كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها

إعلم أن مدينة الإقليم منذ كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه كانت مدينة الفسطاط المعروفة في زماننا بمدينة : مصر قبليّ القاهرة ، وبها كان محل الأمراء ، ومنزل ملكهم ، وعاليها تجبى ثمرات الأقاليم ، وتأوي الكافة ، وكانت قد بلغت من وفور العمارة ، وكثرة الناس وسعة الأرزاق والتفنن في أنواع الحضارة ، والتأنق في النعيم ما أربت به على كل مدينة في المعمور حاشا بغداد ، فإنها كانت سوق العالم ، وقد زاحمتها مصر ، وكادت أن تساميها إلّا قليلا ، ثم لما انقضت الدولة الإخشيدية من مصر ، واختلّ حال الإقليم بتوالي الغلوات ، وتواتر الأوباء ، والفنوات حدثت مدينة القاهرة عند قدوم جيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ أمير المؤمنين على يد عبده ، وكاتبه القائد جوهر ، فنزل حيث القاهرة الآن ، وأناخ هناك ، وكانت حينئذ رملة ، فيما بين مصر وعين شمس يمرّ بها الناس عند مسيرهم من الفسطاط إلى عين شمس ، وكانت فيما بين الخليج المعروف في أوّل الإسلام بخليج أمير المؤمنين ، ثم قيل له خليج القاهرة ، ثم هو الآن يعرف بالخليج الكبير ، وبالخليج الحاكميّ ، وبين الخليج المعروف باليحاميم ، وهو الجبل الأحمر ، وكان الخليج المذكور فاصلا بين الرملة المذكورة ، وبين القرية التي يقال لها : أم دنين ، ثم عرفت الآن بالمقس ، وكان من يسافر من الفسطاط إلى بلاد الشام ينزل بطرف هذه الرملة في الموضع الذي كان يعرف بمنية الأصبغ ، ثم عرف إلى يومنا بالخندق ، وتمرّ العساكر والتجار ، وغيرهم من منية الأصبغ إلى بني جعفر على غيفة وسلمنت إلى بلبيس ، وبينها وبين مدينة الفسطاط أربعة وعشرون ميلا ، ومن بلبيس إلى العلاقمة إلى الفرما ، ولم يكن الدرب الذي يسلك في وقتنا من القاهرة إلى العريش في الرمل يعرف في القديم ، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما ، وإزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملكهم له مدّة من السنين ، وكان من يسافر في البرّ من الفسطاط إلى الحجاز ينزل بجب عميرة المعروف اليوم ببركة الجب ، وببركة الحاج ، ولم يكن عند نزول جوهر بهذه الرملة فيها بنيان سوى أماكن هي بستان الإخشيد محمد بن ظفج المعروف اليوم بالكافوريّ من القاهرة ، ودير للنصارى يعرف بدير : العظام ، تزعم النصارى أنّ فيه بعض من أدرك المسيح عليه‌السلام ، وبقي الآن بئر هذا الدير ، وتعرف ببئر العظام والعامة تقول بئر العظمة ، وهي بجوار الجامع الأقمر من القاهرة ، ومنها ينقل الماء إليه ، وكان بهذه الرملة أيضا مكان ثالث يعرف بقصيّر الشوك بصيغة التصغير تنزله بنو عذرة في الجاهلية ، وصار موضعه عند بناء القاهرة يعرف بقصر الشوك من جملة القصور الزاهرة ، هذا الذي اطلعت عليه أنه كان في موضع القاهرة قبل بنائها بعد الفحص والتفتيش ، وكان النيل حينئذ بشاطئ المقس يمرّ من موضع الساحل القديم بمصر الذي هو الآن سوق المعاريج ، وحمام طن والمراغة ، وبستان الجرف ، وموردة الحلفاء ، ومنشأة

