع ميراثه إلى عقبه ، فإن لم يكن له عقب ، فاجعل ماله في بيت مال المسلمين ، فإن ولاءه للمسلمين.

وقال ابن شهاب : كان فتح مصر بعضها بعهد وذمّة ، وبعضها عنوة ، فجعلها عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه جميعها ذمّة ، وحملهم على ذلك ، فمضى ذلك فيهم إلى اليوم ، واشترى الليث بن سعد شيئا من أرض مصر لأنه كان يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب : أن مصر صلح ، وكان مالك بن أنس ينكر على الليث ذلك ، وأنكر عليه أيضا عبد الله بن لهيعة ، ونافع بن يزيد لأنّ مصر عندهم كانت عنوة.

ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي‌الله‌عنهم

قال ابن عبد الحكم : وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش وغيرهم ، وممن لم يكن له برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحبة الزبير بن العوّام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن العاص ، وكان أمير القوم ، وعبد الله بن عمرو ، وخارجة ابن حذاقة العدويّ ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقيس بن أبي العاص السهميّ ، والمقداد بن الأسود ، وعبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح العامري ، ونافع بن عبد قيس الفهريّ ، ويقال : بل هو عقبة بن نافع ، وأبو عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهريّ ، وأبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابن عبدة ، وابن عبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة ، ووردان مولى عمرو بن العاص ، وكان حامل لواء عمرو بن العاص وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص ، فقيل : إنما دخلها بعد الفتح ، وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت ، وقد شهد بدرا وبيعة العقبة ، ومحمد بن مسلمة الأنصاريّ ، وقد شهد بدرا وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إلى مصر ، فقاسم عمرو بن العاص ماله ، وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوّام ، ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ ، يقال له : صحبة ، وأبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريّ ، وأبو الدرداء عويمر بن عامر ، وقيل : عويمر بن زيد ، ومن أحياء

٨٤

القبائل أبو نصرة جميل بن نصرة الغفاريّ ، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ ، وشهد الفتح مع عمرو بن العاص : هبيب بن معقل ، وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب ، وعبد الله ابن الحارث ابن جزء الزبيديّ ، وكعب بن ضبة العبسيّ ، ويقال : كعب بن يسار بن ضبة ، وعقبة بن عامر الجهنيّ ، وهو كان رسول عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص حين كتب إليه يأمره أن يرجع إلى لم يكن دخل أرض مصر ، وأبو زمعة البلويّ وبرح بن حسكل (١) ويقال : برح بن عسكر.

وشهد فتح مصر واختط بها ، وجنادة بن أبي أمية الأزديّ ، وسفيان بن وهب الخولانيّ ، وله صحبة ، ومعاوية بن خديج الكنديّ ، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية ، وقد اختلف فيه ، فقال قوم : له صحبة ، وقال آخرون : ليست له صحبة ، وعامر مولى حمل الذي يقال له : عامر حمل شهد الفتح ، وهو مملوك ، وعمار بن يسار ، ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان وجهه إليها في بعض أموره. وقال ابن عبد الحكم : منهم من اختط بالبلد ، فذكرنا خطته ، ومنهم من لم يذكر له خطة ، قال : فاختط عمرو بن العاص داره التي عند باب المسجد بينهما الطريق ، وداره الأخرى اللاصقة إلى جنبها ، وفيها دفن عبد الله بن عمرو ، فيما زعم بعض مشايخ البلد لحدث كان يومئذ في البلد ، والحمام الذي يقال له حمام الفار ، وإنما قيل له : حمام الفار لأنّ حمامات الروم كانت ديماسات كبارا ، فلما نبي هذا الحمام ، ورأوا صغره قالوا : من يدخل هذا؟ هذا حمام الفار.

ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط

قال ابن عبد الحكم عن يزد بن أبي حبيب : أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ، ورأى بيوتها ، وبناءها مفروغا منها ، همّ أن يسكنها ، وقال : مساكن قد كفيناها ، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يستأذنه في ذلك ، فسأل عمر الرسول : هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، إذا جرى النيل ، فكتب عمر إلى عمرو : إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف ، فتحوّل عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط ، قال : وكتب عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إلى سعد بن أبي وقاص ، وهو نازل بمدائن كسرى ، وإلى عامله بالبصرة ، وإلى عمرو بن العاص ، وهو نازل بالإسكندرية : أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت ، فتحوّل سعد من مدائن كسرى إلى الكوفة ، وتحوّل صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه ، فنزل البصرة ، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط.

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : برح بن عسكل.

٨٥

قال : وإنما سميت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم ، أمر بنزع فسطاطه ، فإذا فيه يمام قد فرّخ ، فقال عمرو : لقد تحرّم منا بمتحرّم ، فأمر به فأقرّ كما هو ، وأوصى به صاحب القصر ، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا : أين ننزل؟ قالوا : الفسطاط ، لفسطاط عمرو الذي كان خلفه ، وكان مضروبا في موضع الدار التي تعرف اليوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغيرة.

قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ : كان فسطاط عمرو عند درب حمام شمول بخط الجامع ، وقال ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث في حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الفسطاط» يرويه سويد بن عبد العزيز عن النعمان بن المنذر عن مكحول عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والفسطاط : المدينة ، وكل مدينة : فسطاط ، ولذلك قيل لمصر : فسطاط. وقال البكريّ : الفسطاط بضم أوّله وكسره وإسكان ثانيه : اسم لمصر ، ويقال : فسطاط وبسطاط. قال المطرّزي : وفصطاد ، وفستاد ، وبكسر أوائل جميعها ، فهي عشر لغات. وقال ابن قتيبة : كل مدينة فسطاط ، وذكر حديث : عليكم بالجماعة ، فإنّ يد الله على الفسطاط ، وأخبرني أبو حاتم عن الأصمعيّ أنه قال : حدّثني رجل من بني تميم قال : قرأت في كتاب رجل من قريش : هذا ما اشترى فلان بن فلان من عجلان مولى زياد ، اشترى منه خمسمائة جريب (١) حيال الفسطاط ، يريد البصرة ، ومنه قول الشعبيّ في الآبق إذا أخذ في الفسطاط عشرة ، وإذا أخذ خارجا عن الفسطاط أربعون ، وأراد أن يد الله على أهل الأمصار وأنّ من شذ عنهم ، وفارقهم في الرأي فقد خرج عن يد الله ، وفي ذلك آثار ، والله أعلم.

ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط

اعلم : أنّ الخطط التي كانت بمدينة فسطاط مصر ، بمنزلة الحارات التي هي اليوم بالقاهرة ، فقيل لتلك في مصر : خطة ، وقيل لها في القاهرة : حارة.

