كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

طالبة أماكنها ، وأقام أهل مكة بها ، فلم يزالوا على ذلك دهرا طويلا إلى أن غيروا دين إبراهيم وإسماعيل ، فأحبوا أن يتوسعوا في معيشتهم ، ويجعلوا حجهم في وقت إدراك شغلهم من الأدم والجلود والثمار ونحوها ، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الأزمنة ، وأخصبها فتعلموا كبس الشهور من اليهود الذين نزلوا يثرب من عهد شمويل نبيّ بني إسرائيل ، وعملوا النسيء (١) قبل الهجرة بنحو مائتي سنة ، وكان الذي يلي النسيء يقال له : القلمس يعني الشريف ، وقد اختلف في أول من أنسأ الشهور منهم فقيل : القلمس هو : عديّ بن زيد ، وقيل : القلمس هو : سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ، وإنه قال : أرى شهور الأهلة ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما ، وأرى شهور العجم ثلثمائة وخمسة وستين يوما ، فبيننا وبينهم أحد عشر يوما ، ففي كل ثلاث سنين ثلاثة وثلاثون يوما ، ففي كل ثلاث سنين شهر ، وكان إذا جاءت ثلاث سنين قدّم الحج في ذي القعدة ، فإذا جاءت ثلاث سنين أخر في المحرّم ، وكانت العرب إذا حجت قلّدت الإبل النعال ، وألبستها الجلال ، وأشعرتها ، فلا يتعرّض لها أحد إلّا خثعم ، وكان النسيء في بني كنانة ، ثم في بني ثعلبة بن مالك بن كنانة ، وكان الذي يلي ذلك منهم : أبو ثمامة المالكيّ ، ثم من بني فقيم ، وبنو فقيم هم النساءة ، وهو منسيء الشهور ، وكان يقوم على باب الكعبة ، فيقول : إنّ إلهتكم العزى قد أنسأت صفر الأوّل ، وكان يحله عاما ويحرّمه عاما ، وكان إتباعهم على ذلك غطفان وهوازن وسليم وتميم ، وآخر النساءة : جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم.

وقيل : القلمس هو : حذيفة بن عبد بن فقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ، ثم توارث ذلك منه بنوه من بعده ، حتى كان آخرهم الذي قام عليه‌السلام أبو ثمامة جنادة ، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فأحلّ لهم من الشهور ، وحرّم ، فأحلوا ما أحلّ وحرّموا ما حرّم ، وكان إذا أراد أن ينسئ منها شيئا أحل المحرّم ، فأحلوه ، وحرّم مكانه صفر فحرّموه ليواطئوا عدّة الأربعة ، فإذا أرادوا الهدي اجتمعوا إليه ، فقال : اللهم إني لا أجاب ، ولا أعاب في أمري والأمر لما قضيت ، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين من طي وخثعم ، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم أي ظفرتم به ، اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأوّل وأنسأت الآخر من العام المقبل ، وإنما أحل دم طي وخثعم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الشهر الحرام من بين جميع العرب.

وقيل : أوّل من أنسأ سرير بن ثعلبة ، وانقرض فأنسأ من بعده ابن أخيه : القلمس واسمه عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن كنانة ، ثم صار النسيء في ولده ، وكان آخرهم أبو ثمامة جنادة ، وقيل : عوف بن أمية بن قلع عن أبيه أمية بن قلع عن جدّه قلع بن عباد عن

__________________

(١) النسيء : التأخير ، وهو شهر كانت تؤخره العرب قبل الإسلام وقد نهى القرآن عنه.

٦١

جدّ أبيه عباد بن حذيفة عن جدّ جدّه حذيفة بن عبد بن فقيم ، وكان يقال لحذيفة القلمس ، وهو أوّل من أنسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما أحل وحرّم ما حرّم ، ثم كان بعد عوف المذكور ولده أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام ، وكان أبعدهم ذكرا ، وأطولهم أمدا يقال : إنه أنسأ أربعين سنة ، ولهم يقول عمير بن قيس جذل الطعان يفتخر :

وأيّ الناس لم يسبق بوتر

وأيّ الناس لم يعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما

وقال آخر :

أتزعم أني من فقيم بن مالك

لعمري لقد غيرت ما كنت أعلم

لهم ناسئ يمشون تحت لوائه

يحل إذا شاء الشهور ويحرم

وقيل : كانت العرب تكبس في كل أربع وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر ، فكانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جارية على سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتها ، ولا تتقدّم وكان النسيء الأوّل للمحرّم ، فسمي صفر باسمه ، وشهر ربيع الأوّل باسم صفر ، ثم والوا بين أسماء الشهور ، فكان النسيء الثاني بصفر ، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضا ، وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر ، وعاد إلى المحرّم ، فأعادوا فعلهم الأوّل ، وكانوا يعدّون أدوار النسيء ، ويحدّون بها الأزمنة ، فيقولون : قد دارت السنون من لدن زمان كذا إلى زمان كذا : وكذا دورة ، فإن ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس بقية فضل ما بينها ، وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا ، وكان يظهر لهم ذلك بطلوع منازل القمر ، وسقوطها حتى هاجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت نوبة النسيء بلغت شعبان ، فسمي : محرّما ، وشهر رمضان : صفر ، وقيل : إن الناسيء الأوّل نسأ المحرّم ، وجعله كبسا ، وأخر المحرّم إلى صفر ، وصفر إلى ربيع الأوّل ، وكذا بقية الشهور ، فوقع لهم في تلك السنة عاشر المحرّم ، وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهرا ، ونقل الحج بعد كل ثلاث سنين شهرا فمضى على ذلك مائتان وعشر سنين ، وكان انقضاؤها سنة حجة الوداع ، وكان وقوع الحج في السنة التاسعة من الهجرة عاشر ذي القعدة ، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه بالناس ، ثم حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة العاشرة حجة الوداع لوقوع الحج فيها عاشر ذي الحجة كما كان في عهد إبراهيم وإسماعيل ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجته هذه : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يعني رجوع الحج والشهور إلى الوضع ، وأنزل الله تعالى إبطال النسيء بقوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) [التوبة / ٣٧] فبطل ما أحدثته الجاهلية من النسيء ، واستمرّ وقوع الحج والصوم برؤية الأهلة ، ولله الحمد.

٦٢

وكانت العرب لها تواريخ معروفة عندها قد بادت ، فما كانت تؤرخ به ، إنّ كنانة أرخت من موت كعب بن لؤيّ حتى كان عام الفيل ، فأرخوا به ، وهو عام مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان بين كعب بن لؤيّ ، والفيل خمسمائة وعشرون سنة ، وكان بين الفيل ، وبين الفجار أربعون سنة ، ثم عدّوا من الفجار إلى وفاة هشام بن المغيرة ، فكان ست سنين ، ثم عدّوا من وفاة هشام بن المغيرة إلى بنيان الكعبة ، فكان تسع سنين ، ثم كان بين بنائها ، وبين هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس عشرة سنة.

