كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

وقال إبراهيم بن القاسم الكاتب الملقب بالرشيق يتشوّق إلى مصر ، وقد خرج عنها في سنة ست وثمانين وثلثمائة من قصيدة :

هل الريح إن سارت مشرّقة تسري

تؤدّي تحياتي إلى ساكني مصر

فما خطرت إلّا بكيت صبابة

وحملتها ما ضاق عن حمله صدري

لأني إذا هبت قبولا بنشرهم

شممت نسيم المسك من ذلك النشر

فكم لي بالأهرام أو دير نهية

مصايد غزلان المطايد والقفر

إلى جيزة الدنيا وما قد تضمنت

جزيرتها ذات المواخر والجسر

وبالمقس والبستان للعين منظر

أنيق إلى شاطىء الخليج إلى القصر

وفي بئر دوس مستراد وملعب

إلى دير محنا إلى ساحل البحر

فكم بين بستان الأمير وقصره

إلى البركة النضراء من زهر نضر

تراها كمرآة بدت في رفارف

من السندس الموشى تنشر للتجر (١)

وكم ليلة بالقرافة خلتها

لما نلت من لذاتها ليلة القدر

وقال أحمد بن رستم بن إسفهسلار الديلميّ : يخاطب الوزير نجم الدين أبا يوسف بن الحسين المجاور ، وتوفي في رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وستمائة :

حيّ الديار بشاطئي مقياسها

فالمقسم الفياح بين دهاسها (٢)

فالروضتين وقد تضوّع عرفها

أرج البنفسج في غضارة أسها

فمنازل العين المنيفة أصبحت

يغني سناها عن سنا نبراسها

فخليجها لذاته مطلوبة

تسمو محاسنه علا بأناسها

حافاته محفوفة بمنازل

نزلت بها الآرام دون كناسها

وقال العلامة جلال الدين محمد الشيرازيّ المعروف بإمام منكلي بغا :

حيّا الحيا مصرا وسكانها

وباكر الوسميّ (٣) كثبانها

وجاد صوب المزن من أرضها

معاهد الأنس وأوطانها

معاهد بالأنس معمورة

لم أنس مهما عشت إحسانها

كم أيقظتني في ذرا دوحها

عجماء لا تفقه ألحانها

وكم نعيم قد تخيلته

فيها وكم غازلت غزلانها

وعاينت عيني بها أغيدا

منعس المقلة وسنانها

__________________

(١) التجر : التجار.

(٢) الدهاس : النبات لم يغلب عليه لون الخضرة.

(٣) الوسمي : مطر الربيع الأول.

٢٢١

تسحر بالتفتير ألحاظه

كأنّ من بابل شيطانها

وكم شجت قلبي بها غادة

قد كحلت بالغنج أجفانها

إذا دعت صبا إلى حبها

لا يستطيع الصب عصيانها

وكم ليال لي بها قد مضت

تسحب بالإعجاب أردانها

وألهف نفسي كيف شطت بها

حوادث قوّضن بنيانها

فارقتها لا عن قلى صدّني

عنها فراق الروح جسمانها

واعتضت عن غزلانها والمها

نعاج جيرون وثيرانها

يا سائلي عن حالتي بعدها

ها أنا ذا أذكر عنوانها

ما حال من فارق أصحابه

وفارق الدنيا وجيرانها

تقلب فوق الجمر أحشاؤه

تؤجج الأشواق نيرانها

والعين لا تنفك من عبرة

ترسل فوق الخدّ طوفانها

يا سائق النوق يبث الثرى

كمثل بث السحب تهتانها (١)

حيّ ربا مصر وجناتها

وحورها العين وولدانها

ودورها الزهر وساحاتها

وبين قصريها وميدانها

وأرضها المخصب أرجاؤها

ونيلها الزاهي وخلجانها

والروضة الفيحاء تلك التي

تجلو عن الأنفس أحزانها

ومنية الشيرج لا تنسها

وقرطها الأحوى وكتانها

والتاج الخمس وجوه التي

أضحت من الأعين إنسانها

وحيّ يا برق وجد بالحيا

جزيرة الفيل وغيطانها

وبانها الغض ونسرينها

ووردها البكر وريحانها

وظلها الضافي وأزهارها

وماءها الصافي وغدرانها

والمعهد المأنوس من ربعها

وحيّ أهليها وسكانها

لم أنس لا أنسى اصطباحي بها

ولا اغتباقاتي وإبانها

ولا أويقات التصابي ولا

تلك الخلاعات وأزمانها

أيام لا انفك من صبوة

أهوى اللذا ذات وإعلانها

أخطر تيها في رياض الصبا

مرنح الأعطاف كسلانها

وخيل لهوي في ميادينها

تجرجر الصبوة أرسانها

ودوحتي ناضرة غضة

تعطف ريح اللهو أغصانها

حاشاي أن أنقض عهدا لها

حاشاي أن أصبح خوّانها

حاشاي أن أهجرها قاليا

حاشاي أن أحدث سلوانها

__________________

(١) تهتان : انصباب المطر أو هو فوق الهطل.

٢٢٢

حاشاي أن أرضى بديلا بها

روابي الشام وقيعانها

وماءها الثج وحصباءها

وصخرها الصلد وصوّانها

قد تاقت النفس إلى الفها

وحثت الأشواق أظعانها

وادّكرت في البعد أحبابها

فهيّج التبريح (١) أشجانها

وما لها غيرك من ملتجا

يا أوحد الدنيا وإنسانها

__________________

(١) التبريح : الشوق.

٢٢٣

ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها

قال المعارف محيي الدين محمد بن العربيّ الطائيّ الحاتميّ في الملحمة المنسوبة إليه قاهرة تعمر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، وتخرب سنة ثمانين وسبعين ، ووقفت لها على شرح لم أعرف تصنيف من هو ، فإنه لم يسمّ في النسخة التي وقفت عليها ، وهو شرح لطيف قليل الفائدة ، فإنه ترك كلام المصنف فيما مضى على ما هو معروف في كتب التاريخ ، ولم يبين مراده ، فيما يستقبل ، وكانت الحاجة ماسة إلى معرفة ما يستقبل أكثر من المعرفة بحال ما مضى ، لكن أخبرني غير واحد من الثقات ، أنه وقف لهذه الملحمة على شرح كبير في مجلدين ، قال هذا الشارح : كانت بداية عمارة القاهرة والنّيران في شرفهما : الشمس في برج الحمل ، والقمر في برج الثور ، وهو برج ثابت. قال : فعمّر القاهرة ، ومدّتها أربعمائة ، وإحدى وستون سنة ، قال في الأصل : وإذا نزل زحل برج الجوزاء عزت الأقوات بمصر ، وقلّ أغنياؤهم ، وكثر فقراءهم ويكون الموت فيهم ويخرج أهل برقة عن أوطانهم ، لا سيما إذا قارن زحل الجوزهر ، فإنّ الحال يكون أشدّ وأقوى.

قال الشارح : كان ذلك في سنة أربع وستين وستمائة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، فإنه نزل زحل برج الجوزاء ، فوقع الغلاء ، وفي آخر سنة أربع ، وأوّل سنة خمس وتسعين وستمائة ، في أيام الملك العادل : كتبغا (١) حلّ زحل في برج الجوزاء ، وكان معه الجوزهر ، فكانت أشدّ وأقوى وكثر الغلاء والوباء.

