كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

وسادسه يزرع السمسم ، وثاني عشره يقلع الكتان ، ورابع عشره يكون أوّل الأعجاز ، ويطلع الفجر بالفرغ المقدّم (١) ، وفي سادس عشره تفتح الحيات أعينها ، وفي سابع عشره تنقل الشمس إلى برج الحمل ، وهو أوّل فصل الربيع ، ورأس سنة الجند ، ورأس سنة العالم ، وفي العشرين منه يكون آخر الإعجاز ، وثاني عشريه نتاج الخيل المحمودة وثالث عشريه يظهر الذباب الأزرق ، وخامس عشريه تظهر هوام الأرض ، وسابع عشريه يطلع الفجر بالفرغ المؤخر (٢) ، وفي آخره يتفرّق السحاب.

وفي هذا الشهر تجري المراكب السفرية في البحر الملح إلى ديار مصر من المغرب والروم ، ويهتم فيه بتجريد الأجناد إلى الثغور كالإسكندرية ودمياط وتنيس ورشيد ، وفيه كانت تجهز الأساطيل ، ومراكب الشواني لحفظ الثغور ، وفيه زرع المقائي والصيفيّ ، ويدرك الفول والعدس ، ويقلع الكتان ، وتزرع أقصاب السكر في الأرض المبروشة المختارة لذلك البعيدة العهد عن الزراعة ، ويأخذ المقشرون في تنظيف الأرض المزروعة من القش في وقت الزراعة ، ويأخذ القطاعون في قطع الزريعة ، ويأخذ المزارعون في رمي قطع القصب ، وفيه يؤخذ في تحصيل النطرون وحمله من وادي هبيت إلى الشونة السلطانية ، وفيه يكون ريح الشمال أكثر الرياح هبوبا ، وفيه تزهر الأشجار ، وينعقد أكثر ثمارها ، وفيه يكون اللبن الرائب أطيب منه في جميع الشهور التي يعمل فيها ، وفي برمهات يطالب الناس بالربع الثاني ، والثمن من الخراج.

برموده : في سادسه أوّل نيسان ، وفي عاشره يطلع الفجر بالرشاء (٣) ، وفي ثاني عشره يقلع الفجل ، وفي سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الثور ، وفي ثالث عشريه يطلع الفجر بالشرطين (٤) ، وهو رأس الحمل ، وأوّل منازل القمر ، وفيه ابتداء كسار الفول ، وحصاد القمح ، وهو ختام الزرع.

وفي هذا الشهر يهتم بقطع خشب السنط من الخراج الذي كان بمصر في القديم أيام الدولة الفاطمية والأيوبيّة ، ويجرّ إلى السواحل لتيسر حمله في زمن النيل إلى ساحل مصر ليعمل شواني وأحطابا برسم الوقوع في المطابخ السلطانية ، وفيه يكثر الورد ، ويزرع الخيار شنبر والملوخيا والباذنجان ، وفيه يقطف أوائل عسل النحل ، وينفض بزر الكتان ، وأحسن ما يكون الورد فيه من جميع زمانه ، وفيه يظهر البطن الأوّل من الجميز ، وفيه تقع المساحة على أهل الأعمال ، ويطالب الناس بإغلاق نصف الخراج من سجلاتهم ، ويحصد بدريّ الزرع.

بشنس : في خامسه تكثر الفاكهة ، وسادسه أوّل أيار ، وفيه طلوع الفجر بالبطين (٥) ،

__________________

(١ ـ ٥) من منازل القمر.

٤١

وثامنه عيد الشهيد ، وتاسعه انفتاح البحر المالح ، ورابع عشره يزرع الأرز ، وثامن عشره تحل الشمس أوّل بزرج الجوزاء ، وفيه يطيب الحصاد ، وفي تاسع عشره يطلع الفجر بالثريا (١) ، وفيه زراعة الأرز والسمسم ، ورابع عشريه يكون عيد البلسان بالمطرية ، ويزعمون أنه اليوم الذي دخلت فيه مريم إلى مصر.

وفي هذا الشهر يكون دراس الغلة ، وهدار الكتان ، ونفض البزر ، والنقاوي والأتبان ، وحملها ، وفيه زراعة البلسان وتقليمه وسقيه ، وتكريم أراضيه من بؤونة إلى آخر هاتور ، واستخراج دهنه بعد شرطه في نصف توت ، وإن كان في أوّله ، فهو أصلح إلى آخر هاتور ، وصلاح أيامه أيام الندى ، ويقيم في الندى سنة كاملة إلى أن يشرب إعكاره ، وأوساخه ، ويطبخ الدهن في الفصل الربيعيّ في شهر برمهات ، فيعمل لكل رطل مصريّ أربعة وأربعون رطلا من مائة ، فيحصل منه قدر عشرين درهما ، وما حولها من الدهن.

وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمالية ، وفيه يدرك التفاح القاسمي ، ويبتدي فيه التفاح المسكي ، والبطيخ العبدلي ، ويقال : إنه أوّل ما عرف بمصر عندما قدم إليها عبد الله بن طاهر بعد المائتين من سني الهجرة ، فنسب إليه ، وقيل له العبدليّ ، وفيه أيضا يبتدئ البطيخ الجربيّ والمشمس والخوخ الزهريّ ، ويجني الورد الأبيض ، وفيه تقرّر المساحة ، ويطالب الناس بما يضاف إلى المساحة من أبواب ، وجوه المال كالصرف والجهبذة ، وحق المراعي والقرط والكتان على رسوم كل ناحية ، ويستخرج فيه إتمام الربع مما تقرّرت عليه العقود ، والمساحة ويطلق الحصاد لجميع الناس.

بؤونة : في ثانية يطلع الفجر بالدبران (٢) ، وفي خامسه يتنفس النيل ، وفي تاسعه أوان قطف النحل ، وفي حادي عشره تهب رياح السموم ، وفي ثاني عشره عيد ميكائيل ، فيؤخذ قاع النيل ، وفي ثالث عشره يشتدّ الحرّ ، وفي خامس عشره يطلع الفجر بالهنعة (٣) ، وفي عشريه تحل الشمس أوّل برج السلطان ، وهو أوّل فصل الصيف ، وفي سابع عشريه ينادى على النيل بما زاده من الأصابع ، وفي ثامن عشريه يطلع الفجر بالهقعة (٤).

وفي هذا الشهر تسفر المراكب لإحضار الغلال والتبن والقنود والأعسال ، وغير ذلك من الأعمال القوصية ، ونواحي الوجه البحريّ ، وفيه يقطف عسل النحل ، وتخرّص الكروم ، ويستخرج زكاتها ، وفيه يندّى الكتان ، ويقلب أربعة أوجه في بؤونة وأبيب ، وفيه زراعة النيلة بالصعيد الأعلى ، وتحصد بعد مائة يوم ، ثم تترك وتحصد في كل مائة يوم حصدة ، ويحصل في أوّل كيهك وطوبة وأمشير وبرمهات ، ويطلع في برمودة ، وتحصد في عشرة أيام من أبيب ، وتقيم في الأرض الجيدة ثلاث سنين ، وتسقي كل عشرة أيام دفعتين ، وثاني سنة ثلاث دفعات ، وثالث سنة أربع دفعات ، وفي هذا الشهر يكون التين الفيوميّ والخوخ الزهريّ والكمثرى والقراصيا والقثاء والبلح والحصرم ، ويبتدئ إدراك العصفر ، وفيه يدخل

__________________

(١ ـ ٤) من منازل القمر.

٤٢

بعض العنب ويطيب التوت الأسود ، ويقطف جمهور العسل ، فتكون رياحه قليلة والتين يكون فيه أطيب منه في سائر الشهور ، وفيه يطلع النخل ، وفيه يستخرج تمام نصف الخراج مما بقي بعد المساحة.

أبيب : في سابعه أوّل تموز ، وفي عاشره آخر قطع الخشب ، وفي حادي عشره يطلع الفجر بالذراع (١) ، وثاني عشره ابتداء تعطين الكتان ، وفي خامس عشره يقلّ ماء الآبار ، وتدرك الفواكه ، ويموت الدود ، وفي حادي عشريه تحل الشمس بأوّل برج الأسد ، وتذهب البراغيث ويبرد باطن الأرض ، وتهيج أوجاع العين ، وفي خامس عشريه يطلع الفجر بالنثرة (٢) ، وفي سادس عشريه تطلع الشعرى (٣) العبور اليمانية.

وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمال ، ويكثر فيه العنب ، ويجود ، وفيه يطيب التين المقرون بمجيء العنب ، ويتغير البطيخ العبدليّ ، وتقل حلاوته ، وتكثر الكمثرى السكرية ، ويطيب البلخ ، وفيه يقطف بقايا عسل النحل ، وتقوى زيادة ماء النيل ، فيقال : في أبيب يدب الماء دبيب ، وفيه ينقع الكتان بالمبلات ، ويباع برسيم البذر برسم زراعة القرط والكتان ، وفيه تدرك ثمرة العنب ، ويحصد القرطم ، وفيه تستتم ثلاثة أرباع الخراج.

مسرى : في سابعه يطلع الفجر بالطرف (٤) ، وفي ثامنه أوّل آب ، وفي حادي عشره يجمع القطن ، وفي رابع عشره يحمي الماء ، ولا يبرد ، وفي سابع عشره استكمال الثمار ، وفي عشريه يطلع الفجر بالجبهة (٥) ، وفي حادي عشريه تحلّ الشمس برج السنبلة ، وفي ثالث عشريه يتغير طعم الفاكهة لغلبة ماء النيل على الأرض ، وفي خامس عشريه يكون آخر السموم ، وفي تاسع عشريه يطلع سهيل (٦) بمصر.

وفي هذا الشهر يكون وفاء النيل ستة عشر ذراعا في غالب السنين ، حتى قيل : إن لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى ، وفيه يجري ماء النيل في خليج الإسكندرية ، ويسافر فيه المراكب بالغلال والبهار والسكر ، وسائر أصناف المتاجر ، وفيه يكثر البسر ، وكانوا يخرّصون النخل ، ويخرجون زكاة الثمار في هذا الشهر عندما كانت الزكوات يجيبها السلطان من الرعية ، وأكثر ما يهب في هذا الشهر ريح الشمال ، وفيه يعصر قبط مصر الخمر ، ويعمل الخل من العنب ، وفيه يدرك الموز وأطيب ما يكون الموز بمصر في هذا الشهر ، وفيه يدرك الليمون التفاحي ، وكان من جملة أصناف الليمون بأرض مصر ليمون يقال له : التفاحيّ يؤكل بغير سكر لقلة حمضه ، ولذة طعمه ، وفيه يكون ابتداء إدراك الرّمان ، وإذا انقضت أيام مسرى ابتدأت أيام النسيء ففي أوّلها ابتداء هيج النعام ، وفي

__________________

(١) من منازل القمر.

(٣) الشعري : نجم يقال إنها أخت لنجم سهيل القاموس المحيط.

(٦) سهيل : نجم عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ (من جهة الجنوب). القاموس المحيط.

٤٣

رابعها يطلع الفجر بالخراتان ، وفي مسرى يغلق الفلاحون خراج أراضي زراعاتهم ، وكانوا يؤخرون البقايا على دق الكتان في مسرى وأبيب ، لأنّ الكتان يبلّ في توت ، ويدق في بابه.

ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية

وكيف عمل ذلك في الإسلام؟ قد تقدّم فيما سلف من هذا الكتاب التعريف بالسنة الشمسية ، والسنة القمرية ، وما للأمم في كبس السنين من الآراء ، فما جاء الله تعالى بالإسلام تحرّز المسلمون من كبس السنين خشية الوقوع في النسيء الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة / ٣٧] ، ثم لما رأوا تداخل السنين القمرية في السنين الشمسية ، أسقطوا عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة قمرية ، وسموا ذلك الازدلاق لأنّ لكل ثلاث وثلاثين سنة قمرية ، اثنتين وثلاثين سنة شمسية بالتقريب ، وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما لم أره مجموعا.

قال أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر في كتاب أخبار أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد طلحة الموفق ابن المتوكل ، ومنه نقلت ، وخرج أمر المعتضد في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ، ومائتين بتصيير النوروز لإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران رأفة بالرعية ، وإيثارا لإرقاقها ، وقالوا : خرج التوقيع في المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النوروز الفارسيّ الذي يقع يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ، وأن يجعل ما يفتتح من خراج سنة اثنتين وثمانين ومائتين يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر من هذه السنة ، وهو اليوم الحادي عشر من حزيران ، ويسمى هذا النوروز المعتضديّ ترفيها لأهل الخراج ونظرا لهم.

ونسخة التوقيع الخارج في تصيير افتتاح الخراج في حزيران : أمّا بعد : فإنّ الله لما حوّل أمير المؤمنين للمحل الذي أحله به من أمور عباده وبلاده ، رأى أن من حق الله عليه أن لا يكلفها إلا ما به بالعدل والإنصاف لها ، والسيرة القاصدة ، وأن يتولى لها إصلاح أمورها ، ويستقرئ السير والمعاملات التي كانت تعامل بها ، ويقرّ منها ما أوجب الحق إقراره ، ويزيل ما أوجب إزالته غير مستكثر لها كثير ما يسقطه العدل ، ولا مستقل لها قليل ما يلزمه إياها الجور ، وقد وفق الله أمير المؤمنين لما يرجو أن يكون لحق الله فيها قاضيا ولنصيبها من العدل موازيا ، وبالله يستعين أمير المؤمنين على حفظ ما استرعاه منها ، وحياطة ما قلده من أمورها ، وهو خير موفق ومعين ، وإن أبا القاسم عبيد الله رفع إلى أمير المؤمنين ، فيما أمر أمير المؤمنين من ردّ النوروز الذي يفتتح به الخراج بالعراق والمشرق ، وما يتصل بهما ، ويجري مجراهما من الوقت الذي صار فيه من الزمان إلى الوقت الذي كان عليه متقدّما مع

٤٤

ما أمر به في مستقبل السنين من الكبس ، حتى يصير العدل عامّا في الزمان كله باقيا على غابر الدهر ، ومرّ الأيام مؤامرة أمير المؤمنين ، فأمر بتسجيلها لك في آخر كتابه مع ما وقع به فيها لتمثيله ، فافعل ذلك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين.

نسخة المؤامرة أنهيت إلى أمير المؤمنين أن مما أنعم الله به على رعيته ، ورزقها إياه من رأفته ، وحسن نظره ، وإقامته عليها من عدله ، وإنصافه ورفعه عنها في خلافته من الظلم الشامل ما كان الأقصى والأدنى ، والصغير والكبير ، والمسلم والذميّ فيه سواء ما حرّرته من نقل كتب الخراج عن السنة التي كانت تنسب إليها من سني الهجرة إلى السنة التي فيها تدرك الغلات ، ويستخرج المال ، وإن ذلك ما كان بعض أهل الجهل حاوله ، وبعض المتغلبين استعمله من تثبيت الخراج على أهله ، ومطالبتهم به قبل وقت الزراعة ، وإعيائهم بذكر سنة من السنتين اللتين ينسب الخراج لإحداهما ، وتدرك الغلات ، ويقع الاستخراج في الأخرى منهما في حساب شهور الفرس التي عليها يجري العمل في الخراج بالسواد ، وما يليه ، والأهواز وفارس والجبل ، وما يتصل به من جميع نواحي المشرق ، وما يضاف إليه إذا كان عمل الشأم والجزيرة والموصل ، جرى على حساب شهور الروم الموافقة للأزمنة ، فليست تختلف أوقاتها مع الكبيسة المستعملة فيها ، والعمل في خراج مصر ، وما والاها على شهور القبط الموافقة لشهور الروم ، وكانت من شهور الفرس قد خالفت موافقها من الزمان بما ترك من الكبس منذ أزال الله ملك فارس ، وفتح للمسلمين بلادهم ، فصار النوروز الذي كان الخراج يفتتح فيه بالعراق والمشرق قد تقدّم في ترك الكبس شهرين وصارا بينه وبين إدراك الغلة ، فأمر أمير المؤمنين بما جبل الله عليه رأيه في التوصل إلى كل ما عاد بصلاح رعيته.

