كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

في ذكر الجوامع ، عند ذكر الجامع المؤيدي.

باب النصر (١)

كان باب النصر أوّلا دون موضعه اليوم ، وأدركت قطعة من أحد جانبيه ، كانت تجاه ركن المدرسة القاصدية الغربيّ ، بحيث تكون الرحبة التي فيما بين المدرسة القاصدية ، وبين بابي جامع الحاكم القبليين خارج القاهرة ، ولذلك تجد في أخبار الجامع الحاكميّ أنه وضع خارج القاهرة ، فلما كان في أيام المستنصر ، وقدم عليه أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا ، وتقلد وزارته ، وعمر سور القاهرة ، نقل باب النصر ، من حيث وضعه القائد جوهر إلى حيث هو الآن ، فصار قريبا من مصلى العيد ، وجعل له باشورة أدركت بعضها إلى أن احتفرت أخت الملك الظاهر برقوق الصهريج السبيل تجاه باب النصر ، فهدمته ، وأقامت السبيل مكانه ، وعلى باب النصر مكتوب بالكوفيّ في أعلاه : لا إله إلّا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله صلوات الله عليهما.

باب الفتوح (٢)

وضعه القائد جوهر دون موضعه الآن ، وبقي منه إلى يومنا هذا عقده ، وعضادته اليسرى ، وعليه أسطر من الكتابة بالكوفيّ ، وهو برأس حارة بهاء الدين من قبليها دون جدار الجامع الحاكميّ ، وأما الباب المعروف اليوم : بباب الفتوح ، فإنه من وضع أمير الجيوش ، وبين يديه باشورة ، قد ركبها الآن الناس بالبنيان ، لما عمر ما خرج عن باب الفتوح.

أمير الجيوش : أبو النجم بدر الجماليّ كان مملوكا أرمنيا لجمال الدولة بن عمار ، فلذلك عرف : بالجماليّ ، وما زال يأخذ بالجدّ من زمن سبيه فيما يباشره ، ويوطن نفسه على قوّة العزم ، ويتنقل في الخدم ، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر في يوم الأربعاء ثالث عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة ، ثم سار منها كالهارب في ليلة الثلاثاء لأربع عشرة خلت من رجب سنة ست وخمسين ، ثم وليها ثانيا يوم الأحد سادس شعبان سنة

__________________

(١) موضع هذا الباب اليوم تجاه زاوية القاصد الواقعة بشارع باب النصر بين مدخل حارة العطوف وجامع الشهداء (مصطلحات محمد رمزي).

(٢) ويعرف أيضا بباب القوس وكان قائما بشارع باب الفتوح على رأس شارع بين السيارج من الناحية القبلية وقد هدم هذا الباب في سنة ٤٨٠ ه‍ عند ما بنى أمير الجيوش بدر الجمالي سورا من لبن دائرا على القاهرة. ثم ابتنى ابنه الأفضل باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح الموجودين الآن. النجوم الزاهرة ج ٤.

٢٤١

ثمان وخمسين ، فبلغه قتل ولده شعبان بعسقلان ، فخرج في شهر رمضان سنة ستين وأربعمائة ، فثار العسكر ، وأخربوا قصره ، وتقلد نيابة عكا ، فلما كانت الشدّة بمصر من شدّة الغلاء ، وكثرة الفتن ، والأحوال بالحضرة قد فسدت ، والأمور قد تغيرت ، وطوائف العسكر قد شغبت ، والوزراء يقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر والنهي ، والرخاء قد أيس منه ، والصلاح لا مطمع فيه ، ولواته قد ملكت الريف ، والصعيد بأيدي العبيد ، والطرقات قد انقطعت برّا وبحرا إلّا بالخفارة الثقيلة ، فلما قتل بلدكوش (١) : ناصر الدولة حسين بن حمدان ، كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولي لتدبير دولته ، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر ، ولا يبقى أحدا من عسكر مصر ، فأجابه المستنصر إلى ذلك ، فاستخدم معه عسكرا ، وركب البحر من عكا في أوّل كانون ، وسار بمائة مركب بعد أن قيل له : إنّ العادة لم تجر بركوب البحر في الشتاء لهيجانه ، وخوف التلف ، فأبى عليهم ، وأقلع فتمادى الصحو ، والسكون مع الريح الطيبة مدّة أربعين يوما ، حتى كثر التعجب من ذلك ، وعدّ من سعادته ، فوصل إلى تنيس ودمياط ، واقترض المال من تجارها ومياسيرها ، وقام بأمر ضيافته ، وما يحتاج إليه من الغلال : سليمان اللواتيّ كبير أهل البحيرة ، وسار إلى قليوب ، فنزل بها وأرسل إلى المستنصر يقول : لا أدخل إلى مصر حتى تقبض على بلدكوش ، وكان أحد الأمراء ، وقد اشتدّ على المستنصر بعد قتل ابن حمدان ، فبادر المستنصر ، وقبض عليه ، واعتقله بخزانة البنود ، فقدم بدر عشية الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربعمائة ، فتهيأ له أن قبض على جميع أمراء الدولة ، وذلك أنه لما قدم لم يكن عند الأمراء علم من استدعائه ، فما منهم إلّا من أضافه ، وقدّم إليه ، فلما انقضت نوبهم في ضيافته استدعاهم إلى منزله في دعوة صنعها لهم ، وبيت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم الليل ، فإنهم لا بدّ يحتاجون إلى الخلاء ، فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك ، ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه ، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال ، وإقطاع وغيره ، فصار الأمراء إليه وظلوا نهارهم عنده ، وباتوا مطمئنين ، فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء ، وصارت رؤوسهم بين يديه ، فقويت شوكته ، وعظم أمره ، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقوّر ، وقلده وزارة السيف والقلم ، فصارت القضاة والدعاة ، وسائر المستخدمين من تحت يده ، وزيد في ألقابه أمير الجيوش كافل قضاة المسلمين ، وهادي دعاة المؤمنين ، وتتبع المفسدين ، فلم يبق منهم أحدا حتى قتله ، وقتل من أماثل المصريين ، وقضاتهم ووزرائهم جماعة ، ثم خرج إلى الوجه البحريّ ، فأسرف في قتل من هنا لك من لواتة ، واستصفى أموالهم ، وأزاح المفسدين وأفناهم بأنواع القتل ، وصار

__________________

(١) ويقال : بلدكوز ويقال : كمشتكين ويلقب بحسام الدولة من الأمراء القواد في عهد المستنصر بالله الفاطمي. كان غلاما لإلذكر الذي صار زمام مصر بيده بعد أن قتل ناصر الدولة. النجوم الزاهرة ج ٥.

٢٤٢

إلى البرّ الشرقيّ ، فقتل منه كثيرا من المفسدين ، ونزل إلى الإسكندرية ، وقد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد ، فحاصرها أياما من المحرّم سنة سبع وسبعين وأربعمائة ، إلى أن أخذها عنوة ، وقتل جماعة ممن كان بها ، وعمر جامع العطارين من مال المصادرات ، وفرغ من بنائه في ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وأربعمائة ، ثم سار إلى الصعيد ، فحارب جهينة والثعالبة ، وأفتى أكثرهم بالقتل ، وغنم من الأموال ، ما لا يعرف قدره كثرة ، فصلح به حال الإقليم بعد فساده ، ثم جهز العساكر لمحاربة البلاد الشامية ، فصارت إليها غير مرّة ، وحاربت أهلها ، ولم يظفر منها بطائل ، واستناب ولده شاهنشاه ، وجعله وليّ عهده.

فلما كان في سنة سبع وثمانين وأربعمائة مات في ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى منها ، وقد تحكم في مصر تحكم الملوك ، ولم يبق للمستنصر معه أمر ، واستبدّ بالأمور ، فضبطها أحسن ضبط ، وكان شديد الهيبة ، وافر الحرمة مخوف السطوة قتل من مصر خلائق لا يحصيها إلا خالقها ، منها أنه قتل من أهل البحيرة نحو العشرين ألف إنسان إلى غير ذلك من أهل دمياط والإسكندرية ، والغربية والشرقية ، وبلاد الصعيد وأسوان ، وأهل القاهرة ومصر ، إلّا أنه عمر البلاد ، وأصلحها بعد فسادها وخرابها ، بإتلاف المفسدين من أهلها ، وكان له يوم مات نحو الثمانين سنة ، وكانت له محاسن منها : أنه أباح الأرض للمزارعين ثلاث سنين ، حتى ترفهت أحوال الفلاحين ، واستغنوا في أيامه ، ومنها حضور التجار إلى مصر لكثرة عدله بعد انتزاحهم منها في أيام الشدّة ، ومنها كثرة كرمه ، وكانت مدّة أيامه بمصر إحدى وعشرين سنة ، وهو أوّل وزراء السيوف الذين حجروا على الخلفاء بمصر.