٢٠١

المهرانيّ على ساحل الحمراء ، وهي موضع قناطر السباع ، فيمرّ النيل بساحل الحمراء إلى المقس موضع جامع المقس الآن ، وفيما بين الخليج ، وبين ساحل النيل بساتين الفسطاط ، فإذا صار النيل إلى المقس حيث الجامع الآن مرّ من هناك على طرف الأرض التي تعرف اليوم بأرض الطبالة من الموضع المعروف اليوم بالجرف ، وصار إلى البعل ، ومرّ على طرف منية الأصبغ من غربيّ الخليج إلى المنية ، وكان فيما بين الخليج والجبل مما يلي بحريّ موضع القاهرة مسجد بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، ثم مسجد تبر الإخشيديّ ، فعرف بمسجد تبر ، والعامّة تقول : مسجد التبن ، ولم يكن الممرّ من الفسطاط إلى عين شمس ، وإلى الحوف الشرقيّ ، وإلى البلاد الشامية إلّا بحافة الخليج ، ولا يكاد يمرّ بالرملة التي في موضعها الآن مدينة القاهرة كثير جدا ، ولذلك كان بها دير للنصارى إلّا أنه لما عمر الإخشيد البستان المعروف : بالكافوريّ ، أنشأ بجانبه ميدانا ، وكان كثيرا ما يقيم به ، وكان كافور أيضا يقيم به ، وكان فيما بين موضع القاهرة ، ومدينة الفسطاط مما يلي الخليج المذكور : أرض تعرف في القديم منذ فتح مصر بالحمراء القصوى ، وهي موضع قناطر السباع ، وجبل يشكر حيث الجامع الطولونيّ ، وما دار به ، وفي هذه الحمراء عدّة كنائس ، وديارات للنصارى خربت شيئا بعد شيء إلى أن خرب آخرها في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، وجميع ما بين القاهرة ومصر مما هو موجود الآن من العمائر ، فإنه حادث بعد بناء القاهرة ، ولم يكن هناك قبل بنائها شيء البتة ، سوى كنائس الحمراء ، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ذكر حدّ القاهرة

قال ابن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة الذي استقرّ عليه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقايات ، وكان قبل ذلك من المجنونة إلى مشهد السيدة رقية عرضا ، ا ه. والآن تطلق القاهرة على ما حازه السور الحجر الذي طوله من باب زويلة الكبير إلى باب الفتوح وباب النصر ، وعرضه من باب سعادة ، وباب الخوخة إلى باب البرقية والباب المحروق ، ثم لما توسع الناس في العمارة بظاهر القاهرة ، وبنوا خارج باب زويلة حتى اتصلت العمائر بمدينة فسطاط مصر ، وبنوا خارج باب الفتوح ، وباب النصر إلى أن انتهت العمائر إلى الريدانية ، وبنوا خارج باب القنطرة إلى حيث الموضع الذي يقال له بولاق حيث شاطىء النيل ، وامتدّوا بالعمارة من بولاق على الشاطئ إلى أن اتصلت بمنشأة المهرانيّ ، وبنوا خارج باب البرقية ، والباب المحروق إلى سفح الجبل بطول السور ، فصار حينئذ العامر بالسكنى على قسمين : أحدهما يقال له : القاهرة ، والآخر يقال له : مصر. فأما مصر : فإنّ حدّها على ما وقع عليه الاصطلاح في زمننا هذا الذي نحن فيه من حدّ أوّل قناطر السباع إلى طرف بركة الحبش القبليّ ، مما يلي بساتين الوزير ، وهذا هو

٢٠٢

طول حدّ مصر ، وحدّها في العرض من شاطىء النيل الذي يعرف قديما بالساحل الجديد حيث فم الخليج الكبير ، وقنطرة السدّ إلى أوّل القرافة الكبرى.

