كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

فمن أوّل ما سمع القائد أبو عبد الله بن فاتك الذي قيل له بعد ذلك : المأمون بالقضية ، وكان مدبر الأمور في الأيام الأفضلية قال : هو بركات المطلوب ، وأمر بإحضار الأستاذين والكشف عن القضية ، وإحضار الحمالين ، والكشف عن القبر بحضورهم ، فإذا تحققوه أمرهم بلعنه ، فمن أجاب إلى ذلك منهم أطلقوه ، ومن أبى أحضروه ، فحققوا معرفته ، فمنهم من بصق في وجهه ، وتبرّأ منه ، ومنهم من همّ بتقبيله ، ولم يتبرّأ منه ، فجلس الأفضل واستدعى الوالي والسياف ، واستدعى من كان تحت الحوطة من أصحابه ، فكل من تبرّأ منه ، ولعنه أطلق سبيله ، وبقي من الجماعة ممن لم يتبرّأ منه : خمسة نفر وصبيّ لم يبلغ الحلم ، فأمر بضرب رقابهم ، وطلب الأستاذين ، فلم يقدر عليهما ، وقال للصبيّ : من لفظه تبرّأ منه ، وأنعم عليك ، وأطلق سبيلك فقال له : الله يطالبك إن لم تلحقني بهم ، فإني مشاهد ما هم فيه ، وأخذ بسيفه على الأفضل ، فأمر بضرب عنقه ، فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله : وزيره المأمون بن البطائحيّ باتخاذ دار العلم ، وأفسد عقل أستاذ وخياط ، وجماعة ، وادّعى الربوبية فحضر الداعي ابن عبد الحقيق إلى الوزير المأمون ، وعرّفه بأنّ هذا قد تعرّف بطرف من علم الكلام ، على مذهب أبي الحسن الأشعريّ ، ثم انسلخ عن الإسلام ، وسلك طريق الحلاج في التمويه فاستهوى من ضعف عقله ، وقلة بصيرته ، فإنّ الحلاج في أوّل أمره كان يدّعي أنه : داعية المهديّ ، ثم ادّعى أنه المهديّ ثم ادّعى الإلهية ، وأنّ الجنّ تخدمه ، وأنه أحيى عدّة من الطيور ، وكان هذا القصار شيعيّ الدين ، وجرت له أمور في الأيام الأفضلية ، ونفي دفعة واعتقل أخرى ، ثم هرب بعد ذلك ، ثم حضر وصار يواصل طلوع الجبل ، واستصحب من استهواء من أصحابه ، فإذا أبعد قال لبعضهم بعد أن يصلي ركعتين : نطلب شيئا تأكله أصحابنا فيمضي ، ولا يلبث دون أن يعود ، ومعه ما كان أعدّه مع بعض خاصته الذين يطلعون على باطنه ، فكانوا يهابونه ويعظمونه حتى أنهم يخافون الإثم في تأمّل صورته ، فلا ينفكون مطرقين بين يديه ، وكان قصيرا دميم الخلقة ، وادّعى مع ذلك الربوبية وكان ممن اختص بحميد رجل خياط وخصيّ ، فرسم المأمون بالقبض على المذكور ، وعلى جميع أصحابه فهرب الخياط ، وطلب فلم يوجد ، ونودي عليه وبذل لمن يحضر به مال ، فلم يقدر عليه ، واعتقل القصار وأصحابه ، وقرّروا فلم يقرّوا بشيء من حاله ، وبعد أيام تماوت في الحبس.

فلما استؤمر عليه أمر بدفنه ، فلما حمل ليدفن ظهر أنه حيّ ، فأعيد إلى الاعتقال ، وبقي كل من لم يتبرّأ منه معتقلا ما خلى الخصيّ ، فإنه لم يتبرّأ منه ، وذكر أن القتل لا يصل إليه فأمر بقطع لسانه ، ورمى قدّامه ، وهو مصرّ على ما في نفسه ، فأخرج القصار ، والخصيّ ، ومن لم يتبرّأ منه من أصحابه فصلبوا على الخشب ، وضربوا بالنشاب ، فماتوا لوقتهم ، ثم نودي على الخياط ثانيا ، فاحضر وفعل به ما فعل بأصحابه بعد أن قيل له : ها أنت تنظره ، فلم يتبرّأ منه ، وصلب إلى جانبه.

٣٨١

وذكر أن بعض أصحاب هذا القصار ممن لم يعرف أنه كان يشتري الكافور ، ويرميه بالقرب من خشبته التي هو مصلوب عليها ، فيستقبل رائحته من سلك تلك الطريق ويقصد بذلك أن يربط عقول من كان القصار قد أضله ، فأمر المأمون أن يحطوا عن الخشب ، وأن تخلط رممهم ويدفنوا متفرّقين ، حتى لا يعرف قبر القصار من قبورهم ، وكان قتلهم في سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وابتداء هذه القضية سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.

قال : وكان الشريف عبد الله يحدّث عن صديق له مأمول القول : إنه أخبره أنه لما شاع خبر هذا القصار ، وما ظهر منه أراد أن يمتحنه ، فتسبب إلى أن خالطه ، وصار في جملة أصحابه ، ومن يعظمه ويطلع معه إلى الجبل ، فأفسد عقله ، وغير معتقده ، وأخرجه عن الإسلام ، وأنه لامه على ذلك ، وردعه فحدّثه بعجائب منها أنه قال : والله ما من الجماعة الذين يطلعون معه إلى الجبل أحد إلّا ويسأله ، ويستدعيه ما يريد على سبيل الامتحان فيحضره إليه لوقته ، وإنّ بيده سكينا لا تقطع إلّا بيده ، وإذا أمسك طائرا ، وقبضه أحد من الحاضرين يدفع السكين التي معه له ، ويقول له : اذبحه ، فلا تمشي في يده ، فيأخذها هو ويذبحه بها ويجري دمه ، ثم يعود ويمسكه بيده ، ويسرّحه فيطير ، ويقول : إنّ الحديد لا يعمل فيه ، ويوسع القول فيما يشاهده منه ، ويسمعه ، فلما اعتقل القصار بقي هذا الرجل مصرّا على اعتقاده ، فلما قتل وخرج إليه وشاهده ، وتحقق موته علم أن ما كان فيه سحر ، وزور وإفك ، فتصدّق بجملة من ماله ، وعاد إلى مذهبه ، وصحّ معتقده.

وقال ابن عبد الظاهر : دار العلم كان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطلها ، وهي بجوار باب التبانين ، وهي متصلة بالقصر الصغير ، وفيها مدفون الداعي : المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الأعجميّ ، وكان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس ، والخوض في المذاهب والخوف من الاجتماع على المذهب النزاريّ ، ولم يزل الخدّام يتوصلون إلى الخليفة الآمر بأحكام الله ، حتى تحدّث في ذلك مع الوزير المأمون فقال : أين تكون هذه الدار؟ فقال بعض الخدّام : تكون بالدار التي كانت أوّلا ، فقال المأمون : هذا لا يكون لأنه باب صار من جملة أبواب القصر ، وبرسم الحوائج ، ولا يمكن الاجتماع ولا يؤمن من غريب يتحصل به ، فأشار كل من الأستاذين بشيء ، فأشار بعضهم أن تكون في بيت المال القديم ، فقال المأمون : يا سبحان الله قد منعنا أن تكون متاخمة للقصر الكبير الذي هو سكن الخليفة نجعلها ملاصقة؟ فقال الثقة زمام القصور : في جواري موضع ليس ملاصقا للقصر ، ولا مخالطا له يجوز أن يعمر ، ويكون دار العلم ، فأجاب المأمون إلى ذلك وقال : بشرط أن يكون متوليها رجلا دينا ، والداعي الناظر فيها ، ويقام فيها متصدّرون برسم قراءة القرآن ، فاستخدم فيها أبو محمد حسن بن آدم ، فتولاها ، وشرط عليه ما تقدّم ذكره ، واستخدم فيها مقرئون.