ومن آثاره الباقية بالقاهرة : باب زويلة ، وباب الفتوح ، وباب النصر ، وقام من بعده بالأمر ابنه شاهنشاه الملقب بالأفضل بن أمير الجيوش ، وبه وبابنه الأفضل أبهة الخلفاء الفاطمية بعد تلاشي أمرها ، وعمرت الديار المصرية بعد خرابها ، واضمحلال أحوال أهلها ، وأظنه هو الذي أخبر عنه المعز فيما تقدّم من حكاية جوهر عنه ، فإنه لم يتفق ذلك لأحد من رجال دولتهم غيره ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

باب القنطرة

عرف بذلك لأنّ جوهر القائد بنى هناك قنطرة فوق الخليج الذي بظاهر القاهرة ليمشي عليها إلى المقس عند مسير القرامطة إلى مصر في شوّال سنة ستين وثلثمائة.

٢٤٣

باب الشعرية

يعرف بطائفة من البربر يقال لهم : بنو الشعرية ، هم ومزانة وزيارة وهوارة من أحلاف لواتة الذين نزلوا بالمنوفية.

باب سعادة

عرف بسعادة بن حيان ، غلام المعز لدين الله ، لأنه لما قدم من بلاد المغرب بعد بناء القائد جوهر القاهرة نزل بالجيزة ، وخرج جوهر إلى لقائه ، فلما عاين سعادة جوهرا ترجل وسار إلى القاهرة في رجب سنة ستين وثلثمائة ، فدخل إليها من هذا الباب ، فعرف به ، وقيل له : باب سعادة ، ووافى سعادة هذا القاهرة بجيش كبير معه ، فلما كان في شوّال سيره جوهر في عسكر مجر عند ورود الخبر من دمشق بمجيء الحسين بن أحمد القرمطيّ المعروف : بالأعصم ، إلى الشام ، وقتل جعفر بن فلاح ، فسار سعادة يريد الرملة ، فوجد القرمطيّ قد قصدها ، فانحاز بمن معه إلى يافا ، ورجع إلى مصر ، ثم خرج إلى الرملة ، فملكها في سنة إحدى وستين ، فأقبل إليه القرمطيّ ، ففرّ منه إلى القاهرة ، وبها مات لخمس بقين من المحرّم سنة اثنتين وستين وثلثمائة ، وحضر جوهر جنازته ، وصلى عليه الشريف أبو جعفر مسلم ، وكان فيه برّ وإحسان.

الباب المحروق

كان يعرف قديما بباب القرّاطين ، فلما زالت دولة بني أيوب ، واستقل بالملك : الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ (١) ، أوّل من ملك من المماليك بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة ، كان حينئذ أكبر الأمراء البحرية مماليك ، الملك الصالح نجم الدين أيوب ، الفارس أقطاي الجمدار ، وقد استفحل أمره ، وكثرت أتباعه ، ونافس المعز أيبك ، وتزوّج بابنة الملك المظفر صاحب حماه ، وبعث إلى المعز بأن ينزل من قلعة الجبل ، ويخليها له ، حتى يسكنها بامرأته المذكورة ، فقلق المعز منه ، وأهمّه شأنه ، وأخذ يدبر عليه ، فقرّر مع عدّة من مماليكه أن يقفوا بموضع من القلعة عينه لهم ، وإذا جاء الفارس أقطاي فتكوا به ، وأرسل إليه وقت القائلة يستدعيه ليشاوره في أمر مهمّ ، فركب في قائلة يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة في نفر من مماليكه ، وهو آمن مطمئن بما

__________________

(١) التركماني : نسبة إلى أحد أمراء بني رسول الذين استقلوا باليمن وخدموا بني أيوب بمصر وعرفوا خطأ بالتركمان مع أنهم عرب غساسنة. النجوم الزاهرة ج ٧ / ١.

٢٤٤

صار له في الأنفس من الحرمة والمهابة ، وبما يثق به من شجاعته ، فلما صار بقلعة الجبل ، وانتهى إلى قاعة العواميد عوّق من معه من المماليك عن الدخول معه ، ووثب به المماليك الذين أعدّهم المعزّ ، وتناولوه بالسيوف ، فهلك لوقته ، وغلقت أبواب القلعة ، وانتشر الصوت بقتله في البلد ، فركب أصحابه وخشداشيته (١) ، وهم نحو السبعمائة فارس إلى تحت القلعة ، وفي ظنهم أنّ الفارس أقطاي لم يقتل ، وإنما قبض عليه السلطان ، وإنهم يقاتلونه حتى يطلقه لهم ، فلم يشعروا إلّا برأس الفارس أقطاي ، وقد ألقيت عليهم من القلعة ، فانفضوا لوقتهم ، وتواعدوا على الخروج من مصر إلى الشام ، وأكابرهم يومئذ بيبرس البندقداريّ ، وقلاون الإلفيّ ، وسنقر الأشقر ، وبيسري ، وسكز ، وبرامق ، فخرجوا في الليل من بيوتهم بالقاهرة إلى جهة باب القرّاطين ، ومن العادة أن تغلق أبواب القاهرة بالليل ، فألقوا النار في الباب حتى سقط من الحريق ، وخرجوا منه ، فقيل له من ذلك الوقت : الباب المحروق وعرف به ، وأما القوم فإنهم ساروا إلى الملك الناصر يوسف بن العزيز صاحب الشام ، فقبلهم وأنعم عليهم ، وأقطعهم إقطاعات ، واستكثر بهم ، وأصبح المعز ، وقد علم بخروجهم إلى الشام ، فأوقع الحوطة على جميع أموالهم ونسائهم وأولادهم وعامّة تعلقاتهم ، وسائر أسبابهم ، وتتبعهم ونادى عليهم في الأسواق بطلب البحرية ، وتحذير العامّة من إخفائهم ، فصار إليه من أموالهم ما ملأ عينه ، واستمرّت البحرية في الشام إلى أن قتل المعز أيبك ، وخلع ابنه المنصور ، وتسلطن الأمير قطز ، فتراجعوا في أيامه إلى مصر ، وآلت أحوالهم إلى أن تسلطن منهم : بيبرس وقلاون ، ولله عاقبة الأمور.

باب البرقية (٢)

__________________

(١) خشداشية : ج. خشداش من الفارسية (خواجة تاش) أي الشريك في السيد وتطلق هذه الكلمة على المملوك ينشأ مع مملوك آخر في خدمة سيده وأحد مشترك فهما مولياه. النجوم الزاهرة ج ٧ / ٩.

(٢) في الأصل هكذا لا يوجد شرح ولا تعليق.

٢٤٥

ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من

مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم

إعلم أنه كان للخلفاء الفاطميين بالقاهرة ، وظواهرها : قصور ومناظر ، منها : القصر الكبير الشرقيّ الذي وضعه القائد جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة ، ومنها : القصر الصغير الغربيّ ، والقصر اليافعيّ ، وقصر الذهب ، وقصر الأقيال ، وقصر الظفر ، وقصر الشجرة ، وقصر الشوك ، وقصر الزمرّذ ، وقصر النسيم ، وقصر الحريم ، وقصر البحر ، وهذه كلها قاعات ، ومناظر من داخل سور القصر الكبير ، ويقال لها : القصور الزاهرة ، ويسمى مجموعها : القصر ، وكان بجوار القصر الغربيّ : الميدان والبستان الكافوريّ ، وكان لهم عدّة مناظر وآدر سلطانية غير هذه القصور ، منها : دار الضيافة ، ودار الوزارة ، ودار الوزارة القديمة ، ودار الضرب ، والمنظرة بالجامع الأزهر ، والمنظرة بجوار الجامع الأقمر ، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج بظاهر القاهرة ، ومنظرة الغزالة ، ودار الذهب ، ومنظرة المقس ، ومنظرة الدكة والبعل ، والخمس وجوه ، والتاج وقبة الهواء ، والبساتين الجيوشية ، والبستان الكبير ، ومنظرة السكرة ، والمنظرة ظاهر باب الفتوح ، ودار الملك بمدينة مصر ، ومنازل العز بها ، ومنظرة الصناعة بالساحل ، ومنظرة بجوار جامع القرافة الكبرى المعروف اليوم : بجامع الأولياء والأندلس بالقرافة ، والمنظرة ببركة الحبش ، وسأذكر من أخبار هذه الأماكن في مدّة الدولة الفاطمية ، وما آل إليه حالها بحسب ما انتهى إليّ علمه إن شاء الله تعالى.