قال القضاعيّ : ولما رجع عمرو من الإسكندرية ، ونزل موضع فسطاطه ، انضمت القبائل بعضها إلى بعض ، وتنافسوا في المواضع ، فولى عمرو على الخطط : معاوية بن خديج التجيبيّ ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ ، وحيويل بن ناشزة المغافريّ ، وكانوا هم الذين أنزلوا الناس ، وفصلوا بين القبائل ، وذلك في سنة إحدى وعشرين.

__________________

(١) الجريب : مكيال قدر أربعة أقفزة.

٨٦

خطة أهل الراية : أهل الراية جماعة من قريش ، والأنصار وخزاعة ، وأسلم ، وغفار ، ومزينة ، وأشجع ، وجهينة ، وثقيف ، ودوس ، وعبس بن بغيض ، وحرش من بني كنانة ، وليث بن بكر ، والعتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء في غير الراية ، وإنما سموا أهل الراية ، ونسبت الخطة إليهم لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان ، فكره كل بطن منهم أن يدعى باسم قبيلة غير قبيلته ، فجعل لهم عمرو بن العاص راية ، ولم ينسبها إلى أحد فقال : يكون موقفكم تحتها ، فكانت لهم كالنسب الجامع ، وكان ديوانهم عليها ، وكان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الولاية بينهم ، وهذه الخطة محيطة بالجامع من جميع جوانبه ، ابتدأوا من المصف الذي كانوا عليه في حصارهم الحصن ، وهو باب الحصن الذي يقال له : باب الشمع ، ثم مضوا بخطتهم إلى حمام الفار ، وشرعوا بغربيها إلى النيل ، فإذا بلغت إلى النحاسين ، فالجانبان لأهل الراية إلى باب المسجد الجامع المعروف : بباب الوراقين ، ثم يسلك على حمام شمول ، وفي هذه الخطة زقاق القناديل إلى تربة عفان إلى سوق الحمام إلى باب القصر الذي بدأنا بذكره.

خطة مهرة : بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير : وخطة مهرة هذه قبليّ خطة الراية ، واختطت مهرة أيضا على سفح الجبل الذي يقال له : جبل يشكر مما يلي الخندق إلى شرقيّ العسكر إلى جنان بني مسكين ، ومن جملة خطة مهرة الموضع الذي يعرف اليوم بمساطب الطباخ ، واسمه حمد ، ويقال : إنّ الخطة التي لهم قبليّ الراية كانت حوزا لهم يربطون فيها خيلهم إذا رجعوا إلى الجمعة ، ثم انقطعوا إليها ، وتركوا منازلهم بيشكر.

خطة تجيب : وتجيب هم بنو عديّ ، وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة ، فمن كان من ولد عديّ ، وسعد يقال لهم : تجيب ، وتجيب : أمّهم ، وهذه الخطة تلي خطة مهرة ، وفيها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقيّ.

وخطط لخم في موضعين : فمنها خطة لخم بن عديّ بن مرّة بن أدد ، ومن خالطها من جذام ، فابتدأت لخم بخطتها من الذي انتهت إليه خطة الراية وأصعدت ذات الشمال ، وفي هذه الخطة سوق بربر ، وشارعه مختلط فيما بين لخم ، والراية ولهم خطتان أخريان ، إحداهما منسوبة إلى بني رية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم ، وأوّلها شرقيّ الكنيسة المعروفة : بمكائيل التي عند خليج بني وائل ، وهذا الموضع اليوم وراقات يعمل فيها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر ، والخطة الثانية : خطة راشدة بن أدب بن جزيلة من لخم ، وهي متاخمة للخطة التي قبلها ، وفي هذه الخطة جامع راشدة ، وجنان كهمس بن معمر الذي عرف : بالمادرانيّ ، ثم عرف بجنان الأمير تميم ، وهو اليوم يقال له : المعشوق بجوار الآثار النبوية ، ولهم مواضع مع اللفيف ، وخطط أيضا بالحمراء.

٨٧

خطط اللفيف : إنما سموا بذلك لالتفات بعضهم ببعض ، وسبب ذلك : أنّ عمرو بن العاص ، لما فتح الإسكندرية أخبر أنّ مراكب الروم قد توجهت إلى الإسكندرية لقتال المسلمين ، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزديّ الحجريّ ليأتيه بالخبر ، فمضى وأسرعت هذه القبائل التي تدعى اللفيف ، وتعاقدوا على اللحاق به ، واستأذنوا عمرو بن العاص في ذلك ، فأذن لهم وهم جمع كثير ، فلما رآهم عمرو بن جمالة استكثرهم ، وقال : تالله ما رأيت قوما قد سدّوا الأفق مثلكم ، وإنكم كما قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء / ١٠٤] فبذلك سموا من يومئذ اللفيف ، وسألوا عمرو بن العاص : أن يفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلك ، فقالوا لعمرو : فإنا نجتمع في المنزل حيث كنا ، فأجابهم إلى ذلك ، فكانوا مجتمعين في المنزل متفرّقين في الديوان إذا دعي كل بطن منهم ، انضم إلى بني أبيه.

قال قتادة ومجاهد والضحاك بن مزاحم في قوله : (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء / ١٠٤] قال : جميعا ، وكان عامتهم من الأزد من الحجر ، ومن غسان ، ومن شجاعة ، والتف بهم نفر من جذام ولخم والزحاف ، وتنوخ من قضاعة ، فهم مجتمعون في المنزل متفرّقون في الديوان ، وهذه الخطة أوّلها مما يلي الراية سالكا ذات الشمال إلى نقاشي البلاط ، وفيها دار ابن عشرات إلى نحو من سوق وردان.

خطط أهل الظاهر : إنما سمي هذا المنزل بالظاهر ، لأنّ القبائل التي نزلته كانت بالإسكندرية ، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص ، وبعد أن اختط الناس خططهم ، فخاصمت إلى عمرو ، فقال لهم معاوية بن خديج : وكان ممن يتولى الخطط يومئذ أرى لكم أن تظهروا على أهل هذه القبائل ، فتتخذوا منزلا فسمي الظاهر بذلك ، وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء ، وهم جماع من القبائل ، كانوا يقطعون على أيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث إليهم ، فأتى بهم أسرى ، فأعتقهم ، فقيل لهم : العتقاء ، وديوانهم مع أهل الراية ، وخطتهم بالظاهر متوسطة فيه ، وكان فيهم طوائف من الأزد وفهم ، وأوّل هذه الخطة من شرقيّ خطة لخم ، وتتصل بموضع العسكر ، ومن هذه الخطة سويقة العراقيين ، وعرفت بذلك ونّ زيادا لما ولاه معاوية بن أبي سفيان البصرة ، غرّب جماعة من الأزد إلى مصر ، وبها مسلمة بن مخلد في سنة ثلاث وخمسين ، فنزل منهم هنا نحو من مائة وثلاثين ، فقيل لموضعهم من خطة الظاهر : سويقة العراقيين.