وحسما للأسباب المؤدّية إلى إعيائها بتأخير النوروز الذي يقع في شهور سنة اثنتين وثمانين ومائتين من سني الهجرة عن الوقت الذي يتفق فيه أيام سنة الفرس ، وهو يوم الجمعة لإحدى عشر تخلو من صفر مثل عدّة أيام الشهرين من شهور الفرس التي ترك كبسها ، وهي ستون يوما ، حتى يكون نوروز السنة واقعا يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين ، وهو الحادي عشر من حزيران ، وهو يتصل بهما ، ويجري مجراهما ، وينسب ويضاف إليهما ، وبسائر أعمالهم ، وبما يعمله أصحاب الحساب من التقويمات وجميع الأعمال ، وما يعدّه الفرس من شهورهم إلى شهوره الكبيسة الأول والأخر ، ثم يكبس بعد ذلك في كل أربع سنين من سني الفرس ، ولا يقع تفاوت بينه وبينها على مرور الأيام ، وليكن أبدا واقعا في حزيران ، وغير خارج عنه ، وأن يلغي ذكر كل سنة من أربع سنين تنسب إلى الخراج بالعراق ، وفي المشرق والمغرب ، وسائر النواحي والآفاق إذ كان مقدار سني أيام الهجرة ، والسنة الجامعة للأزمنة التي تتكامل فيها الغلات ، وأن يخرج التوقيع بذلك لتنشأ الكتب به من ديوان الرسائل إلى ولاة المعاون والأحكام ،

٤٥

وتقرأ على المنابر ، ويحمل أصحاب المعاون الرعية عليه ، وتأخذها بامتثال ما أمر به أمير المؤمنين ، وسنة الحكام في ديوان حكمهم لتمثيل الضمان والمقاطعين ذلك على حسبه ، واستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك ، فرأى أمير المؤمنين في ذلك موفق إن شاء الله تعالى ، وتكتب نسخة التوقيع بتنفيذ ذلك إن شاء الله تعالى ، وكتب في شهر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين.

قال : وكان السبب في نقل الخراج إلى حزيران في أيام المعتضد ما حدّثني به أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى المنجم القديم قال : كنت أحدّث أمير المؤمنين المعتضد ، فذكرت خبر المتوكل في تأخير النوروز ، فاستحسنه ، وقال لي : كيف كان ذلك؟ قلت : حدّثني أبي قال : دخل المتوكل قبل تأخير النوروز بعض بساتينه الخاصة التي كانت في يدي وهو متوكئ عليّ يحادثني ، وينظر إلى ما أحدث في ذلك البستان ، فمرّ بزرع فرآه أخضر ، فقال : يا عليّ ، إنّ الزرع اخضرّ بعد ما أدرك ، وقد استأمرني عبيد الله بن يحيى في استفتاح الخراج ، فكيف كانت الفرس تستفتح الخراج في النوروز والزرع لم يدرك بعد؟ قال : فقلت له : ليس يجري الأمر اليوم على ما كان يجري عليه في أيام الفرس ، ولا النوروز في هذه الأيام في وقته الذي كان في أيامها ، قال : وكيف ذاك؟ فقلت : لأنها كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا.

وكان النوروز إذا تقدّم شهرا ، وصار في خمس من حزيران كبست ذلك الشهر ، فصار في خمس من أيار ، وأسقطت شهرا ، وردته إلى خمس من حزيران ، فكان لا يتجاوز هذا ، فلما تقلّد العراق خالد بن عبد الله القسري ، وحضر الوقت الذي تكبس فيه الفرس منعها من ذلك ، وقال : هذا من النسيء الذي نهى الله عنه ، فقال : إنما النسيء زيادة في الكفر وأنا لا أطلقه حتى أستأمر فيه أمير المؤمنين ، فبذلوا على ذلك مالا جليلا ، فامتنع عليهم من قبوله.

وكتب إلى هشام بن عبد الملك يعرّفه ذلك ، ويستأمره ، ويعلمه أنه من النسيء الذي نهى الله عنه ، فأمر بمنعهم من ذلك ، فلما امتنعوا من الكبس تقدّم النوروز تقدّما شديدا حتى صار يقع في نيسان والزرع أخضر ، فقال له المتوكل : فاعمل لهذا يا عليّ عملا تردّ النوروز فيه إلى وقته الذي كان يقع فيه أيام الفرس ، وعرّف بذلك عبيد الله بن يحيى ، وأدّ إليه رسالة مني في أن يجعل استفتاح الخراج فيه ، قال : فصرت إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى ، وعرّفته ما جرى بيني وبين المتوكل ، وأدّيت إليه رسالته ، فقال لي : يا أبا الحسن قد والله فرّجت عني ، وعن الناس ، وعملت عملا كثيرا يعظم ثوابك عليه ، وكسبت لأمير المؤمنين أجرا وشكرا ، فأحسن الله جزاءك ، فمثلك من يجالس الخلفاء ، وأحب أن يتقدّم بالعمل الذي أمر به المتوكل ، وينفذه إليّ حتى أجري الأمر عليه ، وأتقدّم في كتب الكتب ، باستفتاح الخراج ، قال : فرجعت ، وحرّرت الحساب ، فوجدت النوروز لم يكن يتقدّم في

٤٦

أيام الفرس أكثر من شهر يتقدّم من خمس تخلو من حزيران ، فيصير في خمسه أيام تخلو أيار ، فتكبس سنتها ، وتردّه إلى خمسة أيام من حزيران ، وأنفذته إلى عبيد الله بن يحيى ، فأمر أن يستفتح الخراج في خمس من حزيران ، وتقدّم إلى إبراهيم بن العباس في أن ينشئ كتابا عن أمير المؤمنين في ذلك ينفذ نسخته إلى النواحي ، فعمل إبراهيم بن العباس كتابه المشهور في أيدي الناس.

قال أبو أحمد : فقال لي المعتضد : يا يحيى ، هذا والله فعل حسن ، وينبغي أن يعمل به ، فقلت : ما أحد أولى بفعل الحسن ، وإحياء السنن الشريفة من سيدنا ، ومولانا أمير المؤمنين لما جمعه الله فيه من المحاسن ، ووهبه له من الفضائل ، فدعا بعبيد الله بن سليمان ، وقال له : اسمع من يحيى ما يخبرك به ، وامض الأمر في استفتاح الخراج عليه ، قال : فصرت مع عبيد الله بن سليمان إلى الديوان ، وعرّفته الخبر ، فأحب تأخيره عن ذلك لئلا يجري الأمر المجرى الأوّل بعينه ، فجعله في أحد عشر من حزيران ، واستأمر المعتضد في ذلك فأمضاه فقلت في ذلك شعرا أنشدته للمعتضد في هذا المعنى :

يوم نوروزك يوم

واحد لا يتأخر

من حزيران يوافي

أبدا في أحد عشر

قال : وأخبرني بعض مشايخ الكتاب قال : وكانت الخلفاء تؤخر النوروز عن وقته عشرين يوما ، وأقل وأكثر ليكون ذلك سببا لتأخير افتتاح الخراج على أهله.

وأمّا المهرجان فلم تكن تؤخره عن وقته يوما واحدا ، فكان أوّل من قدّمه عن وقته بيوم المعتمد بمدينة السلام في سنة خمس وستين ومائتين ، وأمر المعتضد بتأخير النوروز عن وقته ستين يوما.

وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية : ومنه نقلت ما ذكر ابن أبي طاهر وزاد ، ونفذت الكتب إلى الآفاق يعني عن المتوكل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ومائتين ، وقتل المتوكل ، ولم يتم له ما دبر ، واستمرّ الأمر حتى قام المعتضد ، فاحتذى ما فعله المتوكل في تخير النوروز غير أنه نظر فإذا المتوكل أخذ ما بين سنته ، وبين أوّل تاريخ يزدجرد ، فأخذ المعتضد ما بين سنته ، وبين السنة التي زال فيها ملك الفرس بهلاك يزدجرد ، ظنا أن إهمالهم أمر الكبس من ذلك الوقت ، فوجده مائتي سنة ، وثلاثا وأربعين سنة ، حصتها من الأرباع ستون يوما وكسر ، فزاد ذلك على النوروز في سنة ، وجعله منتهى تلك الأيام ، وهو من خردادماه في تلك السنة ، وكان يوم الأربعاء ، ويوافقه اليوم الحادي عشر من حزيران ، ثم وضع النوروز على شهور الروم لتكبس شهوره إذا كبست الروم شهورها.

وقال القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرياستين أبو الحسن عليّ بن القاضي المؤتمن

٤٧

ثقة الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف المخزومي في كتاب المنهاج في علم الخراج : والسنة الخراجية مركبة على حكم السنة الشمسية لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، ورتب المصريون سنتهم على ذلك ليكون أدار الخراج عند إدراك الغلات من كل سنة ، ووافقها السنة القبطية ، لأنّ أيام شهورها ثلثمائة وستون يوما ، ويتبعها خمسة أيام النسيء وربع يوم بعد تقضي مسرى ، وفي كل أربع سنين تكون أيام النسيء ستة أيام ، لينجبر الكسر.