وأما حدّ القاهرة ، فإنّ طولها من قناطر السباع إلى الريدانية ، وعرضه من شاطىء النيل ببولاق إلى الجبل الأحمر ، ويطلق على ذلك كله مصر والقاهرة ، وفي الحقيقة قاهرة المعز التي أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ إلى مصر في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إنما هي ما دار عليه السور فقط غير أن السور المذكور الذي أداره القائد جوهر تغير ، وعمل منذ بنيت إلى زمننا هذا ثلاث مرّات ، ثم حدثت العمائر فيما وراء السور من القاهرة ، فصار يقال لداخل السور : القاهرة ، ولما خرج عن السور ظاهر القاهرة ، وظاهر القاهرة أربع جهات : الجهة القبلية ، وفيها الآن معظم العمارة ، وحدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زويلة إلى الجامع الطولونيّ ، وما بعد الجامع الطولونيّ ، فإنه من حدّ مصر ، وحدّها عرضا من الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل غربيّ المريس إلى قلعة الجبل ، وفي الاصطلاح الآن أن القلعة من حكم مصر ، والجهة البحرية ، وكانت قبل السبعمائة من سني الهجرة ، وبعدها إلى قبيل الوباء الكبير فيها أكثر العمائر والمساكن ، ثم تلاشت من بعد ذلك ، وطول هذه الجهة من باب الفتوح ، وباب النصر إلى الريدانية ، وعرضها من منية الأمراء المعروفة في زمننا الذي نحن فيه بمنية الشيرج (١) إلى الجبل الأحمر ، ويدخل في هذا الحدّ مسجد تبر والريدانية ، والجهة الشرقية فإنها حيث ترب أهل القاهرة ، ولم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وحدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلى ما يحاذي مسجد تبر في سفح الجبل ، وحدّها عرضا فيما بين سور القاهرة ، والجبل والجهة الغربية ، فأكثر العمائر بها لم يحدث أيضا إلّا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وإنما كانت بساتين وبحرا ، وحدّ هذه الجهة طولا من منية الشيرج إلى منشأة المهرانيّ بحافة بحر النيل ، وحدّها عرضا من باب القنطرة ، وباب الخوخة وباب سعادة إلى ساحل النيل ، وهذه الأربع جهات من خارج السور يطلق عليها : ظاهر القاهرة.

وتحوي مصر والقاهرة من الجوامع ، والمساجد ، والربط والمدارس ، والزوايا ، والدور العظيمة ، والمساكن الجليلة ، والمناظر البهجة ، والقصور الشامخة ، والبساتين النضرة ، والحمامات الفاخرة ، والقياسر المعمورة بأصناف الأنواع ، والأسواق المملوءة مما تشتهي الأنفس ، والخانات المشحونة بالواردين ، والفنادق الكاظة بالسكان والترب التي تحكي القصور ما لا يمكن حصره ، ولا يعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلك بالتقريب الذي

__________________

(١) منية الشيرج : بلدة كبيرة طويلة ذات سوق بينها وبين القاهرة أكثر من فرسخ على طريق الإسكندرية.

معجم البلدان ج ٥ / ٢١٨.

٢٠٣

يصدّقه الاختبار طولا بريدا (١) ، وما يزيد عليه ، وهو من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش ، وعرضا يكون نصف بريد فما فوقه ، وهو من ساحل النيل إلى الجبل ، ويدخل في هذا الطول والعرض بركة الحبش ، وما داربها وسطح الجرف المسمى : بالرصد ، ومدينة الفسطاط التي يقال لها : مدينة مصر ، والقرافة الكبرى والصغرى ، وجزيرة الحصن المعروف اليوم : بالروضة ، ومنشأة المهرانيّ ، وقطائع ابن طولون التي تعرف الآن بحدرة ابن قميحة ، وخط جامع ابن طولون والرميلة تحت القلعة ، والقبيبات وقلعة الجبل والميدان الأسود الذي هو اليوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقية إلى قبة النصر ، والقاهرة المعزية ، وهو ما دار عليه السور الحجر ، والحسينية والريدانية ، والخندق وكوم الريش ، وجزيرة الفيل ، وبولاق ، والجزيرة الوسطى المعروفة بجزيرة أروى (٢) ، وزريبة قوصون ، وحكر ابن الأثير ، ومنشأة الكاتب ، والأحكار التي فيما بين القاهرة ، وساحل النيل ، وأراضي اللوق ، والخليج الكبير الذي تسميه العامّة بالخليج الحاكميّ ، والحبانية والصليبة والتبانة ، ومشهد السيدة نفيسة ، وباب القرافة ، وأرض الطبالة ، والخليج الناصريّ ، والمقس والدكة ، وغير ذلك مما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وقد أدركنا هذه المواضع ، وهي عامرة ، والمشيخة تقول : هي خراب بالنسبة لما كانت عليه قبل حدوث طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة الذي يسميه أهل مصر : الفناء الكبير ، وقد تلاشت هذه الأماكن ، وعمها الخراب منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، ولله عاقبة الأمور.

ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية

وذلك أن القائد جوهر الكاتب : لمّا قدم الجيزة بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ أقبل في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، وسارت عساكره بعد زوال الشمس ، وعبرت الجسر أفواجا ، وجوهر في فرسانه إلى المناخ الذي رسم له المعز موضع القاهرة الآن ، فاستقرّ هناك ، واختط القصر ، وبات المصريون ، فلما أصبحوا حضروا للهناء ، فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل ، وكانت فيه ازورارات غير معتدلة ، فلما شاهدها جوهر لم يعجبه ، ثم قال : قد حفر في ليلة مباركة ، وساعة سعيدة ، فتركه على حاله ، وأدخل فيه دير العظام ، ويقال : إن القاهرة اختطها جوهر في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة ، سنة تسع وخمسين ، واختطت كل قبيلة خطة عرفت بها : فزويلة بنت الحارة المعروفة بها ، واختطت جماعة من أهل برقة الحارة البرقية ، واختطت الروم حارتين : حارة الروم الآن ، وحارة الروم الجوّانية بقرب باب النصر ، وقصد

__________________

(١) البريد : فرسخان أو اثنا عشر ميلا.

(٢) جزيرة أروى : وكانت تعرف أيضا بالجزيرة الوسطى لأنها فيما بين الروضة وبولاق وفيما بين القاهرة والجيزة لم ينحسر عنها الماء إلا بعد سنة سبعمائة. صبح الأعشى ١٤ / ٣١٧.

٢٠٤

جوهر باختطاط القاهرة حيث هي اليوم أن تصير حصنا فيما بين القرامطة ، وبين مدينة مصر ليقاتلهم من دونها ، فأدار السور اللبن على مناخه الذي نزل فيه بعساكره ، وأنشأ من داخل السور جامعا ، وقصرا ، وأعدّها معقلا يتحصن به ، وتنزله عساكره ، واحتفر الخندق من الجهة الشامية ليمنع اقتحام عساكر القرامطة إلى القاهرة ، وما وراءها من المدينة ، وكان مقدار القاهرة حينئذ أقل من مقدارها اليوم ، فإن أبوابها كانت من الجهات الأربعة ، ففي الجهة القبلية التي تفضي بالسالك منها إلى مدينة مصر : بابان متجاوران يقال لهما : بابا زويلة ، وموضعهما الآن بحذاء المسجد الذي تسميه العامّة : بسام بن نوح ، ولم يبق إلى هذا العهد سوى عقده ، ويعرف باب القوس ، وما بين باب القوس هذا ، وباب زويلة الكبير ليس هو من المدينة التي أسسها القائد جوهر ، وإنما هي زيادة حدثت بعد ذلك ، وكان في جهة القاهرة البحرية ، وهي التي يسلك منها إلى عين شمس بابان أحدهما ، باب النصر ، وموضعه بأوّل الرحبة التي قدّام الجامع الحاكميّ الآن ، وأدركت قطعة منه كانت قدّام الركن الغربيّ من المدرسة القاصدية ، وما بين هذا المكان ، وباب النصر الآن مما زيد في مقدار القاهرة بعد جوهر ، والباب الآخر من الجهة البحرية : باب الفتوح ، وعقده باق إلى يومنا هذا ، مع عضادته اليسرى ، وعليه أسطر مكتوبة بالقلم الكوفيّ ، وموضع هذا الباب الآن بآخر سوق المرحلين ، وأوّل رأس حارة بهاء الدين مما يلي باب الجامع الحاكميّ ، وفيما بين هذا العقد ، وباب الفتوح من الزيادات التي زيدت في القاهرة من بعد جوهر ، وكان في الجهة الشرقية من القاهرة ، وهي الجهة التي يسلك منها إلى الجبل بابان : أحدهما يعرف الآن : بالباب المحروق ، والآخر يقال له : باب البرقية ، وموضعهما دون مكانهما إلى الآن ويقال لهذه الزيادة من هذه الجهة : بين السورين ، وأحد البابين القديمين موجود إلى الآن اسكفته ، وكان في الجهة الغربية من القاهرة ، وهي المطلة على الخليج الكبير بابان أحدهما : باب سعادة ، والآخر باب الفرج ، وباب ثالث يعرف : بباب الخوخة ، أظنه حدث بعد جوهر ، وكان داخل سور القاهرة يشتمل على قصرين ، وجامع يقال لأحد القصرين : القصر الكبير الشرقيّ ، وهو منزل سكنى الخليفة ، ومحل حرمه ، وموضع جلوسه لدخول العساكر ، وأهل الدولة ، وفيه الدواوين وبيت المال ، وخزائن السلاح ، وغير ذلك ، وهو الذي أسسه القائد جوهر ، وزاد فيه المعز ، ومن بعده من الخلفاء ، والآخر تجاه هذا القصر ، ويعرف : بالقصر الغربيّ ، وكان يشرف على البستان الكافوريّ ، ويتحوّل إليه الخليفة في أيام النيل للنزهة على الخليج ، وعلى ما كان إذ ذاك بجانب الخليج الغربيّ من البركة التي يقال لها بطن البقرة ، ومن البستان المعروف بالبغدادية ، وغيره من البساتين التي كانت تتصل بأرض اللوق ، وجنان الزهريّ ، وكان يقال لمجموع القصرين : القصور الزاهرة ، ويقال للجامع : جامع القاهرة ، والجامع الأزهر.

