كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

قال ابن عبد الظاهر : وأمّا التاج فكان حوله البساتين عدّة ، وأعظم ما كان حوله : قبة الهواء ، وبعدها الخمس وجوه التي هي باقية.

منظرة الخمس وجوه : كانت أيضا من مناظرهم التي يتنزهون فيها ، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش وكان لها فرش معدّ لها ، وبقي منها آثار بناء جليل على بئر متسعة ، كان بها : خمسة أوجه من المحال الخشب التي تنقل الماء لسقي البستان ، العظيم الوصف البديع الزيّ ، البهيج الهيئة ، والعامّة تقول التاج ، والسبع وجوه إلى الآن وموضعها إلى وقتنا هذا من أعظم متفرّجات القاهرة ، وينبت هناك في أيام النيل عندما يعمّ تلك الأراضي البشنين فتفتن رؤيته ، وتبهج النفوس نضارته ، وزينته ، فإذا نضب ماء النيل ، زرعت تلك البسطة قرطا ، وكتانا يقصر الوصف عن تعداد حسنه ، وأدركت حول الخمس وجوه : غروسا من نخل ، وغيره تشبه أن تكون من بقايا البستان القديم ، وقد تلاشت الآن ، ثم إنّ السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ جدّد عمارة منظرة : فوق الخمس وجوه ، ابتدأ بناءها في يوم الاثنين أوّل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.

منظرة باب الفتوح : وكان للخلفاء الفاطميين منظرة خارج باب الفتوح ، وكان يومئذ خرج عن باب الفتوح براحا فيما بين الباب ، وبين البساتين الجيوشية ، وكانت هذه المنظرة معدّة لجلوس الخليفة فيها عند عرض العساكر ، ووداعها إذا سارت في البرّ إلى البلاد الشامية.

قال ابن المأمون : وفي هذا الشهر يعني المحرّم سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وصلت رسل ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق ، وآق سنقر صاحب حلب ، بكتب إلى الخليفة الآمر بأحكام الله ، وإلى الوزير المأمون إلى القصر ، فاستدعوا لتقبيل الأرض كما جرت العادة من إظهار التجمل ، وكان مضمون الكتب بعد التصدير ، والتعظيم ، والسؤال ، والضراعة أنّ الأخبار تظافرت بقلة الفرنج بالأعمال الفلسطينية ، والثغور الساحلية ، وأنّ الفرصة قد أمكنت فيهم ، والله قد أذن بهلاكهم ، وأنهم ينتظرون إنعام الدولة العلوية ، وعوايد أفضالها ، ويستنصرون بقوّتها ، ويحثون على نصرة الإسلام ، وقطع دابر الكفر وتجهيز العساكر المنصورة ، والأساطيل المظفرة ، والمساعدة على التوجه نحوهم لئلا يتواصل مددهم ، وتعود إلى القوّة شوكتهم ، فقوي العزم على النفقة في العساكر فارسها وراجلها ، وتجريدها ، وتقدّم إلى الأزمّة بإحضار الرجال الأقوياء ، وابتدئ بالنفقة في الفرسان بين يدي الخليفة في قاعة الذهب ، وأحضر الوزانون ، وصناديق المال وأفرغت الأكياس على البساط ، واستمرّ الحال بعد ذلك في الدار المأمونية.

وتردّد الرأي فيمن يتقدّم ، فوقع الاتفاق على حسام الملك البرني ، وأحضر مقدّم الأساطيل الثانية ، لأن الأساطيل توجهت في الغزو وخلع عليه ، وأمر بأن ينزل إلى الصناعتين

٤٢١

بمصر والجزيرة ، وينفق في أربعين شينيا (١) ، ويكمل نفقاتها وعددها ، ويكون التوجه بها صحبة العسكر ، وأنفق في عشرين من الأمراء للتوجه صحبته ، فكملت النفقة في الفارس والراجل ، وفي الأمراء السائرين ، وفي الأطباء ، والمؤذنين والقرّاء ، وندب من الحجاب عدّة ، وجعل لكل منهم خدمة ، فمنهم من يتولى خزانة الخيام ، وسير معه من حاصل الخزائن برسم ضعفاء العسكر ، ومن لا يقدر على خيمة خيم ، ومنهم حاجب على خزائن السلاح ، وأنفق في عدّة من كتاب ديوان الجيش لعرض العساكر ، وفي كتاب العربان : وأحضر مقدّمو الحراسين بالخفار ، وتقدّم إليها بأنه من تأخر عن العرض بعسقلان ، وقبض النفقة ، فلا واجب له ، ولا إقطاع ، وكتبت الكتب إلى المستخدمين بالثغور الثلاثة : الإسكندرية ، ودمياط ، وعسقلان بإطلاق ، وابتياع ما يستدعي برسم الأسمطة على ثغر عسقلان للعساكر والعربان من الأصناف ، والغلال.

ووقع الاهتمام بنجاز أمر الرسل الواصلين ، وكتبت الأجوبة عن كتبهم ، وجهز المال والخلع المذهبات ، والأطواق ، والسيوف ، والمناطق الذهب ، والخيل بالمراكب الحلي الثقال ، وغير ذلك من التجملات ، وخلع على الرسل ، وأطلق لهم التغيير ، وسلمت إليهم الكتب ، والتذاكر وتوجهوا صحبة العسكر.

وركب الخليفة الآمر بأحكام الله إلى باب الفتوح ، ونظر بالمنظرة ، واستدعى حسام الملك ، وخلع عليه بدلة جليلة مذهبة ، وطوّقه بطوق ذهب ، وقلده ومنطقه بمثل ذلك ، ثم قال الوزير المأمون للأمراء : بحيث يسمع الخليفة ، هذا الأمير مقدّمكم ، ومقدّم العساكر كلها ، وما وعد به أنجزته ، وما قرّره أمضيته ، فقبلوا الأرض ، وخرجوا من بين يديه ، وسلم متولي بيت المال ، وخزائن الكسوة لحسام الملك الكتب بما ضمنته الصناديق من المال ، وأعدال الكسوات ، وحملت قدّامه ، وفتحت طاقات المنظرة ، فلما شاهد العساكر الخليفة قبلوا الأرض ، فأشار إليهم بالتوجه ، فساروا بأجمعهم ، وركب الخليفة ، وتوجه إلى الجامع بالمقس ، وجلس بالمنظرة ، واستدعى مقدّم الأسطول ، وخلع عليه ، وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال والعدّة.

منظرة الصناعة : وكان من جملة مناظر الخلفاء منظرة بالصناعة في الساحل القديم من مصر يجلس بها الخليفة تارة حتى تقدّم له العشاريات ، فيركبها ويسير للمقياس ، حتى يخلق بين يديه عند الوفاء ، وكان بهذه الصناعة ديوان العمائر.

وأنشأ هذه المنظرة ، والصناعة التي هي فيها : الوزير المأمون ، لم تزل إلى آخر الدولة ، ودهليزها مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبداني بسطا وتأزيرا ، وقد خربت هذه

__________________

(١) الشيني : نوع من السفن الحربية الكبيرة وكانت تستعمل في مصر على نطاق واسع. صبح الأعشى ٢ / ٥١٩.

٤٢٢

الصناعة والمنظرة ، وصار موضعهما الآن بستانا كان يعرف ببستان ابن كيسان ، ويعرف في زمننا هذا الذي نحن فيه الآن ببستان الطواشي ، وهو بأوّل مراغة مصر ، تجاه غيط الجرف على يسرة من يسلك من المراغة يريد الكيارة ، وباب مصر.

قال ابن المأمون : وكانت جميع مراكب الأساطيل ما تنشأ إلّا بالصناعة التي بالجزيرة ، فأنكر الوزير المأمون ذلك ، وأمر بأن يكون إنشاء الشواني ، وغيرها من المراكب النيلة الديوانية بالصناعة بمصر ، وأضاف إليها دار الزبيب ، وأنشأ المنظرة بها واسمه باق إلى الآن عليها ، وقصد بذلك أن يكون حلول الخليفة يوم تقدمة الأساطيل ، ورميها بالمنظرة المذكورة وأن يكون ما ينشأ من الجراني ، والشلنديات في الصناعة بالجزيرة.