القصر الكبير

هذا القصر كان في الجهة الشرقية من القاهرة ، فلذلك يقال له : القصر الكبير الشرقيّ ، ويسمى : القصر المعزي لأنّ المعز لدين الله أبا تميم معدّا هو الذي أمر عبده ، وكاتبه جوهرا ببنائه ، حين سيره من رمادة أحد بلاد إفريقية بالعساكر إلى مصر ، وألقى إليه ترتيبه ، فوضعه على الترتيب الذي رسمه له ، ويقال : إن جوهرا لما أسسه في الليلة التي أناخ قبلها في موضعه ، وأصبح رأي فيه ازورارات غير معتدلة لم تعجبه ، فقيل له في تغييرها ، فقال : قد

٢٤٦

حفر في ليلة مباركة ، وساعة سعيدة ، فتركه على حاله.

وكان ابتداء وضعه مع وضع أساس سور القاهرة في ليلة الأربعاء الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، وركّب عليه بابان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ، ثم إنه أدار عليه سورا محيطا به في سنة ستين وثلثمائة ، وهذا القصر كان دار الخلافة ، وبه سكن الخلفاء إلى آخر أيامهم ، فلما انقرضت الدولة على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، أخرج أهل القصر منه وأسكن فيه الأمراء ، ثم خرب أوّلا فأوّلا.

وذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة عن مرهف بوّاب باب الزهومة (١) أنه قال : أعلم هذا الباب المدّة الطويلة ، وما رأيته دخل إليه حطب ، ولا رمي منه تراب قال : وهذا أحد أسباب خرابة ، لوقود أخشابه ، وتكوين ترابه ، قال : ولما أخذه صلاح الدين ، وأخرج من كان به كان فيه اثنا عشر ألف نسمة ، ليس فيهم فحل إلا الخليفة ، وأهله وأولاده ، فأسكنهم دار المظفر بحارة برجوان (٢) ، وكانت تعرف : بدار الضيافة ، قال : ووجد إلى جانب القصر بئر تعرف ببئر الصنم ، كان الخلفاء يرمون فيها القتلى ، فقيل : إنّ فيها مطلبا ، وقصد تغويرها ، فقيل : إنها معمورة بالجانّ ، وقتل عمارها جماعة من أشياعه ، فردمت وتركت ، انتهى.

وكان صلاح الدين لما أزال الدولة أعطى هذا القصر الكبير لأمراء دولته ، وأنزلهم فيه ، فسكنوه وأعطى القصر الصغير الغربيّ لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب ، فسكنه وفيه ولد له ابنه الكامل ناصر الدين محمّد ، وكان قد أنزل والده نجم الدين أيوب بن شادي في منظرة اللؤلؤة ، ولما قبض على الأمير داود ابن الخليفة العاضد ، وكان وليّ عهد أبيه ، وينعت بالحامد لله اعتقله وجميع إخوته ، وهم : أبو الأمانة جبريل ، وأبو الفتوح ، وابنه أبو القاسم ، وسليمان بن داود بن العاضد ، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد ، وإسماعيل بن العاضد ، وجعفر بن أبي الطاهر بن جبريل ، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ وجماعة ، فلم يزالوا في الاعتقال بدار المظفر وغيرها إلى أن انتقل الكامل محمد بن العادل من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل ، فنقل معه ولد العاضد وإخوته

__________________

(١) هو من الأبواب الغربية للقصر الكبير سمي بذلك لأن اللحوم وحوائج الطعام التي كانت تدخل إلى مطبخ القصر كان يدخل بها من هذا الباب وكان من داخل الزقاق المشهور الآن بخان الخليلي وموضعه اليوم في أول شارع الخليلي من جهة شارع القمصانجية من شارع بين القصرين. والزهومة : الزّفر.

(مصطلحات محمد رمزي).

(٢) حارة برجوان : منسوبة إلى الخادم برجوان الذي كان من جملة خدام القصر في أيام العزيز بالله وكان برجوان هذا مدبر المملكة في عهد الحاكم بأمر الله ، وهذه الحارة الآن بقسم الجمالية. (مصطلحات محمد رمزي).

٢٤٧

وأولاد عمه ، واعتقلهم بها ، وفيها مات داود بن العاضد ، ولم يزل بقيتهم معتقلين بالقلعة ، إلى أن استبدّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ ، فأمر في سنة ستين بالإشهاد على كمال الدين إسماعيل بن العاضد ، وعماد الدين أبي القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد ، وبدر الدين عبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد أن جميع المواضع التي قبليّ المدارس الصالحية من القصر الكبير ، والموضع المعروف بالتربة باطنا وظاهرا بخط الخوخ السبع ، وجميع الموضع المعروف بالقصر اليافعي (١) بالخط المذكور ، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور ، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور ، وجميع الموضع المعروف : بخزائن السلاح السلطانية ، وما هو بخطه ، وجميع الموضع المعروف بسكن أولاد شيخ الشيوخ وغيرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحديث النبويّ الكاملية ، وجميع الموضع المعروف بالقصر الغربيّ ، وجميع الموضع المعروف بدار القنطرة بخط المشهد الحسينيّ ، وجميع الموضع المعروف بدار الضيافة بحارة برجوان ، وجميع الموضع المعروف بدار الذهب بظاهر القاهرة ، وجميع الموضع المعروف باللؤلؤة (٢) ، وجميع قصر الزمرّذ ، وجميع البستان (٣) الكافوريّ ، ملك لبيت المال بالنظر المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ من وجه صحيح شرعيّ ، لا رجعة لهم فيه ، ولا لواحد منهم في ذلك ، ولا في شيء منه ولاء ، ولا شبهة بسبب يد ولا ملك ، ولا وجه من الوجوه كلها خلا ما في ذلك من مسجد لله تعالى أو مدفن لآبائهم ، فأشهدوا عليهم بذلك ، وورخوا الإشهاد بالثالث عشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة ، وأثبت على يد قاضي القضاة الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ ، وتقرّر مع المذكورين أنه مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التي عاقد عليها وكلاؤهم ، واتصلوا إليه يحاسبوا به من جملة ما تحرّر ثمنه عند وكيل بيت المال ، وقبضت أيدي المذكورين عن التصرّف في الأماكن المذكورة ، وغيرها مما هو منسوب إلى آبائهم ، ورسم ببيع ذلك ، فباعه وكيل بيت المال كمال الدين ظافر شيئا بعد شيء ، ونقضت تلك المباني ، وابتنى في مواضعها على غير تلك الصفة من المساكن وغيرها كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وكان هذا القصر يشتمل على مواضع منها :

قاعة الذهب : وكان يقال لقاعة الذهب : قصر الذهب ، وهو أحد قاعات القصر الذي

__________________

(١) في النجوم الزاهرة : (القصر النافعي) وليس اليافعي. ج ٤ / ٥١.

(٢) منظرة اللؤلؤة : بناها العزيز بالله وجددها الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي ومحلها اليوم مدرسة الفرير بشارع الشعراني بقسم الجمالية وكانت نزهة الخلفاء الفاطميين وبها قصورهم. (مصطلحات محمد رمزي).

(٣) كان بستانا قبل بناء القاهرة واقعا في المنطقة التي تجد اليوم من الشمال بشارع أمير الجيوش ومن الغرب بشارع الخليج المصري ولما خرب هذا البستان بني في مكانه الدور والمساكن وغيرها.

(مصطلحات محمد رمزي).

٢٤٨

هو قصر المعز لدين الله معدّ ، وبنى قصر الذهب العزيز بالله نزار بن المعز ، وكان يدخل إليه من باب الذهب الذي كان مقابلا للدار القطبية التي هي اليوم المارستان المنصوريّ ، ويدخل إليه أيضا من باب البحر الذي هو الآن تجاه المدرسة الكاملية ، وجدّد هذا القصر من بعد العزيز الخليفة المستنصر في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ، وبهذه القاعة كانت الخلفاء تجلس في الموكب يوم الاثنين ، ويوم الخميس ، وبها كان يعمل سماط شهر رمضان للأمراء ، وسماط العيدين ، وبها كل سرير الملك.