خطط غافق : هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد ، وهذه الخطة تلي خطة لخم إلى خطة الظاهر ، بجوار درب الأعلام.

خطط الصدف : واسمه مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير ، ودعوتهم مع كندة.

٨٨

خطط الفارسيين : واستبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسيين ، وهم بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام ، أسلموا بالشأم ، ورغبوا في الجهاد ، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر ، فاختطوا بها ، وأخذوا في سفح الجبل الذي يقال له : جبل باب البون ، وهذا الجبل اليوم شرقيّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء ، وهي من جملة العسكر.

خطة مذحج : بالحاء قبل الجيم ، وهو مالك بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان.

خطة غطيف : بن مراد.

خطة وعلان : بن قرن بن ناجية بن مراد ، وكلهم من مذحج ، فاختطت وعلان من الزقاق الذي فيه الصنم المعروف بسرية فرعون ، وهذا الزقاق أوّله باب السوق الكبير ، واختطت أيضا بجولان ، ثم انفردت وعلان بخططها مقابل المسجد المعروف : بالدينوريّ ، وأسندت إلى خولان ، وهذه الخطة اليوم : كيمان تطلّ على قبر القاضي بكار.

خطة يحصب : بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث ، وهذه الخطة موضعها : كيمان ، وهي تتصل بالشرف الذي يعرف اليوم : بالرصد المطلّ على راشدة.

خطة رعين : بن زيد بن سهل.

خطة ذي الكلاع : بن شرحبيل بن سعد من حمير.

خطة المغافر : بن يعفر بن مرّة بن أدد ، وهذه الخطة من الرصد إلى قاية بن طولون ، وهي القناطر التي تطلّ على عفصة ، وتفصل بين القرافتين والقناطر للمغافر ، ولهم إلى مصلى خولان ، وإلى الكوم المشرف على المصلى.

خطة سبا وخطة الرحبة : بن زرعة بن كعب.

خطة السلف بن سعد : فيما بين الكوم المطلّ على القاضي بكار ، وبين المغافر.

خطة بني وائل : بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عديّ ، وهي من سفح الشرف المعروف بالرصد إلى خطة الجولان.

خطة القبض : بالتحريك ، بن مرثد ، وهي بجانب خطة بني وائل إلى نحو بركة الحبش ، قال : وكان سبب نزول بني وائل ، والقبض ورية وراشدة والفارسيين هذه المواضع أنهم كانوا في طوالع عمرو بن العاص ، فنزلوا في مقدّمة الناس ، وحازوا هذه المواضع قبل الفتح.

خطط الحمراوات الثلاث : قال الكنديّ : وكانت الحمراء على ثلاثة : بنو نبه وروبيل

٨٩

والأزرق ، وكانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلى مصر من عجم الشأم ممن كان رغب في الإسلام من قبل اليرموك ، ومن أهل قيسارية وغيرهم.

قال القضاعيّ : وإنما قيل الحمراء لنزول الروم بها ، وهط خطط بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وفهم وعدوان ، وبعض الأزد وهم ثراد ، وبني بحر ، وبني سلامان ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وبني نبه ، وبني الأزرق ، وهم من الروم ، وبني روبيل ، وكان يهوديا ، فأسلم. فأوّل ذلك الحمراء الدنيا خطة بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنها خطة ثراد من الأزد ، وخطة فهم بن عمرو بن قيس عيلان ، ومنها خطة بني بحر بن سوادة من الأزد.

ومن ذلك الحمراء الوسطى : منها خطة بني نبه ، وهم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل ، ومنها خطة هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، ومنها خطة بني سلامان من الأزد ، ومنها خطة عدوان.

ومن ذلك الحمراء القصوى ، وهي خطة بني الأزرق ، وكان روميا حضر الفتح منهم أربعمائة ، وخطة بني روبيل ، وكان يهوديا فأسلم ، وحضر الفتح منهم ألف رجل ، وخطة بني يشكر بن جزيلة بن لخم وكانت منازل يشكر مفرّقة في الجبل ، فدثرت قديما ، وعادت صحراء حتى جاءت المسودّة ، يعني جيوش بني العباس ، فعمروها ، وهي الآن خراب.

وقال ابن المتوّج : الحمراوات ثلاث : أولى ، ووسطى ، وقصوى. فأمّا الأولى : فتجمع جابر الأور ، وعقبة العدّاسين ، وسوق وردان ، وخطة الزبير إلى نقاشي البلاط طولا وعرضا على قدر ذلك ، وأمّا الوسطى : فمن درب نقاشي البلاط إلى درب معاني طولا وعرضا على قدره ، وأمّا القصوى فمن درب معاني إلى القناطر الظاهرية يعني قناطر السباع ، وهي حدّ ولاية مصر من القاهرة ، وكانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر في زمن الروم ، فإذا الحمراء الأولى والوسطى هما الآن خراب ، وموضعهما فيما بين سوق المعاريج ، وحمام طن من شرقيهما إلى ما يقابل المراغة في الشرق ، وأما الحمراء الدنيا فهي الآن تعرف بخط قناطر السباع ، وبخط السبع سقايات ، وبحكر الخليليّ ، وحكر أقبغا والكوم ، حيث الأسرى ومنها أيضا خط الكبش ، وخط الجامع الطولونيّ والعسكر ، ومنها حدرة ابن قميحة إلى حيث قنطرة السدّ ، وبستان الطواشي ، وما في شرقيه إلى مشهد الرأس المعروف بزين العابدين ، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند ذكر العسكر ، وكانت مدينة الفسطاط على قسمين هما : عمل فوق ، وعمل أسفل.

فعمل فوق له طرفان غربيّ وشرقيّ ، فالغربيّ من شاطىء النيل في الجهة القبلية ، وأنت مار في الشرف المعروف اليوم بالرصد إلى القرافة الكبرى ، والشرقيّ من القرافة الكبرى إلى العسكر ، وعمل أسفل ما عدا ذلك إلى حدّ القاهرة.

٩٠

ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر

اعلم : أنّ عدّة من ولي مصر من الأمراء في الإسلام منذ فتحت ، وسكن الفسطاط إلى أن بني العسكر تسعة وعشرون أميرا في مدّة مائة وثلاث عشرة سنة وسبعة أشهر ، أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين من الهجرة النبوية ، وهو يوم فتح مصر ، وآخرها سلخ شهر رجب سنة ثلاث ومائة آخر ولاية صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس على مصر ، وأوّل ولاية أبي عون عبد الملك ، وهو أوّل من سكن العسكر من أمراء مصر.