قال : ولما وفى النيل ستة عشر ذراعا ركب الخليفة والوزير إلى الصناعة بمصر ، ورميت العشاريات بين أيديهما ، ثم عدّيا في إحداها إلى المقياس.

وقال ابن الطوير : الخدمة في ديوان الجهاد ، ويقال له : ديوان العمائر ، وكان محله بصناعة الإنشاء بمصر للأسطول والمراكب الحاملة للغلات السلطانية ، والأحطاب وغيرها ، وكانت تزيد على خمسين عشاريا ، ويليها عشرون ديماسا (١) ، منها عشرة برسم خاص الخليفة أيام الخليج وغيرها ، ولكل منها رئيس ، ونواتيّ (٢) لا يبرحون ينفق فيهم من مال هذا الديوان ، وبقية العشاريات الدواميس (٣) برسم ولاة الأعمال المميزة ، فهي تجرّ لهم ، وينفق في رؤسائها ورجالها أينما كانوا من مال هذا الديوان ، وتقيم مع أحدهم مدّة مقامه ، فإذا صرف عاد فيه ، وخرج المتولي الجديد في العشاري المرسي بالصناعة ، ولا يخرج إلا بتوقيع بإطلاقه ، والإنفاق فيه ، وللمشارفين بالأعمال عشاريات دون هذه ، وفي هذا الديوان برسم خدمة ما يجري في الأساطيل نائبان من قبل مقدّم الأسطول ، وفيه من الحواصل لعمارة المراكب شيء كثير ، وإذا لم يف ارتفاعه بما يحتاج إليه استدعى له من بيت المال يسدّ خلله.

قال : وكان من أهم أمورهم احتفالهم بالأساطيل والأجناد ، ومواصلة إنشاء المراكب بمصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات ، والمسطحات (٤) إلى بلاد الساحل حين كانت بأيديهم مثل صور وعكا وعسقلان ، وكانت جريدة قوّاده أكثر من خمسة آلاف مدوّنة منهم عشرة أعيان تصل جامكية كل منهم إلى عشرين دينارا ، ثم إلى خمسة عشر ، ثم إلى عشرة دنانير ، ثم إلى ثمانية ، ثم إلى دينارين ، وهي أقلها ، ولهم إقطاعات

__________________

(١) الديماس : نوع من المراكب الصغيرة.

(٢) النواتي : أو النوتي : البحّار.

(٣) الدواميس : ج. ديماس مركب صغير.

(٤) المسطحة والشينية والحمالة : سفن حربية.

٤٢٣

تعرف : بأبواب الغزاة بما فيه من النطرون فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار وحواليه ، ويعين من هؤلاء القوّاد العشرة من يقع الإجماع عليه لرئاسة الأسطول المتوجه للغزو ، فيكون معه الفانوس ، وكلهم يهتدون به ، ويقلعون بإقلاعه ، ويرسون بإرسائه ، ويقدّم على الأسطول أمير كبير من أعيان الأمراء ، وأقواهم جنانا ، ويتولى النفقة فيهم للغزو الخليفة بنفسه بحضور الوزير ، فإذا أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة.

وكانت آخر وقت تزيد على خمسة وسبعين شينيا ، وعشر مسطحات ، وعشر حمالة ، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال ، ويسمع بذلك من هو خارج مصر والقاهرة ، فيدخل إليها ولهم المشاهرة والجرايات المتقرّرة مدّة أيام السفر ، وهم معروفون عند عشرين نقيبا ، ولا يعترض أحد أحدا إلّا من رغب في ذلك من نفسه ، فإذا اجتمعت العدّة المغلقة للمراكب المطلوبة أعلم المقدّم بذلك الوزير ، فطالع الخليفة بالحال ، وفرز يوم للنفقة ، فحضر الوزير بالاستدعاء على العادة ، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلس ، ويجلس الوزير في مكانه ، ويحضر صاحبا ديوان الجيش ، وهما المستوفي وهو أميرهما ، ويجلس داخل عتبة المجلس ، وهذه رتبة له مميزة ، وكاتب الجيش الأصل ، ويجلس بجانبه تحت العتبة على حصر مفروشة بالقاعة ، ولا يخلو المستوفي أن يكون عدلا أو من أعيان الكتاب المسلمين ، وأما كاتب الجيش : فيهوديّ في الأغلب ، ويفرش أمام المجلس أنطاع تصب عليها الدراهم ، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك ، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل القابضون مائة مائة ، ويقفون في آخر الوقوف بين يدي الخليفة من جانب واحد نقابة نقابة ، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة ، ويستدعى مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحدا واحدا ، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الخالي ، فإذا تكمل عشرة رجال : وزن الوزانون لهم النفقة ، وكانت لكل واحد خمسة دنانير صرف ، كل دينار ستة وثلاثون درهما ، فيستلمها النقيب ، وتكتبت بيده وباسمه ، وتمضي النفقة كذلك إلى آخرها ، فإذا تمّ ذلك اليوم ، ركب الوزير من بين يدي الخليفة ، وانفض ذلك الجمع ، فيحمل من عند الخليفة مائدة يقال لها : غداء الوزير ، هي سبع مجيفات أوساط إحداها بلحم دجاج وفستق ، والبقية من شواء ، وهي مكمورة بالأزهار ، فتكون هذه عدّة أيام تارة متوالية ، وتارة متفرّقة ، فإذا تكملت النفقة ، وتجهزت المراكب ، وتهيؤت للسفر : ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس ، وذكر ابن أبي طي : أنّ المعز لدين الله ، أنشأ ستمائة مركب ، لم ير مثلها في البحر على مدينة وعمل دار صناعة بالمقس.

دار الملك : وكان من جملة مناظرهم : دار الملك بمصر ، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش ابتدأ في بنائها وإنشائها في سنة إحدى وخمسمائة ، فلما كملت تحوّل إليها من دار القباب بالقاهرة ، وسكنها ، وحوّل إليها الدواوين من القصر ، فصارت بها ، وجعل فيها الأسمطة ، واتخذ بها مجلسا سماه : مجلس العطايا ، كان يجلس فيه ، فلما قتل الأفضل

٤٢٤

صارت دار الملك هذه من جملة منتزهات الخلفاء ، وكان بها بستان عظيم ، وما زالت عظيمة إلى أن انقرضت الدولة ، فجعلها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب دار متجر ، ثم عملت في أيام الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري : دار وكالة ، وموضع دار الملك : ما وراء حبة الخرّوب ، بجوار المدرسة المعزي ، وبقي منها جدار يجلس تحته بياعو الحناء.

قال ابن المأمون : ومن جملة ما قرّره القائد أبو عبد الله من تعظيم المملكة ، وتفخيم أمر السلطنة أنّ المجلس الذي يجلس فيه الأفضل بدار الملك يسمى : مجلس العطايا ، فقال القائد : مجلس يدعى بهذا الاسم ما يشاهد فيه دينار؟ يدفع لمن يسأل ، وأمر بتفصيل ثمان ظروف ديباج أطلس ، من كل لون اثنين ، وجعل في سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار وفي كل ظرف : خمسة آلاف دينار سكب ، وبطاقة بوزنه ، وعدده ، وشرّابة حرير كبيرة من ذلك ستة ظروف دنانير بالسوية عن اليمين والشمال في مجلس العطايا الذي برسم الجلوس ، وعند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة : ظرفان ، أحدهما دنانير ، والآخر دراهم جدد ، فالذي في اللؤلؤة برسم ما يستدعيه الأفضل إذا كان عند الحرم ، وأمّا الذي في مجلس العطايا ، فإنّ جميع الشعراء لم يكن لهم في الأيام الأفضلية ، ولا فيما قبلها على الشعر جار وإنما كان لهم إذا اتفق طرب السلطان ، واستحسانه لشعر من أنشد منهم ما يسهله الله على حكم الجائزة ، فرأى القائد أن يكون ذلك من بين يديه من الظروف ، وكذلك من يتضرّع ويسأل في طلب صدقة ، أو ينعم عليه ابتداء بغير سؤال ، يخرج ذلك من الظروف.