٣٨٢

ذكر دار الضيافة

خرّج مالك في الموطأ : عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال : كان إبراهيم عليه‌السلام أوّل من ضيّف الضيف ، وأوّل من اتخذ دار ضيافة الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في سنة سبع عشرة ، وأعدّ فيها الدقيق والسمن والعسل وغيره ، وجعل بين مكة والمدينة من يحمل المنقطعين من ماء إلى ماء حتى يوصلهم إلى البلد ، فلما استخلف عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، أقام الضيافة لأبناء السبيل ، والمتعبدين في المسجد وأوّل من بنى دار الضيافة بمصر للناس : عثمان بن قيس بن أبي العاص السهميّ ، أحد من شهد فتح مصر من الصحابة ، وكان ميدان القصر الغربيّ الذي هو الآن الخرنشف دار الضيافة بحارة برجوان (١) ، وكانت هذه الدار أوّلا تعرف : بدار الأستاذ برجوان ، وفيها كان يسكن حيث الموضع المعروف بحارة برجوان ، ثم لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر من عكا ، واستبدّ بأمر الدولة أنشأ هناك دارا عظيمة ، وسكنها ولم يسكن بدار الديباج التي كانت دار الوزارة القديمة.

فلما مات أمير الجيوش بدر ، واستولى سلطنة ديار مصر ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش ، وأنشأ دار القباب التي عرفت : بدار الوزارة الكبرى قريبا من رحبة باب العيد ، أقرّ أخاه أبا محمد جعفرا المنعوت : بالمظفر ابن أمير الجيوش ، بدار أمير الجيوش من حارة برجوان ، فعرفت : بدار المظفر ، وما زال بها حتى مات ، وقبر بها ، وإلى اليوم قبره بها ، وتسميه العامّة : جعفرا الصادق. ولما مات المظفر اتخذت داره المذكورة دار ضيافة برسم الرسل الواردين من الملوك ، واستمرّت كذلك إلى أن انقرضت الدولة ، فأنزل بها السلطان صلاح الدين أولاد العاضد إلى أن نقلهم إلى قلعة الجبل ، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب.

فلما كان في سنة تسع وسبعين وستمائة ، تقدّم أمر الملك المنصور قلاون لوكيل بيت المال القاضي : مجد الدين عيسى بن الخشاب ببيع دار المظفر ، فباع القاعة الكبرى ، وما هو من حقوقها ، وبيعت دار المظفر الصغرى ، وهدمها الناس ، وبنوا في مكانها دورا ، وموضعها الآن دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسيّ الحنفيّ ، وما بجوارها إلى الدار التي بها سكنى اليوم ، وهي من حقوق دار المظفر الصغرى ، على ما في كتبها القديمة ، ولما أنشأ قاضي القضاة شمس الدين المذكور داره : في سنة سبع أو سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ، ظهر من تحت الأرض عند حفر الأساس حجر عظيم ، قيل : إنه عتبة دار المظفر الكبرى ، وكان إذ

__________________

(١) حارة برجوان : منسوبة إلى الخادم برجوان الذي كان من جملة خدام القصر في أيام الخليفة العزيز بالله. ثم صار مدبر مملكة الحاكم بأمر الله وقتل سنة ٣٩٠ ه‍. النجوم الزاهرة ٤ / ٥١.

٣٨٣

ذاك الأمير جهاركس الخليليّ يتولى عمارة مدرسة الملك الظاهر برقوق ، التي في خط بين القصرين، فلما بلغه خبر هذا الحجر بعث إليه ، وأمر بجرّه إلى العمارة ، فعمل عتبة باب المزمّلة ، التي للمدرسة وكان من وراء هذه الدار ، رحبة الأفيال أدركتها ساحة ثم عمر فيها.

قال ابن الطوير : الخدمة المعروفة : بالنيابة للقاء المرسلين ، وهي خدمة جليلة يقال لمتوليها النائب ، وينعت بعدي الملك ، وهو ينوب عن صاحب الباب في لقاء الرسل الوافدين على مسافة ، وإنزال كل واحدة في دار تصلح له ، ويقيم له من يقوم بخدمته ، وله نظير في دار الضيافة ، وهو يسمى اليوم بمهمندار ، ويرتب لهم ما يحتاجون إليه ، ولا يمكن أحدا من الاجتماع بهم ، ويذكر صاحب الباب بهم ، ويبالغ في نجاز ما وصلوا فيه ، وهو الذي يسلم بهم أبدا عند الخليفة والوزير ، وينفذ بهم ، ويستأذن عليهم ، ويدخل الرسول وصاحب الباب قابض على يده اليمنى ، والنائب بيده اليسرى ، فيحفظ ما يقولون ، وما يقال لهم ، ويجتهد في انفصالهم على أحسن الوجوه ، وبين يديه من الفرّاشين المقدّم ذكرهم عدّة لإعانته وإذا غاب أقام عنه نائبا إلى أن يعود وله من الجاري خمسون دينارا في كل شهر ، وفي اليوم نصف قنطار خبز ، وقد يهدي إليه المرسلون طرفا فلا يتناولها إلّا بإذن ، انتهى.

وفي هذه الدولة التركية يقال لمتولي هذه الوظيفة : مهمندار ، ولا يليها عندهم إلّا صاحب سيف من الأمراء العشراوات ، وكانت في الدولة الفاطمية على ما ذكره ابن الطوير:لا يليها إلّا أعيان العدول ، وأرباب العمائم ، وينعت أبدا بعدي الملك ، وأصل هذه الكلمة الفارسية : مهمان دار (ومعناها ملتقى الضيوف).

ذكر اصطبل الحجريّة

وكان بجوار دار الضيافة : اصطبل الصبيان الحجرية المقدّم ذكرهم ، وموضع هذا الاصطبل اليوم يعرف : بخان الوراقة داخل باب الفتوح القديم ، بسوق المرحلين ، على يسرة من أراد الخروج من باب الفتوح القديم ، تجاه زيادة الجامع الحاكميّ ، ومن حقوق هذا الاصطبل أيضا الموضع الذي فيه الآن القيسارية المعروفة بقيسارية الست التي هي اليوم تجاه المدرسة الصيرمية ، والجملون الصغير ، وكانت بهذه الإصطبل خيول الصبيان الحجرية إحدى طوائف العساكر في زمن الخلفاء الفاطميين.

ذكر مطبخ القصر

وكان بجوار القصر الغربيّ قبالة باب الزهومة من القصر الكبير : مطبخ القصر ، وموضعه الآن : الصاغة تجاه المدارس الصالحية ، ولما كانت مطبخا ، كان يخرج إليه من باب الزهومة ، وذكر ابن عبد الظاهر : أنه كان يخرج من المطبخ المذكورة مدّة شهر رمضان : ألف ومائتا قدر من جميع ألوان الطعام ، تفرّق كل يوم على أرباب الرسوم والضعفاء.

٣٨٤

درب السلسلة : وكان بجوار مطبخ القصر : درب السلسلة ، قال ابن الطوير : ويبيت خارج باب القصر في كل ليلة خمسون فارسا ، فإذا أذن بالعشاء الآخرة داخل القاعة ، وصلى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم وقف على باب القصر أمير يقال له : سنان الدولة بن الكركنديّ ، فإذا علم بفراغ الصلاة ، أمر بضرب النوبات من الطبل والبوق ، ولوائقهما من عدّة وافرة بطرائق مستحسنة مدّة ساعة زمانية ، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة ، فيقول أمير المؤمنين يردّ على سنان الدولة السلام ، فيصقع (١) ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده ، فإذا رفعها أغلق الباب ، وسار حوالي القصر سبع دورات ، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم ، وانصرف المؤذنون إلى خزانتهم هناك ، وترمي السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين ، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قرب الفجر ، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة.

وقال ابن عبد الظاهر : درب السلسلة الذي هو الآن إلى جانب السيوفيين كانت عنده سلسلة منه إلى قبالته ، تعلق كل يوم من الظهر ، حتى لا يعبر راكب تحت القصر ، وهذا الدرب يعرف : بسنان الدولة بن الكركنديّ ، وهذا الدرب هو المختص بالتقفيزة ، وهذه التقفزية أمرها مستظرف ، لا من قبل الحسن ، بل من قبل التعجب من العقول.