فأما القصر الكبير الشرقيّ : فإنه كان من باب الذهب الذي موضعه الآن محراب

٢٠٥

المدرسة الظاهرية التي أنشأها الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ (١) ، وكان يعلو عقد باب الذهب منظرة يشرف الخليفة فيها من طاقات في أوقات معروفة ، وكان باب الذهب هذا هو أعظم أبواب القصر ، ويسلك من باب الذهب المذكور إلى باب البحر ، وهو الباب الذي يعرف اليوم : بباب قصر بشتاك ، مقابل المدرسة الكاملية ، وهو من باب البحر إلى الركن المخلق ، ومنه إلى باب الريح ، وقد أدركنا منه عضادتيه ، واسكفته ، وعليها أسطر بالقلم الكوفيّ ، وجميع ذلك مبنيّ بالحجر إلى أن هدمه الأمير الوزير المشير جمال الدين يوسف الإستادار ، وفي موضعه الآن قيسارية أنشأها المذكور بجوار مدرسته من رحبة باب العيد ، ويسلك من باب الريح المذكور إلى باب الزمرّذ ، وهو موضع المدرسة الحجازية الآن ، ومن باب الزمرّذ إلى باب العيد ، وعقده باق ، وفوقه قبة إلى الآن في درب السلامي بخط رحبة باب العيد ، وكان قبالة باب العيد هذا رحبة عظيمة في غاية الاتساع تقف فيها العساكر الكثيرة من الفارس والراجل في يومي العيدين تعرف : برحبة العيد ، وهي من باب الريح إلى خزانة البنود ، وكان يلي باب العيد السفينة ، وبجوار السفينة خزانة البنود ، ويسلك من خزانة البنود إلى باب قصر الشوك ، وأدركت منه قطعة من أحد جانبيه كانت تجاه الحمام التي عرفت بحمام الأيدمريّ ، ثم قيل لها في زمننا : حمام يونس بجوار المكان المعروف : بخزانة البنود ، وقد عمل موضع هذا الباب زقاق يسلك منه إلى المارستان العتيق ، وقصر الشوك ، ودرب السلامي وغيره ، ويسلك من باب قصر الشوك إلى باب الديلم ، وموضعه الآن المشهد الحسينيّ ، وكان فيما قصر الشوك ، وباب الديلم رحبة عظيمة تعرف برحبة قصر الشوك ، أوّلها من رحبة خزانة البنود ، وآخرها حيث المشهد الحسينيّ الآن ، وكان قصر الشوك يشرف على اصطبل الطارمة ، ويسلك من باب الديلم إلى باب تربة الزعفران ، وهي مقبرة أهل القصر من الخلفاء ، وأولادهم ونسائهم ، وموضع باب تربة الزعفران فندق الخليليّ في هذا الوقت ، ويعرف بخط الزراكشة العتيق ، وكان فيما بين باب الديلم ، وباب تربة الزعفران الخوخ السبع التي يتوصل منها الخليفة إلى الجامع الأزهر في ليالي الوقدات ، فيجلس بمنظرة الجامع الأزهر ، ومعه حرمه لمشاهدة الوقيد والجمع ، وبجوار الخوخ السبع اصطبل الطارمة ، وهو برسم الخيل الخاص المعدّة لركاب الخليفة ، وكان مقابل باب الديلم ، ومن وراء اصطبل الطارمة الجامع المعدّ لصلاة الخليفة بالناس أيام الجمع ، وهو الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر ، ويسمى في كتب التاريخ : بجامع القاهرة ، وقدّام هذا الجامع رحبة متسعة من حدّ اصطبل الطارمة إلى الموضع الذي يعرف اليوم : بالأكفانيين ، ويسلك من باب تربة الزعفران إلى باب الزهومة ، وموضعه الآن باب سرّ قاعة

__________________

(١) صاحب الفتوحات والأخبار والآثار كان مملوكا للأمير علاء الدين البندقدار ثم أخذه الملك الصالح نجم الدين أيوب فأعتقه ثم صار أتابك العساكر في أيام الملك المظفر قطز ثم استولى على مصر والشام وله وقائع مع التتار والإفرنج ولد سنة ٦٢٥ ه‍ وتوفي سنة ٦٧٦ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٧٩.