هيئة جلوس الخليفة بمجلس الملك : قال الفقيه أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز : وكان وصول المعز لدين الله إلى قصره بمصر في يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة ، ولما وصل إلى قصره خرّ ساجدا ، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه ، واستقرّ في قصره بأولاده وحشمه ، وخواص عبيده ، والقصر يومئذ يشتمل على ما فيه من عين ، وورق ، وجوهر ، وحلى ، وفرش ، وأوان ، وثياب وسلاح ، وأسفاط وأعدال ، وسروج ولجم ، وبيت المال بحاله بما فيه ، وفيه جميع ما يكون للملوك ، وللنصف من رمضان جلس المعجز في قصره على السرير الذهب الذي عمله عبده القائد جوهر في الإيوان الجديد ، وأذن بدخول الأشراف أوّلا ، ثم أذن بعدهم للأولياء ، ولسائر وجوه الناس ، وكان القائد جوهر قائما بين يديه يقدّم الناس قوما بعد قوم ، ثم مضى القائد جوهر ، وأقبل بهديته التي عباها ظاهرة يراها الناس ، وهي : من الخيل مائة وخمسون فرسا مسرجة ملجمة منها مذهب ، ومنها مرصع ، ومنها معنبر ، وإحدى وثلاثون قبة على نوق بخاتي بالديباج ، والمناطق والفرش منها تسعة بديباج مثقل ، وتسع نوق مجنوبة مزينة بمثقل ، وثلاثة وثلاثون بغلا منها سبعة مسرجة ملجمة ، ومائة وثلاثون بغلا للنقل ، وتسعون نجيبا ، وأربعة صناديق مشبكة ، يرى ما فيها ، وفيها أواني الذهب والفضة ، ومائة سيف محلى بالذهب والفضة ، ودرجان من فضة مخرقة فيها جوهر ، وشاشية مرصعة في غلاف وتسعمائة ما بين سفط وتخت فيها سائر ما أعدّ له من ذخائر مصر.

وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسية التي عملها للكعبة على إيوان قصره ، وسعتها : اثنا عشر شبرا في اثني عشر شبرا ، وأرضها ديباج أحمر ، ودورها اثنا عشر هلال ذهب ، في كل هلال أترجة ذهب مسبك ، جوف كل أترجة خمسون درة كبار كبيض الحمام ، وفيها الياقوت الأحمر ، والأصفر ، والأزرق ، وفي دورها كتابة آيات الحج بزمرّذ أخضر قد فسر ، وحشو الكتابة در كبير لم ير مثله ، وحشو الشمسية : المسك المسحوق يراها الناس في القصر ، ومن خارج القصر لعلوّ موضعها ، وإنما نصبها عدّة فرّاشين ، وجرّوها لثقل وزنها.

وقال في كتاب الذخائر والتحف : وما كان بالقصر من ذلك إن وزن ما استعمل من الذهب الإبريز الخالص في سرير الملك الكبير ، مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال ووزن

٢٤٩

ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد البازوري من الذهب أيضا ثلاثون ألف مثقال ، وإنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه ، وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهبا ، وعشرين ألف درهم مخرّقة ، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه ، وأن في الشمسية التي لم تتمّ من الذهب سبعة عشر ألف مثقال.

وقال المرتضى أبو محمد عبد السلام بن محمد بن الحسن بن عبد السلام بن الطوير الفهريّ القيسرانيّ : الكاتب المصريّ في كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين الفاطمية والصلاحية ، الفصل العاشر في ذكر هيئتهم في الجلوس العام بمجلس الملك ، ولا يتعدّى ذلك يومي الاثنين والخميس ، ومن كان أقرب الناس إليهم ، ولهم خدم لا تخرج عنهم ، وينتظر لجلوس الخليفة أحد اليومين المذكورين ، وليس على التوالي بل على التفاريق ، فإذا تهيأ ذلك في يوم من هذه الأيام استدعى الوزير من داره صاحب الرسالة على الرسم المعتاد في سرعة الحركة ، فيركب في أبهته ، وجماعته على الترتيب المقدّم ذكره يعني في ذكر الركوب أوّل العام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب ، فيسير من مكان ترجله عن دابته بدهليز العمود إلى مقطع الوزارة ، وبين يديه أجلاء أهل الإمارة ، كل ذلك بقاعة الذهب التي كان يسكنها السلطان بالقصر ، وكان الجلوس قبل ذلك بالإيوان الكبير الذي هو خزائن السلاح في صدره على سير الملك ، وهو باق في مكانه إلى الآن من هذا المكان إلى آخر أيام المستعلي ، ثم إنّ الآمر نقل الجلوس في هذا المكان ، واسمه مكتوب بأعلى باذهنجه (١) إلى اليوم ، ويكون المجلس المذكور معلقا فيه ستور الديباج شتاء ، والدبيقيّ صيفا ، وفرش الشتاء بسط الحرير عوضا عن الصوف مطابقا لستور الديباج ، وفرش الصيف مطابقا لستور الديبقيّ ، ما بين طبري وطبرستاني مذهب معدوم المثل ، وفي صدره : المرتبة المؤهلة لجلوسه في هيئة جليلة على سرير الملك المغشى بالقرقوبيّ ، فيكون وجه الخليفة عليه قبالة وجوه الوقوف بين يديه ، فإذا تهيأ الجلوس استدعى الوزير من المقطع إلى باب المجلس المذكور ، وهو مغلق وعليه ستر ، فيقف بحذائه ، وعن يمينه زمام القصر ، وعن يساره زمام بيت المال ، فإذا انتصب الخليفة على المرتبة وضع أمين الملك مفلح أحد الأستاذين المحنكين (٢) الخواص الدواة مكانها من المرتبة ، وخرج من المقطع الذي يقال له فردا لكم ، فإذا الوزير واقف أمام باب المجلس ، وحواليه الأمراء المطوّقون أرباب الخدم

__________________

(١) الباذهنج : كلمة فارسية معناها : منفذ التهوية والإضاءة. يوجد عادة فوق أسطح العمائر وله أشكال مختلفة يسمح بدخول الشمس شتاء والنسيم صيفا. أخبار مصر لابن المأمون ص ٢٣٥.

(٢) الأستاذون : هم المعروفون بالخدام والطواشية وكان لهم في دولتهم المكانة الجليلة ومنهم كان أرباب الوظائف الخاصة بالخليفة وأجلّهم المحنكون وهم الذين يدورون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة. الألقاب الإسلامية.

٢٥٠

الجليلة ، وغيرهم ، وفي خلالهم قرّاء الحضرة ، فيشير صاحب المجلس إلى الأستاذين ، فيرفع كل منهم جانب الستر ، فيظهر الخليفة جالسا بمنصبه المذكور ، فتستفتح القرّاء بقراءة القرآن الكريم ، ويسلم الوزير بعد دخوله إليه ، فيقبل يديه ورجليه ، ويتأخر مقدار ثلاثة أذرع ، وهو قائم قدر ساعة زمانية ، ثم يؤمر بأن يجلس على الجانب الأيمن ، وتطرح له مخدّة تشريفا ، ويقف الأمراء في أماكنهم المقرّرة ، فصاحب الباب ، واسفهسلار (١) العساكر من جانبي الباب يمينا ويسارا ، ويليهم من خارجه لاصقا بعتبته زمام الآمرية والحافظية كذلك ، ثم يرتبهم على مقاديرهم ، فكل واحد لا يتعدّى مكانه هكذا إلى آخر الرواق ، وهو الإفريز العالي عن أرض القاعة ، ويعلوه الساباط على عقود القناطر التي على العهد هناك ، ثم أرباب القصب والعماريات يمنة ويسرة كذلك ، ثم الأماثل ، والأعيان من الأجناد المترشحين للتقدمة ، ويقف مستندا للصدر الذي يقابل باب المجلس : بوّاب الباب ، والحجاب ، ولصاحب الباب في ذلك المحل الدخول والخروج ، وهو الموصل عن كل قائل ما يقول ، فإذا انتظم ذلك النظام ، واستقرّ بهم المقام ، فأوّل ماثل للخدمة بالسلام : قاضي القضاة ، والشهود المعروفون بالاستخدام ، فيجيز صاحب الباب القاضي دون من معه ، فيسلم متأدّبا ، ويقف قريبا ، ومعنى الأدب في السلام ، أنه يرفع يده اليمنى ، ويشير بالمسبحة ، ويقول بصوت مسموع : السلام على أمير المؤمنين ، ورحمة الله وبركاته ، فيتخصص بهذا الكلام دون غيره من أهل السلام ، ثم يسلم بالأشراف الأقارب زمامهم ، وهو من الأستاذين المحنكين ، وبالأشراف الطالبيين نقيبهم ، وهو من الشهود المعدّلين ، وتارة يكون من الأشراف المميّزين ، فيمضي عليهم كذلك ساعتان زمانيتان أو ثلاث ، ويخص بالسلام في ذلك الوقت خلع عليه : لقوص ، أو الشرقية أو الغربية أو الإسكندرية ، فيشرّفون بتقبيل القبة ، فإن دعت حاجة الوزير إلى مخاطبة الخليفة في أمر قام من مكانه ، وقرب منه منحنيا على سيفه ، فيخاطبه مرّة أو مرّتين ، ثم يؤمر الحاضرون ، فيخرجون حتى يكون آخر من يخرج الوزير بعد تقبيل يد الخليفة ورجله ، ويخرج فيركب على عادته إلى داره ، وهو مخدوم بأولئك ، ثم يرخي الستر ، ويغلق باب المجلس إلى يوم مثله ، فيكون الحال كما ذكر ، ويدخل الخليفة إلى مكانه المستقرّ فيه ، ومعه خواص أستاذيه ، وكان أقرب الناس إلى الخلفاء : الأستاذون المحنكون ، وهم أصحاب الأنس لهم ، ولهم من الخدم ما لا يتطرّق إليه سواهم ، ومنهم زمام القصر ، وشاد التاج الشريف ، وصاحب بيت المال ، وصاحب الدفتر ، وصاحب الرسالة ، وزمام الأشراف الأقارب ، وصاحب المجلس ، وهم المطلعون على أسرار الخليفة ، وكانت لهم طريقة محمودة في بعضهم بعضا ، منها : أنه متى ترشح أستاذ للتحنيك ، وحنك : حمل إليه كل واحد من المحنكين بدلة من ثياب ، ومنديلا وفرشا