ولها خمسة أوقات ، وهي : ليالي العيدين ، وغرّة السنة ، وغرّة شهر رمضان ويوم فتح الخليج ، وهو : أنه يقف راكبا في وسط الزلاقة (٢) التي لباب الذهب ، قبالة الدار القطبية ، فيخرج إليه السلام من الخليفة ، ثم يخدم الرهجية ، ثم يصعد على كندرة باب الزهومة ، وقدّامه دواب المظلة يمنة ويسرة ، والرهجية تخدم وأرباب الضوء ، ومستخدمو الطرق على السلسلة ، فإذا كان الطرف وصلوا إليه ، واجتمعت الرهجية كلهم ، وركب فرسا وعليه ثياب حسنة ، وكشف عن راياته ، وأخذ بيده رمحا ، واجتمعت الرهجية حوله ، ويعبر مشورا ، وأولئك خلفه بالصراخ والصياح بشعار الإمام ، ثم يسير بذاك الجمع وخيل المظلة إلى أبواب القصر ، فيقف عند كل باب تخدم الرهجية إلى أن يعودوا إلى باب الذهب ، ثم إلى دار الوزارة للهناء ، فلم يزالوا كذلك إلى ولاية ابن الكركندي فبطلت هذه السنة في الأيام الآمرية ، وصاحب التقفيزة : ممن واصل آباؤه صحبة المعز لدين الله من بلاد المغرب فكانت هذه سنتهم.

__________________

(١) يصقع : يتحول عن الطريق بحركات توحي بالخضوع والاحترام.

(٢) الزلاقة : عبارة عن حجارة مستوية مرصوفة عند أبواب القصور لتعيق دخول الخيول منها فتنزلق عليها في حال الهجوم.

٣٨٥

ذكر الدار المأمونية

وكان بجوار درب السلسلة الدار المأمونية ، وهي المدرسة السيوفية ، وكانت هذه الدار سكن المأمون ابن البطائحي ، وعرفت قديما ، بقوام الدولة حبوب ، ثمجدّدها المأمون محمد ابن فاتك.

المأمون البطائحي : هو أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك بن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري ، اتصل بخدمة الأفضل بن أمير الجيوش في شهر شوّال سنة إحدى وخمسمائة ، عند ما تغير على تاج المعالي المختار الذي كان اصطنعه ، وفخم أمره وسلم إليه خزائن أمواله ، وكسواته ، وسلم ما كان بيده من الخدمة لمحمد بن فاتك ، فتصرّف فيها ، وقرّر له الأفضل ما كان باسم مختار من العين خاصة دون الإقطاع ، وهو مائة دينار في كل شهر ، وثلاثون دينارا عن جاري الخزائن مضافا إلى الأصناف الراتبة مياومة ومشاهرة ومسانهة فحسن عند الأفضل موقع خدمته ، فاعتمد عليه وسلم له جميع أموره ، وصرّفه في كل أحواله.

فلما كثر عليه الشغل استعان بأخويه أبي تراب حيدرة ، وأبي الفضل جعفر ، فأطلق الأفضل لهما ما وسع به عليهما من المياومة والمشاهرة والمسانهة ، ونعته الأفضل بالقائد ، فصار يخاطب بالقائد ، ويكاتب به ، وصار عنده بمنزلة الأستادار (١) ، فلما قتل الأفضل ليلة عيد الفطر من سنة خمس عشرة وخمسمائة ، قام القائد أبو عبد الله بن فاتك لخدمة الخليفة الآمر بأحكام الله وأطلعه على أموال الأفضل ، وبالغ في مناصحته ، حتى لقد اتهم أنه هو الذي دبر في قتل الأفضل بإشارة الخليفة ، فخلع عليه الآمر في مستهل ذي القعدة ، بمجلس اللعبة من القصر ، وهو المجلس الذي يجلس فيه الخليفة ، ولم يخلع قبله على أحد فيه ، وحل المنطقة من وسطه ، وخلع على ولده ، وحل منطقته ، وخلع على إخوته ، واستمرّ تنفيذ الأمور إليه إلى أن استهل ذو الحجة ، ففي يوم الجمعة ثانية ، خلع عليه من الملابس الخاص في فرد كمّ مجلس اللعبة طوق ذهب مرصع ، وسيف ذهب كذلك ، وسلم على الخليفة ، وتقدّم الأمر للأمراء ، وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه ، وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه ، ومشى في ركابه القوّاد ، على عادة من تقدّمه ، وخرج بتشريف الوزارة ، ودخل من باب العيد راكبا ، ووصل إلى داره ، فضاعف الرسوم ، وأطلق الهبات.

فلما كان يوم الاثنين خامسه اجتمع الأمراء بين يدي الخليفة ، وأحضر السجل في لفافة خاص مذهبة ، فسلمه الخليفة له من يده فقبله ، وسلمه لزمام القصر ، فأمره الخليفة

__________________

(١) الاستادار : هو الذي يتولى قبض مال السلطان أو الأمير وصرفه وتمتثل أوامره فيه. صبح الأعشى ٥ / ٤٢٩.

٣٨٦

بالجلوس إلى جانبه عن يمينه ، وقرىء السجل على باب المجلس ، وهو أوّل سجل قرىء هناك ، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان ، ورسم للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست أن ينقل نسبة الأمراء ، والمحنكين من الآمريّ إلى المأمونيّ ، وكذا الناس أجمع ، ولم يكن أحد ينتسب إلى الأفضل ، ولا لأمير الجيوش ، وقدّمت له الدواة ، فعلم في مجلس الخليفة ، ونعت بالسيد الأجل ، المأمون تاج الخلافة ووجيه الملك ، فخر الصنائع ، ذخر أمير المؤمنين ، عز الإسلام ، فخر الأنام ، نظام الدين ، أمير الجيوش سيف الإسلام ، ناصر الأنام ، كافل قضاة المسلمين ، وهادي دعاة المؤمنين ، وكان يجلس بداره في يومي الأحد والأربعاء للراحة والنفقة في العسكر البساطية إلى الظهر ، ثم يرفع النفقة ، ويحط السماط ، ويجلس بعد العصر ، والكتاب بين يديه ، فينفق في الراجل إلى آخر النهار ، وفي يوم الجمعة يطلق للمقرئين بحضرته خمسة دنانير ، ولكل من هو مستمرّ القراءة على بابه من الضعفاء ، والأجراء مما هو ثابت بأسمائهم : خمسمائة درهم ، ولبقية الضعفاء والمساكين : خمسمائة درهم أخرى.

فإذا توجه يوم الجمعة إلى القرافة يكون المبلغ المذكور مستقرّا لأربابه ، ولم يزل إلى ليلة السبت الرابع من رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة ، فقبض الآمر المذكور عليه ، وعلى إخوته الخمسة (١) مع ثلاثين رجلا من خواصه وأهله ، واعتقله ثم صلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين.

قيل : إن سبب القبض عليه ما بلغ الآمر عنه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلي يغريه بقتل أخيه ، ليقيمه مكانه في الخلافة ، وكان الذي بلّغ الآمر ذلك الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة ، وبلغه أيضا عنه أنه : سير نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن ليضرب سكة عليها ، الإمام المختار محمد بن نزار ، وذكر عنه أنه سمّ شيئا ، ودفعه لقصاد الخليفة ، فنمّ عليه القصاد.

وكان مولد المأمون في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، وكان من ذوي الآراء ، والمعرفة التامّة بتدبير الدول كريما واسع الصدر سفاكا للدماء ، كثير التحرّز والتطلع إلى معرفة أحوال الناس من العامّة والجند ، فكثر الوشاة في أيامه.

حبس المعونة : وكان بجوار الدار المأمونية حبس المعونة ، وموضعه اليوم : قيسارية العنبر.

قال ابن المأمون في سنة سبع عشرة وخمسمائة : تقدّم أمر المأمون إلى الواليين بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقائين وأخذ الحج على المتعيشين منهم بالقاهرة بحضورهم ، متى

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : وعلى أخيه المؤتمن واستولى على أموالهم وذخائرهما ثم قتلهما.

٣٨٧

دعت الحاجة إليهم ليلا ونهارا ، وكذلك يعتمد في القربيين ، وأن يبيتوا على باب كل معونة ، ومعهم عشرة من الفعلة بالطوارىء والمساحي ، وأن يقوما لهم بالعشاء من أموالهما بحكم فقرهم ، انتهى.