قال : سئل المعز عن الترك ما هم؟ فقال : قوم مسلمون يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويقيمون الحدود والواجبات ، ويقاتلون في سبيل الله أعداء الله ، فقيل له : أتطول مدّتهم؟ قال : لا تطول مدّتهم ، قيل : فكيف يكون زوالهم؟ قال : يكون هكذا ، وكان إلى جانبه طبق كيزان ، فحرّكه حركة شديدة ، فتكسرت الكيزان ، فقال : هكذا يكون زوالهم يقتل بعضهم بعضا ، قال :

احذر بنيّ من القران العاشر

وارحل بأهلك قبل نقر الناقر

__________________

(١) كتبغا : هو كتبغا بن عبد الله المنصوري الملقب بالملك العادل من ملوك المماليك البحرية في مصر والشام أصله من سبي التتار من عساكر هولاكو أخذه الملك المنصور قلاوون في وقعة حمص سنة ٦٥٩ وجعله من مماليكه ثم تسلطن سنة ٦٩٤ ه‍ ـ توفي سنة ٧٠٢ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٢١٩.

٢٢٤

قال الشارح : أوّل القران العاشر في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ، وفيه تكون حالات رديئة بأرض مصر ، وهذا يوافق ما في القول عن القاهرة ، وتخرب في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ، يعني بداية انحطاطها من سنة خمس وثمانين وسبعمائة التي فيها القران العاشر ، ويثبت في عشرين سنة التي هي أيام القران ، وقد ذكر في الربع الآخر أربعمائة ، وإحدى وستين سنة ، وقد تخيلت أنها مدّة عمر القاهرة ، فإذا زدتها على تاريخ عمارتها بلغ ذلك ثمانمائة وتسع عشرة سنة ، وفي ذلك الوقت يكون زوالها ، وهو ما بين سنة ثمانين ، وسبعمائة إلى سنة تسع عشرة وثمانمائة ، ويكون ذلك سببه قحط عظيم ، وقلة خير ، وكثرة شرّ حتى تتخرّب ويضعف أهلها.

قال : قران زحل والمرّيخ في برج الجدي يكون في سنة سبعين وسبعمائة ، فتعدّ لكل مائة سنة من سني الهجرة ثلاث سنين ، فيكون ثلاثا وعشرين سنة تزيدها على سبعمائة وسبعين سنة تبلغ سبعمائة ، وثلاثا وتسعين سنة ، ففي مثلها من سني الهجرة يكون أوّل أوقات خراب القاهرة ، انتهى.

وتهذيب هذا القول : أنّ زحل كلما حلّ برج الجوزاء ،. اتضعت أحوال مصر ، وقلت أموالهم ، وكثر الغلاء والفناء عندهم ، بحسب الأوضاع الفلكية ، وزحل يحلّ في برج الجوزاء كل ثلاثين سنة شمسية ، فيقيم فيه نحوا من ثلاثين شهرا ، وأنت إذا اعتبرت أمور العالم وجدت الحال كما ذكرنا ، فإنه كلما حلّ زحل برج الجوزاء وقع الغلاء بمصر ، وذكر أنّ القران العاشر تتضع فيه أحوال القاهرة ، ورأينا الأمر كما ذكرنا ، فإنّ القران العاشر كان في سنة ست وثمانين وسبعمائة ، ومدّة سنينه عشرون سنة شمسية ، آخرها سابع عشر رجب سنة سبع وثمانمائة ، وفي هذه المدّة اتضع حال القاهرة وأهلها ، اتضاعا قبيحا ، ومن الأوقات المحذورة لها أيضا اقتران زحل والمريخ في برج السرطان ، ويكون ذلك في كل ثلاثين سنة شمسية ، ويقترنان في سنة ثمان عشرة وثمانمائة ، وفي مدّته تنقضي الأربعمائة والإحدى والستون سنة التي ذكر أنها عمر القاهرة في سنة تسع عشرة وثمانمائة ، وشواهد الحال اليوم تصدّق ذلك لما عليه أهل القاهرة الآن من الفقر والفاقة ، وقلة المال وخراب الضياع والقرى ، وتداعى الدور للسقوط ، وشمول الخراب أكثر معمور القاهرة ، واختلاف أهل الدولة ، وقرب انقضاء مدّتهم وغلاء سائر الأسعار.

ولقد سمعت عمن يرجع إليه في مثل ذلك : أنّ العمارة تنتقل من القاهرة إلى بركة الحبش ، فيصير هناك مدينة ، والله تعالى أعلم.

٢٢٥

ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن

وقبل أن نذكر خطط القاهرة ، فلنبتدىء بذكر شوارعها ، ومسالكها : المسلوك منها إلى الأزقة ، والحارات لتعرف بها الحارات والخطط والأزقة والدروب ، وغير ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

فالشارع الأعظم : قصبة القاهرة من باب زويلة إلى بين القصرين ، عليه باب الخرنفش أو الخرنشف ، ومن باب الخرنفش ينفرق من هنالك طريقان ذات اليمين ، ويسلك منها إلى الركن المخلق ، ورحبة باب العيد إلى باب النصر ، وذات اليسار ، ويسلك منها إلى الجامع الأقمر ، وإلى حارة برجوان إلى باب الفتوح ، فإذا ابتدأ السالك بالدخول من باب زويلة ، فإنه يجد يمنة الزقاق الضيق الذي يعرف اليوم : بسوق الخلعيين ، وكان قديما يعرف : بالخشابين ، ويسلك من هذا الزقاق إلى حارة الباطلية ، وخوخة حارة الروم البرّانية ، ثم يسلك الداخل أمامه ، فيجد على يسرته سجن متولي القاهرة المعروف : بخزانة شمايل ، وقيسارية سنقر الأشقر ، ودرب الصفيرة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمنته : حمام الفاضل المعدّة لدخول الرجال ، وعلى يسرته تجاه هذه الحمام : قيسارية الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار الناصريّ إلى أن ينتهي بين الحوانيت ، والرباع فوقها إلى بابي زويلة الأوّل ، ولم يبق منهما سوى عقد أحدهما ، ويعرف الآن : بباب القوس ، ثم يسلك أمامه فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الحدّادين ، والحجارين المعروف اليوم بسوق الأنماطيين ، وسكن الملاهي ، وإلى المحمودية ، وإلى سوق الأخفافيين ، وحارة الجودرية والصوّافين ، والقصارين والفحامين وغير ذلك ، ويجد تجاه هذا الزقاق عن يمينه المسجد المعروف قديما ، بابن البناء وتسميه العامّة الآن : بسام بن نوح ، وهو في وسط سوق الغرابليين والمناخليين ، ومن معهم من الضببيين ، ثم يسلك أمامه فيجد سوق السرّاجين ، ويعرف اليوم : بالشوّايين ، وفي هذا السوق على يمينه : الجامع الظافريّ المعروف بجامع الفكاهين ، وبجانبه الزقاق المسلوك منه إلى حارة الديلم ، وسوق القفاصين ، وسوق الطيوريين ، والأكفانيين القديمة المعروفة الآن بسكنى دقاقي الثياب ، ويجد على يسرته الزقاق المسلوك منه إلى حارة الجودرية ، ودرب كركامة ، ودكة الحسبة المعروفة قديما بسوق الحدّادين وسوق الورّاقين القديمة ، وإلى سوق الفاميين المعروف اليوم : بالأبازرة ،