ويسمون تلك السنة كبيسة ، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة تسقط سنة ، فيحتاج إلى نقلها لأجل الفصل بين السنين الشمسية والسنين الهلالية ، لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، والسنة الهلالية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وكسر ، ولما كان كذلك احتيج إلى استعمال النقل الذي تطابق به إحدى السنتين الأخرى ، وقد قال أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب رحمه‌الله : عهدت جباية أموال الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه ، تجري كل سنة في السنة التي بعدها ، بسبب تأخير الشهور الشمسية عن الشهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم ، وزيادة الكسر عليه ، فلما دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، كان قد انقضى من السنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة ، أوّلهنّ سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمة الله عليه ، واجتمع من هذا المتأخر فيها أيام سنة شمسية كاملة ، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، وزيادة الكسر ، وبها إدراك غلات ، وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صفر سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه ، بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين ، إذ كانت قد انقضت ، وينسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين ، فجرت الأعمال على ذلك سنة بعد سنة ، إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين ، فلم ينبه كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله رحمة الله عليه على ذلك ، إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات ، ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النقل ، بل كان مولد أحمد بن محمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنين ، ومولد عليّ أخيه فيها ، وكان إسماعيل بن بلبل يتعلم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ ، فلما تقلدت لناصر الدين أبي أحمد طلحة الموفق رحمه‌الله أعمال الضياع بقزوين (١) ونواحيها ، لسنة ست وسبعين ومائتين ، وكان مقيما بأذربيجان (٢) ، وخليفته بالجبل جرادة بن محمد ،

__________________

(١) قزوين : مدينة مشهورة بينها وبين الري سبعة وعشرون فرسخا وهي في بلاد فارس. معجم البلدان ج ٤ / ٣٤٢.

(٢) آذربيجان : إقليم واسع يتصل شمالا ببلاد الديلم وشرقا إلى برذعة ومن مدنها تبريز وفيها قلاع كثيرة.

معجم البلدان ج ١ / ١٢٨.

٤٨

وأحمد بن محمد كاتبه ، واحتجت إلى رفع جماعتي إليه ترجمتها بجماعة سنة ست وسبعين ومائتين التي أدركت غلاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين ، ووجب إلغاء ذكر سنة ست وسبعين ومائتين ، فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها ، وسألاني عن السبب فيها ، فشرحت لهما ، وأكدت ذلك بأن عرّفتهما إني قد استخرجت حساب السنين الشمسية ، والسنين القمرية من القرآن الكريم بعد ما عرضته على أصحاب التفسير ، فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر ، فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي ، وهو أنّ الله تعالى قال في سورة الكهف : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف / ٢٥] فلم أجد أحدا من المفسرين عرف معنى قوله : وازدادوا تسعا ، وإنما خاطب الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلام العرب ، وما تعرفه من الحساب ، فمعنى هذه التسع أنّ الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم ، ومن كان لا يعرف السنين القمرية ، فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمرية زيادة التسع ، كانت سنين شمسية صحيحة ، فاستحسناه ، فلما انصرف جرادة مع الناصر لدين الله إلى مدينة السلام ، وتوفي الناصر رحمه‌الله ، وتقلد القاسم عبيد الله بن سليمان كتابة أمير المؤمنين المعتضد بالله أجرى له جرادة ذكر هذا النقل ، وشرح له سببه تقرّبا إليه وطعنا على أبي القاسم عبيد الله في تأخيره إياه ، فلما وقف المعتضد على ذلك تقدّم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين ، وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه ، ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة ، أولاهنّ السنة التي كان النقل وجب فيها ، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين ، وآخرتهنّ انقضاء سنة سبع وثلثمائة ، وقد تهيأ إدراك الغلات ، والثمار في صدر سنة ثمان وثلثمائة ، ونسبته إليها ، وقد عملت نسخة هذا النقل نسختها تحت هذا الموضع ليوقف عليها ، وقد كان أصحاب الدواوين في أيام المتوكل لما نقل سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين جبوا الجوالي والصدقات لسنتي إحدى واثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد ، لأنّ الجوالي بسرّمن رأى (١) ، ومدينة السلام (٢) ، وقصب المدن المشهورة كانت تجبي على شهور الأهلة ، وما كان من جماجم أهل القرى في الخراج والضياع والصدقات والمستغلات ، كان يجبى على شهور الشمس ، وفي ثلاث وثلاثين سنة اجتمعت أيام سنة شمسية كاملة ، فألزم أهل الذمّة خاصة بالجوالي ، ورفعها العمال في حساباتهم فمن لم يرفعها ألزموه بجوالي السنة الزائدة ، فأحفظ أنه اجتمع من ذلك ألوف دراهم ، ثم جدّدت الكتب إلى العمال بأن تكون حساباتهم الجوالي على شهور الأهلة ،

__________________

(١) سرّ من رأى : كان اسمها قديما : ساميرا سميت بسامير بن نوح ولما استحدثها المعتصم سمّاها سرّ من رأى وهي الآن سامراء بالعراق. معجم البلدان ج ٣ / ٢١٥.

(٢) مدينه السلام : هي مدينة بغداد. معجم البلدان ج ٣ / ٢٣٣.

٤٩

فجرى الأمر على ذلك ، قال القاضي أبو الحسن : وقد كان النقل أغفل في الديار المصرية ، حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلالية تجري مع سنة سبع وتسعين الخراجية ، فنقلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة ، هكذا رأيت في تعليقات أبي رحمه‌الله ، وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية ، فتطابقت السنتان ، وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل أبي عليّ عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ : أنه قد آن نقل السنة ، فأنشأ سجلا بنقلها نسخ الدواوين ، وحمل الأمر على حكمه ، وما برح الملوك والوزراء يعتنون بنقل السنين في أحيانها.

وقال أبو الحسين هلال بن المحسن الصابي : حدّثني أبو عليّ قال : لما أراد الوزير أبو محمد المهلبيّ (١) نقل سنة خمس وثلثمائة الهلالية أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتابة في الخراج ، والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله في هذا المعنى ، فكتب كل منهم ، وكتب والدي الكتاب الموجود في رسائله ، وعرضت النسخ على الوزير ، فاختاره منها ، وتقدّم بأن يكتب إلى أصحاب الأطراف ، وقال لأبي الفرج بن أبي هشام خليفته : اكتب إلى العمال بذلك كتبا محققه ، وانسخ في أواخرها هذا الكتاب السلطانيّ ، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي ، وقد كان عمل نسخة اطرحت في جملة ما اطرح وكتب ، قد رأينا نقل سنة خمسين إلى إحدى وخمسين ، فاعمل على ذلك ، ولم ينسخ الكتاب السلطانيّ ، وعرف الوزير ما كتب به أبو الفرج ، فقال له : لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطانيّ في آخر الكتب إلى العمال ، وإثباته في الديوان ، فأجاب جوابا علك فيه ، فقال له : يا أبا الفرج ما تركت ذلك إلّا حسدا لأبي إسحاق ، وهو والله في هذا الفنّ أكتب أهل زمانه ، فأعد الآن الكتب ، وانسخ الكتاب في أواخرها ، قال القاضي أبو الحسن : وأنا أذكر بمشيئة الله نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب ، وكتاب أبي إسحاق ، وكتاب القاضي الفاضل ، ليستبين للناظر طريق نقل السنين الخراجية إلى السنين الهلالية ، فإذا قاربت الموافقة ، وحسنت فيها المطابقة ، فالكتاب الفاضليّ أكثر نجازا ، وأعظم إعجازا ، ولا يخفى على المتأمّل قدر ما أورد فيه من البلاغة ، كما لا يخفى على العارف قدر ما تضمنه كتاب الصابي من الصناعة.

نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن الكاتب : إنّ أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته ، وأعمل فيه فكره ورويته ، وشغل فيه تفقده ، ورعايته أمر الفيء الذي خصه الله به ، وألزمه جمعه ، وتوفيره وحياطته ، وتكثيره وجعله عماد الدين ، وقوام أمر المسلمين ،

__________________

(١) أبو محمد المهلبي : هو الحسن بن محمد من ولد المهلب بن أبي صفرة من كبار الوزراء اتصل بالبويهيين. واجتمعت له وزارة الخليفة ووزارة السلطان ولد سنة ٢٩١ ه‍ وتوفي سنة ٣٥٢ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٢١٣.