وكان حبس المعونة هذا يسجن فيه أرباب الجرائم ، كما هو اليوم السجن المعروف : بخزانة شمائل ، وأما الأمراء ، والأعيان ، فيسجنون : بخزانة البنود ، كما تقدّم ، ولم يزل هذا الموضع سجنا مدّة الدولة الفاطمية ، ومدّة دولة بني أيوب إلى أن عمره : الملك المنصور قلاون قيسارية ، أسكن فيها العنبرانيين في سنة ثمانين وستمائة.

ذكر الحسبة (١) ودار العيار

وكان بجوار حبس المعونة : دكة الحسبة ، ومكانها اليوم يعرف : بالإبازرة ، ومكسر الحطب بجوار سوق القصارين والفحامين.

قال ابن الطوير : وأما الحسبة ، فإنّ من تسند إليه لا يكون إلّا من وجوه المسلمين وأعيان المعدّلين لأنها خدمة دينية ، وله استخدام النوّاب عنه بالقاهرة ومصر ، وجميع أعمال الدولة ، كنوّاب الحكم ، وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوما بعد يوم ، ويطوف نوّابه على أرباب الحرف ، والمعايش ويأمر نوّابه بالختم على قدور الهرّاسين ، ونظر لحمهم ومعرفة من جزاره ، وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات ، ويمنعون من المضايقة فيها ، ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة ، وكذلك مع الحمالين على البهائم ويأمرون السقائين بتغطية الروايا بالأكسية ، ولهم عيار : وهو أربعة وعشرون دلوا ، كل دلو : أربعون رطلا ، وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعوراتهم ، وهي زرق ، وينذرون معلمي المكاتب بأن لا يضربوا الصبيان ضربا مبرّحا ، ولا في مقتل ، وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس ، ويقفون على من يكون سيء المعاملة ، فينهونه بالردع والأدب ، وينظرون المكاييل والموازين ، وللمحتسب النظر في دار العيار ، ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة على المنبر ، ولا يحال بينه ، وبين مصلحة إذا رآها ، والولاة تشدّ معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه : ثلاثون دينارا في كل شهر ، انتهى.

وكان للعيار : مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها ، وجميع الصنج ، وكان ينفق على هذه الدار من الديوان السلطانيّ ، فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب والزجاج ، وغير ذلك من الآلات ، وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم ،

__________________

(١) الحسبة : وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلا له ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب.

صبح الأعشى ٣ / ٢٩٨.

٣٨٨

ويحضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره ، فإن صح ذلك أمضاه ، وإلّا أمر بإعادة عمله ، حتى يصح ، وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار ، فلا تباع الصنج ، والموازين والأكيال ، إلّا بهذه الدار ، ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم ، ومعهم موازينهم ، وصنجهم ومكاييلهم ، فتعير في كل قليل ، فإن وجد فيها الناقص استهلك ، وأخذ من صاحبه لهذه الدار ، وألزم بشراء نظيره ، مما هو محرّر بهذه الدار ، والقيام بثمنه ، ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساط فقط ، والقيام بأجرته فقط ، وما زالت هذه الدار باقية جميع الدولة الفاطمية.

فلما استولى صلاح الدين على السلطنة أقرّ هذه الدار ، وجعلها وقفا على سور القاهرة مع كان جاريا في أوقاف السور من الرباع والنواحي الجارية في ديوان الأسوار ، وما زالت هذه الدار باقية.

اصطبل الجميزة : وكان بجوار القصر الغربيّ من قبليه اصطبل الجميزة من جانب باب الساباط الذي هو الآن : باب سرّ المارستان المنصوريّ ، وقيل له : اصطبل الجميزة من أجل أنه كان في وسطه شجرة جميز كبيرة ، وكان موضع هذا الاصطبل ، تجاه من يخرج من باب الساباط ، فينزل من الحدرة التي هي الآن تجاه باب سرّ المارستان المتوصل منها إلى حارة زويلة ، ويمتدّ فيما حاذاه يسارك ، إذا وقفت بأوّل هذه الحدرة ، حيث الطاحون الكبيرة التي هي الآن في أوقاف المارستان ، وما وراءها ويحاذيها إلى الموضع المعروف اليوم : بالبندقانيين ، وكانت بئره تعرف : ببئر زويلة ، وعليها ساقية تنقل الماء لشرب الخيول ، وموضع هذا البئر اليوم : قيسارية تعرف بقيسارية يونس تجاه درب الأنجب ، وقد شاهدت هذه البئر ، لما أنشأ الأمير يونس الدوا دار هذه القيسارية والربع علوها ، فرأيت بئرا كبيرة جدّا ، وقد عقد على فوهتها عقد ركب فوقه بعض القيسارية ، وترك منها شيء ، ومنها الآن الناس تسقي بالدلاء ، وما زال هذا الاصطبل باقيا إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية ، فحكر وبنى في مكانه الآدار التي هي موجودة الآن ، وحكره جار في أوقاف الصلاح الأزبكيّ ، وقد تقدّم ذكر هذا الاصطبل عند ذكر اصطبل الطارمة ، فانظر رسومه هناك.

دار الديباج (١) : وكان بجوار اصطبل الطارمة من غربيه : دار الديباج ، وهي حيث المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب وما جاورها من جانبها ، وما خلفها إلى الوزيرية ، وكانت هي : دار الوزارة القديمة ، وأوّل من أنشأها : الوزير يعقوب بن يونس بن كاس وزير العزيز بالله ، ثم سكنها الوزير الناصر للدين قاضي القضاة ، وداعي الدعاة علم المجد أبو

__________________

(١) وهي التي يقال لها الوزيرية نسبة إلى الوزير أبي الفرج يعقوب بن كلس وزير المعز بالله الفاطمي وكانت مكان مدرسة الصاحب المعروفة بالصاحبية. صبح الأعشى ج ٣ / ٤٠٢.

٣٨٩

محمد الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن البازوريّ ، وما زالت سكن الوزراء إلى أن قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا ، ووزره المستنصر ، وصار وزيرا مستبدّا ، فأنشأ داره : بحارة برجوان ، وسكنها وسكن من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش بدار القباب التي عرفت : بدار الوزارة الكبرى ، وصارت هذه الدار تعرف : بدار الديباج ، لأنه يعمل فيها الحرير الديباج ، ويتولاها الأماثل والأعيان.

فمن وليها أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح ، وخزائن السروج والصناعات ، فلما انقرضت الدولة الفاطمية بنى الناس في مكان دار الديباج المدرسة السيفية ، وما وراءها من المواضع التي تعرف أماكنها اليوم : بدرب الحريريّ ، وما جاور هذا الدرب إلى المدرسة الصاحبية ، وما بجوارها وما هو في ظهرها ، فصار يعرف خط دار الديباج في زمننا بخط سويقة الصاحب.

الأهراء السلطانية (١) : وكانت أهراء الغلال السلطانية في دولة الخلفاء الفاطميين حيث المواضع التي فيها الآن خزانة شمائل ، وما وراءها إلى قرب الحارة الوزيرية.

قال ابن الطوير : وأما الأهراء فإنها كانت في عدّة أماكن بالقاهرة وهي اليوم : اصطبلات ومناخات ، وكانت تحتوي على ثلثمائة ألف أردب من الغلات ، وأكثر من ذلك.

وكان فيها مخازن يسمى أحدها : بغداي ، وآخر : الفول ، وآخر : القرافة ، ولها الحماة من الأمراء والمشارفين من العدول ، والمراكب واصلة إليها بأصناف الغلات إلى ساحل مصر ، وساحل المقس ، والحمالون يحملون ذلك إليها بالرسائل على يد رؤساء المراكب ، وأمنائها من كل ناحية سلطانية ، وأكثر ذلك من الوجه القبليّ ، ومنها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب والخدم وأرباب الصدقات ، وأرباب الجوامع ، والمساجد ، وجرايات العبيد السودان بتعريفات ، وما ينفق في الطواحين برسم خاص الخليفة ، وهي طواحين مدارها سفل ، وطواحينها علو حتى لا تقارب زبل الدواب ، ويحمل دقيقها للخاص ، وما يختص بالجهات في خرائط من شقق حلبية.