٢٢٦

وإلى غير ذلك ، ثم يسلك أمامه إلى سوق الحلاويين الآن ، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الكعكيين المعروف قديما بالقطانيين ، وسكنى الأساكفة ، وإلى بابي قيسارية جهاركس ، وعن يسرته : قيسارية الشرب ، ثم يسلك أمامه إلى سوق الشرابشيين المعروف قديما يسكن الحالقيين ، وعن يمنته درب قيطون ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الشرابشيين ، فيجد عن يمنته قيسارية أمير علي ، ويجد عن يسرته سوق الجملون الكبير المسلوك فيه إلى قيسارية ابن قريش ، وإلى سوق العطارين والوراقين ، وإلى سوق الكفتيين ، والصيارف ، والأخفافيين ، وإلى بئر زويلة والبندقانيين ، وإلى غير ذلك ، ثم يسلك أمامه ، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الفرّايين الآن ، وكان يعرف أوّلا بدرب البيضاء ، وإلى درب الأسواني ، وإلى الجامع الأزهر ، وغير ذلك ، ويجد عن يسرته قيسارية بني أسامة ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الجوخيين واللجميين ، فيجد عن يمينه قيسارية السروج ، وعن يسرته قيسارية (١) ثم يسلك أمامه إلى سوق السقطيين والمهامزيين ، فيجد عن يمينه درب الشمسيّ ، ويقابله باب قيسارية الأمير علم الدين الخياط ، وتعرف اليوم : بقيسارية العصفر ، ثم يسلك أمامه شاقا في السوق المذكور ، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق القشاشين ، وعقبة الصباغين المعروف اليوم بالخرّاطين ، وإلى سوق الخيميين ، وإلى الجامع الأزهر ، وغير ذلك ويجد قبالة هذا الزقاق عن يسرته قيسارية العنبر المعروفة قديما بحبس المعونة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الورّاقين ، وسوق الحريريين الشراربيين المعروف قديما بسوق الصاغة القديمة ، وإلى درب شمس الدولة ، وإلى سوق الحريريين ، وإلى بئر زويلة والبندقانيين ، وإلى سويقة الصاحب ، والحارة الوزيرية ، وإلى باب سعادة وغير ذلك ، ثم يسلك أمامه شاقا في بعض سوق الحريريين ، وسوق المتعيشين ، وكان قديما سكنى الدجاجين والكعكيين ، وقبل ذلك أوّلا سكنى السيوفيين ، فيجد عن يمينه قيسارية الصنادقيين ، وكانت قديما تعرف بفندق الدبابليين ، ويجد عن يسرته مقابلها ، دار المأمون البطائحي المعروفة بمدرسة الحنفية ، ثم عرفت اليوم بالمدرسة السيوفية ، لأنها كانت في سوق السيوفيين ، ثم يسلك أمامه في سوق السيوفيين الذي هو الآن سوق المتعيشين ، فيجد عن يمينه خان مسرور ، وحجرتي الرقيق ، وكدة المماليك بينهما ، ولم تزل موضعا لجلوس من يعرض من المماليك الترك والروم ، ونحوهم للبيع إلى أوائل أيام الملك الظاهر برقوق ، ثم بطل ذلك ، ويجد عن يسرته قيسارية الرماحين ، وخان الحجر ، ويعرف اليوم هذا الخط بسوق باب الزهومة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد عن يسرته الزقاق والساباط (٢) المسلوك فيه إلى حمام خشيبة ، ودرب شمس الدولة ، وإلى حارة العدوية المعروفة اليوم بفندق الزمام ، وإلى

__________________

(١) بالأصل بياض.

(٢) الساباط : سقيفة بين حائطين أو دارين تحتهما طريق نافذ.

٢٢٧

حارة زويلة وغير ذلك ، ويجد بعد هذا الزقاق قريبا منه في صفة درب السلسلة ، ومن هنا ابتداء خط بين القصرين ، وكان قديما في أيام الدولة الفاطمية مراحا واسعا ليس فيه عمارة البتة ، يقف فيه عشرة آلاف فارس ، والقصران هما موضع سكنى الخليفة أحدهما شرقيّ ، وهو القصر الكبير ، وكان على يمنة السالك من موضع خان مسرور طالبا باب النصر وباب الفتوح ، وموضعه الآن المدارس الصالحية النجمية ، والمدرسة الصاهرية الركنية ، وما في صفها من الحوانيت ، والرباع إلى رحبة العيد ، وما وراء ذلك إلى البرقية ، ويقابل هذا القصر الشرقيّ القصر الغربيّ ، وهو القصر الصغير ، ومكانه الآن المارستان المنصوريّ ، وما في صفه من المدارس والحوانيت ، إلى تجاه باب الجامع الأقمر ، فإذا ابتدأ السالك بدخول بين القصرين من جهة خان مسرور ، فإنه يجد على يسرته درب السلسلة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الأمشاطيين المقابل لمدرسة الصالحية التي للحنفية والحنابلة ، وإلى الزقاق الملاصق لسور المدرسة المذكورة المسلوك فيه إلى خط الزراكشة العتيق حيث خان الخليليّ ، وخان منج ، وإلى الخوخ السبع حيث الآن سوق الأبارين ، وإلى الجامع الأزهر ، وإلى المشهد الحسينيّ وغير ذلك ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق السيوفيين الآن ، فيجد على يساره دكاكين السيوفيين ، وعلى يمينه دكاكين النقليين ظاهر سوق الكتبيين الآن ، وعلى يساره سوق الصيارف برأس باب الصاغة ، وكان قديما مطبخ القصر قبالة باب الزهومة ، ثم يسلك أمامه فيجد على يمينه باب المدارس الصالحية تجاه باب الصاغة ، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه القبة الصالحية ، وبجوارها المدرسة الطاهرية الركنية ، ويجد على يساره باب المارستان المنصوري ، وفي داخله القبة المنصورية التي فيها قبور الملوك ، وتحت شبابيكها دكك القفصيات التي فيها الخواتيم ونحوها ، فيما بين القبة المذكورة ، والمدرسة الظاهرية المذكورة ، وفي داخله أيضا المدرسة المنصورية ، وتحت شبابيكها أيضا ، دكك القفصيات فيما بين شبابيكها ، وشبابيك المدرسة الصالحية التي للشافعية والمالكية ، وتحتها خيمة الغلمان بجوار قبة الصالح ، وفي داخله أيضا المارستان الكبير المنصوريّ المتوصل من باب سرّه إلى حارة زويلة ، وإلى الخرنشف ، وإلى الكافوري وإلى البندقانيين ، وغير ذلك ، ثم يسلك باب المارستان ، فيجد على يمنته سوق السلاح والنشابين الآن تحت الربع المعروف : بوقف أمير سعيد ، ويجد على يسرته المدرسة الناصرية الملاصقة لمئذنة القبة المنصورية ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمنته : خان بشتاك ، وفوقه الربع وعرف الآن هذا الخان : بالمستخرج ، ويجد على يسرته : المدرسة الظاهرية الجديدة بجوار المدرسة الناصرية ، وكانت قبل إنشائها مدرسة فندقا يعرف : بخان الزكاة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمنته ، باب قصر بشتاك ، ويجد على يسرته المدرسة الكاملية المعروفة : بدار الحديث ، وهي ملاصقة للمدرسة الظاهرية الجديدة ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمنته الزقاق المسلوك فيه إلى بيت أمير سلاح المعروف بقصر أمير سلاح ، وهو الأمير فخر الدين

٢٢٨

بكتاش الفخريّ الصالحيّ النجميّ ، وإلى دار الأمير سلار نائب السلطنة ، وإلى دار الطواشي سابق الدين ، ومدرسته التي يقال لها المدرسة السابقية ، وكان في داخل هذا الزقاق مكان يتوصل إليه من تحت قبو المدرسة السابقية يعرف بالسودوس فيه عدّة مساكن صارت كلها اليوم دارا واحدة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار ، وكان تجاه باب المدرسة السابقية ربع تحته فرن ، ومن ورائه عدّة مساكن يعرف مكانها بالحدرة ، فهدم الأمير جمال الدين المذكور الربع ، وما وراءه ، وحفر فيه صهريجا وأنشأ به عدة آدر هي الآن جارية في أوقافه.