وإذا انصرف الحاضرون ، نزل القائد المبلغ بخطه في البطاقة ، ويكتب عليه الأفضل بخطه : صح ، ويعاد إلى الظرف ، ويختم عليه ، فلما استهلّ رجب من سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، وجلس الأفضل في مجلس العطايا على عادته ، وحضر الأجلّ المظفر أخوه للهناء ، وجلس بين يديه ، وشاهد الظروف والقائد ، وولده ، وأخوه قيام على رأسه ، وتقدّمت الشعراء على طبقاتهم ، أمر لكل منهم بجائزة ، وشاع خبر الظروف وكثر القول فيها ، واستعظم أمرها ، وضوعف مبلغها ، واتسع هذا الإنعام بالصدقات الجاري بها العادة في مثل هذا الشهر لفقهاء مصر ، والرباطات بالقرافة وفقرائها.

وقال ابن الطوير : وقد ذكر ركوب الخليفة في أوّل العام وحضور العزّة ، وينقطع الركوب بعد هذا اليوم الذي هو أوّل العام ، فيركبون في آحاد الأيام إلى أن يكمل شهر ولا يتعدّى ذلك يومي السبت والثلاثاء ، فإذا عزم الخليفة على الركوب في أحد هذه الأيام أعلم بذلك ، وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزانة السلاح خاصة دون ما سواها ، وأكثر ذلك إلى مصر ، ويركب الوزير صحبته من ورائه على أخصر من النظام المتقدّم يعني في ركوب أوّل العام ، وأقل جمع ، فيخرج شاقا القاهرة وشوارعها على الجامع الطولونيّ

٤٢٥

على المشاهد إلى درب الصفاء ، ويقال له : الشارع الأعظم إلى دار الأنماط إلى الجامع العتيق ، فإذا وصل إلى بابه ، وجد الشريف الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب مفروشة بحصر معلق عليها سجادة ، وفي يده المصحف المنسوب خطه إلى عليّ بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنه ، وهو من حاصله فإذا وازاه وقف في موضعه ، وناوله المصحف من يده ، فيتسمله منه ، ويقبله ويتبرّك به مرارا ، ويعطيه صاحب الخريطة المرسومة للصلات : ثلاثين دينارا ، وهي رسمه متى اجتاز به ، فيوصلها الشريف إلى مشارف الجامع ، فيكون نصيبهما منها خمسة عشر دينارا ، والباقي للقومة والمؤذنين دون غيرهم.

ويسير إلى أن يصل دار الملك ، فينزلها والوزير معه ومنذ يخرج من باب القصر إلى أن يصل إلى دار الملك لا يمرّ بمسجد إلا أعطى قيمة من الخريطة دينارا ، فلا يزال بدار الملك نهاره فتأتيه المائدة من القصر ، وعدّتها : خمسون شدّة على رؤوس الفرّاشين مع صاحب المائدة ، وهو أستاذ جليل غير محنك ، وكل شدّة فيها : طيفور فيها الأواني الخاص ، وفيها من الأطعمة الخاص من كل نوع شهيّ ، وكل صنف من المطاعم العالية ، ولها رواء ، ورائحة المسك فائحة منها ، وعلى كل شدّة طرحهة حرير تعلو القوّارة التي هي الشدّة ، فيحمل إلى الوزير منها جزء وافر ، ولمن صحبه وللأمراء ، ولكافة الحاضرين في الخدمة ، ويصل منها إلى الناس بمصر ممن بعضهم بعضا شيء كثير ، ولا يزال إلى أن يؤذن عليه بالعصر ، فيصلي ويتحرّك إلى العود إلى القاهرة ، والناس في طريقه لنظره ، فيركب وزيه في هذه الأيام أنه يلبس الثياب المذهبة البياض ، والملوّنة والمنديل من النسبة ، وهو مشدود شدّة مفردة عن شدّات الناس ، وذؤابته مرخاة من جانبه الأيسر ، ويتقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك ، ولا مظلة ، ولا يتيمة ، فإنّ ذلك في أوقات مخصومة ، ولا يمرّ أيضا بمسجد في سلوكه في هذه الطريق بالساحل إلّا ، ويعطي قيّمه دينارا أيضا ، كما جرى في الرواح ، وينعطف من باب الخرق ، ويدخل من باب زويلة شاقا القاهرة حتى يدخل القصر ، فيكون ذلك من المحرّم إلى شهر رمضان ، إمّا أربع مرّات أو خمس مرّات ، ومن شعر الأسعد أسعد بن مهذب بن زكريا بن أبي مليح مما في دار الملك هذه :

حللت بدار الملك والنيل آخذ

بأطرافها والموج يوسعها ضربا

فخيلته قد غار لما وطئتها

عليها فأضحى عند ذاك لها خربا

منازل العز

بنتها السيدة تغريد أمّ العزيز بالله بن المعز ، ولم يكن بمصر أحسن منها ، وكانت مطلة على النيل لا يحجبها شيء عن نظره ، وما زال الخلفاء من بعد المعز يتداولونها ، وكانت معدّة لنزهتهم ، وكان بجوارها حمام ، ولها منها باب وموضعها الآن مدرسة تعرف : بالمدرسة التقوية منسوبة للملك المظفر تقيّ الدين عمرو بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي.

٤٢٦

الهودج : وكان من منتزهاتهم العظيمة البناء العجيبة البديعة الزي بناء في جزيرة الفسطاط التي تعرف اليوم : بالروضة ، يقال له : الهودج ، بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار ، وكان يتردد إليه كثيرا ، وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزها للخلفاء من بعده.

قال ابن سعيد في كتاب المحلى بالأشعار : قال القرطبيّ (١) في تاريخه : تذاكر الناس في حديث البدوية ، وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر ، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال ، وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك.

والاختصار منه أن يقال : إنّ الآمر كان قد بلي بعشق الجواري العربيات ، وصارت له عيون بالبوادي ، فبلغه أن جارية بالصعيد من أكمل العرب ، وأظرفهم شاعرة جميلة ، فيقال : إنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيّها ، وبات هناك في ضائقة ، وتحيل حتى عاينها هنالك ، فما ملك صبره ورجع إلى مقرّ ملكه ، وأرسل إلى أهلها يخطبها ، وتزوّجها ، فلما وصلت صعب عليها مفارقة ما اعتادته ، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء ، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة ، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج ، وكان غريب الشكل على شط النيل ، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ، ربيت معه يعرف : بابن مياح ، فكتبت إليه من قصر الآمر :

يا ابن مياح إليك المشتكي

مالك من بعد قد ملكا

كنت في حيي مطاعا آمرا

نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر مرصد

لا أرى إلّا خبيثا ممسكا

كم تثنينا كأغصان اللوا

حيث لا نخشى علينا دركا

فأجابها :

بنت عمي والتي غذيتها

بالهوى حتى علا واحتبكا

بحت بالشكوى وعندي ضعفها

لو غدا ينفع منا المشتكى

مالك الأمر إليه أشتكي

مالك وهو الذي قد ملكا

قال : وللناس في طلب ابن مياح ، واختفائه أخبار تطول ، وكان من عرب طيّ في قصر الآمر : طراد بن مهلهل السنبسي فبلغته هذه القضية ، فقال :

ألا بلغوا الآمر المصطفى

مقال طراد ونعم المقال

__________________

(١) القرطبي : محمد بن أحمد كمال الدين مؤرخ مصري من أهل قنا (في صعيد مصر) كانت له رياسة ووجاهة. صنف كتابا في التاريخ عدة مجلدات توفي سنة ٦٩٣ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٣٢٤.