ومن الأهراء تخرج جرايات رجال الأسطول ، وفيها ما هو قديم يقطع بالمساحي ، ويخلط في بعض الجرايات بالجديد بجرايات المذكورين وجرايات السودان ، ومنها ما يستدعي بدار الضيافة لإخباز الرسل ، ومن يتبعهم ، وما يعمل من القمح برسم الكعك لزاد الأسطول ، فلا يفتر مستخدموها من دخل وخرج ولهم جامكية مميزة ، وجرايات برسم أقواتهم ، وشعير لدوابهم وما يقبض من الواصلين بالغلال إلّا ما يماثل العيون المختومة معهم ، وإلّا ذرّي ، وطلب العجز بالنسبة.

__________________

(١) هي المستودعات التي تخزن بها الغلال والأتبان ولا تفتح إلا في الطوارىء بأمر السلطان.

٣٩٠

وذكر ابن المأمون : أن غلّات الوجه القبليّ ، كانت تحمل إلى الأهراء ، وأما الأعمال البحرية ، والبحيرة والجزيرتان والغربية والكفور ، والأعمال الشرقية ، فيحمل منها اليسير ، ويحمل باقيها إلى الإسكندرية ، ودمياط وتنيس ليسير إلى ثغر عسقلان ، وثغر صور ، وإنه كان يسير إليهما في كل سنة مائة وعشرون ألف أردب ، منها العسقلان خمسون ألفا ، ولصور : سبعون ألفا ، فيصير هناك ذخيرة ، ويباع منها عند الغنى عنها.

قال : وكان متحصل الديوان في كل سنة ألف ألف أردب.

وذكر جامع السيرة البازورية : أن المتجر كان يقام به للديوان من الغلة ، وأن الوزير أبا محمد البازوريّ قال للخليفة المستنصر : وهو يومئذ يتقلّد وظيفة قاضي القضاة ، وقد قصر النيل في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ولم يكن بالمخازن السلطانية غلال ، فاشتدّت المسغبة بأمير المؤمنين : إنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أو في مضرّة على المسلمين ، وربما أقحط السعر من مشتراها ، ولا يمكن بيعها ، فتتغير في المخازن وتتلف ، وإنه يقام متجر لا كلفة فيه على الناس ، ويفيد أضعاف فائدة الغلة ، ولا يخشى عليه من تغير في المخازن ، ولا انحطاط سعر ، وهو الصابون والخشب والحديد ، والرصاص ، والعسل ، وما أشبه ذلك ، فأمضى الخليفة ما رآه ، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس وتوسعوا.

٣٩١

ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين ،

ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة

وكان للخلفاء الفاطميين : مناظر كثيرة بالقاهرة ومصر ، والروضة ، والقرافة ، وبركة الحبش ، وظواهر القاهرة ، وكانت لهم عدّة منتزهات أيضا فمن مناظرهم التي بالقاهرة : منظرة الجامع الأزهر ، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج ، ومنظرة الدكة ، ومنظرة المقس ، ومنظرة باب الفتوح ، ومنظرة البعل ، ومنظرة التاج ، والخمس وجوه ، ومنظرة الصناعة بمصر ، ودار الملك ، ومنازل العز ، والهودج بالروضة ، ومنظرة بركة الحبش ، والأندلس بالقرافة وقبة الهواء ، ومنظرة السكرة ، وكان من منتزهاتهم كسر خليج أبي المنجا ، وقصر الورد بالخرقانية ، وبركة الجب.

منظرة الجامع الأزهر : وكان بجوار الجامع الأزهر من قبليه : منظرة تشرف على الجامع الأزهر يجلس الخليفة فيها لمشاهدة ليالي الوقود.

ذكر ليالي الوقود (١) : قال المسبحيّ في حوادث شهر رجب من سنة ثمانين وثلثمائة:وفيه خرج الناس في لياليه على رسمهم في ليالي الجمع ، وليلة النصف إلى جامع القاهرة يعني الجامع الأزهر عوضا عن القرافة ، وزيد فيه في الوقيد على حافات الجامع ، وحول صحنه التنانير ، والقناديل ، والشمع على الرسم في كل سنة ، والأطعمة ، والحلوى والبخور في مجامر الذهب والفضة ، وطيف بها ، وحضر القاضي محمد بن النعمان في ليلة النصف بالمقصورة ، ومعه شهوده ووجوه البلد ، وقدّمت إليه سلال الحلوى والطعام ، وجلس بين يديه القرّاء ، وغيرهم والمنشدون ، والناحة وأقام إلى نصف الليل ، وانصرف إلى داره بعد أن قدّم إلى من معه أطعمة من عنده وبخرهم.

وقال في شعبان وكان الناس في كل ليلة جمعة ، وليلة النصف على مثل ما كانوا عليه في رجب ، وأزيد ، وفي ليلة النصف من شعبان : كان الناس جمع عظيم بجامع القاهرة من الفقهاء ، والقرّاء ، والمنشدين ، وحضر القاضي محمد بن النعمان في جميع شهوده ، ووجوه

__________________

(١) ليالي الوقود : هي أربع ليالي في السنة وهي : ليلة أول رجب وليلة نصفه وليلة أول شعبان وليلة نصفه.

صبح الأعشى ج ٣ / ٥٧٤.

٣٩٢

البلد ، ووقدت التنانير والمصابيح على سطح الجامع ، ودور صحنه ، ووضع الشمع على المقصورة وفي مجالس العلماء ، وحمل إليهم العزيز بالله بالأطعمة ، والحلوى والبخور ، فكان جمعا عظيما.

قال : وفي شهر رجب سنة اثنتين وأربعمائة : قطع الرسم الجاري من الخبز ، والحلوى الذي يقام في هذه الثلاثة الأشهر لمن يبيت بجامع القاهرة في ليالي الجمع ، والأنصاف وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ (١) إلى جامع القاهرة ليلة النصف من رجب ، واجتمع الناس بالقرافة على ما جرت به رسومهم من كثرة اللعب والمزاح.

روى الفاكهيّ في كتاب مكة : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، كان يصيح في أهل مكة ، ويقول : يا أهل مكة أوقدوا ليلة هلال المحرّم فأوضحوا فجاجكم لحاج بيت الله ، واحرسوهم ليلة هلال المحرّم ، حتى يصبحوا ، وكان الأمر على ذلك بمكة في هذه الليلة ، حتى كانت ولاية عبد الله بن محمد بن داود على مكة ، فأمر الناس أن يوقدوا ليلة هلال رجب ، فيحرسوا عمار أهل اليمن ، ففعلوا ذلك في ولايته ، ثم تركوه بعد.

وفي ليلة النصف من رجب سنة خمس عشرة وأربعمائة : حضر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله ، ومعه السيدات ، وخدم الخاصة وغيرهم ، وسائر العامّة والرعايا ، فجلس الخليفة في المنظرة ، وكان في ليلة شعبان أيضا اجتماع لم يشهد مثله من أيام العزيز بالله ، وأوقدت المساجد كلها أحسن وقيد ، وكان مشهدا عظيما بعد عهد الناس بمثله ، لأنّ الحاكم بأمر الله كان أبطل ذلك ، فانقطع عمله.

وقال ابن المأمون : ولما كانت ليلة مستهل رجب ، يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة عملت الأسمطة الجاري بها العادة ، وجلس الخليفة الآمر بأحكام الله عليها ، والأجلّ المأمون الوزير ، ومن جرت عادته بين يديه ، وأظهر الخليفة من المسرّة والانشراح ، ما لم تجريه عادته ، وبالغ في شكره وزيره ، وإطرائه وقال : قد أعدت لدولتي بهجتها ، وجدّدت فيها من المحاسن ما لم يكن ، وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك ، وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم قد زال حكمها ، وكان فيها توسعة وبرّ ونفقات ، وهي ليالي الوقود الأربع ، وقد آن وقتهنّ فأشتهي نظرهنّ ، فامتثل الأمر وتقدّم بأن يحمل إلى القاضي خمسون دينارا يصرفها في ثمن الشمع.

وأن يعتمد الركوب في الأربع الليالي وهي : ليلة مستهل رجب ، وليلة نصفه ، وليلة مستهل شعبان ، وليلة نصفه ، وأن يتقدّم إلى جميع الشهود بأن يركبوا صحبته ، وأن يطلق

__________________

(١) أبو الحسن من قضاة الديار المصرية ولّاه الحاكم العبيدي سنة ٣٩٨ ه‍ وعلت منزلته عنده واستمر في القضاء حوالي سبع سنين ثم ضرب عنقه بوشاية ظالمة وذلك سنة ٤٠٥ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٢٦٢.