وكان يسلك من باب السابقية على باب الربع ، والفرن المذكورين إلى دهليز طويل مظلم ينتهي إلى باب القصر ، تجاه سور سعيد السعداء ، ومنه يخرج السالك إلى رحبة باب العيد ، وإلى الركن المخلق ، فهدمه الأمير جمال الدين ، وجعل مكانه قيسارية ، وركب على رأس هذا الزقاق تجاه حمام البيسريّ ، دربا في داخله دروب ليصون أمواله ، وانقطع التطرّق من هذا الزقاق ، وصار دربا غير نافذ ، ويجد السالك عن يسرته قبالة هذا الزقاق ، وصار دربا مدربا باب قصر البيسرية ، وقد بنى في وجهه حوانيت بجانبها حمام البيسري ، ومن هنا ينقسم شارع القاهرة المذكورة إلى طريقين : إحداهما ذات اليمين ، والأخرى ذات اليسار ، فأمّا ذات اليسار ، فإنها تتمة القصبة المذكورة ، فإذا مرّ السالك من باب حمام الأمير بيسري ، فإنه يجد على يسرته باب الخرنشف المسلوك فيه إلى باب سرّ البيسرية ، وإلى باب حارة برجوان ، الذي يقال له : أبو تراب ، وإلى الخرنشف ، واصطبل القطبية ، وإلى الكافوري ، وإلى حارة زويلة ، وإلى البندقانيين ، وغير ذلك ، ثم يسلك أمامه فيجد سوقا يعرف أخيرا بالوزارزين والدجاجين يباع فيه الأوز ، والدجاج والعصافير ، وغير ذلك من الطيور ، وأدركناه عامرا سوقا كبيرا من جملته دكان لا يباع فيها غير العصافير ، فيشتريها الصغار للعب بها.

وفي هذا السوق على يمنة السالك : قيسارية يعلوها ربع كانت مدّة سوقا يباع فيه الكتب ، ثم صارت لعمل الجلود ، وكانت من جملة أوقاف المارستان المنصوري ، فهدمها بعض من كان يتحدّث في نظره عن الأمير أيتمش في سنة إحدى وثمانمائة ، وعمرها على ما هي عليه الآن ، وعلى يسرة السالك في هذا السوق ربع يجري في وقف المدرسة الكاملية ، وكان هذا السوق يعرف قديما بالتبانين والقماحين ، ثم يمرّ سالكا أمامه ، فيجد سوق الشماعين متصلا بسوق الدجاجين ، وكان سوقا كبيرا فيه صفان عن اليمين والشمال من حوانيت باعة الشمع أدركته عامرا ، وقد بقي منه الآن يسير ، وفي آخر هذا السوق على يمنة السالك : الجامع (١) الأقمر ، وكان موضعه قديما سوق القماحين ، وقبالته درب الخضريّ ،

__________________

(١) الجامع الأقمر : أنشأه الآمر بأحكام الله سنة ٥١٩ ه‍ ولم يزل هذا الجامع قائم الشعائر إلى اليوم بشارع النحاسين بقسم الجمالية بالقاهرة (مصطلحات محمد رمزي).

٢٢٩

وبجانب الجامع الأقمر من شرقيه الزقاق الذي يعرف بالمحايريين ويسلك فيه إلى الركن المخلق وغيره ، وقبالة هذا الزقاق بئر الدلاء ، ثم يسلك المارّ أمامه ، فيجد على يمنته زقاقا ضيقا ، ينتهي إلى دور ومدرسة تعرف بالشرابشية ، يتوصل من باب سرّها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس ، ثم يسلك أمامه في سوق المتعيشين ، فيجد على يسرته باب حارة برجوان ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين ، وقد أدركته سوقا عظيما لا يكاد يعدم فيه شيء مما يحتاج إليه من المأكولات ، وغيرها بحيث إذا طلب منه شيء من ذلك في ليل أو نهار وجد.

وقد خرب الآن ، ولم يبق منه إلا اليسير ، وكان هذا السوق قديما يعرف بسوق أمير الجيوش ، وبآخره خان الروّاسين ، وهو زقاق على يمنة السالك غير نافذ ، ويقابل هذا الزقاق على يسرة السالك إلى باب الفتوح شارع يسلك فيه إلى سوق يعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش ، وكان قبل اليوم يعرف بسوق الخروقيين ، ويسلك من هذا السوق إلى باب القنطرة في شارع معمور بالحوانيت من جانبيه ، ويعلوها الرباع ، وفيما بين الحوانيت دروب ذات مساكن كثيرة ، ثم يسلك أمامه من رأس سويقة أمير الجيوش ، فيجد على يمينه الجملون الصغير المعروف بجملون ابن صيرم ، وكان مسكنا للبزازين فيه عدّة حوانيت عامرة بأصناف الثياب أدركتها عامرة ، وفيه مدرسة ابن صيرم المعروفة بالمدرسة الصيرمية ، وفي آخره باب زيادة الجامع الحاكميّ ، وكان على بابها عدّة حوانيت تعمل فيها الضبب التي برسم الأبواب ، ويخرج من هذا الجملون إلى طريقين : إحداهما يسلك فيها إلى درب الفرنجية ، وإلى دار الوكالة وشارع باب النصر ، والأخرى إلى درب الرشيديّ النافذ إلى درب الجوّانية ، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته شباك المدرسة الصيرمية ، ويقابله باب قيسارية خوانداردكين الأشرفية ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المرحلين ، وكان صفين من حوانيت عامرة فيها جميع ما يحتاج إليه في ترحيل الجمال ، وقد خرب وبقي منه قليل ، وفي هذا السوق على يسرة السالك زقاق يعرف بحارة الورّاقة ، وفيه أحد أبواب قيسارية خوند المذكورة ، وعدّة مساكن وكان مكانه يعرف قديما باصطبل الحجرية ، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته أحد أبواب الجامع الحاكميّ وميضأته ، ويجد باب الفتوح القديم ، ولم يبق منه سوى عقدته ، وشيء من عضادته ، وبجواره شارع على يسرة السالك يتوصل منه إلى حارة بهاء الدين ، وباب القنطرة ، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين ، فيجد على يمينه بابا آخر من أبواب الجامع الحاكميّ ، ثم يسلك أمام ، فيجد عن يسرته زقاقا بساياط ينفذ إلى حارة بهاء الدين فيه كثير من المساكن ، ثم يسلك أمامه ، فيجد عن يمينه باب الجامع الحاكمي الكبير ، ويجد عن يساره فندق العادل ، ويشق في سوق عظيم إلى باب الفتوح ، وهو آخر قصبة القاهرة ، وأما ذات اليمين من شارع بين القصرين ، فإن المارّ إذا سلك من الدرب الذي يقابل حمام البيسري طالبا الركن المخلق ، فإنه يشق في سوق القصاصين ، وسوق الحصريين إلى