ثم وقع التاريخ من الهجرة النبوية ، فعن سعيد بن المسيب قال : جمع عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه الناس فسألهم من أيّ يوم يكتب التاريخ؟ فقال عليّ بن أبي طالب : من يوم هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترك أرض الشرك ، ففعله عمر ، وعن سهل بن سعد الساعديّ قال : أخطأ الناس في العدد ما عدّوا من مبعثه ، ولا من وفاته إنما عدّوا من مقدمه المدينة ، وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان التاريخ من السنة التي قدم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وقال قرّة بن خالد عن محمد : كان عند عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه عامل جاء من اليمن فقال لعمر : أما تؤرخون؟ تكتبون في سنة كذا وكذا من شهر كذا وكذا ، فأراد عمر والناس أن يكتبوا من مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قالوا : من عند وفاته ، ثم أرادوا أن يكون ذلك من الهجرة ، ثم قالوا : من أي شهر ، فأرادوا أن يكون من رمضان ، ثم بدا لهم ، فقالوا : من المحرّم. وقال ميمون بن مهران : رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، صكّ محله شعبان ، فقال : أيّ شعبان هو؟ أشعبان الذي نحن فيه أو الآتي؟ ثم جمع وجوه الصحابة فقال : إنّ الأموال قد كثرت ، وما قسمنا منها غير مؤقت ، فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك ، فقالوا : يجب أن يعرف ذلك من رسوم الفرس ، فعندها استحضر عمر رضي‌الله‌عنه الهرمزان ، وسأله عن ذلك ، فقال : إنّ لنا حسابا نسميه : ماه روز ، معناه : حساب الشهور والأيام ، فعرّبوا الكلمة ، وقالوا : مؤرخ ، ثم جعلوه اسم التاريخ واستعملوه ، ثم طلبوا وقتا يجعلونه أوّلا لتاريخ دولة الإسلام ، فاتفقوا على أن يكون المبدأ من سنة الهجرة ، وكانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة ، وقد تصرّم من شهور السنة ، وأيامها المحرّم وصفر ، وأيام من ربيع الأوّل ، فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقرى ثمانية وستين يوما ، وجعلوا التاريخ من أوّل محرّم هذه السنة ، ثم أحصوا من أوّل يوم في المحرّم إلى آخر عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان عشر سنين وشهرين ، وأما إذا حسب عمره المقدّس من الهجرة حقيقة ، فيكون قد عاش صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها تسع سنين ، وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما ، وكان بين مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مولد المسيح عليه‌السلام ، خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام.

وابتداء تاريخ الهجرة يوم الخميس أوّل شهر الله المحرّم ، وبينه وبين الطوفان ثلاثة

٦٣

آلاف وسبعمائة ، وخمس وثلاثون سنة ، وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما على ما عرّفناه من الخلاف في ذلك ، وبينه وبين تاريخ الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الروميّ : تسعمائة وإحدى وستون سنة قمرية وأربعة وخمسون يوما لتكون من السنين الشمسية تسعمائة واثنتين وثلاثين سنة ، ومائتين وتسعة وثمانين يوما عنها تسعة أشهر وتسعة عشر يوما ، وبينه وبين تاريخ القبط : ثلثمائة وسبع وثلاثون سنة وتسعة وثلاثون يوما.

وقال ابن ماشا الله (١) : إنّ انتقال المرمن المثلثة الهوائية التي هي برج الجوزاء دولتها إلى برج السرطان ، ومثلثته المائية التي كانت دولة الإسلام فيها عند تمام ستة آلاف وثلثمائة وخمس وأربعين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما من وقت القران الأوّل الواقع في بدء التحرّك يعني خلق آدم عليه‌السلام ، وإن القران من هذه المثلثة وقع في أربع درج ودقيقة واحدة من برج العقرب ، وهو قران الملة الإسلامية ، قال : وفي السنة الثانية من هذا القران ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بين دخول الشمس برج الحمل في هذه السنة ، وبين أوّل يوم من سنة الهجرة سنون فارسية عدّتها إحدى وخمسون سنة ، وثلاثة أشهر وثمانية أيام وست عشرة ساعة ، فكان من وقت الطوفان إلى وقت قران الملة ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتا عشرة سنة ، وستة أشهر وأربعة عشر يوما.

وزعمت اليهود أنّ من آدم عليه‌السلام إلى سنة الهجرة أربعة آلاف واثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر.

وزعمت النصارى أن بينهما خمسة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة وثلاثة أشهر.

وزعمت المجوس أعني الفرس أن بينهما أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر ، وتسعة عشر يوما ، وقد عرفت أنّ شهور تاريخ الهجرة قمرية ، وأيام كل سنة منها عدّتها ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما ، وخمس وسدس يوم ، وجميع الأحكام الشرعية مبنية على رؤية الهلال عند جميع فرق الإسلام ما عدا الشيعة ، فإنّ الأحكام مبنية عندهم على عمل شهور السنة بالحساب على ما ستراه في ذكر القاهرة وخلفائها ، ثم لما احتاج منجمو الإسلام إلى استخراج من لا بدّ منه من معرفة الأهلة ، وسمت القبلة ، وغير ذلك بنوا أزياجهم على التاريخ العربيّ ، وجعلوا شهور السنة العربية شهرا كاملا ، وشهرا ناقصا ، وابتدأوا بالمحرّم اقتداء بالصحابة رضي‌الله‌عنهم ، فجعلوا المحرّم ثلاثين يوما ، وصفر تسعة وعشرين يوما ، وربيعا الأوّل ثلاثين يوما ، وربيعا الآخر تسعة وعشرين يوما ، وجمادى الأولى ثلاثين يوما ، وجمادى الآخرة تسعة وعشرين يوما ، ورجب ثلاثين يوما ، وشعبان تسعة وعشرين يوما ، ورمضان ثلاثين يوما ، وشوّالا تسعة وعشرين يوما ، وذا القعدة ثلاثين

__________________

(١) هكذا في الأصل وربما يوجد تصحيف في العبارة.

٦٤

يوما ، وذا الحجة تسعة وعشرين يوما ، وزادوا من أجل كسر اليوم الذي هو خمس وسدس يوما في ذي الحجة إذا صار هذا الكسر أكثر من نصف يوم ، فيكون شهر ذي الحجة في تلك السنة ثلاثين يوما ، ويسمون تلك السنة كبيسة ، ويصير عددها ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما ، ويجتمع في كل ثلاثين من الكبس أحد عشر يوما ، والله أعلم.