٣٩٣

للجوامع والمساجد توسعة في الزيت برسم الوقود ، ويتقدّم إلى متولي بيت المال بأن يهتمّ برسم هذه الليالي من أصناف الحلاوات مما يجب برسم القصور ، ودار الوزارة خاصة.

وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة : وفي الليلة التي صبيحتها مستهل رجب ، حضر القاضي أبو الحجاب يوسف بن أيوب المغربيّ ، ووقع له بما استجدّ إطلاقه في العام الماضي ، وهو خمسون دينارا من بيت المال ، لابتياع الشمع برسم أوّل ليلة من رجب ، واستدعى ما هو برسم التعبيتين ، إحداهما : للمقصورة ، والأخرى : للدار المأمونية بحكم الصيام من مستهل رجب إلى سلخ رمضان ما يصنع في دار الفطرة خشكنانج صغير وبسندود في كل يوم قنطار سكر ومثقالان مسكا ، وديناران مؤنة.

وكان يطلق في أربع ليالي الوقود برسم الجوامع الستة : الأزهر والأقمر والأنور بالقاهرة ، والطولونيّ ، والعتيق بمصر ، وجامع القرافة ، والمشاهد التي تضمنت الأعضاء الشريفة ، وبعض المساجد التي لأربابها وجاهة جملة كبيرة من الزيت الطيب ، ويختص بجامع راشدة ، وجامع ساحل الغلة بمصر والجامع بالمقس يسير قال : ولقد حدّثني القاضي المكين بن حيدرة ، وهو من أعيان الشهود أنّ من جملة الخدم التي كانت بيده مشارفة الجامع العتيق ، وأن القومة بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود بمدّة إلى أن يكملوا ثمانية عشر ألف فتيلة ، وأنّ المطلق برسمه خاصة في كل ليلة برسم وقوده : أحد عشر قنطارا ونصف قنطار زيت طيب. وذكر ركوب القاضي والشهود في الليلة المذكورة على جاري العادة.

قال : وتوجه الوزير المأمون يوم الجمعة ثاني الشهر بموكبه إلى مشهد السيدة نفيسة ، وما بعده من المشاهد ، ثم إلى جامع القرافة ، وبعده إلى الجامع العتيق بمصر ، وقد عمّ معروفه جميع الضعفاء ، وقومة المساجد والمشاهد ، وصلى الجمعة وعند انقضاء الصلاة ، احضر إليه الشريف الخطيب المصحف الذي بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فوقع بإطلاق ألف دينار من ماله ، وأن يصاغ عليه فوق حلية الفضة حلية ذهب ، وكتب عليه اسمه ، وفي الخامس عشر من الشهر المذكور ليلة الوقود جرى الحال في ركوب القاضي ، وشهوده على الترتيب الذي تقدّم في أوّل الشهر ، ولما وصل إلى الجامع وجده قد عبىء في الرواق الذي عن يمين الخارج منه سماط كعك ، وخشكنانج ، وحلوى ، فجلس عليه بشهود ، ونهبه الفقراء ، والمساكين ، وتوجه بعده إلى ما سواه من جامع القرافة وغيره ، فوجد في رواق الجامع المذكور سماطا مثل السماط المذكور ، فاعتمد فيه على ما ذكره ، وله أيضا رسم صدقة في هذا النصف للفقراء ، وأهل الربط ، مما يفرّقه القاضي عشرة دنانير يفرّقها القاضي.

وقال ابن الطوير : إذا مضى النصف من جمادى الآخرة ، وكان عدده عندهم تسعة

٣٩٤

وعشرين يوما ، أمر أن يسبك في خزائن دار أفتكين : ستون شمعة وزن كل شمعة منها : سدس قنطار بالمصريّ ، وحملت إلى دار قاضي القضاة لركوب ليلة مستهل رجب ، فإذا كان بعد صلاة العصر من ذلك اليوم اهتمّ الشهود أيضا ، فمنهم من يركب بثلاث شمعات إلى اثنتين إلى واحدة ، ويمضي أهل مصر منهم إلى القاهرة ، فيصلون المغرب في الجوامع والمساجد ، ثم ينتظرون ركوب القاضي ، فيركب من داره بهيئته ، وأمامه الشمع المحمول إليه موقودا مع المندوبين لذلك من الفرّاشين من الطبقة السفلى ، من كل جانب : ثلاثون شمعة ، وبينهما المؤذنون بالجوامع يذكرون الله تعالى ، ويدعون للخليفة والوزير ، بترتيب مقدّر محفوظ ، ويندب في حجبته : ثلاثة من نوّاب الباب ، وعشرة من الحجاب ، خارجا عن حجاب الحكم المستقرّين ، وعدّتهم : خمسة في زيّ الأمراء ، وفي ركابه القرّاء يطرّبون بالقراءة والشهود وراءه على الترتيب في جلوسهم بمجلس الحكم ، الأقدم فالأقدم ، وحوالي كل واحد ما له من شمع ، فيشقون من أوّل شارع فيه دار القاضي إلى بين القصرين ، وقد اجتمع من العالم في وقت جوازهم ما لا يحصى كثرة رجالا ونساء ، وصبيانا بحيث لا يعرف الرئيس من المرؤوس ، وهو مارّ إلى أن يأتي هو والشهود باب الزمرّذ من أبواب القصر في الرحبة الوسيعة تحت المنظرة العالية في السعة العظيمة من الرحبة المذكورة ، وهي التي تقابل درب قراصيا ، فيحضر صاحب الباب ، ووالي القاهرة والقرّاء ، والخطباء كما شرحنا في المواليد الستة ويترجلون تحتها ريثما يجلس الخليفة فيها ، وبين يديه شمع ويبين شخصه ، ويحضر بين يديه الخطباء الثلاثة ، ويخطبون كالمواليد ، ويذكرون استهلال رجب ، وأن هذا الركوب علامته.

ثم يسلم الأستاذ من الطاقة الأخرى استفتاحا وانصرافا كما ذكرنا ، ثم يركب الناس إلى دار الوزارة ، فيدخل القاضي والشهود إلى الوزير ، فيجلس لهم في مجلسه ويسلمون عليه ، ويخطب الخطباء أيضا بأخف من مقام الخليفة ، ويدعون له ويخرجون عنه ، فيشق القاضي والجماعة القاهرة ، وينزل على باب كل جامع بها ، ويصلي ركعتين ، ثم يخرج من باب زويلة طالبا مصر بغير نظام ووالي القاهرة في خدمته اليوم مستكثرا من الأعوان ، والحفظة في الطرقات إلى جامع ابن طولون ، فيدخل القاضي إليه للصلاة ، فيجد والي مصر عنده للقاء القوم وخدمتهم ، فيدخل المشاهد التي في طريقه أيضا ، فإذا وصل إلى باب مصر ترتب كما ترتب في القاهرة ، وسار شاقا الشارع الأعظم إلى باب الجامع من الزيادة التي يحكم فيها ، فيوقد له التنور الفضة الذي كان معلقا فيه ، وكان مليحا في شكله ، وتعليقه غير منافر في الطول والعرض واسع التدوير فيه عشر مناطق في كل منطقة : مائة وعشرون بزاقة ، وفيه سروات بارزة مثل النخيل في كل واحدة عدّة بزاقات تقرب عدّة ذلك من ثلثمائة ، ومعلق بدائر سفله : مائة قنديل نجومية ، ويخرج له الحاكم فإن كان ساكنا بمصر استقرّ بها وإن كان ساكنا بالقاهرة وقف له والي القاهرة بجامع ابن طولون ، فيودّعه والي مصر ، ويسير معه والي

٣٩٥

القاهرة إلى داره ، فإذا مضى من رجب أربعة عشر يوما : ركب ليلة الخامس عشر كذلك ، وفيه زيارة طلوعه بعد صلاته بجامع مصر إلى القرافة ليصلي في جامعها ، والناس يجتمعون له لينظروه ، ومن معه في كل مكان ، ولا يملون من ذلك فإذا انقضت هذه الليلة : استدعى منه الشمع ليكمل بعضه ، حتى يركب به في أوّل شعبان ، ونصفه على الهيئة المذكورة والأسواق معمورة بالحلواء ، ويتفرّغ الناس لذلك هذه الأربع الليالي.