٢٠٦

مدرسة الحنابلة من المدارس الصالحية ، وفيما بين تربة الزعفران ، وباب الزهومة دراس العلم ، وخزانة الدرق ، ويسلك من من باب الزهومة إلى باب الذهب المذكور أوّلا ، وهذا هو دور القصر الشرقيّ الكبير ، وكان بحذاء رحبة باب العيد : دار الضيافة ، وهي الدار المعروفة : بدار سعيد السعداء (١) التي هي اليوم : خانقاه للصوفية ، ويقابلها : دار الوزارة ، وهي حيث الزقاق المقابل لباب سعيد السعداء ، والمدرسة القراسنقرية ، وخانقاه بيبرس ، وما يجاورها إلى باب الجوّانية ، وما وراء هذه الأماكن ، وبجوار دار الوزارة الحجر ، وهي من حذاء دار الوزارة بجوار باب الجوّانية إلى باب النصر القديم ، ومن وراء دار الوزارة : المناخ السعيد ، ويجاوره حارة العطوفية ، وحارة الروم الجوّانية ، وكان جامع الخطبة الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم خارجا عن القاهرة ، وفي غربيه الزيادة التي هي باقية إلى اليوم ، وكانت أهراء (٢) لخزن الغلال التي تدّخر بالقاهرة ، كما هي عادة الحصون ، وكان في غربيّ الجامع الأزهر : حارة الديلم ، وحارة الروم البرّانية ، وحارة الأتراك ، وهي تعرف اليوم : بدرب الأتراك ، وحارة الباطلية ، وفيما بين باب الزهومة ، والجامع الأزهر ، وهذه الحارات خزائن القصر ، وهي خزانة الكتب ، وخزانة الأشربة ، وخزانة السروج ، وخزانة الخيم ، وخزائن الفرش ، وخزائن الكسوات ، وخزائن دار أفتكين ، ودار الفطرة ، ودار التعبية ، وغير ذلك من الخزائن هذا ما كان في الجهة الشرقية من القاهرة.

وأما القصر الصغير الغربيّ : فإنه موضع المارستان الكبير المنصوريّ إلى جوار حارة برجوان ، وبين هذا القصر ، وبين القصر الكبير الشرقيّ فضاء متسع يقف فيه عشرة آلاف من العساكر ما بين فارس وراجل يقال له : بين القصرين ، وبجوار القصر الغربيّ الميدان ، وهو الموضع الذي يعرف بالخرنشف ، واصطبل الطارمة ، وبحذاء الميدان البستان الكافوريّ المطل من غربيه على الخليج الكبير ، ويجاور الميدان ، دار برجوان العزيزيّ ، وبحذائها رحبة الأفيال ، ودار الضيافة القديمة ، ويقال لهذه المواضع الثلاثة : حارة برجوان ، ويقال دار برجوان المنحر ، وموضعه الآن يعرف : بالدرب الأصفر ، ويدخل إليه من قبالة خانقاه بيبرس ، وفيما بين ظهر المنحر ، وباب حارة برجوان سوق أمير الجيوش ، وهو من باب حارة برجوان الآن إلى باب الجامع الحاكميّ ، ويجاور حارة برجوان من بحريها اصطبل الحجرية ، وهو متصل بباب الفتوح الأوّل ، وموضع باب اصطبل الحجرية يعرف اليوم : بخان الوراقة ، والقيسارية تجاه الجملون الصغير ، وسوق المرحلين ، وتجاه اصطبل الحجرية الزيادة ، وفيما بين الزيادة والمنحر درب الفرنجية.

__________________

(١) كان بها مشيخة الخانقاه الصلاحية بالقاهرة. صبح الأعشى ٣ / ٥٨٨.