وأما تاريخ الفرس ، ويعرف أيضا بتاريخ يزدجرد ، فإنه من ابتداء تملك يزدجرد بن شهربار بن كسرى أبرويز ، أرخ به الفرس من أجل أن يزدجرد قام في المملكة بعد ما تبدّد ملك فارس ، واستولى عليه النساء ، والمتغلبون ، وهو أيضا آخر ملوك فارس ، وبقتله تمزق ملكهم ، وأوّل هذا التاريخ يوم الثلاثاء ، وبينه وبين تاريخ الهجرة تسع سنين ، وثلثمائة وثمانية وثلاثون يوما ، وأيام سنة هذا التاريخ تنقص عن السنة الشمسية ربع يوم ، فيكون في كل مائة وعشرين سنة شهرا واحدا ، ولهم في كبس السنة آراء ليس هذا موضع إيرادها ، وعلى هذا التاريخ يعتمد في زمننا أهل العراق وبلاد العجم ، ولله عاقبة الأمور.

ذكر فسطاط مصر

قال الجوهريّ : الفسطاط بيت من شعر ، قال : ومنه فسطاط مدينة مصر ، إعلم : أن فسطاط مصر اختط في الإسلام بعد ما فتحت أرض مصر ، وصارت دار إسلام ، وقد كانت بيد الروم ، والقبط وهم نصارى ملكانية ، ويعقوبية وميانية ، وحين اختط المسلمون الفسطاط انتقل كرسيّ المملكة من مدينة الإسكندرية بعد ما كانت منزل الملك ، ودار الإمارة زيادة على تسعمائة سنة ، وصار من حينئذ الفسطاط دار إمارة ينزل به أمراء مصر ، فلم يزل على ذلك حتى بنى العسكر بظاهر الفسطاط ، فنزل فيه أمراء مصر ، وسكنوه ، وربما سكن بعضهم الفسطاط ، فلما أنشأ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون القطائع بجانب العسكر سكن فيها ، واتخذها الأمراء من بعده منزلا إلى أن انقرضت دولة بني طولون ، فصار أمراء مصر من بعد ذلك ينزلون بالعسكر خارج الفسطاط ، وما زالوا على ذلك حتى قدمت عساكر الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ الفاطميّ مع كاتبه جوهر القائد ، فبنى القاهرة ، وصارت خلافة ، واستمرّ سكنى الرعية بالفسطاط ، وبلغ من وفور العمارة ، وكثرة الخلائق ، ما أربى على عامّة مدن المعمور حاشا بغداد ، وما زال على ذلك ، حتى تغلب الفرنج على سواحل البلاد الشامية ، ونزل مخري ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش (١) يريد الاستيلاء على مملكة مصر ، وأخذ الفسطاط والقاهرة ، فعجز الوزير شاور (٢) ابن مجير السعديّ عن حفظ

__________________

(١) بركة الحبش : هي أرض في وهدة واسعة طولها نحو ميل مشرفة على نيل مصر خلف القرافة وكانت تعرف ببركة المعافر وبركة حمير. معجم البلدان ج ١ / ٤٠١.

(٢) هو شاور بن مجير بن نزار السعدي ، أبو شجاع كان وزيرا للعاضد الفاطمي وأميرا لجيوشه. قتله شيركوه الأيوبسي بمؤامرة من العاضد سنة ٥٦٤ ه‍. الأعلام ج ٣ / ١٥٤.

٦٥

البلدين معا ، فأمر الناس بإخلاء مدينة الفسطاط ، واللحاق بالقاهرة للامتناع من الفرنج ، وكانت القاهرة إذ ذاك من الحصانة ، والامتناع بحيث لا ترام ، فارتحل الناس من الفسطاط ، وساروا بأسرهم إلى القاهرة ، وأمر شاور ، فألقى العبيد النار في الفسطاط ، فلم تزل به بضعا وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه ، فلما رحل مري عن القاهرة ، واستولى شيركوه (١) على الوزارة تراجع الناس إلى الفسطاط ، ورموا بعض شعثه ، ولم يزل في نقص وخراب إلى يومنا هذا ، وقد صار الفسطاط يعرف في زمننا بمدينة مصر ، والله أعلم.

ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام

إلى أن اختطه المسلمون مدينة

اعلم : أنّ موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم : مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما بين النيل ، والجبل الشرقيّ الذي يعرف بالجبل المقطم ، ليس فيه من البناء ، والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه : بقصر الشمع ، وبالمعلقة ينزل به شحنة الروم المتولي على مصر من قبل القياصر ملوك الروم عند مسيره من مدينة الإسكندرية ، ويقيم فيه ما شاء ، ثم يعود إلى دار الإمارة ، ومنزل الملك من الإسكندرية ، وكان هذا الحصن مطلا على النيل ، وتصل السفن في النيل إلى بابه الغربيّ الذي كان يعرف بباب الحديد ، ومنه ركب المقوقس في السفن في النيل من بابه الغربيّ حين غلبه المسلمون على الحصن المذكور ، وصار فيه إلى الجزيرة التي تجاه الحصن ، وهي التي تعرف اليوم : بالروضة قبالة مصر ، وكان مقياس النيل بجانب الحصن.

وقال ابن المتوّج : وعمود المقياس موجود في زقاق مسجد ابن النعمان قلت : وهو باق إلى يومنا هذا ، أعني سنة عشرين وثمانمائة ، وكان هذا الحصن لا يزال مشحونا بالمقاتلة ، وسيرد في هذا الكتاب خبره إن شاء الله تعالى ، وكان بجوار هذا الحصن من بحريه ، وهي الجهة الشمالية أشجار وكروم صار موضعها الجامع العتيق ، وفيما بين الحصن والجبل عدّة كنائس ، وديارات للنصارى في الموضع الذي يعرف اليوم براشدة ، وبجانب الحصن فيما بين الكروم التي كانت بجانبه ، وبين الجرف الذي يعرف اليوم : بجبل يشكر ، حيث جامع ابن طولون ، والكبش عدّة كنائس ، وديارات للنصارى في الموضع الذي كان يعرف في أوائل الإسلام بالحمراء ، وعرف الآن بخط قناطر السباع والسبع سقايات ، وبقي بالحمراء عدّة من الديارات إلى أن هدمت في سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون على ما ذكر في هذا الكتاب عند ذكر كنائس النصارى ، فلما افتتح عمرو بن العاص مدينة

__________________

(١) أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي أول من ولي مصر من الأكراد الأيوبيين كان قائدا عند نور الدين محمود زنكي أرسله إلى مصر عدّة مرات لمحاربة الفرنج. ولاه العاضد الوزارة سنة ٥٦٤ ه‍ وتوفي في نفس السنة بالقاهرة ثم نقل إلى المدينة. الأعلام ج ٣ / ١٨٣.