وأوّل أمراء الفسطاط بعد الفتح على ما ذكر الكنديّ وغيره : عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك : أبو عبد الله ، كان تاجرا في الجاهلية ، وكان يختلف بتجارته إلى مصر ، وهي الأدم والعطر ، ثم ضرب الدهر ضرباته حتى فتح المسلمون الشأم ، فخلا بعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فاستأذنه في المسير إلى مصر ، فسار في سنة تسع عشرة ، وأتى الحصن ، فحاصره سبعة أشهر إلى أن فتحه في يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين ، وقيل : كان فتح مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة لدقلطيانوس ، فعلى هذا يكون فتح مصر في سنة تسع عشرة من الهجرة ، وتحرير ذلك أن الذي بين يوم الجمعة أوّل يوم من ملك دقلطيانوس ، وبين يوم الخميس أوّل سنة الهجرة ثمان وثلاثون وثلثمائة سنة فارسية ، وتسعة وثلاثون يوما ، فإذا ألغينا ذلك من تاريخ مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة بقي ثمان عشر سنة ، وثمانية أشهر وثلاثة أيام ، وهذه سنون شمسية عنها من سني القمر تسع عشر سنة وشهر وثلاثة عشر يوما ، فيكون ذلك في ثالث عشر ربيع الأوّل سنة عشرين ، فلعل الوهم وقع في الشهر القبطيّ ، وحاز الحصن بما فيه ، وسار إلى الإسكندرية في ربيع الأوّل منها ، فحاصرها ثلاثة أشهر ، ثم فتحها عنوة ، وهو الفتح الأوّل ، ويقال : بل فتحها مستهل سنة إحدى وعشرين ، ثم سار عنها إلى برقة ، فافتتحها عنوة في سنة اثنتين وعشرين ، وقيل : في سنة ثلاث وعشرين ، وقدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قدمتين استخلف في إحداهما زكريا بن جهم العبدريّ ، وفي الثانية ابنه عبد الله ، وتوفي عمر رضي‌الله‌عنه في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، وبويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فوفد عليه عمرو ، وسأله عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن صعيد مصر ، وكان عمر ولاه الصعيد ، فامتنع من ذلك عثمان ، وعقد لعبد الله بن سعد على مصر كلها ، فكانت ولاية عمرو على مصر : صلاتها وخراجها ، منذ افتتحها إلى أن صرف عنها أربع سنين وأشهرا.

٩١

عبد الله بن سعد (١) بن أبي سرح ، واسمه الحسام بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ ، ولي من قبل أمير المؤمنين عثمان رضي‌الله‌عنه ، فجاءه الكتاب بالفيوم ، فجعل لأهل أطواف جعلا فقدموا به الفسطاط ، ثم إن منويل الخصيّ سار إلى الإسكندرية في سنة أربع وعشرين ، فسأل أهل مصر : عثمان أن يردّ عمرو بن العاص لمحاربته ، فردّه واليا على الإسكندرية ، فحارب الروم بها حتى افتتحها ، وعبد الله بن سعد مقيم بالفسطاط ، حتى فتحت الإسكندرية الفتح الثاني عنوة في سنة خمس وعشرين ، ثم جمع لعبد الله بن سعد أمير مصر صلاتها وخراجها ، ومكث أميرا مدّة ولاية عثمان رضي‌الله‌عنه كلها ، محمودا في ولايته ، وغزا ثلاث غزوات كلها لها شأن ، غزا إفريقية سنة سبع وعشرين ، وقتل ملكها جرجير ، وغزا غزوة الأساود حتى بلغ دنقلة في سنة إحدى وثلاثين ، وغزا ذا الصواري في سنة أربع وثلاثين ، فلقيهم قسطنطين بن هرقل في ألف مركب ، وقيل : في سبعمائة مركب والمسلمون في مائتي مركب ، فهزم الله الروم ، وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب ، واجتماعها ، ووفد على عثمان حين تكلم الناس بالطعن على عثمان ، واستخلف عقبة بن عامر الجهنيّ ، وقيل : السائب بن هشام العامريّ ، وجعل على خراجها سليمان بن عتر التجيبي ، وكان ذلك سنة خمس وثلاثين في رجب.

محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. أمّر في شوال سنة خمس وثلاثين على عقبة بن عامر خليفة عبد الله بن سعد ، فأخرجه من الفسطاط ، ودعا إلى خلع عثمان ، وأسعر البلاد ، وحرّض على عثمان بكل شرّ يقدر عليه ، فاعتزله شيعة عثمان ، ونابذوه ، وهم : معاوية بن خديج ، وخارجة بن حذافة ، وبسر بن أرطأة ، ومسلمة بن مخلد في جمع كثير ، وبعثوا إلى عثمان بأمرهم ، وبصنيع ابن أبي حذيفة ، فبعث سعد بن أبي وقاص : ليصلح أمرهم ، فخرج إليه جماعة ، فقلبوا عليه فسطاطه ، وشجوه وسبوه ، فركب وعاد راجعا ، ودعا عليهم ، وأقبل عبد الله بن سعد ، فمنعوه أن يدخل ، فانصرف إلى عسقلان ، وقتل عثمان رضي‌الله‌عنه ، وابن سعد بعسقلان ، ثم أجمع ابن أبي حذيفة على بعث جيش إلى عثمان ، فجهز إليه ستمائة رجل عليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ ، ثم قتل عثمان في ذي الحجة منها ، فثار شيعة عثمان بمصر ، وعقدوا لمعاوية بن خديج (٢) ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان ، وساروا إلى الصعيد ، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة خيلا ، فهزمت ، ومضى ابن خديج إلى برقة ، ثم رجع إلى الإسكندرية ، فبعث

__________________

(١) هو أخو عثمان بن عفان لأمه وكان قد أسلم ثم ارتد فأهدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه وقد شفع له عثمان يوم فتح مكة توفي بالشام سنة ٣٧ ه‍. النجوم الزاهرة ج ١.

(٢) معاوية بن خديج ، وقيل : خديج الكوفي التجيبي شهد فتح مصر وتوفي بها سنة ٥٢ ه‍. النجوم الزاهرة ج ١.

٩٢

إليه ابن أبي حذيفة بجيش آخر فاقتتلوا بخربتا (١) في أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين ، فانهزم الجيش ، وأقامت شيعة عثمان بخربتا.