٥٠

وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود ، ومن يستعان به لتحصين البيضة ، والذب عن الحريم ، وحج البيت ، وجهاد العدوّ ، وسدّ الثغور ، وأمن السبيل ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البيت ، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى ، راغبا إليه ومتوكلا عليه أن يحسن عونه على ما حمله منه ، ويديم توفيقه بما أرضاه ، وإرشاده إلى أن يقضي عنه وله ، وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه الراشدين صلوات الله عليهم ، فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلات والثمار من كل سنة أوّلا أوّلا على مجاري شهور سني الشمس في النجوم التي يحل مال كل صنف منها فيها ، ووجد شهور السنة الشمسية تتأخر عن شهور السنة الهلالية أحد عشر يوما وربعا ، وزيادة عليه ، ويكون إدراك الغلات والثمار في كل سنة بحسب تأخرها ، فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة ، وتكون عدّة الأيام المتأخرة منها أيام سنة شمسية كاملة ، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه.

فحينئذ يتهيأ بمشيئة الله تعالى وقدرته إدراك الغلات التي تجري عليها الضرائب ، والطسوق (١) في استقبال المحرّم من سني الأهلة ، ويجب مع ذلك إلغاء السنة الخارجة إذا كانت قد انقضت ، ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلات والثمار فيها ، لأنه وجد ذلك قد كان وقع في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة آخرتهنّ سنة إحدى وأربعين ومائتين ، فجرت المكاتبات والحسبانات ، وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين ، ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين ، ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين ، فذهب ذلك على كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله ، وتأخر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين المعتضد بالله رحمة الله عليه في سنة سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين.

فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة : أولاهنّ السنة التي كان يجب نقلها فيها ، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين ، وآخرتهنّ انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلثمائة ، ووجب افتتاح خراج ما يجري على الضرائب والطسوق في أوّلها ، وإن من صواب التدبير واستقامة الأعمال ، واستعمال ما يخف على الرعية معاملتها به ، نقل سنة الخراج سنة سبع وثلثمائة إلى سنة ثمان وثلثمائة ، فرأى أمير المؤمنين لما يلزمه نفسه ، ويؤاخذها به من العناية بهذا الفيء ، وحياطة أسبابه ، وإجرائها مجاريها ، وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم أجمعين فيها ، أن يكتب إليك ، وإلى سائر العمال في النواحي

__________________

(١) الطسوق : ج. طسق وهو مكيال. والمراد هنا ما يوضع من الخراج أو شبه ضريبة معلومة على الجريان.

٥١

بالعمل على ذلك ، وأن يكون ما يصدر إليكم من الكتب ، وتصدرونه منكم ، وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم ، وسائر مناظراتكم على هذا النقل ، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين ، واعمل به مستشعرا فيه ، وفي كل مضنة تقوى الله ، وطاعته ومستعملا عليه ثقات الأعوان وكفاتهم ، ومشرفا عليهم ، ومقوّما لهم ، واكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء الله تعالى.

نسخة أبي إسحاق الصابي : أما بعد : فإنّ أمير المؤمنين لا زال مجتهدا في مصالح المسلمين ، وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدين ، ومهيأ لهم أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون ، وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون ، فلا يلوح له خلة داخلة على أمورهم إلّا سدّها ، وتلافاها ولا حال عائدة بحظ عليهم إلا اعتمدها ، وأتاها ، ولا سنة عادلة إلا أخذهم بإقامة رسمها ، وإمضاء حكمها ، والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها ، والإتباع لها ، وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصة بوفور ألبابها ، وتجهله العامّة بقصور أفهامها ، وكانت أوامره فيه خارجة إليك ، وإلى أمثالك من أعيان رجاله ، وأماثل عماله الذين يكتفون بالإشارة ، ويجتزون بيسير الإبانة والعبارة لم يدع أن يبلغ من تخليص اللفظ ، وإيضاح المعنى إلى الحدّ الذي يلحق المتأخر بالمتقدّم ، ويجمع بين العالم والمتعلم ، ولا سيما إذا كان ذلك فيما يتعلق بمعاملات الرعية ، ومن لا يعرف إلّا الظواهر الجلية دون البواطن الخفية ، ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكرّرة إلى الرسوم المتغيرة ليكون القول بالمشروح لمن برز في المعرفة مذكرا ، ولمن تأخر فيها مبصرا ، ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها ، ولا أن يقتصر على اللمحة الدالة في مخاطبة جمهورها ، حتى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه ، وصاروا على حكمه سواء لا يعترضهم شك الشاكين ، ولا استرابة المستريبين ، اطمأنت قلوبهم ، وانشرحت صدورهم ، وسقط الخلاف بينهم ، واستمرّ الاتفاق بهم ، واستيقنوا أنهم مؤسسون على استقامة من المنهاج ، ومحروسون من حزائز الزيغ والاعوجاج ، فكان الانقياد منهم ، وهم دارون عالمون لا مقلدون مسلمون ، وطائعون مختارون لا مكرهون ، ولا مجبرون.

وأمير المؤمنين يستمدّ الله تعالى في جميع أغراضه ، ومراميه ومطالبه ، ومغازيه مادّة من صنعه يقف بها على سنن الصلاح ، ويفتح له أبواب النجاح ، وينهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التي لا يدّعي الاستقلال بها إلا بتوفيقه ، ومعونته ، ولا يتوجه فيها إلّا بدلالته وهدايته ، وحسب أمير المؤمنين الله ، ونعم الوكيل يرى أنّ أولى الأقوال أن يكون سدادا ، وأحرى الأفعال أن يكون رشادا ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد ، وفي النص من كتابه آيات وشواهد ، وكان منصبا بالأمّة إلى قوام من دين أو دنيا ، ووفاق في آخره أو أولى ، فذلك هو البناء الذي يثبت ، ويعلو ، والغرس الذي ينبت ويزكو ، والسعي الذي

٥٢

تنجح مباديه وهواديه ، وتبهج عواقبه وتواليه ، وتستنير سبله لسالكيها ، وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها غير ضالين ولا عادلين ، ولا منحرفين ولا زائلين ، وقد جعل الله عزوجل لعباده من هذه الأفلاك الدائرة ، والنجوم السائرة ، فيما تنقلب عليه من اتصال وافتراق ويتعاقب عليها من اختلاف ، واتفاق منافع تظهر في كرور الشهور والأعوام ، ومرور الليالي والأيام ، وتفاوت الضياء والظلام ، واعتدال المسالك والأوطان ، وتغاير الفصول والأزمان ، ونشو النبات والحيوان ، مما ليس في نظام ذلك خلل ، ولا في صنعه زلل بل هو منوط بعضه ببعض ، ومحوط من كل تلمة ونقض.

قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس / ٥] ، وقال جلّ من قائل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الرعد / ٢] ، وقال تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس / ٣٨] ، وقال عزت قدرته : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس / ٣٩] ، ففضل الله تعالى بهذه الآيات بين الشمس والقمر ، وأنبأنا في الباهر من حكمه ، والمعجز من كلامه أن لكل منهما طريقا سخر فيها ، وطبيعة جبل عليها وأن تلك المباينة والمخالفة في المسير يؤدّيان إلى موافقة ، وملازمة في التدبير ، فمن هنا لك زادت السنة الشمسية.

فصارت ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه ، وهي المدّة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرّة واحدة ، ونقصت الهلالية ، فصارت ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما ، وهي المدّة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرّة ، واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقنا ، ويداني بينهما إذا تفاوتتا ، وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها ، وفي كتاب الله عزوجل شهادة بذلك إذ يقول في قصة أهل الكهف : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف / ٢٥] ، فكانت هذه الزيادة بأنّ الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب.

فأما الفرس : فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا ، وأيامها ثلثمائة وستون يوما ، ولقبوا الشهور باثني عشر لقبا ، وسموا أيام الشهر منها بثلاثين اسما ، وأفردوا الخمسة الأيام الزائدة ، وسموها المسترقة ، وكبسوا الربع في كل مائة وعشرين سنة شهرا ، فلما انقرض ملكهم بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم ، وزال نوروزهم عن سنته ، وانفرج ما بينه ، وبين حقيقة وقته انفراجا هو زائد لا يقف ، ودائر لا ينقطع ، حتى إن موضوعهم في النوروز أن يقع في مدخل الصيف ، وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء

٥٣

ويتجاوز ذلك ، وموضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء ، وينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف ، ويتجاوز.