٦٦

الإسكندرية الفتح الأوّل نزل بجوار هذا الحصن ، واختط الجامع المعروف بالجامع العتيق ، وبجامع عمرو بن العاص ، واختطت قبائل العرب من حوله ، فصارت مدينة عرفت بالفسطاط ، ونزل الناس بها ، فانحسر بعد الفتح بأعوام ماء النيل عن أرض تجاه الحصن والجامع العتيق ، فصار المسلمون يوقفون هناك دوابهم ، ثم اختطوا فيه المساكن شيئا بعد شيء ، وصار ساحل البلد حيث الموضع الذي يقال له اليوم في مصر : المعاريج مارّا إلى الكوم الذي على يسرة الداخل من باب مصر بحدّ الكبارة ، وفي موضع هذا الكوم كانت الدور المطلة على النيل ، ويمرّ الساحل من باب مصر المذكور إلى حيث بستان ابن كيسان الذي يعرف اليوم : ببستان الطواشي في أوّل مراغة مصر ، وجميع الأماكن التي تعرف اليوم : بمراغة مصر وبالجرف إلى الخليج عرضا ، ومن حيث قنطرة السدّ إلى سوق المعاريج طولا ، كان غامرا بماء النيل إلى أن انحسر عنه ماء النيل بعد سنة ستمائة من سني الهجرة ، فصار رملة ، ثم اختط فيه الأمراء مما يلي النيل آدرا عند ما عمر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة ، واختط بعضه شونا إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون جامعه المعروف بالجامع الجديد الناصري ظاهر مصر ، فعمر ما حوله ، وقد كان عند فتح مصر سائر المواضع التي من منشأة المهرانيّ إلى بركة الحبش طولا ، ومن ساحل النيل بموردة الحلفاء ، وتجاه الجامع الجديد إلى سوق المعاريج ، وما على سمته إلى تجاه المشهد الذي يقال له : مشهد الراس ، وتسميه العامّة اليوم : مشهد زين العابدين كلها بحرا لا يحول بين الحصن والجامع ، وما على سمتهما إلى الحمراء الدنيا التي منها اليوم : خط قناطر السباع ، وبين جزيرة مصر التي تعرف اليوم : بالروضة شيء سوى ماء النيل ، وجميع ما في هذه المواضع من الأبنية انكشف عنه النيل قليلا قليلا ، واختط على ما يتبين لك في هذا الكتاب.

ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع (١)

اعلم : أن هذا القصر أحدث بعد خراب مصر على يد بخت نصر ، وقد اختلف في الوقت الذي بنى فيه ، ومن أنشأه من الملوك ، فذكر الواقديّ : أن الذي بناه اسمه : الريان بن الوليد بن أرسلاوس ، وكان هذا القصر يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر ، وذلك أنه إذا حلّت الشمس في برج من البروج أوقد في تلك الليلة الشمع على رأس ذلك القصر ، فيعلم الناس بوقود الشمع أنّ الشمس انتقلت من البرج الذي كانت فيه إلى برج آخر غيره ، ولم يزل القصر على حاله ، إلى أن خربت مصر زمن بخت نصر بن نيروز الكلدانيّ ، فأقام خرابا خمسمائة سنة ، ولم يبق منه إلا أثره فقط ، فلما غلب الروم على مصر ، وملكوها من أيدي اليونانيين ، ولي مصر من قبلهم رجل يقال له : أرجاليس بن مقراطيس فبنى القصر على ما وجد من أساسه.

__________________

(١) قصر الشمع : كان بموضع الفسطاط في مصر قبل تمصير المسلمين لها. معجم البلدان ج ٤ / ٣٥٧.

٦٧

وقال ابن سعيد : وصارت مصر والشام بعد بخت نصر في مملكة الفرس ، فوليها منهم : كشرجوش الفارسيّ باني قصر الشمع ، وبعده طخارست الطويل الولاية ، وتوالت بعده نوّاب الفرس إلى ظهور الإسكندر ، وقال غيره : إن الذي بناه طخشاشت أحد ملوك الفرس عند ما سار لمحاربة أهل مصر ، فلما غلب قسطو ملك مصر الذي يعرف بفرعون سابان ، وفرّ منه إلى مقدونية غلب على ملك مصر ، واستولى عليها وبنى للفرس قصرا ، وجعل فيه بيت نار على شاطىء النيل الشرقيّ ، وعرف بقصر الشمع لأنه كان له باب يقال له : باب الشمع ، وجعل في القصر بيت نار وهو باق.

وقال ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد : وكانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذي يقال له : باب اليون (١) ، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم ، فلما انكشفت جموع فارس عن الروم ، وأخرجتهم الروم من الشام أتمت بناء ذلك الحصن ، وأقامت به ، فلم تزل مصر في ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على المسلمين قال : وكان أبو الأسود نصر بن عبد الجبار يقولها بالميم ، يعني باب اليوم ، ويقال : إنما سمي كذا لأنهم كانوا يقولون: من يقاتل اليوم.

وقال القضاعيّ : ذكر الحصن المعروف بقصر الشمع يقال : إن فارس لما ظهرت على الروم وملكت عليهم الشام ، وملكت مصر بدأت ببناء هذا القصر ، وبنت فيه هيكلا لبيت النار ، ولم يتم بناؤه على أيديهم إلى أن ظهرت الروم عليهم ، فتممت بناءه وحصنته ، ولم تزل فيه إلى حين الفتح ، وهيكل الناس هو القبة المعروفة اليوم بقبة الدخان ، وبحضرتها مسجد معلق أحدثه المسلمون.

وقال أبو عبيد البكريّ : باب اليون بمصر إن كان عربيا ، فإنه مثل يوم ، ويوح مما فاؤه ياء ، وعينه واو ، وقد يجوز أن يكون فعلا من بين ، وهو اسم موضع على مذهب أبي الحسن في فعل من البيع بوع قال : وليست الألف واللام فيه للتعريف ، فعلى هذا يجب أن تثبت في الرسم. وقال أبو صخر :

وحلوا تهامي أرضنا وتبدّلوا

بمكة باب اليون والربط بالعصب

والرواية في شعر كثير عزّة في قوله :

جرى بين باب اليون والعصب دونه

رياح أشفت بالنقي وأشمت

بالباء ، وبفتح النون غير مجرور للعجمة على أن همزته مقطوعة ، وصلها للضرورة. وقال الحازميّ : باب البون بالباء اسم مدينة مصر فتحها المسلمون ، وسموها

__________________

(١) باب اليون : وتكتب : بابليون وهو اسم عام لديار مصر بلغة القدماء. وقيل : هو اسم لموضع الفسطاط خاصة. معجم البلدان ج ١ / ٢١١.