٤٢٧

قطعت الأليفين عن ألفة

بها سمر الحيّ بين الرجال

كذا كان آباؤك الأكرمون

سالت فقل لي جواب السؤال

فقال الخليفة الآمر : لما بلغته الأبيات ، جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله ، وطلب في أحياء العرب ، فلم يوجد ، فقالت العرب : ما أخسر صفقة طراد ، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات ، وكان بالإسكندرية : مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة ، ويحتذى أفعال البرامكة ، وللشعراء فيه أمداح كثيرة مدحه ظافر الحدّاد ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهما. وكان له بستان يتفرّج فيه به جرن كبير من رخام ، وهو قطعة واحدة وينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره ، وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم ، والمباهاة في عصره ، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر ، فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها ، فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن ، فلم يجد بدّا من حمله من البستان ، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج ، فقلق ابن حديد ، وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن ، فأخذ يخدم البدوية ، ومن يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحدّ في الكثرة حتى قالت البدوية : هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه ، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا ، فلما قيل له هذا القول عنها قال : ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها ، وطول حياتها في عزّ ردّد الفسقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامها من نعمتهم تردّ إلى مكانها ، فتعجبت من ذلك ، وردّتها عليه ، فقيل له : حصلت في حدّ أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر ، فقال : أنا أعرف بنفسي ، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلّب في أخذ ذلك الحجر من مكانه ، وقد بلغها الله أملها ، وكان هذا المكين قضاء الإسكندرية ، ونظرها في أيام الآمر.

وبلغ من علوّ همته ، وعظم مروءته أنّ سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون بن البطائحيّ : لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وأضاف إليه الأعمال البحرية ، ووصل إلى الثغر ، ووصف له الطبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور ، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا أن أحضر حقا مختوما فكّ عنه ، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف بلور فيه : ثلاثة بيوت ، كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر ، بيت دهن بمسك ، وبيت دهن بكافور ، وبيت دهن بعنبر طيب ، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته ، فعندما أحضره الرسول ، تعجب المؤتمن والحاضرون من علوّ همته ، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر أنعامه ، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه ، فكان جواب المؤتمن قد قبلته منك لا لحاجة إليه ، ولا لنظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة ، وإذاعتها ، وذكر أن قيمة هذا المداف ، وما عليه : خمسمائة دينار ، فانظر رحمك الله ، إلى من يكون دهن الشمع عنده في

٤٢٨

إناء قيمته : خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه البتة ، فماذا تكون ثيابه ، وحليّ نسائه ، وفرش داره ، وغير ذلك من التجملات ، وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ، ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟ وما نسبة أعيان الدولة ، وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة ، وأبهتها إلّا يسير حقير.

وما زال الخليفة الآمر يتردّد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يريد الهودج ، وقد كمن له عدّة من النزارية في فرن عند رأس الجسر من ناحية الروضة ، فوثبوا عليه ، وأثخنوه بالجراحة حتى هلك ، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة ، فمات بها ، وقيل : قبل أن يصل إليها ، وقد خرب هذا الهودج ، وجهل مكانه من الروضة ، ولله عاقبة الأمور.

قصر القرافة : وكان لهم بالقرافة قصر بنته : السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز في سنة : ست وستين وثلثمائة ، على يد الحسين بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب هو ، والحمام الذي في غربيه ، وبنت البئر ، والبستان وجامع القرافة ، وكان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار في إتقان بنيانه وصحة أركانه ، وله منظرة مليحة كبيرة محمولة على قبو مادّ تجوز المارّة من تحته ، ويقيل المسافرون في أيام القيظ هناك ، ويركب الراكب إليه على زلاقة ، وكان كأحسن ما يكون من البناء ، وتحته حوض لسقي الدواب يوم الحلول فيه ، وكان مكانه بالقرب من مسجد الفتح.

ولما كان في سنة عشرين وأربعمائة جدّده الخليفة الآمر ، وعمل تحته مصطبة للصوفية وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة من الصوفية ، والمجامر بالألوية موضوعة بين أيديهم والشموع الكثيرة تزهر ، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط ، ومدّت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهيّ من الأطعمة ، والحلوى أصنافا مصنفة ، فاتفق أن تواجد الشيخ أبو عبد الله بن الجوهريّ الواعظ ، ومزق مرقعته ، وفرّقت على العادة خرقا ، وسأل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها ، ووضعها في رأسه ، فلما فرغ التمزيق ، قال الخليفة الآمر بأحكام الله : من طاق بالمنظرة يا شيخ أبا إسحاق ، قال : لبيك يا مولانا ، قال : أين خرقتي؟ فقال مجيبا له في الحال : ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين ، فاستحسن الآمر ذلك ، وأعجبه موقعه فأمر في الساعة ، والوقت فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية ، ففرّقت على الحاضرين ، وعلى فقراء القرافة ، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار ، فتخاطفها الحاضرون ، وتعاهد المغربلون الأرض التي هناك أياما لأخذ ما يواريه التراب ، وما برح قصر الأندلس بالقرافة ، حتى زالت الدولة ، فهدم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.

٤٢٩

المنظرة ببركة الحبش (١) : وكانت لهم منظرة تشرف على بركة الحبش ، قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط على الخطط : إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى على المنظرة التي يقال لها بئر دكة الخركة منظرة من خشب مدهونة فيها طاقات ، تشرف على خضرة بركة الحبش ، وصوّر فيها الشعراء كل شاعر وبلده ، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح ، وذكر الخركاه ، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر ، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب ، فلما دخل الآمر ، وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف ، صرّة مختومة فيها : خمسون دينارا ، وأن يدخل كل شاعر ، ويأخذ صرّته بيده ، ففعلوا ذلك ، وأخذوا صررهم ، وكانوا عدّة شعراء.

البساتين : وكان للخلفاء عدّة بساتين يتنزهون بها : منها البساتين الجيوشية ، وهما بستانان كبيران أحدهما من عند زقاق الكحل ، خارج باب الفتوح إلى المطرية ، والآخر يمتدّ من خارج باب القنطرة إلى الخنذق ، وكان لهما شأن عظيم ، ومن شدّة غرام الأفضل بالبستان الذي كان يجاور بستان البعل ، عمل له سورا مثل سور القاهرة ، وعمل فيه بحرا كبيرا ، وقبة عشاري تحمل ثمانية أرادب ، وبنى في وسط البحر منظرة محمولة على أربع عواميد من أحسن الرخام ، وحفها بشجر النارنج ، فكان نارنجها لا يقطع حتى يتساقط وسلط على هذا البحر أربع سواق ، وجعل له معبرا من نحاس مخروط زنته قنطار ، وكان يملأ في عدّة أيام ، وجلب إليه من الطيور المسموعة شيئا كثيرا ، واستخدم للحمام الذي كان به عدّة مطيرين ، وعمر به أبراجا عدّة للحمام والطيور المسموعة ، وسرّح فيه كثيرا من الطاوس ، وكان البستانان اللذان على يسار الخارج من باب الفتوح بينهما بستان الخندق ، لكل منهما أربعة أبواب من الأربع جهات على كل منها عدّة من الأرمن ، وجميع الدهاليز مؤزرة بالحصر العبدانيّ ، وعلى أبوابها سلاسل كثيرة من حديد ، ولا يدخل منها إلّا السلطان ، وأولاده وأقاربه.

قال ابن عبد الظاهر : واتفقت جماعة على أن الذي يشتمل عليه مبيعهما في السنة من زهر وثمر : نيف وثلاثون ألف دينار ، وإنها لا تقوم بمؤنهما على حكم اليقين لا الشك ، وكان الحاصل بالبستان الكبير ، والمحسن إلى آخر الأيام الآمرية ، وهي سنة : أربع وعشرين وخمسمائة : ثمانمائة ، وأحد عشر رأسا من البقر ، ومن الجمال : مائة وثلاثة رؤوس ، ومن العمال وغيرهم ألف رجل.

__________________

(١) هذه البركة كانت واقعة جنوبي مصر فيما بين النيل والجبل ولم تكن بركة عميقة فيما ماء راكد بالمعنى المفهوم. وإنما كانت تطلق على حوض من الأراضي الزراعية التي يغمرها ماء النيل وقت فيضانه بواسطة خليج بني وائل وكان فيها جنان كثيرة عرفت بالحبش لأنها كانت لطائفة من الرهبان الحبش.