وقدم معاوية بن أبي سفيان يريد الفسطاط ، فنزلت سلمنت (٢) في شوّال ، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر ، فمنعوه ثم اتفقا على أن يجعلا رهنا ، ويتركا الحرب ، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر : الحكم بن الصلت ، وخرج في الرهن هو وابن عديس ، وعدّة من قتلة عثمان ، فلما بلغوا لدّا سجنهم معاوية بها ، وسار إلى دمشق ، فهربوا من السجن ، وتبعهم أمير فلسطين ، فقتلهم في ذي الحجة سنة ست وثلاثين.

قيس بن سعد (٣) بن عبادة الأنصاري : ولاه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، لما بلغه مصاب ابن أبي حذيفة ، وجمع له الخراج والصلاة ، فدخل مصر مستهل ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين ، فاستمال الخارجية بخربتا شيعة عثمان ، وبعث إليهم أعطياتهم ، ووفد عليهم وفدهم ، فأكرمهم ، وكان من ذوي الرأي ، فجهد عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها ، فإنها كانت من جيش عليّ رضي‌الله‌عنه ، فامتنع منهما بالدهاء والمكايدة ، فلم يقدرا على مصر ، حتى كاد معاوية قيسا من قبل عليّ رضي‌الله‌عنه ، فأشاع أن قيسا من شيعته ، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سرّا ، فسمع ذلك جواسيس عليّ رضي‌الله‌عنه ، وما زال به محمد بن أبي بكر ، وعبد الله بن جعفر ، حتى كتب إلى قيس بن سعد يأمره بالقدوم إليه ، فوليها إلى أن عزل أربعة أشهر وخمسة أيام ، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين ، فوليها :

الأشتر مالك بن الحارث بن خالد النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، فلما قدم القلزم شرب عسلا فمات ، فبلغ ذلك عمرا ومعاوية ، فقال عمرو : إن لله جنودا من عسل.

ثم وليها : محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي‌الله‌عنه ، وجمع له صلاتها وخراجها ، فدخلها للنصف من رمضان سنة سبع وثلاثين ، فهدم دور شيعة عثمان ، ونهب أموالهم وسجن ذراريهم ، فنصبوا له الحرب ، ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية ، فلحقوا بمعاوية بالشام ، فبعث معاوية عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام إلى الفسطاط وتغيب ابن أبي بكر ، فظفر به معاوية بن خديج فقتله ، ثم جعله في جيفة

__________________

(١) خربتا : قرية بمديرية البحيرة مركز كوم حمادة.

(٢) سلمنت : قرية من كورة عين شمس.

(٣) هو قيس بن سعد بن دليم الأنصاري الخزرجي كان سيدا مطاعا جوادا كريما من دهاة العرب. وروى لو لا أني سمعت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المكر والخديعة في النار لكنت من أمكر العرب» توفي سنة ٦٠ ه‍. النجوم الزاهرة ج ١.

٩٣

حمار ميت ، وأحرقه بالنار لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين ، فكانت ولايته خمسة أشهر.

ثم وليها : عمرو بن العاص : ولايته الثانية من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي‌الله‌عنه ، فاستقبل بولايته شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين ، وجعل إليه الصلاة والخراج جميعا ، وجعلت مصر له طعمة بعد عطاء جندها ، والنفقة في مصلحتها ، ثم خرج عمرو للحكومة ، واستخلف على مصر ابنه عبد الله ، وقيل : بل خارجة بن حذافة ، ورجع إلى مصر ، وتعاقد بنو لخم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ ومعاوية وعمرو ، وتواعدوا ليلة من رمضان سنة أربعين ، فمضى كل منهم إلى صاحبه ، وكان يزيد هو صاحب عمرو ، فعرضت لعمرو علة منعته من حضور المسجد ، فصلى خارجة بالناس ، فشدّ عليه يزيد فضربه ، حتى قتله ، فدخل به على عمرو ، فقال : أما والله ما أردت غيرك يا عمرو ، قال عمرو : ولكن الله أراد خارجة ، ولله در القائل :

وليتها إذ فدت عمرا بخارجة

فدت عليا بمن شاءت من البشر

وعقد عمرو لشريك بن سميّ على غزو لواتة (١) من البربر ، فغزاهم في سنة أربعين ، وصالحهم ثم انتقضوا ، فبعث إليهم عقبة بن نافع في سنة إحدى وأربعين ، فغزاهم حتى هزمهم ، وعقد لعقبة أيضا على غزوة هوّارة ، وعقد لشريك بن سميّ : على غزوة لبدة (٢) ، فغزواهما في سنة ثلاث وأربعين ، فقفلا ، وعمرو شديد الدنف (٣) في مرض موته ، وتوفي ليلة الفطر ، فغسله عبد الله بن عمرو ، وأخرجه إلى المصلى وصلى عليه ، فلم يبق أحد شهد العيد إلّا صلى عليه ، ثم صلى بالناس صلاة العيد ، وكان أبوه استخلفه ، وخلف عمرو بن العاص سبعين بهارا دنانير ، والبهار : جلد ثور ، ومبلغه أردبان بالمصريّ ، فلما حضرته الوفاة أخرجه ، وقال : من يأخذه بما فيه ، فأبى ولده أخذه ، وقالا : حتى تردّ إلى كل ذي حق حقه ، فقال : والله ما أجمع بين اثنين منهم ، فبلغ معاوية ، فقال : نحن نأخذه بما فيه.

ثم وليها : عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية بن أبي سفيان على صلاتها ، فقدم في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين ، وأقام شهرا ، ثم وفد على أخيه ، واستخلف عبد الله بن قيس بن الحارث ، وكان فيه شدّة ، فكره الناس ولايته ، وامتنعوا منها ، فبلغ ذلك عتبة ، فرجع إلى مصر ، وصعد المنبر فقال : يا أهل مصر قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم ، وقد وليكم من إذا قال فعل ، فإن أبيتم درأكم بيده ، فإن أبيتم درأكم بسيفه ، ثم رجا في الأمير ما أدرك في الأوّل أن البيعة شائعة لنا عليكم السمع ، ولكم علينا العدل ،

__________________

(١) لواتة : قبيلة في المغرب العربي.

(٢) لبدة : مدينة بين برقة وإفريقية ، وقيل : بين طرابلس وجبل نفوسة. معجم البلدان ج ٥ / ١٠.

(٣) الدّنف : المرض الملازم.