٦٨

الفسطاط ، وقال عبد الملك بن هشام بابليون المنسوب إليه مصر هو : بابليون بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأن من ولده عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبا ، وهو الملك على مصر لما قدم إليها إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه ، والقبط تسمي عمرا هذا : طوطيس ، ومن ولده حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس ، وبه سميت حلوان.

وقال القاضي القضاعيّ : في ظاهر الفسطاط القصر المعروف بباب ليون بالشرف ، ليون اسم بلد مصر بلغة السودان والروم ، وقد بقيت من بنائه بقية مبنية بالحجارة على طرف الجبل بالشرف ، وعليه اليوم مسجد.

قال المؤلف : فهذا كما ترى صريح في أن قصر باب اليون غير قصر الشمع ، فإنّ قصر الشمع في داخل الفسطاط ، وقصر باب اليون هذا عند القضاعيّ على الجبل المعروف بالشرف ، والشرف خارج الفسطاط ، وهو خلاف ما قاله ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر ، والله أعلم. ويقال : إنّ في زمن ناحور بن شاروع ، وهو الثامن عشر من آدم ملك مصر رجل اسمه : أفطوطس مدّة اثنتين وثلاثين سنة ، وأنه أوّل من أظهر علم الحساب والسحر ، وحمل كتب ذلك من بلاد الكلدانيين إلى مصر ، وفي ذلك الزمان بنيت بابليون على بحر النيل بمصر ، وذلك لتمام ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعين للعالم ، وقال ابن سعيد في كتاب المعرب : وأما فسطاط مصر ، فإنّ مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس ، وجاء الإسلام ، وبها بناء يعرف : بالقصر حوله مساكن ، وعليه نزل عمرو بن العاص ، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ، وهذا وهم من ابن سعيد ، فإنّ فسطاط عمرو إنما كان مضروبا عند درب حمام شموط بخط الجامع هكذا هو بخط الشريف محمد بن أسعد الجواني (١) النسابة ، وهو أقعد بخطط مصر ، وأعرف من ابن سعيد ، وأما موضع الجامع ، فكان كروما وجنانا ، وحاز موضعه قيسبة التجيبيّ ، ثم تصدّق به على المسلمين ، فعمل المسجد ، وستقف على هذا إن شاء الله تعالى في ذكر جامع عمرو عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.

وقال ابن المتوّج : خط قصر الشمع هذا الخط يعرف بقصر الشمع ، وفيه قصر الروم وفيه أزقة ودروب ، قال : وكنيسة المعلقة بمصر بباب القصر ، وهو قصر الروم.

وقال ابن عبد الحكم : وأقرّ عمرو بن العاص القصر لم يقسمه ووقفه.

وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء : وقد ذكر قيام عليّ بن محمد بن عبد الله بن

__________________

(١) عالم بالأنساب أصله من الموصل ولي نقابة الأشراف وله تصانيف كثيرة مولده بمصر سنة ٥٢٥ ه‍ وتوفي فيها سنة ٥٨٨ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٣١.

٦٩

الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وطروق المسجد في إمارة يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة على مصر ، وورد كتاب أبي جعفر المنصور على يزيد بن حاتم يأمره بالتحوّل من العسكر إلى الفسطاط ، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر ، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة ، والله أعلم.

٧٠

ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر

اختلف الناس في فتح مصر ، فقال محمد بن إسحاق ، وأبو معشر ، ومحمد بن عمرو الواقديّ ، ويزيد بن أبي حبيب ، وأبو عمرو الكنديّ : فتحت سنة عشرين ، وقال سيف بن عمر : فتحت سنة ست عشرة ، وقيل : فتحت سنة ست وعشرين ، وقيل : سنة إحدى وعشرين ، وقيل : سنة اثنتين وعشرين ، والأوّل أصح وأشهر.

قال ابن عبد الحكم : لما قدم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، الجابية قام إليه عمرو بن العاص ، فخلا به ، فقال : يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر ، وحرّضه عليها ، وقال : إنك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين ، وعونا لهم ، وهي أكثر الأرض أموالا ، وأعجز عن القتال والحرب.

فتخوّف عمر بن الخطاب ، وكره ذلك ، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ، ويخبره بحالها ، ويهوّن عليه فتحها حتى ركن لذلك ، فعقد له على أربعة آلاف رجل ، كلّهم من عك ، ويقال : بل ثلاثة آلاف وخمسمائة ، وقال له عمر : سر وأنا مستخير الله في مسيرك ، وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله تعالى ، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها ، أو شيئا من أرضها ، فانصرف ، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك ، واستعن بالله واستنصره.

فسار عمرو بن العاص من جوف الليل ، ولم يشعر به أحد من الناس ، واستخار عمر الله ، فكأنه تخوّف على المسلمين في وجههم ذلك ، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين ، فأدرك عمرا الكتاب إذ هو برفج (١) فتخوّف عمرو إن هو أخذ الكتاب ، وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر ، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ، ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفج والعريش ، فسأل عنها فقيل : إنها من مصر ، فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين ، فقال عمرو لمن معه : ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا : بلى ، قال : فإنّ أمير المؤمنين عهد إليّ ، وأمرني إن لحقني كتابه ،

__________________

(١) رفج : في معجم البلدان رفح وهي في طريق مصر من الشام بعد الداروم بينها وبين عسقلان يومان.

معجم البلدان ج ٣ / ٥٤.

٧١

ولم أدخل أرض مصر أن أرجع ، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر ، فسيروا ، وامضوا على بركة الله.

ويقال : بل كان عمرو بفلسطين ، فتقدّم عمرو بأصحابه إلى مصر بغير إذن ، فكتب فيه إلى عمر رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر وهو دون العريش ، فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش ، فقرأه فإذا فيه من عمر بن الخطاب إلى العاصي ابن العاصي : أما بعد ، فإنك سرت إلى مصر ، ومن معك وبها جموع الروم ، وإنما معك نفر يسير ، ولعمري لو نكل بك ما سرت بهم ، فإن لم تكن بلغت مصر ، فارجع. فقال عمرو : الحمد لله أية أرض هذه؟ قالوا : من مصر فتقدّم كما هو ، ويقال : بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع من كان بها من أجناد المسلمين ، وعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إذ ذاك بالجابية ، فكتب سرّا فاستأذن أن يسير إلى مصر ، وأمر أصحابه ، فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحوا من منزل إلى منزل قريب ، ثم سار بهم ليلا ، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ، ورأوا أن قد غدر ، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إليه عمر إلى العاصي ابن العاصي : أما بعد ، فإنك قد غررت بمن معك ، فإن أدركك كتابي ، ولم تدخل مصر فارجع ، وإن أدركك ، وقد دخلت فامض ، واعلم أنّي ممدّك.