(محمد رمزي).

٤٣٠

وذكر أنّ الذي دار سور البساتين من سنط ، وجميز ، وأثل من أوّل حدّهما الشرقيّ ، وهو ركن بركة الأرمن مع حدّهما البحريّ والغربي جميعا إلى آخر زقاق الكحل في هذه المسافة الطويلة : سبعة عشر ألف ألف ، ومائتا شجرة ، وبقي قبليهما جميعا لم يحصن.

وإنّ السنط تغصن حتى لحق بالجميز في العظم ، وإنّ معظم قرظه يسقط إلى الطريق ، فيأخذه الناس ، وبعد ذلك يباع بأربعمائة دينار ، وكان به كل ثمرة لها دويرة مفردة ، وعليها سياج ، وفيها نخل منقوش في ألواح عليها برسم الخاص لا تجني إلّا بحضور المشارف ، وكان فيهما ليمون تفاحيّ يوكل بقشرة بغير سكر ، وأقام هذان البستانان بيد الورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم مدّة أيام الوزير المأمون ، لم تخرج عنهم ، وكشف ذلك في أيام الخليفة الحافظ ، فكان فيهما ستمائة رأس من البقر ، وثمانون جملا ، وقوّم ما عليهما من الأثل والجميز ، فكانت قيمته : مائتي ألف دينار ، وطلب الأمير شرف الدين وكانت له حرمة عظيمة من الخليفة الحافظ قطع شجرة واحدة من سنط فأبى عليه ، فتشفع إليه ، وقوّمت بسبعين دينارا ، فرسم الخليفة إن كانت وسط البستان تقطع ، وإلا فلا ، ولما جرى في آخر أيام الحافظ ما جرى من الخلف ذبحت أبقاره ، وجماله ، ونهب ما فيه من الآلات والأنقاض ، ولم يبق إلّا الجميز والسنط والأثل لعدم من يشتريه ، انتهى.

وكان هذان البستانان من جملة الحبس (١) الجيوشيّ ، وهو أن أمير الجيوش بدر الجماليّ حبس عدّة بلاد وغيرها ، منها في البرّ الشرقيّ بناحية بهتيت ، والأميرية ، والمنية ، وفي البرّ الغربيّ ناحية سفط (٢) ونهيا ووسيم مع هذين البستانين المذكورين على عقبة ، فاستأجر هذا الحبس الوزير مدّة سنين بأجرة يسيرة ، وصار يزرع في الشرقيّ منه ، الكتان ومنه ما تبلغ قطيعته ثلاثة دنانير ونصفا وربعا عن كل فدّان فيتناولون فيه ربحا جزيلا لأنفسهم ، فلما بعد العهد انقرضت أعقابه ، ولم يبق من ذرّيته سوى امرأة كبيرة ، فأفتح الفقهاء بأن هذا الحبس باطل ، فصار للديوان السلطانيّ يتصرّف فيه ، ويحمل متحصله مع أموال بيت المال وتلاشت البساتين ، وبنى في أماكنها ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وبنى العزيز بالله بستانا بناحية سردوس.

قبة الهواء : وكان من أحسن منتزهات الخلفاء الفاطميين ، قبة الهواء ، وهي مستشرف بهج بديع ، فيما بين التاج ، والخمس وجوه يحيط به عدّة بساتين ، لكل بستان منها : اسم ، ولهذه القبة فرش معدّة في الشتاء ، والصيف ويركب إليها الخليفة في أيام الركوبات التي هي يوم السبت والثلاثاء.

__________________

(١) الحبس الجيوشي : عبارة عن ضياع وقرى (وقف) وقفها أمير الجيوش بدر الجمالي لتكون غلتها للجيش.

(٢) سفط : قرية في غربي النيل من جهة الصعيد. معجم البلدان ج ٣ / ٢٢٤.

٤٣١

بحر أبي المنجا (١) : وكان من منتزهات الخلفاء ، يوم فتح بحر أبي المنجا ، قال ابن المأمون : وكان الماء لا يصل إلى الشرقية إلّا من السردوسيّ ، ومن الصماصم ، ومن المواضع البعيدة ، فكان أكثرها يشرق في أكثر السنين ، وكان أبو المنجا اليهوديّ مشارف الأعمال المذكورة ، فتضرّر المزارعون إليه ، وسألوا في فتح ترعة يصل الماء منها في ابتدائه إليهم ، فابتدأ بحفر خليج أبي المنجا في يوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست وخمسمائة ، وركب الأفضل بن أمير الجيوش ضحى ، وصحبته القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ ، وجميع إخوته والعساكر تحاذيه في البرّ وجمعت شيوخ البلاد وأولادها ، وركبوا في المراكب ، ومعهم حزم البوص (٢) في البحر ، وصار العشاريّ ، والمراكب تتبعها إلى أن رماها الموج إلى الموضع الذي حفروا فيه البحر ، وأقام الحفر فيه سنتين ، وفي كل سنة تتبين الفائدة فيه ، ويتضاعف من ارتفاع البلاد ، ما يهوّن الغرامة عليه.

ولما عرض على الأفضل جملة ما أنفق فيه استعظمه وقال : غرمنا هذا المال جميعه ، والاسم لأبي المنجا ، فغير اسمه ، ودعي بالبحر الأفضليّ ، فلم يتم ذلك ، ولم يعرف إلّا بأبي المنجا ثم جرى بين أبي المنجا ، وبين ابن أبي الليث ، صاحب الديوان بسبب الذي أنفق خطوب أدت إلى اعتقال أبي المنجا عدّة سنين ، ثم نفي إلى الإسكندرية بعد أن كادت نفسه تتلف ، ولم يزل القائد أبو عبد الله بن فاتك ، يتلطف بحاله إلى تضاعف من عبرة البلاد ما سهل أمر النفقة فيه.

ورأيت بخط ابن عبد الظاهر ، وهذا أبو المنجا هو جدّ بني صفير الحكماء اليهود ، والذين أسلموا منهم ، ولما طال اعتقال أبي المنجا في الإسكندرية في مكان بمفرده مضيقا عليه ، تحيل في تحصيل مصحف ، وكتب ختمة ، وكتب في آخرها : كتبها أبو المنجا اليهوديّ ، وبعثها إلى السوق ليبعها ، فقامت قيامة أهل الثغر ، وطولع بأمره إلى الخليفة ، فأخرج.

وقيل له : ما حملك على هذا؟ فقال : طلب الخلاص بالقتل ، فأدّب ، وأطلق سبيله.

وقيل : إنه كان في محبسه حية عظيمة ، فأحضر إليه في بعض الأيام لبن ، فرأى الحية ، وقد شربت منه ، ودخلت حجرها ، فصار في كل يوم يحضر لها لبنا ، فتخرج وتشرب منه ، وتدخل مكانها ، ولم تؤذه.

__________________

(١) بحر أبي المنجا : أول من احتفره الملك الأفضل شاهنشاه. وكان يشارف على العمل رجل يهودي اسمه أبو المنجا فعرف به. صبح الأعشى ٣ / ٣٣٤.

(٢) البوص : نبات من نباتات المستنقعات من الفصيلة النجيلية على هيئة القصب والغار. (المعجم الوسيط).

٤٣٢

ولما ولي المأمون البطائحيّ وزارة الآمر بأحكام الله بعد الأفضل بن أمير الجيوش ، تحدّث الآمر معه في رؤية فتح هذا الخليج ، وأن يكون له يوم كخليج القاهرة ، فندب الآمر معه عدي الملك أبا البركات بن عثمان وكيله ، وأمره بأن يبني على مكان السدّ منظرة متسعة ، تكون من بحريّ السدّ ، وسرّع في عمارتها بعد كمال النيل ، وما زال يوم فتح سدّ هذا البحر يوما مشهودا إلى أن زالت الدولة الفاطمية.