٩٤

وأينا غدر ، فلا ذمّة له عند صاحبه ، فناداه المصريون من جنبات المسجد سمعا سمعا فناداهم عدلا عدلا ، ثم نزل ثم جمع له معاوية الصلات والخراج ، وعقد عتبة لعلقمة بن زيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفا من أهل الديوان تكون لها رابطة ، ثم خرج إليها مرابطا في ذي الحجة سنة أربع وأربعين ، فمات بها واستخلف على مصر عقبة بن عامر الجهنيّ ، فكانت ولايته ستة أشهر.

ثم وليها : عقبة بن عامر (١) بن عبس الجهنيّ من قبل معاوية ، وجعل له صلاتها وخراجها ، وكان قارئا فقيها مفرضا شاعرا ، له الهجرة والصحبة والسابقة ، ثم وفد مسلمة بن محمد الأنصاريّ على معاوية ، فولاه مصر ، وأمره أن يكتم ذلك عن عقبة بن عامر ، وجعل عقبة على البحر ، وأمره أن يسير إلى رودس ، فقدم مسلمة ، فلم يعلم بإمارته ، وخرج مع عقبة إلى الإسكندرية ، فلما توجه سائرا استوى مسلمة على سرير إمارته ، فبلغ ذلك عقبة فقال : أخلعا وغربة ، وكان صرفه لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين ، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر.

فولي مسلمة بن مخلد (٢) بن صامت بن نيار الأنصاريّ من قبل معاوية ، وجمع له الصلات والخراج والغزو ، فانتظمت غزواته في البر والبحر ، وفي إمارته نزلت الروم البرلس (٣) في سنة ثلاث وخمسين ، فاستشهد يومئذ : وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين ، وهدم ما كان عمرو بن العاص بناه من المسجد ، وبناه وأمر بابتناء منارات المساجد كلها إلا خولان وتجيب ، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ستين ، واستخلف عابس بن سعيد ، ومات معاوية بن أبي سفيان في رجب منها ، واستخلف ابنه يزيد بن معاوية ، فأقرّ مسلمة ، وكتب إليه بأخذ البيعة ، فبايعه الجند إلّا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه! فحينئذ بايع ليزيد ، وقدم مسلمة من الإسكندرية ، فجمع لعابس مع الشرط القضاء في سنة إحدى وستين ، وقال مجاهد : صليت خلف مسلمة بن مخلد ، فقرأ سورة البقرة ، فما ترك ألفا ولا واوا ، وقال ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد : كان مسلمة بن مخلد يصلي بنا ، فيقوم في الظهر ، فربما قرأ الرجل البقرة ، وتوفي مسلمة ، وهو وال لخمس بقين من رجب سنة اثنتين وستين ، فكانت ولايته خمس عشرة سنة وأربعة أشهر ، واستخلف عابس بن سعيد.

ثم وليها سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدي من أهل فلسطين ، فقدم

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) مسلمة بن مخلد بن الصامت الأنصاري أبو معمر. ولد عام الهجرة وشهد فتح مصر واختط بها. وتوفي فيها سنة ٦٢ ه‍. حسن المحاضرة للسيوطي.

(٣) البرلس : بليدة على شاطىء نيل مصر قرب البحر من جهة الإسكندرية. معجم البلدان ج ١ / ٤٠٢.

٩٥

مستهلّ رمضان سنة اثنتين وستين فتلقاه عمرو بن قحزم الخولانيّ ، فقال : يغفر الله لأمير المؤمنين أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك ، يولي علينا أحدهم ، ولم تزل أهل مصر على الشنآن له ، والإعراض عنه ، والتكبر عليه حتى توفي يزيد بن معاوية ، ودعا عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه إلى نفسه ، فقامت الخوارج الذين بمصر ، وأظهروا دعوته ، وسار منهم إليه ، فبعث لعبد الرحمن بن جحدم ، فقدم واعتزل سعيدا ، فكانت ولايته سنتين غير شهر.

ثم وليها : عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم من قبل عبد الله بن الزبير ، فدخل في شعبان سنة أربع وستين في جمع كثير من الخوارج ، فأظهروا التحكيم ، ودعوا إليه ، فاستعظم الجند ذلك ، وبايعه الناس على غل في قلوب شيعة بني أمية ، ثم بويع مروان بن الحكم بالخلافة في أهل الشام ، وأهل مصر معه في الباطن ، فسار إليها ، وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أيلة ليدخل مصر من هناك ، وأجمع ابن جحدم على حربه ، وحفر الخندق في شهر ، وهو الذي في شرقيّ القرافة ، وقدم مروان ، فحاربه ابن جحدم ، وقتل بينهما كثير من الناس ثم اصطلحا ، ودخل مروان لعشر من جمادى الأولى سنة خمس وستين ، فكانت مدّة ابن جحدم تسعة أشهر ، ووضع مروان العطاء ، فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا : لا نخلع بيعة ابن الزبير ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ثمانين رجلا ، وذلك للنصف من جمادى الآخرة ، يومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص ، فلم يستطع أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان ، وجعل مروان صلات مصر ، وخراجها إلى ابنه عبد العزيز ، وسار وقد أقام بها شهرين لهلال رمضان.

عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو الأصبغ ولي من قبل أبيه لهلال رجب سنة خمس وستين على الصلات والخراج ، ومات أبوه ، وبويع من بعده عبد الملك بن مروان ، فأقرّ أخاه عبد العزيز ، ووقع الطاعون بمصر سنة سبعين ، فخرج عبد العزيز منها ، ونزل حلوان ، فاتخذها دارا وسكنها ، وجعل بها الأعوان ، وبنى بها الدور والمساجد ، وعمرها أحسن عمارة ، وغرس نخلها وكرمها ، وعرّف بمصر ، وهو أول من عرّف بها في سنة إحدى وسبعين ، وجهز البعث في البحر لقتال ابن الزبير في سنة اثنتين وسبعين ، ثم مات لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين ، فكانت ولايته عشرين سنة ، وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما.

فولي : عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل أبيه على صلاتها وخراجها ، فدخل يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وثمانين ، وهو ابن تسع وعشرين سنة ، وقد تقدّم إليه أبوه أن يقتفي آثار عمه عبد العزيز ، فاستبدل بالعمال وبالأصحاب ، ومات عبد الملك ، بويع ابنه الوليد بن عبد الملك ، فأقرّ أخاه عبد الله ، وأمر عبد الله ، فنسخت دواوين مصر بالعربية ، وكانت بالقبطية ، وفي ولايته غلت الأسعار،

٩٦

فتشاءم الناس به ، وهي أوّل شدّة رأوها بمصر ، وكان يرتشي ، ثم وفد على أخيه في صفر سنة ثمان وثمانين ، واستخلف عبد الرحمن بن عمرو بن قحزم الخولانيّ ، وأهل مصر في شدّة عظيمة ، ورفع سقف المسجد الجامع في سنة تسع وثمانين ، ثم صرف ، فكانت ولايته ثلاث سنين وعشرة أشهر.