ويقال : إنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، كتب إلى عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام : أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر ، فمن خف معك فسر به ، وبعث به مع شريك بن عبدة ، فندبهم عمرو ، فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو ، ثم إنّ عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه دخل على عمر بن الخطاب ، فقال عمر : كتبت إلى عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام ، فقال عثمان : يا أمير المؤمنين إنّ عمر لجريء وفيه إقدام وحبّ للإمارة ، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة ، فيعرّض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا؟ فندم عمر على كتابه إلى عمرو ، وأشفق مما قال عثمان ، فكتب إليه : إن أدركك كتابي قبل أن تدخل إلى مصر ، فارجع إلى موضعك ، وإن كنت دخلت ، فامض لوجهك.

فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط ، فكان يجهز على عمرو الجيوش ، وكان على القصر رجل من الروم يقال له : الأعيرج ، واليا عليه ، وكان تحت المقوقس ، وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الجلال نفرت معه راشدة ، وقبائل من لخم فتوجه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر ، فضحى عن أصحابه يومئذ بكبش ، وتقدّم ، فكان أوّل موضع قوتل فيه الفرما (١) قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر ، ثم فتح

__________________

(١) الفرما : مدينة قديمة آثارها باقية في الجنوب الشرقي من بور سعيد بمصر ويقال لها الفرماء وكانت هذه المدينة قائمة على جانب بحيرة تنيس مما يلي الشرق. معجم البلدان ج ٤ / ٢٥٤.

٧٢

الله عليه ، وكان عبد الله بن سعد على ميمنة عمرو منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه ، وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له : أبو ميامين ، فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة ، وإنّ ملكهم قد انقطع ، ويأمرهم بتلقي عمرو.

فيقال : إنّ القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا ، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف ، حتى نزل القواصر ، فسمع رجل من لخم نفرا من القبط يقول بعضهم لبعض : ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم ، وإنما هم في قلة من الناس ، فأجابه رجل منهم فقال : إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلّا ظهروا عليه ، حتى يقتلوا خيرهم ، وتقدّم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من الشهر حتى فتح الله عليه ، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف ، حتى أتى أم دنين (١) ، فقاتلوه بها قتالا شديدا ، وأبطأ عليه الفتح ، فكتب إلى عمر يستمدّه فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف ، وقيل : بل أمدّه باثني عشر ألفا ، فوصلوا إليه أرسالا يتبع بعضهم بعضا.

فكان فيهم أربعة آلاف عليهم أربعة : الزبير بن العوّام ، والمقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، ومسلمة بن مخلد. وقيل : إنّ الرابع : خارجة بن حذافة دون مسلمة ، ثم أحاط المسلمون بالحصن ، وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له : الأعيرج من قبل المقوقس بن قرقت اليونانيّ ، وكان المقوقس ينزل الإسكندرية وهو في سلطان هرقل غير أنه كان حاضرا لحصن حين حاصره المسلمون ، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن ، وجاء رجل إلى عمرو فقال : اندب معي خيلا حتى آتي من دياراتهم عند القتال ، فأخرج معه خمسمائة فارس عليهم : خارجة بن حذافة في قول ، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح ، وكانت الروم قد خندقوا خندقا ، وجعلوا له أبوابا ، وبنوا في أفنيتها حسك الحديد ، فالتقى القوم حين أصبحوا ، وخرج خارجة من ورائهم ، فانهزموا حتى دخلوا الحصن ، وكانوا قد خندقوا حوله ، فنزل عمرو على الحصن ، وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم ، وقيل : إنه لما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب يستمدّه ، ويعلمه بذلك ، فأمدّه بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقام الألف الزبير بن العوّام ، والمقداد بن عمرو ، وعبادة بن الصامت ، ومسلمة بن مخلد ، وقيل : بل خارجة بن حذافة لا يعدّون مسلمة. وقال عمر : إعلم أنّ معك اثني عشر ألفا ، ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة.

وقيل : قدم الزبير في اثني عشر ألفا ، وإن عمرا لما قدم من الشام كان في عدّة قليلة ،

__________________

(١) أم دنين : هي تنونياس قديما وسمّاها العرب فيما بعد أم دنين ثم سميت المقس وكانت على النيل وموقعها الآن أولاد عنان وشارع كامل وحديقة الأزبكية. النجوم الزاهرة ج ١ / ١٣.

٧٣

فكان يفرّق أصحابه ليرى العدوّ أنهم أكثر مما هم ، فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت ، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا ، فلم يخطئوا برجل واحد ، فأقام عمرو على ذلك أياما يغدو في السحر ، فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح ، فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام ، أنه قدم في اثني عشر ألفا ، فتلقاه عمرو ، ثم أقبلا يسيران ، ثم لم يلبث الزبير أن ركب ، ثم طاف بالخندق ، ثم فرّق الرجال حول الخندق ، وألح عمرو على القصر ، ووضع عليه المنجنيق ، ودخل عمرو إلى صاحب الحصن ، فتناظرا في شيء مما هم فيه ، فقال عمرو : أخرج وأستشير أصحابي ، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مرّ به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله ، فمرّ عمرو ، وهو يريد الخروج برجل من العرب ، فقال له : قد دخلت ، فانظر كيف تخرج؟ فرجع عمرو إلى صاحب الحصن ، فقال له : إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، فقال العلج في نفسه : قتل جماعة أحب إليّ من قتل واحد.

وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل عمرو أن لا يتعرّض له ، رجاء أن يأتيه بأصحابه ، فيقتلهم ، فخرج عمرو وعبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده ، فرآه قوم من الرّوم ، فخرجوا إليه ، وعليهم حلية وبزة ، فلما دنوا منه سلّم من صلاته ، ووثب على فرسه ، ثم حمل عليهم ، فلما رأوه ولّوا راجعين فأتبعهم ، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ، ليشغلوه بذلك عن طلبهم ، وهو لا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة ، فرجع ، ولم يتعرّض لشيء مما طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به ، فاستقبل الصلاة ، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه ، فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير : إني أهب الله نفسي ، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين ، فوضع سلّما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ، ثم صعد ، فأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا ، فما شعروا إلّا والزبير على رأس الحسن يكبر ، ومعه السيف ، وتحامل الناس على السلم ، حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر ، وكبر الزبير ، فكبرت الناس معه ، وأجابهم المسلمون من خارج ، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا ، فهربوا ، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ، ففتحوه ، واقتحم المسلمون الحصن ، فخاف المقوقس على نفسه ، ومن معه.

فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح ، ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم ، فأجابه عمرو إلى ذلك وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر ، قال : وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر ، هو أنّ المسلمين لما حصروا باب اليون كان به جماعة من الروم ، وأكابر القبط ورؤسائهم ، وعليهم المقوقس ، فقاتلوهم شهرا ، فلما رأى القوم الجدّ من العرب على فتحه والحرص ، ورأوا من صبرهم على القتال ، ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم ، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر

٧٤

القبط ، وخرجوا من باب القصر القبليّ ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب ، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة ، وأمروا بقطع الجسر ، وذلك في جري النيل.

ويقال : إنّ الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس ، وقيل : خرج معهم ، فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوّة والشرف ، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة ، فأرسل المقوقس إلى عمرو : إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا ، وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا ، وإنما أنتم عصبة يسيرة ، وقد أظلتكم الروم ، وجهزوا إليكم ، ومعهم من العدة والسلاح ، وقد أحاط بكم هذا النيل ، وإنما أنتم أسارى في أيدينا ، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم ، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب ، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم ، فلا ينفعنا الكلام ، ولا نقدر عليه ، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ، ورجائكم فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضي نحن وهم به من شيء.

فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس ، حبسهم عنده يومين وليلتين ، حتى خاف عليهم المقوقس ، فقال لأصحابه : أترون أنهم يقتلون الرسل ، ويستحلون ذلك في دينهم؟ وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فردّ عليهم عمرو مع رسله ، أنه ليس بيني وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال : إما أن دخلتم في الإسلام ، فكنتم إخواننا ، وكان لكم ما لنا ، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم ، وهو خير الحاكمين ، فلما جاءت رسل المقوقس إليه ، قال : كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا : رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة ، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ، ولا نهمة ، إنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ، ولا السيد منهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد يغسلون أطرافهم بالماء ، ويخشعون في صلاتهم ، فقال عند ذلك المقوقس : والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها ، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم ، وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبوا بعد اليوم إذ أمكنتهم الأرض ، وقووا على الخروج من موضعهم ، فردّ إليهم المقوقس رسله : ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.

فبعث عمرو بن العاص : عشرة نفر ، أحدهم : عبادة بن الصامت ، وكان طوله عشرة أشبار ، وأمره أن يكون متكلم القوم ، ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال ، فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ في ذلك ، وأمرني أن لا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال ، وكان عبادة أسود ، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ، ودخلوا عليه تقدّم

٧٥

عبادة ، فهابه المقوقس لسواده ، وقال : نحوا عني هذا الأسود ، وقدّموا غيره يكلمني ، فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما ، وهو سيدنا وخيرنا ، والمقدّم علينا ، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه ، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره ، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله ، قال : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم ، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا : كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا ، وليس ينكر السواد فينا ، فقال المقوقس لعبادة : تقدّم يا أسود ، وكلمني برفق ، فإني أهاب سوادكم وإن اشتدّ كلامك عليّ ازددت لك هيبة ، فتقدّم عليه عبادة ، فقال :

قد سمعت مقالتك ، وإنّ فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشدّ سوادا مني وأفظع منظرا ، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي ، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي ، وإني مع ذلك بحمد الله ، ما أهاب مائة رجل من عدوّي لو استقبلوني جميعا ، وكذلك أصحابي ، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله ، وإتباع رضوانه ، وليس غزونا عدوّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ، ولا طلب للاستكثار منها إلا أنّ الله عزوجل ، قد أحل لنا ذلك ، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا ، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما ، لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعه لليلة (١) ونهاره وشملة يلتحفها ، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله ، واقتصر على هذا الذي بيده ، ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ، ورخاءها ليس برخاء ، إنما النعيم والرخاء في الآخرة ، وبذلك أمرنا الله ، وأمرنا به نبينا ، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلّا ما يمسك جوعته ، ويستر عورته ، تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوّه.

فلما سمع المقوقس ذلك منه ، قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره ، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره ، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلها ، ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت ، فقال له : أيها الرجل الصالح ، قد سمعت مقالتك ، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت ، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ، ورغبتهم فيها ، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ، ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة ما يبالي أحدهم من لقي ، ولا من قاتل ، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم ، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا ، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم ، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم ، وقلة ما بين أيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين،

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ١٨ : ليلته.

٧٦

ولأميركم مائة دينار ، ولخليفتكم ألف دينار ، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام (١) لكم به. فقال عبادة بن الصامت : يا هذا لا تغرنّ نفسك ، ولا أصحابك أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم ، وأنا لا نقوى عليهم ، فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به ، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه ، وإن كان ما قلتم حقا ، فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم ، وأشدّ لحرصنا عليهم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه ، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته ، وما شيء أقرّ لأعيننا ، ولا أحب لنا من ذلك ، وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين : إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم ، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا ، وإن الله عزوجل قال لنا في كتابه : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة / ٢٤٩].

وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة ، وأن لا يردّه إلى بلده ، ولا إلى أرضه ، ولا إلى أهله وولده ، وليس لأحد منا همّ فيمات خلفه ، وقد استودع كل واحد منا ربّه أهله وولده ، وإنما همنا ما أمامنا ، وأما قولك : إنا في ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا ، فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ، ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ، فانظر الذي تريد فيه فبينه لنا ، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث ، فاختر أيتها شئت ، ولا تطمع نفسك في الباطل ، بذلك أمرني الأمير ، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل (٢) إلينا ، إما إن أجبتم (٣) إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره ، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته ، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه ، ورغب عنه حتى يدخل فيه ، فإن فعل كان له ما لنا ، وعليه ما علينا ، وكان أخانا في دين الله ، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك ، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم ، ولم نستحل أذاكم ، ولا التعرّض لكم ، وإن أبيتم إلّا الجزية ، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن ، وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا ، وبقيتم ونقاتل عنكم من ناواكم ، وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسيف ، حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم ، هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره ، فانظروا لأنفسكم.

فقال المقوقس : هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلّا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ١٩ : ما لا قوه لكم.

(٢) في النجوم الزاهرة : من قبله إلينا.

(٣) في النجوم الزاهرة : أما إجابتكم.