__________________

(١) اسفهسلار : ويقال أيضا : اسفسلار واسباسلار وهو لفظ مركب من لفظين فارسي وتركي ومعناه : مقدم العسكر أو قائد الجيش. الألقاب الإسلامية ص ١٥٧.

٢٥١

وسيفا ، فيصبح لاحقا بهم ، وفي يديه مثل ما في أيديهم ، وكان لا يركب أحد في القصر إلا الخليفة ، ولا ينصرف ليلا ونهارا إلا كذلك ، وله في الليل شدّادات من النساء يخدمن البغلات والحمير الإناث للجواز في السراديب القصيرة الأقباء ، والطلوع على الزلاقات إلى أعالي المناظر والأماكن ، وفي كل محلة من محلات القصر فسقية مملوءة بالماء خيفة من حدوث حريق في الليل.

كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة

قال ابن الطوير : فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان ، رتب عمل السماط كل ليلة بالقاعة بالقصر إلى السادس والعشرين منه ، ويستدعى له : قاضي القضاة ليالي الجمع توقيرا له ، فأما الأمراء ، ففي كل ليلة منهم قوم بالنوبة ، ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم ، وأهاليهم ، ويكون حضورهم بمسطور يخرج إلى صاحب الباب ، وأسفهسلاره ، فيعرف صاحب كل نوبة ليلته ، فلا يتأخر ويحضر الوزير ، فيجلس صدره ، فإن تأخر كان ولده أو أخوه ، وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب ، ويهتم فيه اهتماما عظيما تاما بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة ، والأغذية الرائقة ، وهو مبسوط في طول القاعة ، مادّ من الرواق إلى ثلثي القاعة المذكورة ، والفرّاشون قيام لخدمة الحاضرين ، وحواشي الأستاذين يحضرون الماء المبخر في كيزان الخزف برسم الحاضرين ، ويكون انفصالهم العشاء الآخرة ، فيعمهم ذلك ، ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعض ، ويأخذ الرجل الواحد ما يكفي جماعة ، فإذا حضر الوزير أخرج إليه مما هو بحضرة الخليفة ، وكانت يده فيه تشريفا له ، وتطييبا لنفسه ، وربما حمل لسحوره من خاص ما يعين لسحور الخليفة نصيب وافر ، ثم يتفرّق الناس إلى أماكنهم بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين ، قال : ومبلغما ينفق في شهر رمضان لسماطه مدّة سبعة وعشرين يوما ثلاثة آلاف دينار.

عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة

قال الأمير المختار عز الملك بن عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز المسبحيّ في تاريخه الكبير : وفي آخر يوم منه يعني شهر رمضان سنة ثمانين وثلثمائة ، حمل يانس الصقلبي صاحب الشرطة السفلى السماط ، وقصور السكر والتماثيل ، وأطباقا فيها تماثيل حلوى ، وحمل أيضا عليّ بن سعد المحتسب القصور وتماثيل السكر.

وقال ابن الطوير : فأما الأسمطة الباطنة التي يحضرها الخليفة بنفسه ، ففي يوم عيد الفطر : اثنان ، ويوم عيد النحر : واحد ، فأما الأوّل من عبيد الفطر ، فإنه يعين في الليل بالإيوان قدّام الشباك الذي يجلس فيه الخليفة ، فيمدّ ما مقداره ثلثمائة ذراع في عرض سبعة

٢٥٢

أذرع من الخشكنان ، والفانيذ ، والبسندود المقدّم ذكر عمله بدار الفطرة ، فإذا صلى الفجر في أوّل الوقت حضر إليه الوزير ، وهو جالس في الشباك ، ومكن الناس من ذلك الممدود ، فأخذ وحمل ونهب ، فيأخذه من يأكله في يومه ، ومن يدّخره لغده ، ومن لا حاجة له به ، فيبيعه ويتسلط عليه أيضا حواشي القصر المقيمون هناك ، فإذا فرغ من ذلك ، وقد بزغت الشمس ركب من باب الملك بالإيوان ، وخرج من باب العيد إلى المصلى ، والوزير معه كما وصفنا في هيئة ركوب هذا العيد في فصله مخليا لقاعة الذهب لسماط الطعام ، فينصب له سرير الملك قدّام باب المجلس في الرواق ، وينصب فيه مائدة من فضة ، ويقال لها : المدوّرة ، وعليها أواني الفضيات والذهبيات ، والصيني الحاوية للأطعمة الخاص الفائحة الطيب الشهية من غير خضراوات ، سوى الدجاج الفائق المسمن المعمول بالأمزجة الطيبة النافعة ، ثم ينصب السماط أمام السرير إلى باب المجلس قبالته ، ويعرف بالمحول طول القاعة ، وهو اليوم الباب الذي يدخل منه إليها من باب البحر الذي هو باب القصر اليوم ، والسماط خشب مدهون شبه الدكك اللاطية ، فيصير من جمعه للأواني سماطا عاليا في ذلك الطول ، وبعرض عشرة أذرع ، فيفرش فوق ذلك الأزهار ، ويرص الخبز على حافتيه سواميذ كل واحد ثلاثة أرطال من نقيّ الدقيق ، ويدهن وجهها عند خبزها بالماء ، فيحصل لها بريق ، ويحسن منظرها ، ويعمر داخل ذلك السماط على طوله بأحد وعشرين طبقا في كل طبق أحد وعشرون ثنيا سمينا مشويا ، وفي كل من الدجاج والفراريج وفراخ الحمام ثلثمائة وخمسون طائرا ، فيبقى طائلا مستطيلا ، فيكون كقامة الرجل الطويل ، ويسوّر بشرائح الحلواء اليابسة ، ويزين بألوانها المصبغة ، ثم يسدّ خلل تلك الأطباق بالصحون الخزفية التي في كل واحد منها سبع دجاجات ، وهي مترعة بالألوان الفائقة من الحلواء المائعة والطباهجة (١) المشققة ، والطيب غالب على ذلك كله ، فلا يبعد أن تناهز عدّة الصحون المذكورة خمسمائة صحن ، ويرتب ذلك أحسن ترتيب من نصف الليل بالقاعة إلى حين عود الخليفة من المصلى ، والوزير معه ، فإذا دخل القاعة ، وقف الوزير على باب دخول الخليفة ، لينزع عنه الثياب العيدية التي في عمامتها السمة ، ويلبس سواها من خزائن الكسوات الخاصة التي قدّمنا ذكرها ، وقد عمل بدار الفطرة ، قصران من حلى في كلواحد سبعة عشر قنطارا ، وحملا ، فمنهما واحد يمضي به من طريق قصر الشوك إلى باب الذهب ، والآخر يشق به بين القصرين يحملهما العتالون ، فينصبان أوّل السماط وآخره ، وهما شكل مليح مدهونان بأوراق الذهب ، وفيهما شخوص ناتئة كأنها مسبوكة في قوالب لوحا لوحا ، فإذا عبر الخليفة راكبا ، ونزل على السرير الذي عليه المدوّرة الفضة ، وجلس قام على رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين ، وأربعة من خواص الفرّاشين ، ثم يستدعي الوزير ، فيطلع إليه ويجلس عن يمينه ، ويستدعي الأمراء المطوّقين ، ومن يليهم من الأمراء دونهم ،

__________________

(١) الطباهجة : اللحم المشرح المشوي وقيل : هو الكباب واللفظ معرب (تباهة). معجم متن اللغة.