فولي : قرّة بن شريك (١) بن مرثد بن الحرث العبسيّ للوليد بن عبد الملك على صلات مصر وخراجها ، فقدمها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسعين ، وخرج عبد الله بن عبد الملك من مصر بكل ما ملكه ، فأحيط به في الأردن ، وأخذ سائر ما معه ، وحمل إلى أخيه ، وأمر الوليد بهدم ما بناه عبد العزيز في المسجد ، فهدم أوّل سنة اثنتين وتسعين ، وبنى واستنبط قرّة بن شريك : بركة الحبش من الموات وأحياها ، وغرس فيها القصب ، فقيل لها : اصطبل قرّة ، واصطبل القاش ، ثم مات وهو وال ليلة الخميس لست بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين ، واستخلف على الجند والخراج عبد الملك بن رفاعة ، فكانت ولايته ست سنين وأياما.

ثم ولي : عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهميّ : من قبل الوليد بن عبد الملك على صلاتها ، وتوفي الوليد ، واستخلف سليمان بن عبد الملك ، فأقرّ ابن رفاعة ، وتوفي سليمان ، وبويع عمر بن عبد العزيز ، فعزل ابن رفاعة ، فكانت ولايته ثلاث سنين.

ثم ولي : أيوب بن شرحبيل (٢) بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح ، من قبل عمر بن عبد العزيز على صلاتها في ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين ، فورد كتاب أمير المؤمنين : عمر بن عبد العزيز بالزيادة في أعطيات الناس عامّة ، وخمرت الخمر ، وكسرت وعطلت حاناتها ، وقسم للغارمين بخمسة وعشرين ألف دينار ، ونزعت مواريث القبط عن الكور ، واستعمل المسلمون عليها ، ومنع الناس الحمامات ، وتوفي عمر بن عبد العزيز ، واستخلف يزيد بن عبد الملك ، فأقرّ أيوب على الصلات إلى أن مات لإحدى عشرة ، وقيل : لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة ، فكانت ولايته سنتين ونصفا.

فولي : بشر بن صفوان (٣) الكلبيّ : من قبل يزيد بن عبد الملك قدمها لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة ، وفي إمرته نزل الروم تنيس ، ثم ولاه يزيد على إفريقية ،

__________________

(١) ولى نيابة مصر في زمن الوليد الأموي سنة ٩٠ ه‍ وأنشأ جامع الفسطاط ومؤرخوه يرمونه بالفسق والظلم توفي سنة ٩٦ ه‍. الأعلام ج ٥ ج ١٩٤.

(٢) أيوب بن شرحبيل بن أبرهة الأصبحي من النبلاء الصلحاء ولي مصر لعمر بن عبد العزيز سنة ١٨ ه‍ وحسنت أحوالها في أيامه توفي سنة ١٠١ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٣٨.

(٣) أمير المغرب وأحد الشجعان ذوي الرأي والحزم ولي مصر ثم إفريقية وغزا صقلية توفي بالقيروان سنة ١٠٩ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٥٤.

٩٧

فخرج إليها في شوّال سنة اثنتين ومائة ، واستخلف أخاه حنظلة.

فولي : حنظلة بن صفوان باستخلاف أخيه ، فأقرّه يزيد بن عبد الملك ، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ثلاث ومائة ، واستخلف عقبة بن مسلمة التجيبيّ ، وكتب يزيد بن عبد الملك في سنة أربع ومائة بكسر الأصنام والتماثيل ، فكسرت كلها ، ومحيت التماثيل ، ومات يزيد بن عبد الملك ، وبويع هشام بن عبد الملك ، فصرف حنظلة في شوّال سنة خمس ومائة ، فكانت ولايته ثلاث سنين.

وولي : محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم من قبل أخيه هشام بن عبد الملك على الصلات ، فدخل مصر لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس ومائة ، ووقع وباء شديد بمصر ، فترفع محمد إلى الصعيد هاربا من الوباء أياما ، ثم قدم وخرج عن مصر لم يلها إلّا نحوا من شهر ، وانصرف إلى الأردن.

فولي : الحرّ بن يوسف بن يحيى بن الحكم من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها ، فدخل لثلاث خلون من ذي الحجة سنة خمس ومائة ، وفي إمرته كان أوّل انتفاض القبط في سنة سبع ومائة ، ورابط بدمياط ثلاثة أشهر ، ثم وفد إلى هشام بن عبد الملك ، فاستخلف حفص بن الوليد ، وقدم في ذي القعدة من سنة سبع ، وانكشف النيل عن الأرض فبنى فيها ، وصرف في ذي القعدة سنة ثمان ومائة ، باستعفائه لمغاضبة كانت بينه وبين عبد الله بن الحبحاب متولي خراج مصر ، فكانت ولايته ثلاث سنين سواء.

وولي : حفص بن الوليد (١) بن سيف بن عبد الله من قبل هشام بن عبد الملك ، ثم صرف بعد جمعتين يوم الأضحى بشكوى ابن الحبحاب منه ، وقيل : صرف سلخ ثمان ومائة.

فولي : عبد الملك بن رفاعة ثانيا على الصلات ، فقدم من الشام عليلا لثنتي عشرة بقيت من المحرّم سنة تسع ومائة ، وكان أخوه الوليد يخلفه من أوّل المحرّم ، وقيل : بل ولي أوّل المحرّم ، ومات للنصف منه ، وكانت ولايته خمس عشرة ليلة.

ثم ولي أخوه : الوليد بن رفاعة باستخلاف أخيه ، فأقرّه هشام بن عبد الملك على الصلات ، وفي ولايته نقلت قيس إلى مصر ، ولم يكن بها أحد منهم ، وخرج وهيب اليحصبيّ شاردا في سنة سبع عشرة ومائة من أجل أنّ الوليد أذن للنصارى في ابتناء كنيسة يوحنا بالحمراء ، وتوفي وهو وال أوّل جمادى الآخرة سنة سبع عشرة ، واستخلف عبد الرحمن بن خالد ، فكانت إمرته تسع سنين وخمسة أشهر.

__________________

(١) ولي مصر لهشام بن عبد الملك سنة ١٠٨ ه‍ واضطربت أحوال مصر في أيامه قتل في سنة ١٢٨ ه‍.

الأعلام ج ٢ / ٢٦٤.

٩٨

فولي : عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ أبو الوليد من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها ، وفي إمرته نزل الروم على تروجة (١) ، فحاصروها ، ثم اقتتلوا فأسروا ، فصرفه هشام ، فكانت ولايته سبعة أشهر.