فلما استولى بنو أيوب من بعدهم على مملكة مصر ، أجروا الحال فيه على ما كان ، قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وسبعين وخمسمائة : وركب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لفتح بحر أبي المنجا ، وعاد. وقال : وفي سنة تسعين وخمسمائة ، كسر بحر أبي المنجا بعد أن تأخر كسره عن عيد الصليب بسبعة أيام ، وكان ذلك لقصور النيل في هذه السنة ، ولم يباشر السلطان الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين بنفسه ، وركب أخوه شرف الدين يعقوب الطواشي لكسره ، وبدت في هذا اليوم من مخايل القبوط ما يوجبه سوء الأفعال من المجاهرة بالمنكرات ، والإعلان بالفواحش ، وقد أفرط هذا الأمر ، واشترك فيه الآمر والمأمور ، ولم ينسلخ شهر رمضان ، إلّا وقد شهد ما لم يشهده رمضان قبله في الإسلام وبدا عقاب الله في الماء الذي كانت المعاصي على ظهره ، فإنّ المراكب كان يركب فيها في رمضان الرجال والنساء مختلطين ، مكشفات الوجوه ، وأيدي الرجال تنال منها ما تنال في الخلوات ، والطبول ، والعيدان مرتفعات الأصوات ، والصنجات ، واستنابوا في الليل عن الخمر بالماء ، والجلاب ظاهرا ، وقيل : إنهم شربوا الخمر مستورا ، وقربت المراكب بعضها من بعض ، وعجز المنكر عن الإنكار إلّا بقلبه ، ورفع الأمر إلى السلطان ، فندب حاجبه في بعض الليالي ، ففرّق منهم من وجده في الحالة الحاضرة ، ثم عادوا بعد عوده ، وذكر أنه وجد في بعض المعادي خمرا فأراقه.

ولما استهل شوّال وهو مطموع فيه تضاعف هذا المنكر ، وفشت هذه الفاحشة ، ونسأل الله العفو والعافية عن الكبائر ، والتجاوز عما تسقط فيه المعاذر.

وقال : في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة : كسر بحر أبي المنجا ، وباشر العزيز كسره ، وزاد النيل فيه أصبعا ، وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثماني عشر ذراعا ، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر : اللجة الكبرى ، وقد تلاشى في زمننا أمر الاجتماع في يوم فتح سدّ بحر أبي المنجا ، وقلّ الاحتفال به لشغل الناس بهتمّ المعيشة.

قصر الورد بالخاقانية : وكان من أيام منتزهات الخلفاء يوم قصر الورد بناحية الخاقانية ، وهي قرية من قرى قليوب (١) ، كانت من خاص الخليفة ، وبها جنان كثيرة

__________________

(١) قليوب : بلدة ذات بساتين ومنتزهات من ضواحي القاهرة.

٤٣٣

للخليفة ، وكانت من أحسن المنتزهات المصرية وكان بها عدّة دويرات يزرع فيها الورد ، فيسير إليها الخليفة يوما ، ويصنع له فيها قصر عظيم من الورد ، ويخدم بضيافة عظيمة.

قال ابن الطوير عن الخليفة الآمر بأحكام الله : وعمل له بالخاقانية وكانت من خاص الخليفة ، قصر من ورد فسار إليها يوما ، وخدم بضيافة عظيمة ، فلما استقرّ هناك ، خرج إليه أمير يقال له : حسام الملك من الأمراء الذين كانوا مع المؤتمن أخي المأمون البطائحيّ ، وتخاذلوا عنه ، فوصل إلى الخاقانية ، وهو لابس لأمة حربه والتمس المثول بين يديه يعني الخليفة ، فاستقلّ ما جاء به في ذلك الوقت ، مما ينافي ما فيه الخليفة من الراحة ، والنزهة وحيل بينه وبين مقصوده ، فقال لجماعة من حواشي الخليفة : أنتم منافقون على الخليفة إن لم أصل إليه ، فإنه يعاقبكم بذلك ، فأطلعوا الخليفة على أمره ، وحليته بالسلاح ، وقوله فأمر بإحضاره ، فلما وقعت عينه عليه قال : يا مولانا ، لمن تركت أعداءك؟ يعني الوزير المأمون البطائحيّ ، وأخاه ، وكان الآمر قد قبض عليهما ، واعتقلهما هذا والعهد قريب غير بعيد أأمنت الغدر؟ فما أجابه إلّا وهو على الرهاويج من الخيل ، فلم تمض ساعة إلّا ، وهو بالقصر ، فمضى إلى مكان اعتقال المأمون وأخيه ، فزادهما وثاقا وحراسة ، وفي أثناء ذلك ، وصل ابن نجيب الدولة الذي كان سيره المأمون في وزارته إلى اليمن ، لتحقيق نسبه أنه ولد من جارية نزار بن المستنصر ، لما خرجت من القصر ، وهي به حامل ويدعو إليه بقية الناس ، وأحضر إلى القاهرة على جمل مشوّه ، فأدخل خزانة البنود ، وقتل هو والمأمون ، وجماعة في تلك الليلة ، وصلبوا ظاهر القاهرة.

بركة الجب : هي بظاهر القاهرة من بحريها ، وتسميها العامّة في زمننا هذا الذي نحن فيه : بركة الحاج لنزول الحجاج بها عند مسيرهم من القاهرة إلى الحج في كل سنة ، ونزولهم عند العود بها ، ومنها يدخلون إلى القاهرة ومن الناس من يقول : جب يوسف ، وهو خطأ ، وإنما هي أرض جب عميرة ، وعميرة هذا هو : ابن تميم بن جزء التجيبي من بني القرناء ، نسبت هذه الأرض إليه ، فقيل لها : أرض جب عميرة ، ذكره ابن يونس ، وكان من عادة الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر بن الحاكم في كل سنة أن يركب على النجب مع النساء ، والحشم إلى رجب عميرة هذا ، وهو موضع نزهة بهيئة أنه خارج إلى الحج على سبيل اللعب والمجانة ، وربما حمل معه الخمر في الروايا عوضا عن الماء ، ويسقيه من معه ، وأنشده مرّة الشريف أبو الحسن عليّ بن الحسين بن حيدرة العقيليّ في يوم عرفة :

قم فانحر الراح يوم النحر بالماء

ولا تضح ضحى إلّا بصهباء

وادرك حجيج الندامى قبل نفرهم

إلى منى قصفهم مع كل هيفاء

وعج على مكة الروحاء مبتكرا

فطف بها حول ركن العود والنائي

٤٣٤

قال ابن دحية : فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجي بنغمات حداة الملاهي وتساق ، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق ، فأقام بها سوق الفسوق على ساق ، وفي ذلك العام أخذه الله تعالى ، وأهل مصر بالسنين ، حتى بيع في أيامه الرغيف : بالثمن الثمين ، وعاد ماء النيل بعد عذوبته كالفسلين ، ولم يبق بشاطئيه أحد بعد أن كانا محفوفين بحور عين.

وقال ابن ميسر : فلما كان في جمادى الآخرة من سنة : أربع وخمسين وأربعمائة ، خرج المستنصر على عادته إلى بركة الجب ، فاتفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا في سكر منه على بعض عبيد الشراء ، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه ، فاجتمع الأتراك بالمستنصر ، وقالوا : إن كان هذا عن رضاك ، فالسمع والطاعة ، وإن كان عن غير رضاك ، فلا نرضى بذلك ، فأنكر المستنصر ما وقع ، وتبرّأ مما فعله العبيد ، فتجمع الأتراك لحرب العبيد ، وبرز بعضهم إلى بعض ، وكان بين الفريقين قتال شديد على كوم شريك ، انهزم فيه العبيد ، وقتل منهم عدد كثير ، وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد ، وتمدّهم بالأموال والأسلحة ، فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك ظفر بشيء مما تبعث به أمّ المستنصر إلى العبيد ، فأعلم بذلك أصحابه ، وقد قويت شوكتهم بانهزام العبيد ، فاجتمعوا بأسرهم ، ودخلوا على المستنصر وخاطبوه في ذلك ، وأغلظوا في القول ، وجهروا بما لا ينبغي ، وصار السيف قائما ، والحروب متتابعة إلى أن كان من خراب مصر بالغلاء والفتن ، ما كان ، وكان من قبل المستنصر يتردّدون إلى بركة الجب.