٢٥٣

فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه ، فيأكل من أراد من غير إلزام ، فإنّ في الحاضرين من لا يعتقد الفطر في ذلك اليوم ، فيستولي على ذلك المعمول الآكلون ، وينقل إلى دار أرباب الرسوم ، ويباح فلا يبقى منه إلا السماط فقط ، فيعم أهل القاهرة ومصر من ذلك نصيب وافر ، فإذا انقضى ذلك عند صلاة الظهر ، انفض الناس ، وخرج الوزير إلى داره مخدوما بالجماعة الحاضرين ، وقد عمل سماطا لأهله وحواشيه ، ومن يعز عليه لا يلحق بأيسر يسير من سماط الخليفة ، وعلى هذا العمل يكون سماط عيد النحر أوّل يوم منه ، وركوبه إلى المصلى ، كما ذكرنا ، ولا يخرج عن هذا المنوال ولا ينقص عن هذا المثال ، ويكون الناس كلهم مفطرين ، ولا يفوت أحدا منهم شيء ، كما ذكرنا في عيد الفطر.

قال : ومبلغ ما ينفق في سماطي الفطر ، والأضحى أربعة آلاف دينار ، وكان يجلس على أسمطة الأعياد في كل سنة رجلان من الأجناد يقال لأحدهما : ابن فائز ، والآخر الديلميّ يأكل كل واحد منهما خروفا مشويا ، وعشر دجاجات محلاة ، وجام حلوى عشرة أرطال ، ولهما رسوم تحمل إليهما بعد ذلك من الأسمطة لبيوتهما ودنانير وافرة على حكم الهبة ، وكان أحدهما أسر بعسقلان في تجريدة جرّد إليها ، وأقام مدّة في الأسر فاتفق أنه كان عندهم عجل سمين فيه عدّة قناطير لحم ، فقال له الذي أسره وهو يداعبه : إن أكلت هذا العجل أعتقتك ، ثم ذبحه ، وسوّى لحمه ، وأطعمه حتى أتى على جميعه ، فوفى له وأعتقه ، فقدم على أهله بالقاهرة ، ورأيته يأكل على السماط.

الإيوان الكبير

قال القاضي الرئيس محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر الروحي الكاتب في كتاب الروضة البهية الزهراء في خطط المعزية القاهرة ، الإيوان الكبير بناه العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز لدين الله معدّ في سنة تسع وستين وثلثمائة ، انتهى.

وكان الخلفاء أولا يجلسون به في يومي الاثنين والخميس إلى أن نقل الخليفة الآمر بأحكام الله الجلوس منه في اليومين المذكورين إلى قاعة الذهب كما تقدّم ، وبصدر هذا الإيوان كان الشباك الذي يجلس فيه الخليفة ، وكان يعلو هذا الشباك قبة ، وفي هذا الإيوان ، كان يمدّ سماط الفطرة بكرة يوم عيد الفطر كما تقدّم به ، وبه أيضا كان يعمل الاجتماع ، والخطبة في يوم عيد الغدير ، وكان بجانب هذا الإيوان الدواوين ، وكان بهذا الإيوان ضلعا سمكة إذا أقيما واريا الفارس بفرسه ، ولم يزالا حتى بعثهما السلطان صلاح الدين يوسف إلى بغداد في هدية.

عيد الغدير (١) : إعلم أن عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا ، ولا عمله أحد من سالف

__________________

(١) في ليلة الثامن عشر من ذي الحجة. والغدير هو غدير خم بين مكة والمدينة ، لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ـ

٢٥٤

الأمّة المقتدى بهم ، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة عليّ بن بويه ، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا ، وأصلهم فيه ، ما خرّجه الإمام أحمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب رضي‌الله‌عنه قال : كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر لنا ، فنزلنا بغدير خم ، ونودي الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرتين ، فصلى الظهر ، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فقال : «ألستم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». قال : فلقيه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

وغدير خم : على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة الطريق ، وتصب فيه عين ، وحوله شجر كثير ، ومن سنتهم في هذا العيد ، هو أبدا يوم الثامن عشر من ذي الحجة أن يحيوا ليلته بالصلاة ، ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال ، ويلبسوا فيه الجديد ، ويعتقوا الرقاب ، ويكثروا من عمل البرّ ، ومن الذبائح ، ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق أرادت عوامّ السنية مضاهاة فعلهم ، ونكايتهم ، فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية أيام عيدا ، أكثروا فيه من السرور واللهو ، وقالوا : هذا يوم دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغار هو وأبو بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، وبالغوا في هذا اليوم في إظهار الزينة ، ونصب القباب ، وإيقاد النيران ، ولهم في ذلك أعمال مذكورة في أخبار بغداد ... وقال ابن زولاق : وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة ، وهو يوم الغدير : تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة ، ومن تبعهم للدعاء لأنه يوم عيد ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه ، واستخلفه ، فأعجب المعز ذلك من فعلهم ، وكان هذا أوّل ما عمل بمصر.

قال المسبحيّ ، وفي يوم الغدير ، وهو ثامن عشر ذي الحجة اجتمع الناس بجامع القاهرة والقرّاء والفقهاء ، والمنشدون ، فكان جمعا عظيما أقاموا إلى الظهر ، ثم خرجوا إلى القصر ، فخرجت إليهم الجائزة ، وذكر أن الحاكم بأمر الله ، كان قد منع من عمل عيد الغدير ، قال ابن الطوير : إذا كان العشر الأوسط من ذي الحجة اهتمّ الأمراء ، والأجناد بركوب عيد الغدير ، وهو في الثامن عشر منه ، وفيه خطبة وركوب الخليفة بغير مظلمة ، ولا

__________________

ـ مكة عام حجة الوداع ووصل إلى هذا المكان خطب خطبته المشهورة بخطبة الوداع. وآخى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وقال : «علي مني بمنزلة هارون موسى. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله». وللشيعة تعلق كبير بهذا اليوم ويعتبرونه عيدا من الأعياد الإسلامية وقد بدأ الاحتفال به في ثامن عشر ذي الحجة سنة ٣٥٢ ه‍ أيام معز الدولة البويهي. وفيات الأعيان لابن خلكان ج ٥ / ٢٣٠ ، والخطط التوفيقية ج ٢ / ٩٦.