وأما الروم : فكانوا أتقن منهم حكمة ، وأبعد نظرا في العاقبة لأنهم رتبوا شهور السنة على أرصاد شهروها ، وأنواء عرفوها ، وفضوا الخمسة الأيام على الشهور ، وساقوها على الدهور ، وكبسوا الربع في كل أربع سنين يوما ، ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا ، فقرّبوها ما بعّده غيرهم ، وسهّلوا على الناس أن يقتفوا أثرهم ، لا جرم أن المعتضد بالله رحمه‌الله على أصولهم بنى ، ولمثالهم احتذى في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران ، حتى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان ، وتلافوا الأمر في عجز سني الهلال عن سني الشمس بأن جبروها بالكبس ، فكلما اجتمع من فصول سني الشمس ، وما بقي تمام شهر جعلوا السنة الهلالية ، يتفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا ، فربما تمّ الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين ، وربما تمّ في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب ، فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما.

وأمّا العرب : فإنّ الله تعالى فضّلها على الأمم الماضية ، وورثها ثمرات مشاقها المتعبة ، وأجرى شهر صيامها ، ومواقيت أعيادها ، وزكاة أهل ملتها ، وجزية أهل ذمّتها على السنة الهلالية ، وتعبدها فيها برؤية الأهلة إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة ، وأعلامها لائحة ، فيتكافأ في معرفة الغرض ، ودخول الوقت الخاص منها والعام ، والناقص الفقه والتام ، والأنثى والذكر ، والصغير والكبير والأكبر ، فصاروا حينئذ يحسبون في سنة الشمس حاصل الغلات المقسومة ، وخراج الأرض الممسوحة ، ويجبون في سنة الهلال الجوالي ، والصدقات والأرجاء ، والمقاطعات والمستغلات ، وسائر ما يجري على المشاهرات ، وحدث من التداخل بين السنين ما لو استمرّ لقبح جدا ، وازداد بعدا إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي ينتهي إليها تنسب إلى الشمسية ، وإلى ما قبلها ، فوجب مع هذا أن تطرح تلك السنة ، وتلغي ويتجاوز إلى ما بعدها ، ويتخطى ، ولم يجز لهم أن يعتدّوا لمخالفتهم في كبس السنة الهلالية بشهر ثالث عشر ، ولأنهم لو فعلوا ذلك لزحزحت الأشهر الحرم عن موافقها ، وارتجت المناسك عن حقائقها ، ونقصت الجباية في سني الأهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها ، فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتم السنة ، وأوجب الحساب المقرّب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين هلالية ، فنقلوا المتقدّمة إلى المتأخرة نقلا لا يتجاوز الشمسية.

وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم ، وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلثمائة الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلثمائة الهلالية جمعا بينهما ، ولزوما لتلك السنة فيهما ، فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك ،

٥٤

وتضمنه كتابه هذا إليك ، ومر الكتاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمال نواحيك ، ويخلدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم ، ويعدونه من خروج الأموال وينظمونه في الدواوين والأعمال ، ويثبتون عليه الجماعات والحسبانات ، ويوغرون بكتبه من الروزنامجات ، والبراءات وليكن المنسوب من ذلك إلى سنة خمسين وثلثمائة التي وقع النقل إليها ، وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية ، وأهل الملة والذمة أن هذا النقل لا يغير لهم رسما ، ولا يلحق بهم ثلما ، ولا يعود على قابضي العطاء بنقصان ما استحقوا قبضه ، ولا على مؤدّي حق بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه ، فإنّ قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي آثر أن تزاح فيه العلة ، ويسدّ بهم سهم الخلة إذ كان هذا الشأن لا يتجدّد إلا في المدد الطوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناسي ، وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك إن شاء الله تعالى.

وقال ابن المأمون في تاريخه : من حوادث سنة إحدى وخمسمائة ، وأوّل ما تحدّث فيه نقل السنة الشمسية إلى العربية ، وكان قد حصل بينهما تفاوت أربع سنين ، فتحدّث القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ (١) مع الأفضل بن أمير الجيوش في ذلك ، فأجاب إليه ، وخرج أمره إلى الشيخ أبي القاسم بن الصيرفيّ بإنشاء سجل به.

فأنشأ ما نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الذي ارتضى أمير المؤمنين أمينه في أرضه وخليفته ، وألهمه أن يعمّ بحسن التدبير عبيده وخليقته ، ووفقه لمصالح يستمدّ أسبابها ، ويفتح بحسن نظره أبوابها ، وأورثه مقام آبائه الراشدين الذين اختصهم بشرف المفخر ، وجعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة في المحشر ، وعناهم بقوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، وأعلى منار سلطانه بمدبر أفلاكك دولته ، ومبيد أعداء مملكته ، وأشرف من نصب للجند علما وراية ، ووقف على مصلحة البرية نظره ورأيه ، وأرشد بهداتيه الألباب الحائرة ، وأذهب بمعدلته الأحكام الجائرة السيد الأجل الأفضل ، ونتمم النعوت بالدعاء للذي كمل تدبيره نظام الصلاح وتممه ، وسدّد تقريره الأمور في كل ما قصده ويممه ، ونبّه في السياسة على ما أهمله من سبقه ، وأغفله من تقدّمه ، وتتبع أحوال المملكة ، فلم يدع مشكلا إلا أوضحه وبين الواجب فيه ، ولا خللا إلا أصلحه ، وبادر بتلافيه ، ولا مهملا إلا استعمله على ما يوافق الصواب ، ولا ينافيه إيثارا لعمارة الأعمال ، وقصدا لما يقضي بتوفير الأموال.

وتوخيا لما عاد بضروب الاستغلال ، واعتناء برجال الدولة العلوية وأجنادها ، واهتماما

__________________

(١) البطائحي : هو أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحي استوزره الحاكم بأمر الله بعد أن قتل وزيره الأفضل سنة ٥١٩ ه‍. ولكنه كان شديد الوطأة على الحاكم فقبض عليه ثم قتله سنة ٥٢٣ ه‍. الأعشى ج ٥ / ٤٥٧.

٥٥

بمصالحهم التي ضعفت قواهم عن ارتيادها ، ورعاية لمن ضمنه أقطار المملكة من الرعايا ، وحملا لهم على أعدل السنن ، وأفضل القضايا يحمده أمير المؤمنين على ما أعانه عليه من حسن النظر للأمّة ، وادّخره لأيامه من الفضائل التي صفت بها ملابس النعمة ، ووفقه لما يعود على الكافة بشمول الانتفاع ، حتى صار استبدال الحقوق بواجبات الشريعة الواضحة الأدلة واستيفاؤها بمقتضى المعدلة ، فيما يجري على أحكام الخراج ، وأوضاع الأهلة ، ويرغب إليه بالصلاة على محمد الذي ميزه بالحكمة ، وفصل الخطاب ، وبين به ما استيهم من سبل الصواب ، وأنزل عليه في محكم الكتاب : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس / ٥] صلى الله عليه ، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كافيه فيما أعضل لمّا عدم المساعد ، وواقيه بنفسه لما تخاذل الكف والساعد ، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين برضى الله تعالى فيما يقولون ويفعلون ، والذين يهددون بالحق ، وبه يعدلون ، وإنّ أولى ما أولاه أمير المؤمنين حظا وافيا من تفقده ، وأسهم له جزءا وافرا من كريم تعهده ، ونظر إليه بعين اهتمامه ، واختصه بالقسم الأجزل من استمالة أمر الأموال التي يستعان بها على سدّ الخلل ، وبرجائها يستدفع ما يطرق من الحادث الجلل ، وبوفورها تستثبت شؤون المملكة ، وتستقيم أحوال الدول ، وباستخراجها على حكم العدل الشامل ، ووصية إنصاف المعامل تكون العمارة التي هي أصل زيادتها ، ومادة كثرتها وغزارتها.