منظرة للؤلؤة : وكان للخلفاء الفاطميين ، منظرة تعرف : بقصر اللؤلؤة ، وبمنظرة اللؤلؤة على الخليج بالقرب من باب القنطرة ، وكان قصرا من أحسن القصور ، وأعظمها زخرفة ، وهو أحد منتزهات الدنيا المذكورة ، فإنه كان يشرف من شرقيه على البستان الكافوريّ ، ويطل من غربيه على الخليج ، وكان غربيّ الخليج ، إذ ذاك ليس فيه من المباني شيء ، وإنما كان فيه بساتين عظيمة ، وبركة تعرف ببطن البقرة ، فيرى الجالس في قصر اللؤلؤة جميع أرض الطبالة (١) ، وسائر أرض اللوق (٢) ، وما هو من قبليها ، ويرى بحر النيل من وراء البساتين.

قال ابن ميسر : هذه المنظرة بناها العزيز بالله ، ولما ولي برجوان الحاكم بأمر الله بعد أمين الدولة بن عمار الكتاميّ : سكن بمنظرة اللؤلؤة في جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وثلثمائة ، إلى أن قتل ، وفي السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة : أمر الحاكم بأمر الله بهدم اللؤلؤة ، ونهبها ، فهدمت ، ونهبت وبيع ما فيها.

وقال المسبحيّ : وفي سادس عشري ربيع الآخر ، يعني سنة اثنتين وأربعمائة : أمر الحاكم بأمر الله بهدم الموضع المعروف : باللؤلؤة على الخليج موازاة المقس ، وأمر بنهب أنقاضه ، فنهبت كلها ، ثم قبض على من وجد عنده شيء من نهب أنقاض اللؤلؤة واعتقلوا.

وقال ابن المأمون : ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة ، والمقام فيها مدّة النيل على الحكم الأوّل يعني قبل وزارة أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل ، أمر بإزالة ما لم تكن العادة جارية به من مضايقها بالبناء ، ولما بدت زيادة النيل ، وعوّل الخليفة الآمر بأحكام الله على السكن باللؤلؤة أمر الأجلّ الوزير المأمون : بأخذ جماعة الفرّاشين الموقوفين برسم خدمتها بالمبيت بها على سبيل الحراسة لا على سبيل السكن بها ، وعندما بلغ النيل : ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخيم.

وعندما قارب النيل الوفاء : تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته ،

__________________

(١) أرض الطبالة : كانت ممتدة إلى شاطىء النيل القديم تجاه جزيرة الفيل التي كانت في وسط النيل ومكانها اليوم منطقة شبرا بالقاهرة (م. رمزي).

(٢) أرض اللوق : هي المجاورة لجامع الطباخ ومكانها اليوم مدخل شارع الصنافيري تجاه جامع الطباخ بميدان اللوق قسم عابدين. (م. رمزي).

٣٩٦

وأعمامه ، والسيدات كرائمه ، وعماته إلى اللؤلؤة ، وتحوّل المأمون إلى دار الذهب ، وأسكن الشيخ أبا الحسن محمد بن أبي أسامة الغزالة على شاطىء الخليج ، وسكن حسام الملك : حاجب الباب داره على الخليج ، وأمر متولي المعونة أن يكشف الآدر المطلة على الخليج قبليّ اللؤلؤة ، ولا يمكن أحدا من السكن في شيء منها إلّا من كان له ملك ، ومن كان ساكنا بالأجرة ينقل ، ويقام بالأجرة لرب الملك ليسكن بها حواشي الخليفة مدّة سنة ، وقرّر من التوسعة في النفقات ، وما يكون برسم المستخدمين في المبيتات ما يختص برواتب القصور مدّة المقام في اللؤلؤة في أيام النيل مياومة من الغنم والحيوان ، وجميع الأصناف ، وهي جملة كبيرة وأمر متولي الباب أن يندب في كل يوم خروف شواء ، وقنطار خبز ، وكذلك جميع الدروب من يحرسها ، ويطلق لهم برسم الغداء مثل ذلك ، وتكون نوبة دائرة بينهم ، وبقية مستخدمي الركاب ملازمون لأبواب القصر على رسمهم ، وفي يومي الركوب يجتمعون للخدمة إلّا من هو في نوبته فيما رسم له ، وأمر متولي زمام المماليك الخاص أن يكونوا بأجمعهم ، حيث يكون الخليفة ، وفي الليل يبيت منهم عدّة برسم الخدمة تحت اللؤلؤة ، ولهم في كل يوم مثل ما تقدّم ، والرهجية تقسم قسمين أحدهما : على أبواب القصور ، والآخر : على أبواب اللؤلؤة ، وأصحاب الضوء مثل ذلك ، وقرّر للجماعة المقدّم ذكرها في الليل عن رسم المبيت ، وعن ثمن الوقود ما يخرج إليهم مختوما بأسماء كل منهم ويعرضهم متولي الباب في كل ليلة بنفسه عند رواحه وعوده ، وكذلكما يختص بدار الذهب من الحرس عليها من باب سعادة ، ومن باب الخوخة ، ولهم رسوم كما تقدّم لغيرهم والمتفرّجون يخرجون كل ليلة للنزهة عليهم ، ويقيمون إلى بعض الليل حتى ينصرفوا من غير خروج في شيء من ذلك عما يوجبه الشرع ، وفي يومي السلام يمضي الخليفة من قصوره ، بحيث لا يراه ، إلّا أستاذوه وخواصه إلى قاعة الذهب من القصر الكبير الشرقيّ ، ويحضر الوزير على عادته إليه ، فيكون السلام بها على مستمرّ العادة ، والأسمطة بها في يومي الاثنين والخميس ، وتكون الركوبات من اللؤلؤة في يومي السبت والثلاثاء إلى المنتزهات.

وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة ، ولما جرى النيل ، وبلغ خمسة عشر ذراعا : أمر بإخراج الخيام ، والمضارب الديبقيّ ، والديباج وتحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة بحاشيته وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص ، والجهات والأستاذين من جميع الأصناف ، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا ، وأطعمة للبياتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار ، والشهر في طول الليل من باب القنطرة بما دار إلى مسجد الليمونة من التزين من صبيان الخاص والركاب ، والرهجية والسودان ، والحجاب كل طائفة بنقيبها والعرض من متولي الباب واقع بالعدّة في طرفي كل ليلة ، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام ، وتحوّل الوزير المأمون إلى دار الذهب ، وى ٤ لقت التوسعة ، والحال في إطلاق الأسمطة لهم في الليل والنهار مستمرّ.

٣٩٧

وقال ابن عبد الظاهر (١) : المنظرة المعروفة باللؤلؤة على برّ الخليج بناها : الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم يعني بعدما هدمها أبوه الحاكم ، وكانت معدّة لنزهة الخلفاء ، وكان التوصل إليها من القصر يعني القصر الغربيّ ، من باب مراد ، وأظنه فيما ذكر لي : علم الدين بن مماتي الوراق ، لأنه شاهد في كتب دار ابن كوخيا التيقة أنه بابها ، وكان عادة الخلفاء أن يقيموا بها أيام النيل ، ولما حصل التوهم من النزارية ، والحشيشية قبل تصرّفهم لا سيما لصغر سنّ الخليفة ، وقلة حواشيه ، أمر بسدّ باب مراد المذكور الذي يتوصل منه إلى الكافوريّ ، وإلى اللؤلؤة ، وأسكن في بعضها فرّاشين لحفظها ، فإن كان في صبيحة كسر الخليج استؤذن الأفضل ابن أمير الجيوش في فتح باب مراد الذي يتوصل منه إلى اللؤلؤة وغيرها ، فيفتح ويروح الخليفة ليتفرّج هو وأهله من النساء ، ثم يعود ، ويسدّ الباب هذا إلى آخر أيام الأفضل ، فلما راجع الوزير المأمون في ذلك سارع إليه ، فأصلحت وأزيل ما كان أنشئ قبالتها على ما سيذكر في مكانه إن شاء الله تعالى.