٢٣٠

الركن المخلق ، ويباع فيه الآن النعال ، وبه حوض في ظهر الجامع الأقمر لشرب الدواب تسميه العامة حوض النبي ، ويقابله مسجد يعرف بمراكع موسى ، وينتهي هذا السوق إلى طريقين : إحداهما إلى بئر العظام التي تسميها العامة : بئر العظمة ، ومنها ينقل الماء إلى الجامع الأقمر والحوض المذكور بالركن المخلق ، ويسلك منه إلى المحايريين والطريق الأخرى تنتهي إلى الدنق المعروف بقيسارية الجلود ، ويعلوها ربع أنشأت ذلك خوند بركة أمّ الملك الأشرف شعبان (١) بن حسين ، وبجوار هذه القيسارية بوّابة عظيمة ، قد سترت بحوانيت يتوصل منها إلى ساحة عظيمة هي من حقوق المنحر كانت خوند المذكورة ، قد شرعت في عمارتها قصرا لها ، فماتت دون إكماله ، ثم يسلك أمامه فيجد الرباع التي تعلو الحوانيت ، والقيسارية المستجدّة في مكان باب القصر الذي كان ينتهي إلى مدرسة سابق الدين ، وبين القصرين ، وكان أحد أبواب القصر ، ويعرف بباب الريح ، وهذه الرباع والقيسارية من جملة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار ، وكانت قبله حوانيت ورباعا ، فهدمها وأنشأها على ما هي عليه اليوم ، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه مدرسة الأمير جمال الدين المذكور ، وكان موضعها خانا ، وظاهره حوانيت ، فبنى مكانها مدرسة وحوضا للسبيل ، وغير ذلك ، ويقال لهذه الأماكن رحبة باب العيد ، ويسلك منها إلى طريقين : إحداهما ذات اليمين ، والأخرى ذات اليسار ، فأما ذات اليمين فإنها تنتهي إلى المدرسة الحجازية ، وإلى درب قراصيا ، وإلى حبس الرحبة ، وإلى درب السلاميّ المسلوك منه إلى باب العيد الذي تسميه العامة بالقاهرة ، وإلى المارستان العتيق ، وإلى قصر الشوك ، ودار الضرب ، وإلى باب سرّ المدارس الصالحية ، وإلى خزانة البنود ، ويسلك من رأس درب السلاميّ هذا في رحبة باب العيد إلى السفينة ، وخط خزانة البنود ، ورحبة الأيد مريّ ، والمشهد الحسينيّ ، ودرب الملوخيا ، والجامع الأزهر ، والحارة الصالحية ، والحارة البرقية إلى باب البرقية ، والباب المحروق ، والباب الجديد. وأما ذات اليسار من رحبة باب العيد ، فإنّ المارّ يسلك من باب مدرسة الأمير جمال الدين إلى باب زاوية الخدّام إلى باب الخانقاه المعروفة بدار سعيد السعداء ، فيجد عن يمينه زقاقا بجوار سور دار الوزارة يسلك فيه إلى خرائب تتر ، وإلى خط الفهادين ، وإلى درب ملوخيا ، وغير ذلك. ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه المدرسة القراسنقرية ، وخانقاه ركن الدين بيبرس ، وهما من جملة دار الوزارة ، وما جاور الخانقاه إلى باب الجوّانية ، وتجاه خانقاه بيبرس الدرب الأصفر ، وهو المنحر الذي كانت الخلفاء تنحر فيه الأضاحي ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمنته دار الأمير قزمان بجوار خانقاه بيبرس ، وبجوارهما دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير ، وقد عرفت الآن

__________________

(١) ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون من ملوك الدولة القلاونية بمصر والشام ولي السلطنة سنة ٧٦٤ ه‍ وكان عمره عشر سنوات وقام بأمور الدولة بأيامه أتابك العسكر يلبغا. ولد سنة ٧٥٤ ه‍ وتوفي سنة ٧٧٨ ه‍. الأعلام ج ٣ / ١٦٣.

٢٣١

بدار خوند طولوباي زوجة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ، وبجوارها حمام الأعسر المذكور ، وجميع هذا من دار الوزارة ، ويجد على يسرته : درب الرشيدي تجاه حمام الأعسر المسلوك فيه إلى درب الفرنجية وجملون بن صيرم ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يمينه الشارع المسلوك فيه إلى الجوّانية ، وإلى خط الفهادين ، وإلى درب ملوخيا ، وإلى العطوفية ، وقد خربت هذه الأماكن ويجد على يسرته الوكالة المستجدّة من إنشاء الملك الظاهر برقوق ، ثم يسلك أمامه ، فيجد على يسرته زقاقا يسلك فيه إلى جملون ابن صيرم ، وإلى درب الفرنجية ، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته : دار الأمير شهاب الدين أحمد ، ابن خالة الملك الناصر محمد بن قلاوون ، ودار الأمير علم الدين سنجر الجاولي ، وهما من حقوق الحجرانتي كانت بها مماليك الخلفاء ، وأجنادهم ، ويجد على يسرته : وكالة الأمير قوصون ثم يسلك من باب الوكالة ، فيجد مقابل باب قاعة الجاولي : خان الجاولي ، وبعدها باب النصر القديم ، وأدركت فيه قطعة كانت تجاه ركن المدرسة الفاصدية الغربيّ ، وقد زال ويسلك منه إلى رحبة الجامع الحاكمي ، فيجد على يمنته المدرسة القاصدية ، وعلى يسرته بابي الجامع الحاكميّ ، وتجاه أحدهما الشارع المسلوك فيه إلى حارة العبدانية ، وحارة العطوفية ، وغير ذلك ، ومن باب الجامع الحاكميّ ينتهي إلى باب النصر ، فيما بين حوانيت ورباع ودور ، فهذه صفة القاهرة الآن ، وستقف إن شاء الله تعالى على كيفية ابتداء موضع هذه الأماكن ، وما صارت إليه ، وذكر التعريف بمن نسبت إليه أو عرفت به على ما التقطت ذلك من كتب التواريخ ، ومجامع الفضلاء ، ووقفت عليه بخطوط الثقات ، وأخبرني بذلك من أدركته من المشيخة ، وما شاهدته من ذلك سالكا فيه سبيل التوسط في القول بين الإكثار والاختصار ، والله الموفق بمنه وكرمه لا إله غيره.

٢٣٢

ذكر سور القاهرة

اعلم أن القاهرة مذ أسست عمل سورها ثلاث مرّات : الأولى : وضعه القائد جوهر، والمرّة الثانية : وضعه أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر ، والمرّة الثالثة : بناه الأمير الخصيّ بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل ملوك القاهرة.

السور الأوّل : كان من لبن وضعه جوهر القائد على مناخه الذي نزل به هو وعساكره حيث القاهرة الآن ، فأداره على القصر والجامع ، وذلك أنه لما سار من الجيزة بعد زوال الشمس ، من يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة بعساكره ، وقصد إلى مناخه الذي رسمه له مولاه الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ ، واستقرّت به الدار اختط القصر ، وأصبح المصريون يهنونه ، فوجدوه قد حفر الأساس في الليل ، فأدار السور اللبن ، وسماها المنصورية إلى أن قدم المعز لدين الله من بلاد المغرب إلى مصر ، ونزل بها فسماها : القاهرة.

ويقال في سبب تسميتها : إن القائد جوهرا لما أراد بناءها أحضر المنجمين ، وعرّفهم أنه يريد عمارة بلد ظاهر مصر ليقيم بها الجند ، وأمرهم باختيار طالع سعيد لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم أبدا ، فاختاروا طالعا لوضع الأساس ، وطالعا لحفر السور ، وجعلوا بدائر السور قوائم خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس ، وقالوا للعمال : إذا تحرّكت الأجراس ، فارموا ما بأيديكم من الطين والحجارة ، فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك ، فاتفق أنّ غرابا وقع على حبل من تلك الحبال التي فيها الأجراس ، فتحرّكت كلها ، فظن العمال أن المنجمين قد حرّكوها ، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة ، وبنوا فصاح المنجمون : القاهرة في الطالع فمضى ذلك ، وفاتهم ما قصدوه.