ولما كانت جباياتها على حكمين : أحدهما : يجيء هلاليا ، وذلك ما لا يدخله عارض ولا إشكال ، ولا إبهام ، ولا يحتاج فيه إلى إيضاح ولا إفهام ، لأن شهور الهلال يشترك في معرفتها الأمير والمقصر ، ويستوي في الفهم بها المتقدّم في العلم والمتأخر ، إذ كان الناس آلفين لأزمنة متعبداتهم السنين مما يحفظ لهم نظام مرسوم ، والآخر يجيء خراجيا ويثبت بنسبته إلى الخراج لأنها تضبط أوقات ما يجري ذلك لأجله من النيل المبارك ، والزراعة وتحفظ أحيانه دون السنة الهلالية ، وتحرس أوضاعه ، ولا يستقل بمعرفته إلا من باشره ، وعرف موارده ومصادره ، فوجب أن يقصر على السنة الخراجية النظر ، ويفعل فيها ما تعظم به الفائدة ، ويحسن فيه الأثر ويعتمد في إيضاح أمرها ، وتقديم حكمها على ما تتحلى به التواريخ ، وتزين به السير ، ويكون ذلك شاهدا لمساعي السيد الأجل الأفضل الذي لا يزال ساهرا ليله في حياطه الهاجعين شاهرا لسيفه في حماية الوادعين مطلعا للدولة بدور السعادة ، وشموسها مذللا صعب الحوادث ، وشموسها ناطقة تارة بأن أمّة هو راعيها قد فضل الله سائسها ، وأسعد مسوسها ، وهذا حين التبصير والإرشاد ، وأوان التبيين للغرض والمراد ، لتتساوى العامّة والخاصة في علمه وتسعهم الفائدة في معرفة حكمه ، وتتحقق المنفعة لهم فيما يمنع من تداخل السنين واستقبالها ، وتتيقن المعدلة عليهم فيما يؤمن من المضار التي يحتاج إلى استدراكها.

٥٦

ومعلوم أنّ أيام السنة الخراجية ، وهي السنة الشمسية بخلاف السنة الهلالية لأن أيام السنة الخراجية من استقبال النوروز إلى آخر النسيء ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، وأيام السنة الهلالية لاستقبال المحرّم إلى آخر ذي الحجة ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما ، والخلاف في كل سنة بالتقريب أحد عشر يوما ، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة سنة واحدة على حكم التقريب ويتقضيه ما تقدّم من الترتيب ، فإذا اتفق أن يكون أوّل الهلالية موافقا لمدخل السنة الخراجية ، وكانت نسبتهما واحدة استمرّ اتفاق التسمية فيهما ، وبقي ذلك جاريا عليهما ، ولم يزالا متداخلين لكون مدخل الخراجية في أثناء شهور الهلالية إلى انقضاء ثلاث وثلاثين سنة ، فإذا انقضت هذه المدّة بطلت المداخلة ، وخلت السنة الهلالية من نوروز يكون فيها ، وبحكم ذلك بطل اتفاق التسمية ، ويكون التفاوت سنة واحدة للعلّة المقدّم ذكرها ، ومن أين يستمرّ بينهما ائتلاف ، أو يعدم لهما اختلاف ، أم كيف يعتقد ذلك أحد من البشر.

والله تعالى يقول : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس / ٤٠] فقد وضح دليل التباعد بما جاء منصوصا في الكتاب ، وظهر برهانه بما اقتضاه موجب الحساب ، فيحتاج بحكم ذلك إلى نقل السنة الشمسية إلى التي تليها لتكون موافقة للهلالية ، وجارية معها ، وفائدة النقل أن لا تخلو السنة الهلالية من مال خاص ينسب إلى السنة الموافقة لها ، لأنّ واجبات العسكرية على عظمها ، واتساعها وأرزاق المرتزقة على اختلاف أجناسها ، وأوضاعها جارية على أحكام الهلالية غير معدول بها عن ذلك في حال من الأحوال ، والمحافظة على ثمرة ارتفاعها متعينة ، ومنفعة العناية بما تجري عليه واضحة مبينة ، ولما أهلت سنة إحدى وخمسمائة ، ودخلت فيها سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية المواقة لسنة إحدى وخمسمائة الهلالية كان في ذلك من التباين ، والتعارض والتفاوت ، والتنافر بحكم إهمال النقل فيما تقدّم ما صارت السنة الهلالية الحاضرة لا يجبي خراج ما يوافقها فيها ، ولا تدرك غلّات السنة المجرى ما لها عليها إلّا في السنة التي تليها ، فهي تستهل وتنقضي.

وليس لها في الخراجيّ ارتفاع والأعمال تطيف بالزراعة ، ولا حظ لها في ذلك ، ولا انتفاع ، وهذه الحال المضرّة بها على بيت المال غير خفية ، والأذية فيها للرجال المقطعين بادية ، وأسباب لحوقها إياهم مستمرّة متمادية ، ولا سيما من وقع له بإثبات وأنعم عليه بزيادات ، فإنّهم يتعجلون الاستقبال ، ويتأجلون الاستغلال ، ومتى لم تنقل هذه السنة الخراجية كانت متداخلة بين سنين هلالية ، وهي موافقة لغيرها ، وما لها يجري على سنة تجري بينهما لأنّ مدخلها في اليوم العاشر من المحرّم سنة إحدى وخمسمائة ، وانقضاؤها في العشرين من المحرّم سنة اثنتين وخمسمائة ، وهي متداخلة بين هاتين السنتين ، وما لهما يجري على سنة إحدى وخمسمائة ، والحال في ذلك لا ينتهي إلى أمد ، ولا يزال الفساد

٥٧

يتزايد طول الأبد ، وقد رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه ما خرج به أمره إلى السيد الأجل الأفضل الذي نبه على هذا الأمر ، وكشف غامضه ، وأزال بحسن توصله تنافيه ، وتناقضه أن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل مضمنا ما رآه ودبره مودعا إنفاذ ما أحكمه ، وقرّره من نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة ، لتكون موافقة لها.

ويجري عليها ما لها ، ويكون ما يستأدونه من إقطاعاتهم ، ويستخرجونه من واجباتهم جاريا على نظام محروس ، ونطاق محيط غير منحوس ، وشاهدا بنصيب موفي غير منقوص ، ويتضح ما أبهم إشكاله التعمية ، ويزول الاستكراه في اختلاف التسمية ، ويستمرّ الوفاق بين السنين الهلالية والخراجية إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ، وينسب مال الخراج والمقاسمات ، وما يستغلّ ، ويجبي من الإقطاعات مما كان جاريا على ذكر سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة ، وتجري الإضافة إليها مجرى ما يرتفع من الهلاليّ فيها لتكون سنة إحدى من هذه مشتملة على ما يخصها من مالها ، وعلى مال السنة الخراجية بما يشرح من انتقالها ، وكذلك نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية الثابتة بالتسمية إلى سنة إحدى وخمسمائة المشار إليها ، ويكون مالها جاريا عليها ، فليعتمد ذلك في الدواوين بالحضرة ، وفي سائر أعمال الدولة قاصيها ودانيها ، وفارسها وشاميها ، وليتنبه كافة الكتاب والمستخدمين ، وجميع العمال والمتصرّفين إلى اقتفاء هذه السنن وأتباعه ، وليحذروا الخروج عن أحكامه المقرّرة وأوضاعه ، وليبادروا إلى امتثال المرسوم فيه ، وليحذروا من تجاوزه وتعدّيه ، ولينسخ في دواوين الأموال والجيوش المنصورة ، وليخلد بعد ذلك في بيوت المال المعمورة ، وكتب في محرّم سنة إحدى وخمسمائة.

وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ومن خطه نقلت مستهلّ المحرّم نسخ منشور بنقل السنة الخراجية إلى السنة الهلالية ، والمطابقة بين اسمهما لموافقة الشهور العربية للشهور القبطية ، وخلوّ سنة سبع من نوروز ، فنقلت سنة خمس وستين وخمسمائة الخراجية إلى هذه السنة ، وكان آخر نقل نقلته هذه السنة في الأيام الأفضلية ، فإنّ سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ، وسنة تسع وتسعين الخراجيتين نقلتا إلى سنة إحدى وخمسمائة الخراجية ، وسبب هذا الانفراج بينهما زيادة عدد السنة الشمسية على عدد الهلالية أحد عشر يوما ، وإغفال النقل في سنة ثلاث وثلاثين في أيام الوزير الأفضل رضوان بن ولخشي ، وانسحب ذيل هذه الزيادة ، وتداخل السنين بعضها في بعض إلى أن صار التفاوت بينهما سنتين في هذه السنة فنقلت ، وهو انتقال لا يتعدّى التسمية ، ولا يتجاوز اللفظ ، ولا ينقص مالا لديوان ، ولا لمقطع ، وإنما يقصد به إزالة الإلباس ، وحل الإشكال.