ومات بقصر اللؤلؤة من خلفاء الفاطميين : الآمر بأحكام الله ، والحافظ لدين الله ، والفائز ، وحملوا إلى القصر الكبير الشرقيّ من السراديب. ولما قدم نجم الدين أيوب بن شادي من الشام على ولده : صلاح الدين يوسف ، وخرج الخليفة العاضد لدين الله إلى لقائه بصحراء الهليلج بآخر الحسينية عند مسجد تبر (٢) ، أنزل بمنظرة اللؤلؤة ، فسكنها حتى مات في سنة سبع وستين وخمسمائة ، واتفق أن حضر يوما عنده الفقيه نجم الدين عمارة اليمنيّ ، والرضى أبو سالم يحيى الأحدب بن أبي حصيبة الشاعر في قصر اللؤلؤة بعد موت الخليفة العاضد ، فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين أيوب فقال :

يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا

منها وما كان منها لم يكن طرفا

قد عجل الله هذي الدار تسكنها

وقد أعدّ لك الجنات والغرفا

تشرّفت بك عمن كان يسكنها

فالبس بها العزّ ولتلبس بك الشرفا

كانوا بها صدقا والدار لؤلؤة

وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا

فقال الفقيه عمارة يرد عليه :

أثمت يا من هجا السادات والخلفا

وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا

جعلتهم صدفا حلوا بلؤلؤة

والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا

__________________

(١) ابن عبد الظاهر : علي بن محمد بن عبد الظاهر. فاضل من القضاة له (تشريف الأيام والعصور) و (مفاخرة السيف والقلم) توفي سنة ٧١٧ ه‍. أعلام ج ٧ / ٣٣٤.

(٢) مسجد تبر : وتسميه العامة خطأ مسجد تبن. وهو مسجد تبر باسم أحد الأمراء أيام كافور الإخشيدي وهذا المسجد لا يزال قائما إلى اليوم باسم زاوية الشيخ محمد التبري في وسط أرض زراعية تابعة لسراي القبة. (محمد رمزي).

٣٩٨

وإنما هي دار حل جوهرهم

فيها وشف فأسناها الذي وصفا

فقال لؤلؤة عجبا ببهجتها

وكونها حوت الأشراف والشرفا

فهم بسكناهم الآيات إذ سكنوا

فيها ومن قبلها قد أسكنوا الصحفا

والجوهر الفرد نور ليس يعرفه

من البرية إلا كل من عرفا

لو لا تجسمهم فيه لكان على

ضعف البصائر للأبصار مختطفا

فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة

لأن فيه حفاظا دائما ووفا

فلله درّ عمارة لقد قام بحق الوفاء ، ووفى بحسن الحفاظ ، كما هي عادته ، لا جرم أنه قتل في واجب من يهوي كما هي سنة المحبين فالله يرحمه ويتجاوز عنه.

منظرة الغزالة (١) : وكان بجوار منظرة اللؤلؤة منظرة تعرف : بالغزالة على شاطىء الخليج تقابل حمام ابن قرقة وقد خربت هذه المنظرة أيضا ، وموضعها الآن تجاه باب جامع ابن المغربيّ الذي من ناحية الخليج ، وقد خربت أيضا حمام ابن قرقة ، وصار موضعها فندقا بجوار حمام السلطان التي هناك يعرف بفندق عماد ، وموضع منظرة الغزالة اليوم ربع يعرف بربع غزالة إلى جانب قنطرة الموسكيّ في الحدّ الشرقيّ ، وكان يسكن بهذه المنظرة الأمير أبو القاسم بن المستنصر والد الحافظ لدين الله ، ثم سكنها أبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست ، وكان بعد ذلك ينزلها من يتولى الخدمة في الطراز أيام الخلفاء.

قال ابن المأمون : لما ذكر تحوّل الخليفة الأمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة : وأسكن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست الغزالة التي على شاطىء الخليج ، ولم يسكن أحد فيها قبله ممن يجري مجراه ولا كانت إلّا سكن الأمير أبي القاسم ولد المستنصر ، ولد الإمام الحافظ.

قال : وأما ما يذكره الطرّاز ، فالحكم فيه مثل الاستيمار والشائع فيها أنها كانت تشتمل في الأيام الأفضلية على أحد وثلاثين ألف دينار ، فمن ذلك السلف خاصة خمسة عشر ألف دينار قيمة الذهب العراقيّ ، والمصريّ ستة عشر ألف دينار ، ثم اشتملت في الأيام المأمونية على ثلاثة وأربعين ألف دينار ، وتضاعفت في الأيام الآمرية.

وقال ابن الطوير : الخدمة في الطراز ، وينعت بالطراز الشريف ، ولا يتولاه إلّا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف ، وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين ، ومقامه بدمياط ، وتنيس وغيرهما وجارية أمير الجواري ، وبين يديه من المندوبين مائة رجل لتنفيذ الاستعمالات بالقرى ، وله عشاريّ دتماس مجرّد معه ، وثلاثة مراكب من الدكاسات ،

__________________

(١) المنظرة : موضع في مكان مرتفع يعد لاستقبال الزائرين وهذه المنظرة كانت بالقرب من ميدان القمح قرب منظرة اللؤلؤة. صبح الأعشى ج ٣ / ٣٣٣.

٣٩٩

ولها رؤساء ، ونواتية لا يبرحون ونفقاتهم جارية من مال الديون ، فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة التي منها المظلة ، وبدلتها والبدنة واللباس الخاص الجمعيّ ، وغيره هيئ بكرامة عظيمة ، وندب له دابة من مراكيب الخليفة لا تزال تحته حتى يعود إلى خدمته وينزل في الغزالة على شاطىء الخليج ، وكانت من المناظر السلطانية ، وجدّدها شعاع بن شاور ، ولو كان لصاحب الطراز في القاهرة عشرة دور ، لا يمكن من نزوله إلّا بالغزالة ، وتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة ، فيمتثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة ، ويعرض جيع ما معه ، وهو ينبه على شيء فشيء بيد فراشي الخاص في دار الخليفة مكان سكنه ، ولهذا حرمة عظيمة ، ولا سيما إذا وافق استعماله غرضهم. فإذا انقضى عرض ذلك بالمدرج الذي يحضر سلم لمستخدم الكسوات ، وخلع عليه بين يدي الخليفة باطنا ولا يخلع على أحد كذلك سواه ، ثم ينكفئ إلى مكانه ، وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب منه ، ولا يمكن أن يكون إلّا ولدا أو أخا ، فإن الرتبة عظيمة ، والمطلق له من الجامكية في الشهر سبعون دينارا ، ولهذا النائب : عشرون دينارا ، لأنه يتولى عنه إذا وصل بنفسه ، ويقوم إذا غاب في الاستعمال مقامه ومن أدواته أنه إذا عبىء ذلك في الأسفاط : استدعى والي ذلك المكان ليشاهد عند ذلك ، ويكوعن الناس كلهم قياما لحلول نفس المظلة ، وما يليها من خاص الخليفة في مجلس دار الطراز ، وهو جالس في مرتبته ، والوالي واقف على رأسه خدمة لذلك ، وهذا من رسوم خدمته وميزتها.

دار الذهب : وكان بجوار الغزالة : دار الذهب ، وموضعها الآن على يسرة الخارج من باب الخوخة ، فيما بينه وبين باب سعادة ، وكانت مطلة على الخليج في مكانها اليوم دار تعرف : ببهادر الأعسر ، وبقي منها عقد بجوار دار الأعسر يعرف الآن : بقبو الذهب من خطة بين السورين.

قال ابن المأمون : لما ذكر تحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة : ثم أحضر الوزير المأمون وكيله أبا البركات محمد بن عثمان ، وأمره أن يمضي إلى داري الفلك والذهب اللتين على شاطىء الخليج ، فالدار الأولى التي من حيز باب الخوخة بناها فلك الملك ، وذكر أنه من الأستاذين الحاكمية ولم تكن تعرف إلّا بدار الفلك ، ولما بنى الأفضل ابن أمير الجيوش ، الدار الملاصقة لها التي من حيز باب سعادة ، وسماها دار الذهب غلب الاسم على الدارين ، ويصلح ما فسد منهما ، ويضيف إليهما دار الشابورة ، وذكر أن هذه الدار لم تسمّ بهذا الاسم إلّا لأن جزءا منها بيع في أيام الشدّة في زمن المستنصر بشابورة.

قال : وعندما قارب النيل أقاربه ، تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته وأعمامه والسيدات كرائمه ، وعماته إلى اللؤلؤة ، وتحوّل الأجل المأمون بالأجلاء

٤٠٠