قال المسبحيّ : ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلثمائة ، عرض العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة ، عند سطح الجب فنصب له مضرب ديباج روميّ ، فيه ألف ثوب بصفرية فضة ، ونصبت له فازة مثقل ، وقبة مثقل بالجوهر ، وضرب لابنه الأمير أبي عليّ منصور مضرب آخر ، وعرضت العساكر ، وكان عدّتها مائة عسكري ، وأقبلت أسارى الروم ، وعدّتهم مائتان وخمسون ، فطيف بهم ، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب ، وما زالت بركة الجب منتزها للخلفاء والملوك من بني أيوب ، وكان السلطان صلاح الدين يبرز إليها للصيد ، ويقيم فيها الأيام ، وفعل ذلك الملوك من بعده ، واعتنى بها الملك الناصر محمد بن قلاون ، وبنى بها أحواشا وميدانا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وبركة الجب ، وما يليها في درك بني صبرة ، وهم ينسبون إلى صبرة ابن بطيح بن مغالة بن عجان بن عنب بن الكليب بن أبي عمرو بن دمية بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم ، فهم أحد بطون لخم ، وفيهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أخي لخم.

المشتهى : وكان من مواضعهم التي أعدّت للنزهة المشتهى.

٤٣٥

ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا ،

ومواسم تتسع بها أحوال الرعية ، وتكثر نعمهم

وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة : أعياد ومواسم ، وهي : موسم رأس السنة ، وموسم أوّل العام ، ويوم عاشوراء ، ومولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، ومولد الحسن ، ومولد الحسين عليهما‌السلام ، ومولد فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ومولد الخليفة الحاضر ، وليلة أوّل رجب ، وليلة نصفه ، وليلة أوّل شعبان ، وليلة نصفه ، وموسم ليلة رمضان ، وغرّة رمضان ، وسماط رمضان ، وليلة الختم ، وموسم عيد الفطر ، وموسم عيد النحر ، وعيد الغدير ، وكسوة الشتاء ، وكسوة الصيف ، وموسم فتح الخليج ، ويوم النوروز ، ويوم الغطاس ، ويوم الميلاد ، وخميس العدس ، وأيام الركوبات.

موسم رأس السنة : وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أوّل المحرّم في كل عام لأنها أوّل ليالي السنة وابتداء أوقاتها ، وكان من رسومهم في ليلة رأس السنة أن يعمل بمطبخ القصر عدّة كثيرة من الخراف المقموم والكثير من الرءوس المقموم ، وتفرّق على جميع أرباب الرتب ، وأصحاب الدواوين من العوالي والأدوان أرباب السيوف والأقلام مع جفان اللبن ، والخبز ، وأنواع الحلواء ، فيعمّ ذلك سائر الناس من خاص الخليفة ، وجهاته والأستاذين المحنكين إلى أرباب الضوء ، وهم المشاعلية ، ويتنقل ذلك في أيدي أهل القاهرة ومصر.

موسم أوّل العام : وكان لهم بأوّل العام عناية كبيرة فيه ، يركب الخليفة بزيه المفخم ، وهيئته العظيمة كما تقدّم ، ويفرّق فيه دنانير الغرّة التي مرّ ذكرها عند ذكر دار الضرب ، ويفرّق من السماط الذي يعمل بالقصر لأعيان أرباب الخدم من أرباب السيوف ، والأقلام بتقرير مرتب ، خرفان شواء ، وزبادي طعام وجامات حلواء ، وخبر وقطع منفوخة من سكر ، وأرز بلبن ، وسكر ، فيتناول الناس من ذلك ما يجل وصفه ، ويتبسطون بما يصل إليهم من دنانير الغرّة من رسوم الركوب كما شرح فيما تقدّم.

يوم عاشوراء (١) : كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ، ويعمل فيه السماط

__________________

(١) هو العاشر من محرم ذكر استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام.

٤٣٦

العظيم المسمى : سماط الحزن ، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسينيّ ، فانظره. وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير ، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء ، يوم سرور ، يوسعون فيه على عيالهم ، ويتبسطون في المطاعم ، ويصنعون الحلاوات ، ويتخذون الأواني الجديدة ، ويكتحلون ، ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ، ليرغموا بذلك آناف شيعة عليّ بن أبي طالب ، كرّم الله وجهه ، الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء ، وحزن فيه على الحسين بن عليّ ، لأنه قتل فيه ، وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء ، يوم سرور ، وتبسط وكلا الفعلين غير جيد ، والصواب ترك ذلك ، والاقتداء بفعل السلف فقط.

وما أحسن قول أبي الحسين الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء ، وكتب بها إليه ليلة عاشوراء عند ما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء :

قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي

والسيد بن السيد بن السيد

أقسم بالفرد العليّ الصمد

إن لم يبادر لنجاز موعدي

لأحضرنّ للهناء في غد

مكحل العينين مخضوب اليد

يعرّض للشريف : يما يرمي به الأشراف من التشيع ، وإنه إذا جاء بهيئة السرور في يوم عاشوراء ، غاظه ذلك لأنه من أفعال الغضب ، وهو من أحسن ما سمعته في التعريض فلله دره.

عيد النصر : وهو السادس عشر من المحرّم عمله : الخليفة الحافظ لدين الله ، لأنه اليوم الذي ظهر فيه من محبسه ، ويفعل فيه ما يفعل في الأعياد من الخطبة ، والصلاة ، والزينة ، والتوسعة في النفقة ، وكتب فيه أبو القاسم عليّ بن الصيرفيّ إلى بعض الخطباء : عيد النصر ، وهو أفضل الأعياد ، وأسناها وأعلاها ، وأدلها على تقصير الواصف إذا بلغ وتناهى ، ونحن نأمرك أن تبرز في يوم الأحد السادس عشر من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة على الهيئة التي جرت العادة بمثلها في الأعياد ، وتوعد بأن تقرأ على الناس الخطبة التي سيرناها إليك قرين هذا الأمر بشرح هذا اليوم وتفصيله ، وذكر ما خصه الله به من تشريفه وتفضيله ، وتعتمد في ذلك ما جرى الرسم فيه كل يعيد ، وتنتهي فيه إلى الغاية التي ليس عليها مزيد ، فاعلم هذا ، واعمل به إن شاء الله تعالى.

المواليد الستة : كانت مواسم جليلة عمل الناس فيها ، ميزان من ذهب ، وفضة وخشكنانج ، وحلواء كما مرّ ذلك.

ليالي الوقود الأربع : كانت من أبهج الليالي ، وأحسنها ، يحشر الناس لمشاهدتها من كل أوب ، وتصل إلى الناس فيها أنواع من البرّ ، وتعظم فيها ميزة أهل الجوامع والمشاهد ، فانظره في موضعه تجده.

٤٣٧

موسم شهر رمضان : وكان لهم في شهر رمضان عدّة أنواع من البرّ منها : كشف المساجد ، قال الشريف الجوّاني في كتاب النقط : كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام ، طافوا يوما على المشاهد ، والمساجد بالقاهرة ومصر ، فيبدأون بجامع المقس ، ثم بجوامع القاهرة ، ثم بالمشاهد ، ثم بالقرافة ، ثم بجامع مصر ، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك ، وقناديله ، وعمارته ، وإزالة شعثه ، وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم ، والشهود ، والطفيليون يتعينون لذلك اليوم ، والطواف مع القاضي لحضور السماط.

إبطال المسكرات : قال ابن المأمون : وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة : أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر ، وتختم ويحذر من بيع الخمر ، فرأى الوزير المأمون لما ولي الوزارة بعد الأفضل بن أمير الجيوش ، أن يكون ذلك في سائر أعمال الدولة ، فكتب به إلى جميع ولاة الأعمال ، وأن ينادى بأنه من تعرّض لبيع شيء من المسكرات ، أو لشرائها سرّا ، أو جهرا فقد عرّض نفسه لتلافها وبرئت الذمّة من هلاكها.