٢٥٥

سمة ، ولا خروج عن القاهرة ، ولا يخرج لأحد شيء ، فإذا كان ذلك اليوم ركب الوزير بالاستدعاء الجاري به العادة ، فيدخل القصر ، وفي دخوله بروز الخليفة لركوبه من الكرسيّ على عادته ، فيخدم ويخرج ويركب من مكانه من الدهليز ، ويخرج فيقف قبالة باب القصر ، ويكون ظهره إلى دار فخر الدين جهاركس اليوم ، ثم يخرج الخليفة راكبا أيضا ، فيقف في الباب ، ويقال له : القوس ، وحواليه الأستاذون المحنكون رجالة ، ومن الأمراء المطوّقين من يأمره الوزير بإشارة خدمة الخليفة على خدمته ، ثم يجوز زيّ كل من له زيّ على مقدار همته ، فأوّل ما يجوز زيّ الخليفة ، وهو الظاهر في ركوبه ، فتجد الجنائب الخاص التي قدّمنا ذكرها أوّلا ، ثم زيّ الأمراء المطوّقين لأنهم غلمانه واحدا فواحدا بعددهم ، وأسلحتهم ، وجنائبهم إلى آخر أرباب القصب والعماريات ، ثم طوائف العسكر أزمّتها أمامها ، وأولادهم مكانهم لأنهم في خدمة الخليفة وقوف بالباب طائفة طائفة ، فيكونون أكثر عددا من خمسة آلاف فارس ، ثم المترجلة الرماة بالقسيّ بالأيدي والأرجل ، وتكون عدّتهم قريبا من ألف ، ثم الراجل من الطوائف الذين قدّمنا ذكرهم في الركوب ، فتكون عدّتهم قريبا من سبعة آلاف كل منهم بزمام وبنود ورايات وغيرها ، بترتيب مليح مستحسن ، ثم يأتي زيّ الوزير مع ولده ، أو أحد أقاربه ، وفيه جماعته وحاشيته في جمع عظيم ، وهيئة هائلة ، ثم زيّ صاحب الباب ، وهم أصحابه وأجناده ، ونوّاب الباب ، وسائر الحجاب ، ثم يأتي زيّ اسفهسلار العساكر بأصحابه ، وأجناده في عدّة وافرة ، ثم يأتي زيّ والي القاهرة ، وزيّ والي مصر ، فإذا فرغا خرج الخليفة من الباب والوقوف بين يديه مشاة في ركابه خارجا عن صبيان ركابه الخاص ، فإذا وصل إلى باب الزهومة بالقصر ، انعطف على يساره داخلا من الدرب هناك جائزا على الخوخ (١) ، فإذا وصل إلى باب الديلم الذي داخله المشهد الحسينيّ ، فيجد في دهليز ذلك الباب : قاضي القضاة والشهود ، فإذا وازاهم خرجوا للخدمة والسلام عليه ، فيسلم القاضي كما ذكرنا من تقبيل رجله الواحدة التي تليه ، والشهود أمام رأس الدابة بمقدار قصبة ، ثم يعودون ويدخلون من ذلك الدهليز إلى الإيوان الكبير ، وقد علق عليه الستور القرقوبية جميعه على سعته ، وغير القرقوبية سترا فسترا ، ثم يعلق بدائرة على سعته ثلاث صفوف : الأوسط طوارق فارسيات مدهونة ، والأعلى والأسفل درق ، وقد نصب فيه كرسيّ الدعوة ، وفيه تسع درجات لخطابة الخطيب في هذا العيد ، فيجلس القاضي والشهود تحته ، والعالم من الأمراء ، والأجناد ، والمتشيعين ، ومن يرى هذا الرأي من الأكابر والأصاغر ، فيدخل الخليفة من باب العيد إلى الإيوان إلى باب الملك ، فيجلس بالشباك ، وهو ينظر القوم ، ويخدمه الوزير عندما ينزل ، ويأتي هو ومن معه ، فيجلس بمفرده على يسار منبر الخطيب ، ويكون قد سير لخطيبه بدلة حرير يخطب فيها ، وثلاثون دينارا ، ويدفع له كرّاس

__________________

(١) الخوخ : ج. خوخة : هي الباب الصغير في أصل باب كبير يفتح عادة عندما لا تكون حاجة لفتح البوابة الكبيرة.

٢٥٦

محرّر من ديوان الإنشاء يتضمن نص الخلافة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه بزعمهم ، فإذا فرغ ونزل صلى قاضي القضاة بالناس ركعتين ، فإذا قضيت الصلاة ، قام الوزير إلى الشباك ، فيخدم الخليفة ، وينفض الناس بعد التهاني من الإسماعيلية بعضهم بعضا ، وهو عندهم أعظم من عيد النحر ، وينحر فيه أكثرهم.

قال : وكان الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد : لما سلم من يد أبي عليّ بن الأفضل الملقب كتيفات ، لما وزر له ، وخرج عليه عمل عيدا في ذلك اليوم ، وهو السادس عشر من المحرّم من غير ركوب ، ولا حركة بل إنّ الإيوان باق على فرشه ، وتعليقه من يوم الغدير ، فيفرش المجلس المحوّل اليوم في الإيوان الذي بابه خورنق.

وكان يقابل الإيوان الكبير الذي هو اليوم : خزائن السلاح ، بأحسن فرش ، وينصب له مرتبة هائلة قريبا من باذهنجه ، فيجتمع أرباب الدولة سيفا وقلما ، ويحضرون إلى الإيوان إلى باب الملك المجاور للشباك ، فيخرج الخليفة راكبا إلى المجلس ، فيترجل على بابه ، وبين يديه الخواص ، فيجلس على المرتبة ، ويقفون بين يديه صفين إلى باب المجلس ، ثم يجعل قدّامه كرسيّ الدعوة ، وعليه غشاء قرقوبيّ ، وحواليه الأمراء الأعيان ، وأرباب الرتب ، فيصعد قاضي القضاة ، ويخرج من كمه كراسة مسطحة تتضمن فصولا ، كالفرج بعد الشدّة بنظم مليح ، يذكر فيه كل من أصابه من الأنبياء والصالحين والملوك شدّة ، وفرّج الله عنه واحدا فواحدا ، حتى يصل إلى الحافظ ، وتكون هذه الكراسة محمولة من ديوان الإنشاء ، فإذا تكاملت قراءتها ، نزل عن المنبر ، ودخل إلى الخليفة ، ولا يكون عنده من الثياب أجلّ مما لبسه ، ويكون قد حمل إلى القاضي قبل خطابته بدلة مميزة يلبسها للخطابة ، ويوصل إليه بعد الخطابة خمسون دينارا.

وقال الأمير جمال الدين أبو عليّ موسى بن المأمون أبي عبد الله محمد بن فاتك بن مختار الطائحيّ في تاريخه ، واستهل عيد الغدير يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة ، وهاجر إلى باب الأجل يعني الوزير المأمون البطائحي الضعفاء والمساكين من البلاد ، ومن انضمّ إليهم من العوالي ، والأدوان على عادتهم في طلب الحلال ، وتزويج الأيامى ، وصار موسما يرصده كل أحد ، ويرتقبه كل غنيّ وفقير ، فجرى في معروفه على رسمه ، وبالغ الشعراء في مدحه بذلك ، ووصلت كسوة العيد المذكور ، فحمل ما يختص بالخليفة والوزير ، وأمر بتفرقة ما يختص بأزمّة العساكر فارسها وراجلها من عين وكسوة ، ومبلغ ما يختص بهم من العين سبعمائة وتسعون دينارا ، ومن الكسوات مائة وأربع وأربعون قطعة ، والهيئة المختصة بهذا العيد ، برسم كبراء الدولة ، وشيوخها وأمرائها وضيوفها ، والأستاذين المحنكين والمميزين منهم خارجا عن أولاد الوزير وإخوته ، ويفرّق من مال الوزير بعد الخلع عليه ألفان وخمسمائة دينار وثمانون دينارا ، وأمر بتعليق جميع أبواب القصور ،

٢٥٧

وتفرقة المؤذنين بالجوامع والمساجد عليها ، وتقدّم بأن تكون الأسمطة بقاعة الذهب على حكم سماط أوّل يوم من عيد النحر ، وفي باكر هذا اليوم توجه الخليفة إلى الميدان ، وذبح ما جرت به العادة ، وذبح الجزارون بعده مثل عدد الكباش المذبوحة في عيد النحر ، وأمر بتفرقة ذلك للخصوص دون العموم ، وجلس الخليفة في المنظرة وخدمت الرهجية (١).

وتقدّم الوزير والأمراء ، وسلموا ، فلما حان وقت الصلاة والمؤذنون على أبواب القصر يكبرون تكبير العيد إلى أن دخل الوزير ، فوجد الخطيب على المنبر قد فرغ ، فتقدّم القاضي أبو الحجاج يوسف بن أيوب فصلى به وبالجماعة صلاة العيد ، وطلع الشريف بن أنس الدولة ، وخطب خطبة العيد ، ثم توجه الوزير إلى باب الملك ، فوجد الخليفة قد جلس قاصدا للقائه ، قد ضربت المقدّمة ، فأمره بالمضيّ إليها ، وخلع عليه خلعة مكملة من بدلات النحر وثوبها أحمر بالشدّة الدائمية ، وقلده سيفا مرصعا بالياقوت والجواهر ، وعندما نهض ليقبل الأرض وجده قد أعدّ له العقد الجوهر ، وربطه في عنقه بيده ، وبالغ في إكرامه ، وخرج من باب الملك فتلقاه المقرّبون ، وسارع الناس إلى خدمته ، وخرج من باب العيد وأولاده وإخوته والأمراء المميزون بحجبه ، وخدمت الرهجية ، وضربت العربية والموكب جميعه بزيه ، وقد اصطفت العساكر ، وتقدّم إلى ولده بالجلوس على أسمطته وتفرّقتها برسومها ، وتوجه إلى القصر ، واستفتح المقرئون ، فسلم الحاضرون ، وجرى الرسم في السماط الأوّل والثاني ، وتفرقة الرسوم والموائد على حكم أوّل يوم من عيد النحر ، وتوجه الخليفة بعد ذلك إلى السماط الثالث الخاص بالدار الجليلة لأقاربه وجلسائه.