وولي : حنظلة بن صفوان ثانيا فقدم لخمس خلون من المحرّم سنة تسع ومائة ، فانتفض القبط ، وحاربهم في سنة إحدى وعشرين ومائة ، وقدم رأس زيد بن عليّ إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة ، ثم ولاه هشام إفريقية ، فاستخلف حفص بن الوليد بإمرة هشام ، وخرج لسبع خلون من ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة ، فكانت ولايته هذه خمس سنين وثلاثة أشهر.

وولي : حفص بن الوليد الحضرميّ ثانيا باستخلاف حنظلة له على صلاتها ، فأقرّه هشام بن عبد الملك إلى ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة أربع وعشرين ، فجمع له الصلات والخراج جميعا ، واستسقى بالناس ، وخطب ودعا ، ثم صلى بهم ، ومات هشام بن عبد الملك ، واستخلف من بعده : الوليد بن يزيد ، فأقرّ حفصا على الصلات والخراج ، ثم صرف عن الخراج بعيسى بن أبي عطاء لسبع بقين من شوّال سنة خمس وعشرين ومائة ، وانفرد بالصلات ، ووفد على الوليد بن يزيد ، واستخلف عقبة بن نعيم الرعيني ، وقتل الوليد بن يزيد ، وحفص بالشام ، وبويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، فأمر حفصا باللحاق بجنده ، وأمّره على ثلاثين ألفا وفرض الفروض ، وبعث بيعة أهل مصر إلى يزيد بن الوليد ، ثم توفي يزيد وبويع إبراهيم بن الوليد ، وخلعه مروان بن محمد الجعدي ، فكتب حفص يستعفيه من ولاية مصر ، فأعفاه مروان ، فكانت ولاية حفص هذه ثلاث سنين إلا شهرا.

وولي : حسان بن عتاهية بن عبد الرحمن التجيبيّ وهو بالشام ، فكتب إلى خير بن نعيم باستخلافه ، فسلم حفص إلى خير ، ثم قدم حسان لثنتي عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة على الصلات ، وعيسى بن أبي عطاء على الخراج ، فأسقط حسان فروض حفص كلها ، فوثبوا به ، وقالوا : لا نرضى إلّا بحفص ، وركبوا إلى المسجد ، ودعوا إلى خلع مروان وحصروا حسان في داره ، وقال له : اخرج عنا ، فإنك لا تقيم معنا ببلد ، وأخرجوا عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج ، وذلك في آخر جمادى الآخرة ، وأقاموا حفصا ، فكانت ولاية حسان ستة عشر يوما.

فولي : حفص بن الوليد الثالثة : كرها أخذه قوّاد الفروض بذلك ، فأقام على مصر رجب وشعبان ، ولحق حسان بمروان ، وقدم حنظلة بن صفوان من إفريقية ، وقد أخرجه

__________________

(١) تروجة قرية بمصر من كورة البحيرة من أعمال الإسكندرية. معجم البلدان ج ٢ / ٢٧.

٩٩

أهلها فنزل الجيزة ، وكتب مروان بولايته على مصر ، فامتنع المصريون من ولاية حنظلة ، وأظهروا الخلع ، وأخرجوا حنظلة إلى الحوف الشرقيّ ، ومنعوه من المقام بالفسطاط ، وهرب ثابت بن نعيم من فلسطين يريد الفسطاط ، فحاربوه وهزموه ، وسكت مروان عن مصر بقية سنة سبع وعشرين ومائة ، ثم عزل حفصا مستهل سنة ثمان وعشرين.

وولي : الحوثرة بن سهيل (١) بن العجلان الباهليّ : فسار إليها في آلاف ، وقدم أوّل المحرّم ، وقد اجتمع الجند على منعه ، فأبى عليهم حفص ، فخافوا حوثرة ، وسألوه الأمان ، فأمّنهم ، ونزل ظاهر الفسطاط ، وقد اطمأنوا إليه فخرج إليه حفص ، ووجوه الجند ، فقبض عليهم ، وقيدهم ، فانهزم الجند ودخل معه عيسى بن أبي عطاء على الخراج لثنتي عشرة خلت من المحرّم ، وبعث في طلب رؤساء الفتنة ، فجمعوا له وضرب أعناقهم ، وقتل حفص بن الوليد ، ثم صرف في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائة ، وبعثه مروان إلى العراق فقتل ، واستخلف على مصر حسان بن عتاهية ، وقيل : أبا الجرّاح بشر بن أوس ، وخرج لعشر خلون من رجب ، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر.

ثم ولي : المغيرة بن عبيد الله بن المغيرة الفزاريّ على الصلاة من قبل مروان ، فقدم لست بقين من رجب سنة إحدى وثلاثين ، وخرج إلى الإسكندرية ، واستخلف أبا الجرّاح الحرشي ، وتوفي لثنتي عشرة خلت من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فكانت ولايته عشرة أشهر ، واستخلف ابنه الوليد بن المغيرة ، ثم صرف الوليد في النصف من جمادى الآخرة.

وولى : عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير من قبل مرون على الصلات والخراج ، وكان واليا على الخراج قبل أن يولي الصلات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فأمر باتخاذ المنابر في الكور ، ولم تكن قبله ، وإنما كانت ولاة الكور يخطبون على العصيّ إلى جانب القبلة ، وخرج القبط فحاربهم ، وقتل كثيرا منهم ، وخالف عمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان على مروان ، واجتمع عليه جمع من قيس في الحوف الشرقيّ ، فبعث إليهم عبد الملك بجيش ، فلم يكن حرب ، وسار مروان بن محمد إلى مصر منهزما من بني العباس ، فقدم يوم الثلاثاء لثمان بقين من شوّال سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وقد سوّد أهل الحوف الشرقيّ ، وأهل الإسكندرية ، وأهل الصعيد وأسوان ، فعزم مروان على تعديه النيل ، وأحرق دار آل مروان المذهبة ، ثم رحل إلى الجيزة ، وخرق الجسرين ، وبعث بجيش إلى الإسكندرية ، فاقتتلوا بالكريون (٢) ، وخالفت القبط برشيد ،

__________________

(١) قائد فيه جفوة الأعراب أصله من قنسرين كان سفاكا للدماء ولي مصر في عهد بني مروان سنة ١٢٨ ه‍ فصرفه مروان إلى العراق سنة ١٣١ ه‍ وقتل على أيدي السفاح سنة ١٣٢ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٢٨٨.

(٢) الكريون : موضع قرب الإسكندرية أوقع به عمرو بن العاص أيام الفتوح بجيوش الروم. معجم البلدان ج ٤ / ٤٥٨.

١٠٠