ويقال : إنّ المرّيخ كان في الطالع عند ابتداء وضع الأساس ، وهو قاهر الفلك ، فسموها : القاهرة ، واقتضى نظرهم أنها لا تزال تحت القهر ، وأدخل في دائر هذه السور بئر العظام ، وجعل القاهرة حارات للواصلين صحبته ، وصحبة مولاه المعز ، وعمّر القصر بترتيب ألقاه إليه المعز.

٢٣٣

ويقال : إنّ المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها ، وقال الجوهر : لما فاتك عمارة القاهرة بالساحل ، كان ينبغي عمارتها بهذا الجبل يعني سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد المشرف على جامع راشدة ، ورتب في القصر جميع ما يحتاج إليه الخلفاء بحيث لا تراهم الأعين في النقلة من مكان إلى مكان ، وجعل في ساحاته البحرة والميدان ، والبستان وتقدّم بعمارة المصلى بظاهر القاهرة ، وقد أدركت من هذا السور اللبن قطعا ، وآخر ما رأيت منه قطعة كبيرة كانت فيما بين باب البرقية ، ودرب بطوط هدمها شخص من الناس في سنة ثلاث وثمانمائة ، فشاهدت من كبر لبنها ما يتعجب منه في زمننا ، حتى أنّ اللبنة تكون قدر ذراع في ثلثي ذراع ، وعرض جدار السور : عدّة أذرع يسع أن يمر به فارسان ، وكان بعيدا عن السور الحجر الموجود الآن ، وبينهما نحو الخمسين ذراعا ، وما أحسب أنه بقي الآن من هذا السور اللبن شيء.

وجوهر هذا : مملوك روميّ رباه المعز لدين الله أبو تميم معدّ ، وكناه بأبي الحسن ، وعظم محله عنده في سنة سبع وأربعين وثلثمائة ، وصار في رتبة الوزارة ، فصيره قائد جيوشه وبعثه في صفر منها ، ومعه عساكر كثيرة فيهم الأمير : زيري بن مناد الصنهاجي وغيره من الأكابر ، فسار إلى تاهرت (١) وأوقع بعدّة أقوام ، وافتتح مدنا وسار إلى فاس ، فنازلها مدّة ، ولم ينل منها شيئا ، فرحل عنها إلى سجلماسة ، وحارب ثائرا ، فأسره بها ، وانتهى في مسيره إلى البحر المحيط ، واصطاد منه سمكا ، وبعثه في قلة ماء إلى مولاه المعز ، وأعلمه أنه قد استولى على ما مرّ به من المدائن والأمم ، حتى انتهى إلى البحر المحيط ، ثم عاد إلى فاس ، فألح عليه بالقتال إلى أن أخذها عنوة ، وأسر صاحبها ، وحمله هو والثائر بسجلماسة في قفصين ، مع هدية إلى المعز ، وعاد في أخريات السنة ، وقد عظم شأنه وبعد صيته ، ثم لما قوي عزم المعز على تسيير الجيوش لأخذ مصر ، وتهيأ أمرها ، فقدّم عليها القائد جوهرا ، وبرز إلى رمادة ، ومعه ما ينيف على مائة ألف فارس ، وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال ، وكان المعز يخرج إليه في كل يوم ويخلو به ، وأطلق يده في بيوت أمواله ، فأخذ منها ما يريد زيادة على ما حمله معه ، وخرج إليه يوما ، فقام جوهر بين يديه ، وقد اجتمع الجيش ، فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم مع جوهر ، وقال : والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر ، ولتدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ، ولتنزلن في خرابات ابن طولون ، وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا ، وأمر المعز بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية ، وحملها مع جوهر على الجمال ظاهرة ، وأمر أولاده وإخوانه الأمراء ، ووليّ العهد ، وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمته ، وهو راكب وكتب إلى سائر عماله يأمرهم

__________________

(١) تاهرت : اسم لمدينتين متقابلتين بأقصى المغرب بينهما وبين المسيلة ست مراحل وهي بين تلمسان وقلعة بني حماد. معجم البلدان ج ٢ / ٧.

٢٣٤

إذا قدم عليهم جوهر أن يترجلوا مشاة في خدمته ، فلما قدم برقة افتدى صاحبها من ترجله ومشيه في ركابه بخمسين ألف دينار ذهبا ، فأبى جوهر إلّا أن يمشي في ركابه ، وردّ المال فمشى ، ولمّا رحل من القيروان إلى مصر في يوم السبت رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة أنشد محمد (١) بن هانىء ، في ذلك :

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع

وقد راعني يوم من الحشر أروع

غداة كأن الأفق سدّ بمثله

فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

فلم أدر إذ ودّعت كيف أودع

ولم أدر إذا شيّعت كيف أشيع

إلا أن هذا حشد من لم يذق له

غرار الكرى جفن ولا بات يهجع

إذا حلّ في أرض بناها مدائنا

وإن سار عن أرض غدت (٢) وهي بلقع

تحلّ بيوت المال حيث محله

وجمّ العطايا والرواق المرفع

وكبّرت الفرسان لله إذ بدا

وظل السلاح المنتضى يتقعقع

وعب عباب الموكب الفخم حوله

ورق كما رق الصباح الملمع

رحلت إلى الفسطاط أوّل رحلة

بأيمن فأل بالذي أنت تجمع

فإن يك في مصر ظماء لمورد

فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع

ويمّمهم من لا يغار بنعمة

فيسلبهم لكن يزيد فيوسع

ولما دخل إلى مصر واختط القاهرة ، وكتب بالبشارة إلى المعز قال ابن هانىء :

تقول بنو العباس قد فتحت مصر

فقل لبني العباس قد قضي الأمر

وقد جاوز الإسكندرية جوهر

تصاحبه (٣) البشرى ويقدمه النصر

ولم يزل معظما مطاوعا ، وله حكم ما فتح من بلاد الشام ، حتى ورد المعز من المغرب إلى القاهرة ، وكان جعفر بن فلاح يرى نفسه أجلّ من جوهر ، فلما قدم معه إلى مصر سيره جوهر إلى بلاد الشام في العساكر ، فأخذ الرملة ، وغلب الحسن بن عبد الله بن طفج ، وسار فملك طبرية ودمشق.

فلما صارت الشام له شمخت نفسه عن مكاتبة جوهر ، فأنفذ كتبه من دمشق إلى المعز ، وهو بالمغرب سرّا من جوهر يذكر فيها طاعته ، ويقع في جوهر ، ويصف ما فتح الله للمعز على يده ، فغضب المعز لذلك ، وردّ كتبه كما هي مختومة ، وكتب إليه : قد أخطأت

__________________

(١) هو الشاعر محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي أبو القاسم وقيل أبو الحسن الشاعر المشهور قيل : إنه من ولد حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة. وكان ابن هانىء هذا في المغرب مثل المتنبي في المشرق. توفي سنة ٣٦٢ ه‍. النجوم الزاهرة ٤ / ٧٢.

(٢) في الديوان : ثوت.

(٣) في الديوان : تطالعه.

٢٣٥

الرأي لنفسك ، نحن قد أنفذناك مع قائدنا جوهر ، فاكتب إليه فما وصل منك إلينا على يده قرأناه ، ولا تتجاوزه بعد ، فلسنا نفعل لك ذلك على الوجه الذي أردته ، وإن كنت أهله عندنا ، ولكنا لا نستفسد جوهرا مع طاعته لنا ، فزاد غضب جعفر بن فلاح ، وانكشف ذلك لجوهر ، فلم يبعث ابن فلاح لجوهر يسأله نجدة خوفا أن لا ينجده بعسكر ، وأقام مكانه لا يكاتب جوهرا بشيء من أمره إلى أن قدم عليه الحسن بن أحمد القرمطيّ ، وكان من أمره ما قد ذكر في موضعه.