٧٧

فقال له عبادة : هو ذاك ، فاختر لنفسك ما شئت. فقال المقوقس : أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال؟ فرفع عبادة يديه إلى السماء فقال : لا ورب هذه السماء ، ورب هذه الأرض ، ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها ، فاختاروا لأنفسكم.

فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال : قد فرغ القوم ، فما ترون؟ فقالوا : أو يرضى أحد بهذا الذل! أمّا ما أرادوا من دخولنا في دينهم ، فهذا لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح ابن مريم ، وندخل في دين غيره لا نعرفه ، وأمّا ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا ، فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.

فقال المقوقس لعبادة : قد أبى القوم ، فما ترى فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرّتكم هذه ، ما تمنيتم وتنصرفون ، فقال عبادة وأصحابه : لا ، فقال المقوقس عند ذلك : أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث ، فو الله ما لكم بهم طاقة ، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين ، فقالوا : وأيّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال : إذا أخبركم ، أمّا دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به ، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تصبروا صبرهم ، ولا بدّ من الثالثة ، قالوا : فنكون لهم عبيدا أبدا؟ قال : نعم تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم ، وتكونوا عبيدا تباعوا ، وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم ، وأهليكم وذراريكم ، قالوا : فالموت أهون علينا ، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط ، وبالجزيرة وبالقصر من جمع القبط والروم كثير.

فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم ، وأمكن الله منهم ، فقتل منهم خلق كثير ، وأسر من أسر وانجرّت السفن كلها إلى الجزيرة ، وصار المسلمون يراقبونهم ، وقد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن ينفذوا نحو الصعيد ، ولا إلى غير ذلك من المدن والقرى ، والمقوقس يقول لأصحابه : ألم أعلمكم (١) وأخافه عليكم! ما تنتظرون! فو الله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرها ، فأطيعوني من قبل أن تندموا ، فلما رأوا منهم ما رأوا ، وقال لهم المقوقس ما قال ، أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه.

وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص : إني لم أزل حريصا على إجابتكم إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليّ بها ، فأبى عليّ من حضرني من الروم والقبط ، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم ، وقد عرفوا نصحي لهم ، وحبي صلاحهم ، ورجعوا إلى قولي ، فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت ، أنا في نفر من أصحابي ، وأنت في نفر من

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم.

٧٨

أصحابك ، فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك جميعا ، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنا عليه.

فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا : لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا ، وتصير الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة ، كما صار لنا القصر وما فيه ، فقال عمرو : قد علمتم ما عهد إليّ أمير المؤمنين في عهده ، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إليّ فيها أجبتهم إليها ، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا ، وبين ما نريد من قتالهم فاجتمعوا على عهد بينهم ، واصطلحوا على أن يفرض لهم على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ، ممن بلغ منهم الحلم ليس على الشيخ الفاني ، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ، ولا على النساء شيء ، وعلى أن للمسلمين عليهم لنزل بجماعتهم حيث نزلوا ، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم ، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا تعرّض لهم في شيء منها ، فشرط ذلك كله على القبط خاصة ، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية ، وفرض عليهم الديناران ، رفع ذلك عرفاؤهم بالإيمان المؤكدة ، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا ، وكتبوا ورفعوا أكثر من ستة آلاف ألف (١) نفس ، فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف ألف (٢) دينار في كل سنة.

وقال ابن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرميّ : لما فتح عمرو مصر صالح عن جميع من فيها من الرجال من القبط ، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ، ولا شيخ ولا صبيّ ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين ، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف ، قال : وشرط المقوقس للروم أن يخيروا ، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا ، أقام على ذلك لازما له مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية ، وما حولها من أرض مصر كلها ، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج ، وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة ، حتى يكتب إلى ملك الروم ، ويعلمه ما فعل ، فإن قبل ذلك ، ورضيه جاز عليهم ، وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه ، وكتبوا به كتابا ، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كله.

فكتب إليه ملك الروم : يقبح رأيه ، ويعجزه ويردّ عليه ما فعل ، ويقول في كتابه : إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا ، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال ، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب ، واختاروهم علينا ، فإن عندكم بمصر من الروم وبالإسكندرية ، ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدّة والقوّة والعرب وحالهم ،

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : ستة آلاف نفس.

(٢) في النجوم الزاهرة : اثني عشر ألف دينار.

٧٩

وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء فقاتلهم أنت ومن معك من الروم ، حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم ، وقوّتكم وعلى قدر قلتهم ، وضعفهم كاكلة ، ناهضهم القتال ، ولا يكن لك رأي غير ذلك ، وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم ، فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم : والله أعلم إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منا على قوّتنا ، وكثرتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة يقاتل الرجل منهم ، وهو مستقبل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ، ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوه منا ، ويقولون أنهم إن قتلوا دخلوا الجنة ، وليس لهم رغبة في الدنيا ، ولا لذة إلّا قدر بلغة العيش من الطعام ، واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ، ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟ وكيف صبرنا معهم ، واعلموا معشر الروم ، والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ، ولا صالحت العرب عليه ، وإني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني ، وذلك أني قد عاينت ورأيت ، وعرفت ما لم يعاين الملك ، ولم يره ، ولم يعرفه أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه ، وماله وولده بدينارين في السنة.

ثم أقبل المقوقس إلى عمرو ، فقال له : إنّ الملك قد كره ما فعلت ، وعجّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم : أن لا نرضى بمصالحتك ، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ، ولم أكن لأخرج عما دخلت فيه ، وعاقدتك عليه ، وإنما سلطاني على نفسي ، ومن أطاعني وقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متمّ لك على نفسي ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم ، وأمّا الروم فأنا منهم بريء ، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال ، لا تنقض بالقبط ، وأدخلني معهم ، وألزمني ما لزمهم ، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاقدتك عليه ، فهم متمون لك على ما تحب ، وأمّا الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم ، فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا ، فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني ، ونظرت لهم ، فاتهموني وأما الثالثة : أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم أن يدفنوني بجسر الإسكندرية ، فأنعم له عمرو بذلك ، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة ، والأسواق والجسور ، ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ، ففعلوا.

وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء في الحديث. وقال ابن وهب في حديثه عن عبد الرحمن بن شريح : فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن ، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ، ويفتحوا له الحصن ، ففعل ذلك ففرض عليهم عمرو لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين ، وسألوه : أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه صنيعا ، ففعل ، وأمر عمرو أصحابه فتهيئوا ولبسوا البرود ، ثم أقبلوا فلما فرغوا

٨٠