ومنها غرّة رمضان : وكان في أوّل يوم من شهر رمضان ، يرسل لجميع الأمراء ، وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق ، ولكل واحد من أولاده ، ونسائه طبق فيه حلواء ، وبوسطه صرّة من ذهب ، فيعم ذلك سائر أهل الدولة ، ويقال لذلك غرّة رمضان.

ومنها ركوب الخليفة في أوّل شهر رمضان : قال ابن الطوير : فإذا انقضى شعبان اهتمّ بركوب أوّل شهر رمضان ، وهو يقوم مقام الرؤية ، عند المتشيعين ، فيجري أمره في اللباس والآلات ، والأسلحة ، والعرض والركوب والترتيب ، والموكب والطريق المسلوكة ، كما وصفناه في أوّل العام لا يختلّ بوجه ، ويكتب إلى الولاة ، والنوّاب والأعمال بمساطير مخلقة يذكر فيها ركوب الخليفة.

ومنها سماط شهر رمضان : وقد تقدّم ذكر السماط في قاعة الذهب من القصر.

سحور الخليفة : قال ابن المأمون : وقد ذكر أسمطة رمضان ، وجلوس الخليفة بعد ذلك في الروشن إلى وقت السحور ، والمقرئون تحته يتلون عشرا ، ويطرّبون بحيث يشاهدهم الخليفة ، ثم حضر بعدهم المؤذنون ، وأخذوا في التكبير ، وذكر فضائل السحور ، وختموا بالدعاء ، وقدّمت المخادّ للوعاظ ، فذكروا فضائل الشهر ، ومدح الخليفة والصوفيات ، وقام كل من الجماعة للرقص ، ولم يزالوا إلى أن انقضى من الليل أكثر من نصفه ، فحضر بين يدي الخليفة أستاذ بما أنعم به عليهم ، وعلى الفرّاشين ، وأحضرت جفان

٤٣٨

القطائف ، جرار الجلاب برسمهم ، فأكلوا ، وملأوا أكمامهم ، وفضل عنهم ما تخطفه الفرّاشون ، ثم جلس الخليفة في السدلا التي كان بها عند الفطور ، وبين يديه المائدة معبأة جميعها من جميع الحيوان وغيره ، والقعبة (١) الكبيرة الخاص مملوءة أوساطه بالهمة المعروفة ، وحضر الجلساء ، واستعمل كل منهم ما اقتدر عليه ، وأومأ الخليفة بأن يستعمل من القعبة ، فيفرّق الفرّاشون عليهم أجمعين وكل من تناول شيئا قام ، وقبل الأرض ، وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده ، وأهله لأنّ ذلك كان مستفاضا عندهم غير معيب على فاعله ، ثم قدّمت الصحون الصينيّ مملوءة قطائف ، فأخذ منها الجماعة الكفاية.

وقام الخليفة ، وجلس بالباذهنج ، وبين يديه السحورات المطيبات من لبئين رطب ومخض ، وعدّة أنواع عصارات وافطلوات وسويق ناعم ، وجريش جميع ذلك بقلوبات وموز ، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سفوفا ، وحضر الجلساء ، وأخذ كل منهم في تقبيل الأرض ، والسؤال بما ينعم عليه منه ، فتناوله المستخدمون ، والأستاذون وفرّقوه ، فأخذه القوم في أكمامهم ، ثم سلم الجميع وانصرفوا.

ومنها الختم في آخر رمضان : وكان يعمل في التاسع والعشرين منه.

قال ابن المأمون : ولما كان التاسع والعشرون من شهر رمضان ، خرج الأمر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين ، والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر ، وحضر الأجل الوزير المأمون في آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة ، والحضور على الأسمطة على العادة ، وحضر إخوته ، وعمومته ، وجميع الجلساء ، وحضر المقرئون ، والمؤذنون ، وسلموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن ، وحمل من عند معظم الجهات ، والسيدات والمميزات من أهل القصور ثلاجي (٢) ، وموكبيات مملوءة ملفوفة في عراضي (٣) ديبقيّ ، وجعلها أمام المذكورين ، لتشملها بركة ختم القرآن الكريم ، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا ، ثم وقف بعد ذلك من خطب ، فأسمع ودعا ، فأبلغ ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات ، ثم كبر المؤذنون ، وهللوا وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دنانير ، ودراهم ورباعيات ، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع البسندود ، والحلواء فجروا على عادتهم ، وملأوا أكمامهم ، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجديدة ، بخلع خلعها على الخطيب ، وغيره ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين.

__________________

(١) القعبة : قدح ضخم ، أو حقة مطبقة للسويق.

(٢) ثلاجي : من يتكفل بنقل الثلج (حيث كان الثلج ينقل من بلاد الشام إلى مصر بواسطة المراكب وفي البر بواسطة الهجن). صبح الأعشى ج ١٤ / ٤٤٢.

(٣) عراضي : نوع من القماش.

٤٣٩

ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور

اعلم أن القوم كانوا شيعة ، ثم غلوا حتى عدوّا من غلاة أهل الرفض ، وللشيعة في أثناء الشهور عمل ، أحسن ما رأيت فيه.

ما حكاه أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ في كتاب الآثار العافية عن القرون الخالية قال : وفي سنين من الهجرة نجمت ناجمة لأجل أخذهم بالتأويل إلى اليهود والنصارى ، فإذا لهم جداول وحسبانات يستخرجون بها شهورهم ، ويعرفون منها صيامهم ، والمسلمون مضطرّون إلى رؤية الهلال ، وتفقد ما اكتساه القمر من النور وجدوهم شاكين في ذلك مختلفين فيه ، مقلدين بعضهم بعضا في عمل رؤية الهلال بطريق الزيجات ، فرجعوا إلى أصحاب علم الهيئة ، فألفوا زيجاتهم مفتتحة بمعرفة أوائل ما يراد من شهور العرب بصنوف الحسبانات ، فظنوا أنها معمولة لرؤية الأهلة ، فأخذوا بعضها ، ونسبوه إلى جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام ، وزعموا أنه سرّ من أسرار النبوّة ، وتلك الحسبانات مبنية على حركات التدبير الوسطى دون المعدّلة أو معمولة على سنة القمر التي هي : ثلثمائة وأربعة ، وخمسون يوما وخمس يوم ، وسدس يوم ، وأن ستة أشهر من السنة تامة ، وستة أشهر ناقصة ، وإن كل ناقص منها ، فهو تال لتامّ ، فلما قصدوا استخراج الصوم والفطر بها ، خرجت قبل الواجب بيوم في أغلب الأحوال ، فأوّلوا قوله عليه‌السلام : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقالوا : معنى صوموا لرؤيته : أي صوموا اليوم الذي يرى في عشيته ، كما يقال : تهيؤا لاستقباله ، فيقدّم التهيؤ على الاستقبال ، قال : ورمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما أبدا.

قافلة الحج : قال في كتاب الذخائر والتحف : إن المنفق على الموسم كان في كل سنة تسافر فيها القافلة : مائة ألف وعشرين ألف دينار منها : ثمن الطيب ، والحلواء والشمع راتبا في كل سنة : عشرة آلاف دينار ، ومنها : نفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة : أربعون ألف دينار ، ومنها في ثمن الحمايات ، والصدقات ، وأجرة الجمال ، ومعونة من يسير من العسكرية ، وكبير الموسم ، وخدم القافلة ، وحفر الآبار ، وغير ذلك : ستون ألف دينار ، وإنّ النفقة كانت في أيام الوزير البازوريّ : قد زادت في كل سنة ، وبلغت إلى مائتي ألف دينار ، ولم تبلغ النفقة على الموسم مثل ذلك في دولة من الدول.

موسم عيد الفطر : وكان لهم في موسم عيد الفطر عدّة وجوه من الخيرات منها : تفرقة الفطرة ، وتفرقة الكسوة ، وعمل السماط ، وركوب الخليفة لصلاة العيد ، وقد تقدّم ذكر ذلك كله فيما سبق.

عيد النحر : فيه تفرقة الرسوم من الذهب والفضة ، وتفرقة الكسوة لأرباب الخدم من

٤٤٠