ولما مات المعز واستخلف من بعده ابنه العزيز ، وورد إلى دمشق : هفتكين الشرابيّ من بغداد ، ندب العزيز بالله جوهرا القائد إلى الشام ، فخرج إليها بخزائن السلاح ، والأموال والعساكر العظيمة ، فنزل على دمشق لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمس وستين وثلثمائة ، فأقام عليها ، وهو يحارب أهلها إلى أن قدم الحسن بن أحمد القرمطيّ من الإحساء إلى الشام ، فرحل جوهر في ثالث جمادى الأولى سنة ست وستين ، فنزل على الرملة والقرمطيّ في إثره فهلك ، وقام من بعده جعفر القرمطيّ ، فحارب جوهرا ، واشتدّ الأمر على جوهر ، وسار إلى عسقلان ، وحصره هفتكين بها حتى بلغ من الجهد مبلغا عظيما ، فصالح هفتكين ، وخرج من عسقلان إلى مصر بعد أن أقام بها ، وبظاهر الرملة نحوا من سبعة عشر شهرا ، فقدم على العزيز ، وهو يريد الخروج إلى الشام.

فلما ظفر العزيز بهفتكين ، واصطنعه في سنة ثمانين وثلثمائة ، واصطنع منجوتكين التركيّ أيضا ، أخرجه راكبا من القصر وحده في سنة إحدى وثمانين ، والقائد جوهر وابن عمار ، ومن دونهما من أهل الدولة مشاة في ركابه ، وكانت يد جوهر في يد ابن عمار ، فزفر ابن عمار زفرة كاد أن ينشق لها ، وقال : لا حول ولا قوّ إلا بالله ، فنزع جوهر يده منه ، وقال : قد كنت عندي يا أبا محمد أثبت من هذا ، فظهر منك إنكار في هذا المقام ، لأحدّثنك حديثا عسى يسليك عما أنت فيه ، والله ما وقف على هذا الحديث أحد غيري.

لما خرجت إلى مصر وأنفذت إلى مولانا المعز من أسرته ، ثم حصل في يدي آخرون اعتقلتهم ، وهم نيف على ثلثمائة أسير من مذكوريهم والمعروفين فيهم ، فلما ورد مولانا المعز إلى مصر أعلمته بهم ، فقال : أعرضهم عليّ ، واذكر في كل واحد حاله ، ففعلت ، وكان في يده كتاب مجلد يقرأ فيه ، فجعلت آخذ الرجل من يد الصقالبة ، وأقدّمه إليه ، وأقول : هذا فلان ، ومن حاله وحاله ، فيرفع رأسه ، وينظر إليه ، ويقول : يجوز ويعود إلى قراءة ما في الكتاب حتى أحضرت له الجماعة ، وكان آخرهم غلاما تركيا ، فنظر إليه وتأمّله ، ولما ولي أتبعه بصره ، فلما لم يبق أحد قبلت الأرض ، وقلت : يا مولانا رأيتك فعلت لما رأيت هذا التركيّ ما لم تفعله مع من تقدّمه ، فقال : يا جوهر يكون عندك مكتوما حتى ترى أنه يكون لبعض ولدنا غلام من هذا الجنس تنفق له فتوحات عظيمة في بلاد كثيرة ، ويرزقه

٢٣٦

الله على يده ما لم يرزقه أحد منا مع غيره ، وأنا أظنّ أنه ذاك الذي قال لي مولانا المعز ، ولا علينا إذا فتح الله لموالينا على أيدينا أو على يد من كان ، يا أبا محمد ، لكل زمان دولة ورجال ، أنريد نحن أن نأخذ دولتنا ودولة غيرنا ، لقد أرجل لي مولانا المعز لما سرت إلى مصر أولاده وإخوته ، ووليّ عهده ، وسائر أهل دولته ، فتعجب الناس من ذلك ، وها أنا اليوم أمشي راجلا بين يدي منجوتكين ، أعزونا وأعزوا بنا غيرنا ، وبعد هذا ، فأقول : اللهم قرّب أجلي ومدّتي فقد أنفت على الثمانين ، أو أنا فيها ، فمات في تلك السنة ، وذلك أنه اعتلّ ، فركب إليه العزيز بالله عائدا أو حمل إليه قبل ركوبه خمسة آلاف دينار ومرتبة مثقل ، وبعث إليه الأمير منصور بن العزيز بالله خمسة آلاف دينار ، توفي يوم الاثنين لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ، فبعث إليه العزيز بالحنوط والكفن ، وأرسل إليه الأمير منصور بن العزيز أيضا الكفن ، وأرسلت إليه السيدة العزيزية الكفن ، فكفن في سبعين ثوبا ما بين مثقل ووشي مذهب ، وصلى عليه العزيز بالله ، وخلع على ابنه الحسين ، وحمله وجعله في مرتبة أبيه ، ولقبه بالقائد ابن القائد ، ومكنه من جميع ما خلفه أبوه ، وكان جوهر عاقلا محسنا إلى الناس كاتبا بليغا ، فمن مستحسن توقيعاته على قصة رفعت إليه بمصر : سوء الاجترام ، أوقع بكم حلول الانتقام ، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام ، فالواجب فيكم ترك الإيجاب ، واللازم لكم ملازمة الاحتساب ، لأنكم بدأتم فأسأتم ، وعدتم فتعدّيتم ، فابتداؤكم ملوم ، وعودكم مذموم ، وليس بينهما فرجة إلا تقتضي الذم لكم والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم ، ولما مات رثاه كثير من الشعراء.

السور الثاني : بناه أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة ثمانين وأربعمائة ، وزاد فيه الزيادات التي فيما بين بابي زويلة ، وباب زويلة الكبير ، وفيما بين باب الفتوح الذي عند حارة بهاء الدين ، وباب الفتوح الآن ، وزاد عند باب النصر أيضا جميع الرحبة التي تجاه جامع الحاكم الآن إلى باب النصر ، وجعل السور من لبن ، وأقام الأبواب من حجارة ، وفي نصف جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وثمانمائة ابتدئ بهدم السور الحجر ، فيما بين باب زويلة الكبير ، وباب الفرج عندما هدم الملك المؤيد شيخ الدور ليبني جامعه ، فوجد عرض السور في الأماكن نحو العشرة أذرع.