ولما انقضى حكم التعييد جلس الوزير في مجلسه ، واستفتح المقرئون ، وحضر الكبراء وبياض البلدين لتهنىء بالعيد والخلع ، وخرج الرسم ، وتقدّم الشعراء ، فأنشدوا وشرحوا الحال ، وحضر متولي خزائن الكسوة الخاص بالثياب التي كانت على المأمون قبل الخلع ، وقبضوا الرسم الجاري به العادة ، وهو مائة دينار ، وحضر متولي بيت المال ، وصحبته صندوق فيه خمسة آلاف دينار برسم فكاك العقد الجوهر والسيف المرصع ، فأمر الوزير المأمون الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة : كاتب الدست الشريف بكتب مطالعة إلى الخليفة بما حمل إليه من المال برسم منديل الكم ، وهو ألف دينار ، ورسم الأخوة والأقارب ألف دينار ، وتسلم متولي الدولة بقية المال ليفرّق على الأمراء المطوّقين والمميزين والضيوف والمستخدمين.

المحول : قال ابن عبد الظاهر : المحول هو مجلس الداعي (٢) ، ويدخل إليه من باب

__________________

(١) الرهجية : مصدر صناعي من الرهج وهو الشغب أي (التهريج).

(٢) الداعي : كان من ألقاب القائمين بالدعوة الشيعية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وكان رئيس الدعاة يسمى داعي الدعاة ، وكان الداعي رئيسا لدار العلم وكانت خلف خان مسرور. الألقاب الإسلامية ١ / ٢٨٥.

٢٥٨

الريح ، وبابه من باب البحر ، ويعرف بقصر البحر ، وكان في أوقات الاجتماع يصلي الداعي بالناس في رواقه.

وقال المسبحيّ : وفي ربيع الأوّل يعني من سنة خمس وثمانين وثلثمائة ، جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد المتقدّم له ولأخيه بمصر ، ولأبيه بالمغرب ، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا ، فكفنهم العزيز بالله ، وقال ابن الطوير : وأما داعي الدعاة فإنه يلي قاضي القضاة في الرتبة ، ويتزيا بزيه في اللباس وغيره ، ووصفه أنه يكون عالما بجميع مذاهب أهل البيت يقرأ عليه ، ويأخذ العهد على من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم ، وبين يديه من نقباء المعلمين اثنا عشر نقيبا ، وله نوّاب كنوّاب الحكم في سائر البلاد ، ويحضر إليه فقهاء الدولة ، ولهم مكان يقال له : دار العلم (١) ، ولجماعة منهم على التصدير بها أرزاق واسعة ، وكان الفقهاء منهم يتفقون على دفتر يقال له : مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس ، ويحضر مبيضا إلى داعي الدعاة فينفذه إليهم ، ويأخذه منهم ، ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين المذكورين ، فيتلوه عليه إن أمكن ، ويأخذ علامته بظاهره ، ويجلس بالقصر لتلاوته على المؤمنين في مكانين للرجال على كرسيّ الدعوة بالإيوان الكبير ، وللنساء بمجلس الداعي ، وكان من أعظم المباني وأوسعها.

فإذا فرغ من تلاوته على المؤمنين والمؤمنات حضروا إليه ، لتقبيل يديه ، فيمسح على رؤوسهم بمكان العلامة ، أعني خط الخليفة ، وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالهما ، لا سيما الصعيد ، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث ، فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده بينه ، وبينه ، وأمانته في ذلك مع الله تعالى ، فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء ، وفي الإسماعيلية المموّلين من يحمل ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار على حكم النجوى ، وصحبة ذلك رقعة مكتوبة باسمه ، فيتميز في المحول فيخرج له عليها خط الخليفة بارك الله فيك ، وفي مالك وولدك ودينك ، فيدّخر ذلك ، ويتفاخر به ، وكانت هذه الخدمة متعلقة بقوم يقال لهم : بنو عبد القويّ أبا عن جدّ آخرهم الجليس ، وكان الأفضل بن أمير الجيوش نفاهم إلى المغرب ، فولد الجليس بالمغرب ، وربي به ، وكان يميل إلى مذهب أهل السنة ، وولي القضاء مع الدعوة ، وأدركه أسد الدين شيركوه ، وأكرمه وجعله واسطة عند الخليفة العاضد ، وكان قد حجر على العاضد ولولاه لم يبق في الخزائن شيء لكرمه ، وكأنه علم أنه آخر الخلفاء.

__________________

(١) دار العلم : كان يجلس فيها داعي الدعاة ويجتمع إليه من يتكلم في العلوم المتعلقة بمذهبهم وكان مقرها خلف خان مسرور. صبح الأعشى ٣ / ٣٦٢.

٢٥٩

قال المسبحيّ : وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يقرأ على الأولياء ، والدعاوي المتصلة ، فكان يفرد للأولياء مجلسا ، وللخاصة وشيوخ الدولة ، ومن يختص بالقصور من الخدم وغيرهم مجلسا ، ولعوام الناس ، وللطارئين على البلد مجلسا ، وللنساء في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا ، وللحرم وخواص نساء القصر مجلسا ، وكان يعمل المجالس في داره ، ثم ينفذها إلى من يختص بخدمة الدولة ، ويتخذ لهذه المجالس كتبا يبيضونها بعد عرضها على الخليفة ، وكان يقبض في كل مجلس من هذه المجالس ما يتحصل من النجوى من كل من يدفع شيئا من ذلك عينا وورقا من الرجال والنساء ، ويكتب أسماء من يدفع شيئا على ما يدفعه ، وكذلك في عيد الفطر يكتب ما يدفع عن الفطرة ، ويحصل من ذلك مال جليل ، يدفع إلى بيت المال شيئا بعد شيء ، وكانت تسمى مجالس الدعوة : مجالس الحكمة ، وفي سنة أربعمائة كتب سجل عن الحاكم بأمر الله فيه رفع الخمس والزكاة والفطرة والنجوى التي كانت تحمل ، ويتقرّب بها ، وتجري على أيدي القضاة ، وكتب سجل آخر بقطع مجالس الحكمة التي تقرأ على الأولياء يوم الخميس والجمعة ، انتهى. ووظيفة داعي الدعاة كانت من مفردات الدولة الفاطمية ، وقد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إيراده هنا.

وصف الدعوة وترتيبها : وكانت الدعوة مرتبة على منازل : دعوة بعد دعوة.

الدعوة الأولى : سؤال الداعي لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات ، وتأويل الآيات ، ومعاني الأمور الشرعية ، وشيء من الطبيعيات ، ومن الأمور الغامضة ، فإن كان المدعوّ عارفا سلم له الداعي وإلّا تركه يعمل فكره فيما ألقاه عليه من الأسئلة ، وقال له : يا هذا ، إنّ الدين لمكتوم ، وإنّ الأكثر له منكرون ، وبه جاهلون ، ولو علمت هذه الأمّة ما خص الله به الأئمة من العلم ، لم تختلف؟ فيتشوق حينئذ المدعوّ إلى معرفة ما عند الداعي من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ في ذكر معاني القراءات وشرائع الدين ، وتقرير أنّ الآفة التي نزلت بالأمّة ، وشتت الكلمة ، وأورثت الأهواء المضلة ، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم ، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها ، ويحفظون معانيها ، ويعرفون بواطنها غير أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة ، ونظروا في الأمور بعقولهم ، واتبعوا ما حسن في رأيهم ، وقلدوا أسفلتهم ، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك ، وطلبا للدنيا التي هي أيدي متبعي لإثم وأجناد الظلمة ، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة ، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء ومكايدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمّته وتغيير كتاب الله عزوجل ، وتبديل سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومخالفة دعوته ، وإفساد شريعته ، وسلوك غير طريقته ، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلك ، وصار الناس إلى أنواع الضلالات ، فإنّ دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء بالتحلي ، ولا بأمانيّ الرجال ، ولا شهوات الناس ، ولا بما خف على الألسنة ،

٢٦٠