وقال القاضي أبو الحسين : ونسخة الكتاب الذي أنشأه القاضي الفاضل خرجت الأوامر الملكية الناصرية زاد الله في إعلائها بإبداع هذا المنشور إنا نؤثر من حسن النظر ما

٥٨

يؤثر أحسن الخبر ، ولا ينصرف بنا الفكر عمّا تحلى به السير ، وتجلى به الغير ، ولا تزال خواطرنا تعتلي فتطلع الدراري ، وتغوص فتخرج الدرر ، وإنّ أولى ما استحدّت به البصائر ، وحرست فيه المصائر كل أمر يصحح المعاملات ويشرحها ، ويطلق عقولهم من عقول الإشكال ، ويسرّحها ، ولما وجب نقل السنة الخراجية ، والمطابقة بينها وبين الهلالية ، لانفراجهما بسنتين ، وموافقة الشهور الخراجية والهلالية في هذه السنة مطلع المستهلين أمضينا هذه السنة الخالية في هذه السنة الآتية ، واستخرنا الله تعالى في نقل سنتي خمس وست وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة التي سميت بهذا النقل هلالية خراجية نفيا للأمور المشتبهة ، والتسمية المموّهة ، وتنزيها لسني الإسلام عن التكبيس ، ولتاريخه عن ملابسة التلبيس ، وإعلاما بالوفاق الذي استشعرته آباؤها وبنوها ، وإعلانا باتباعه عناية بعوايد السلف التي خلفوها للخلف وبنوها ، وفي ذلك ما تحمد به العواقب ، وتنفسخ به المذاهب ، وتتيسر به المطالب ، ويزول به الإشكال ، ويؤمن به الاختلال ، وينحسم به الغلط في الحساب ، ويؤلف بين السنين المتلفة الأنساب ، ويحفظ على القمر معاملته ، ويبعد عن التاريخ معاطلته ، ويقرّب على الكاتب محاولته ، ويصرف عن نعمة الله هجنة كونها مقدّمة في التسنية مؤخرة في التسمية ، وعن معاملة بيت المال وصمة كونها معذوقة بالمطل ، وقد بالغت في التوفيه لأنّ من أعطى في سنة سبع وستين وخمسمائة استحقاق سنة خمس ، فلا ريب أنه قد مطل بحكم السمع ، وإن كان قد أنجز بحكم الشرع فتوسم هذه السنة المباركة بالهلالية الخراجية ، وترفع الحسبانات بهذا الوضع ، ويعمل في التقريرات والتسجيلات على هذا ، فليفعل في ذلك ما يقضي بإرتاج هذا الانفراج ، وجبر هذا الصدع ، وليعلم في الدواوين علمه ، ولينفذ فيها حكمه بعد ثبوته إلى حيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى.

وأما تاريخ العرب : فإنه لم يزل في الجاهلية والإسلام يعمل بشهور الأهلة ، وعدّة شهور السنة عندهم : اثنا عشر شهرا ، إلا أنهم اختلفوا في أسمائها ، فكانت العرب العاربة تسميها : ناتق ، ونقيل ، وطليق ، واسخ ، أنخ ، وحلك ، وكسح ، وزاهر ، ونوط ، وحرف ، وبغش. فناتق هو : المحرّم ، ونقيل هو : صفر ، وهكذا ما بعده على سرد الشهور.

وكانت ثمود تسميها : موجب ، وموجر ، ومورد ، وملزم ، ومصد ، وهوبر ، وهوبل ، وموها ، وديمر ، ودابر ، وحيقل ، ومسيل ، فموجب هو : المحرّم ، وموجر : صفر ، إلا أنهم كانوا يبدأون بالشهور من ديمر ، وهو شهر رمضان ، فيكون أوّل شهور السنة عندهم ، ثم كانت العرب تسميها بأسماء أخر هي : مؤتمر ، وناجر ، وخوّان ، وصوان ، وحنتم ، وزبا ، والأصم ، وعادل ، وبايق ، ووعل ، وهواع ، وبرك ، ومعنى المؤتمر : أنه يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها ، وناجر : من النجر ، وهو شدّة الحرّ ، وخوّان : فعال من الخيانة ، وصوان ، بكسر الصاد وضمها : فعال من الصيانة ، والزبا : الداهية العظيمة المتكاثفة سمي

٥٩

بذلك لكثرة القتال فيه ، ومنهم من يقول : بعد صوان الزبا ، وبعد الزبا بائدة ، وبعد بائدة الأصم ، ثم واغل ، وباطل ، وعادل ، ورنه ، وبرك ، فالبائد من القتال إذ كان فيه يبيد كثير من الناس ، وجرى المثل بذلك فقيل العجب كل العجب بين جمادى ورجب ، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ النار والغارات قبل رجب فإنه شهر حرام ، ويقولون له الأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال ، فلا يسمع فيه صوت السلاح ، والواغل الداخل على شرب ولم يدعوه ، وذلك لأنه تهجم على شهر رمضان ، وكان يكثر في شهر رمضان شربهم الخمر لأن الذي يتلوه هي شهور الحج ، وباطل هو مكيال الخمر سمي به لإفراطهم فيه في الشرب ، وكثرة استعمالهم لذلك المكيال ، وأما العادل فهو من العدل لأنه من أشهر الحج ، وكانوا يشتغلون فيه عن الباطل ، وأما الزبا فلأن الأنعام كانت تزب فيه لقرب النحر ، وأما برك فهو لبروك الإبل إذا حضرت المنحر.

وقد روي : أنهم كانوا يسمون المحرّم : مؤتمر ، وصفر : ناجر ، وربيع الأوّل : نصار ، وربيع الآخر : خوان ، وجمادى الأولى : حمتن ، وجمادى الآخرة : الرنة ، ورجب : الأصم وهو شهر مضر ، وكانت العرب تصومه في الجاهلية ، وكانت تمتار فيه ، وتمير أهلها ، وكان يأمن بعضهم بعضا فيه ، ويخرجون إلى الأسفار ، ولا يخافون ، وشعبان : عادل ، ورمضان:ناتق ، وشوّال : واغل ، وذو القعدة : هواع ، وذو الحجة : برك ، ويقال فيه أيضا: أبروك ، وكانوا يسمونه الميمون ، ثم سمت العرب أشهرها بالمحرّم ، وصفر ، وربيع الأوّل ، وربيع الآخر ، وجمادى الأولى ، وجمادى الآخرة ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوّال ، وذي القعدة ، وذي الحجة ، واشتقوا أسماءها من أمور اتفق وقوعها عند تسميتها ، فالمحرّم كانوا يحرّمون فيه القتال ، وصفر كانت تصفر فيه بيوتهم لخروجهم إلى الغزو ، وشهرا ربيع كانا زمن الربيع ، وشهرا جمادى كانا يجمد فيهما الماء لشدّة البرد ، ورجب الوسط ، وشعبان يشعب فيه القتال ، ورمضان من الرمضاء لأنه كان يأتي فيه القيظ ، وشوّال تشيل فيه الإبل أذنابها ، وذو القعدة لقعودهم في دورهم ، وذو الحجة لأنه شهر الحج ، وأنت إذا تأمّلت اشتقاق أسماء شهور الجاهلية أوّلا ، ثم اشتقاقها ثانيا تبين لك أنّ بين التسميتين زمانا طويلا ، فإنّ صفر في أحدهما هو : صميم الحروب ، وفي الآخر : رمضان ، ولا يمكن ذلك في وقت واحد أو وقتين متقاربين ، وكانت العرب أوّلا تستعمل هذه الشهور على نحو ما يستعمله أهل الإسلام إما بطريق إلهيّ ، أو لأنّ العرب لم يكن لها دراية بمراعاة حساب حركات النيرين ، فاحتاجت إلى استعمال مبادي الشهور لرؤية الأهلة ، وجعلت زمان الشهر بحسب ما يقع بين كل هلالين ، فربما كان بعض الشهور تامّا أعني ثلاثين يوما ، وربما كان ناقصا أعني تسعة وعشرين يوما ، وربما كانت أشهر متوالية تامّة أكثرها أربعة ، وهذا نادر ، وربما كانت أشهر متوالية ناقصة أكثرها ثلاثة ، وكان يقع حج العرب في أزمنة السنة كلها ، وهو أبدا عاشر ذي الحجة من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، فإذا انقضى موسم الحج تفرّقت العرب

٦٠