السور الثالث : ابتدأ في عمارته السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة ست وستين وخمسمائة ، وهو يومئذ على وزارة العاضد لدين الله ، فلما كانت سنة تسع وستين ، وقد استولى على المملكة ، انتدب لعمل السور الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي ، فبناه بالحجارة على ما هو عليه الآن ، وقصد أن يجعل على القاهرة ومصر والقلعة سورا واحدا ، فزاد في سور القاهرة القطعة التي من باب القنطرة إلى باب الشعرية ، ومن باب الشعرية إلى باب البحر ، وبنى قلعة المقس ، وهي برج كبير ، وجعله على النيل بجانب جامع المقس ، وانقطع السور من هناك ، وكان في أمله مدّ السور من المقس إلى أن يتصل بسور مصر ، وزاد

٢٣٧

في سور القاهرة قطعة مما يلي باب النصر ممتدّة إلى باب البرقية ، وإلى درب بطوط ، وإلى خارج باب الوزير ليتصل بسور قلعة الجبل ، فانقطع من مكان يقرب الآن من الصوّة تحت القلعة لموته ، وإلى الآن آثار الجد وظاهرة لمن تأمّلها فيما بين آخر السور إلى جهة القلعة ، وكذلك لم يتهيأ له أن يصل سور قلعة الجبل بسور مصر ، وجاء دور هذا السور المحيط بالقاهرة الآن تسعة وعشرين ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعين بذراع العمل ، وهو الذراع الهاشميّ ، من ذلك ما بين قلعة المقس على شاطىء النيل ، والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع ، ومن قلعة المقس إلى حائط قلعة الجبل بمسجد سعد الدولة ثمانية آلاف وثلثمائة واثنان وتسعون ذراعا ، ومن جانب حائط قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ، ومائتا ذراع ، ومن وراء القلعة بحيال مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ، ومائتان وعشرة أذرع ، وذلك طول قوسه في أبراجه من النيل إلى النيل ، وقلعة المقس المذكور كانت برجا مطلا على النيل في شرقيّ جامع المقس ، ولم تزل إلى أن هدمها الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ ، عندما جدّد الجامع المذكور في سنة سبعين وسبعمائة ، وجعل في مكان البرج المذكور جنينته ، وذكر أنه وجد في البرج مالا ، وأنه إنما جدّد الجامع منه ، والعامّة تقول اليوم جام المقسيّ بالإضافة وكان يحيط بسور القاهرة خندق شرع في حفره من باب الفتوح إلى المقس في المحرّم سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ، وكان أيضا من الجهة الشرقية خارج باب النصر إلى باب البرقية ، وما بعده ، وشاهدت آثار الخندق باقية ، ومن ورائه سور بأبراج له عرض كبير مبنيّ بالحجارة ، إلّا أنّ الخندق انطمّ ، وتهدّمت الأسوار التي كانت من ورائه ، وهذا السور هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتابه إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فقال : والله يحيي المولى حتى يستدير بالبلدين نطاقه ، ويمتدّ عليهما رواقه ، فما عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار ، ولا خصرها ليتحلى بغير منطقة تضار ، والآن قد استقرّت خواطر الناس ، وأمنوا به من يد تتخطف ، ومن يد مجرم يقدم ، ولا يتوقف.

٢٣٨

ذكر أبواب القاهرة

وكان للقاهرة من جهتها القبلية : بابان متلاصقان يقال لهما : باب زويلة ، ومن جهتها البحرية : بابان متباعدان ، أحدهما : باب الفتوح ، والآخر : باب النصر ، ومن جهتها الشرقية : ثلاثة أبواب متفرقة : أحدها : يعرف الآن بباب البرقية ، والآخر : بالباب الجديد ، والآخر : بالباب المحروق ، ومن جهتها الغربية ثلاثة أبواب : باب القنطرة ، وباب الفرج ، وباب سعادة ، وباب آخر يعرف : باب الخوخة ، ولم تكن هذه الأبواب على ما هي عليه الآن ، ولا في مكانها عندما وضعها جوهر.

باب زويلة (١)

كان باب زويلة عندما وضع القائد جوهر القاهرة بابين متلاصقين بجوار المسجد المعروف اليوم : بسام ابن نوح ، فلما قدم المعز إلى القاهرة دخل من أحدهما ، وهو الملاصق للمسجد الذي بقي منه إلى اليوم عقد ، ويعرف بباب القوس ، فتيامن الناس به ، وصاروا يكثرون الدخول والخروج منه ، وهجروا الباب المجاور له ، حتى جرى على الألسنة أن من مرّ به لا تقضى له حاجة ، وقد زال هذا الباب ، ولم يبق له أثر اليوم إلّا أنه يفضي إلى الموضع الذي يعرف اليوم : بالحجارين ، حيث تباع آلات الطرب من الطنابير ، والعيدان ونحوهما ، وإلى الآن مشهور بين الناس أن من يسلك من هناك لا تقضى له حاجة ، ويقول بعضهم : من أجل أن هناك آلات المنكر ، وأهل البطالة من المغنين والمغنيات ، وليس الأمر كما زعم ، فإنّ هذا القول جار على ألسنة أهل القاهرة من حين دخل المعز إليها قبل أن يكون هذا الموضع سوقا للمعازف ، وموضعا لجلوس أهل المعاصي.

__________________

(١) زويلة : اسم قبيلة من قبائل البربر الواصلين مع جوهر القائد من المغرب. وقيل : إن زويلة اسم امرأة ويحتمل أن تكون القبيلة سميت بها وفي القاموس (زويلة ك جهينة). النجوم الزاهرة ج ٤.

٢٣٩

فلما كان في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، بنى أمير الجيوش بدر الجماليّ : وزير الخليفة المستنصر بالله باب زويلة الكبير الذي هو باق إلى الآن ، وعلى أبراجه ، ولم يعمل له باشورة ، كما هي عادة أبواب الحصون من أن يكون في كل باب عطف ، حتى لا تهجم عليه العساكر في وقت الحصار ، ويتعذر سوق الخيل ، ودخولها جملة لكنه عمل في بابه زلاقة كبيرة من حجارة صوّان عظيمة بحيث إذا هجم عسكر على القاهرة لا تثبت قوائم الخيل على الصوّان ، فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، فاتفق مروره من هنا لك ، فاختلّ فرسه ، وزلق به ، وأحسبه سقط عنه ، فأمر بنقضها ، فنقضت ، وبقي منها شيء يسير ظاهر ، فلما ابتنى الأمير جمال الدين يوسف الإستادار المسجد المقابل لباب زويلة ، وجعله باسم الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق ، ظهر عند حفرة الصهريج الذي به بعض هذه الزلاقة ، وأخرج منها حجارة من صوّان لا تعمل فيها العدّة الماضية ، وأشكالها في غاية من الكبر لا يستطيع جرّها إلّا أربعة أرؤس بقر ، فأخذ الأمير جمال الدين منها شيئا ، وإلى الآن حجر منها ملقى تجاه قبو الخرنشف من القاهرة.

ويذكر أن ثلاثة إخوة قدموا من الرها بنائين بنوا : باب زويلة ، وباب النصر ، وباب الفتوح ، وكل واحد بنى بابا ، وأن باب زويلة هذا بني في سنة أربع وثمانين وأربعمائة ، وأن باب الفتوح بني في سنة ثمانين وأربعمائة.

وقد ذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة : أن باب زويلة هذا بناه العزيز بالله نزار بن المعز ، وتممه أمير الجيوش ، وأنشد لعليّ بن محمد النيلي :

يا صاح لو أبصرت باب زويلة

لعلمت قدر محله بنيانا

باب تأزر بالمجرّة وارتدى ال

شعرى ولاث برأسه كيوانا

لو أنّ فرعونا بناه لم يرد

صرحا ولا أوصى به هامانا

ا ه. وسمعت غير واحد يذكر أنّ فردتيه يدوران في سكرجتين من زجاج.

وذكر جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون : أن في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة رتب أيدكين والي القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون على باب زويلة خليلية تضرب كل ليلة بعد العصر.

وقد أخبرني من طاف البلاد ، ورأى مدن الشرق ، أنه لم يشاهد في مدينة من المدائن عظم باب زويلة ، ولا يرى مثل بدنتيه اللتين عن جانبيه ، ومن تأمّل الأسطر التي قد كتبت على أعلاه من خارجه ، فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش ، والخليفة المستنصر ، وتاريخ بنائه ، وقد كانت البدنتان أكبر مما هما الآن بكثير ، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ لما أنشأ الجامع داخل باب زويلة ، وعمر على البدنتين منارتين ، ولذلك خبر تجده

٢٤٠