(٢) أهراء : جمع هري وهي الأماكن التي تخزن بها الغلال والأتبان الخاصة بالسلطان احتياطا للطوارىء وكانت لا تفتح إلا للضرورة. صبح الأعشى ٤ / ٣٣.

٢٠٧

وبجوار البستان الكافوري حارة زويلة ، وهي تتصل بالخليج الكبير من غربيها ، وتجاه حارة زويلة اصطبل الجميزة ، وفيه خيول الخليفة أيضا ، وفي هذا الاصطبل بئر زويلة ، وموضعها الآن قيسارية معقودة على البئر المذكورة يعلوها ربع يعرف : بقيسارية يونس من خط البندقانيين ، فكان اصطبل الجميزة المذكور فيما بين القصر الغربيّ من بحريه ، وبين حارة زويلة ، وموضعه الآن قبالة باب سرّ المارستان المنصوريّ إلى البندقانيين ، وبحذاء القصر الغربيّ من قبيلة مطبخ القصر تجاه باب الزهومة المذكور ، والمطبخ موضعه الآن الصاغة قبالة المدارس الصالحية ، وبجوار المطبخ الحارة العدوية ، وهي من الموضع الذي يعرف بحمام خشيبة إلى حيث الفندق الذي يقال له فندق الزمام ، وبجوار العدوية ، حارة الأمراء ، ويقال لها اليوم : سوق الزجاجين ، وسوق الحريريين الشراربيين.

ويجاور الصاغة القديمة : حبس المعونة ، وهو موضع قيسارية العنبر ، وتجاه حبس المعونة ، عقبة الصباغين ، وسوق القشاشين ، وهو يعرف اليوم : بالخرّاطين ، ويجاور حبس المعونة دكة الحسبة ، ودار العيار ، ويعرف موضع دكة الحسبة الآن ، بالإبزاريين ، وفيما بين دكة الحسبة وحارتي الروم والديلم : سوق السرّاجين ، ويقال له الآن : الشوّايين ، وبطرف سوق السرّاجين مسجد ابن البناء الذي تسميه العامّة : سام بن نوح ، ويجاور هذا المسجد : باب زويلة ، وكان من حذاء حارة زويلة من ناحية باب الخوخة : دار الوزير يعقوب بن كلس ، وصارت بعده : دار الديباج ، ودار الاستعمال وموضعها الآن المدرسة الصالحية ، وما وراءها ويتصل دار الديباج بالحارة الوزيرية ، وإلى جانب الوزيرية : الميدان الآخر إلى باب سعادة ، وفيما بين باب سعادة وباب زويلة أهراء أيضا وسطاح. هذا ما كانت عليه صفة القاهرة في الدولة الفاطمية ، وحدّثت هذه الأماكن شيئا بعد شيء ، ولم تزل القاهرة دار خلافة ، ومنزل ملك ، ومعقل قتال لا ينزلها إلّا الخليفة وعساكره ، وخواصه الذين يشرّفهم بقربه فقط.

وأما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع : فإنه كان في الدولة الفاطمية على ما أذكر.

أما الجهة القبلية : وهي التي فيما بين باب زويلة ومصر طولا ، وفيما بين الخليج الكبير والجبل عرضا ، فإنها كانت قسمين : ما حاذى يمينك إذا خرجت من باب زويلة تريد مصر ، وما حاذى شمالك إذا خرجت منه نحو الجبل ، فأما : ما حاذى يمينك ، وهي المواضع التي تعرف اليوم بدار التفاح ، وتحت الربع والقشاشين ، وقنطرة باب الخرق ، وما على حافتي الخليج من جانبيه طولا إلى الحمراء التي يقال لها اليوم : خط قناطر السباع ، ويدخل في ذلك سويقة عصفور ، وحارة الحمزيين ، وحارة بني سوس إلى الشارع ، وبركة الفيل ، والهلالية والمحمودية إلى الصليبة ، ومشهد السيدة نفيسة ، فإنّ هذه الأماكن كلها كانت بساتين تعرف بجنان الزهريّ ، وبستان سيف الإسلام ، وغير ذلك ، ثم حدث في الدولة

٢٠٨

هناك حارات للسودان ، وعمر الباب الجديد ، وهو الذي يعرف اليوم بباب القوس من سوق الطيور في الشارع عند رأس (١) ، وحدثت الحارة الهلالية ، والحارة المحمودية ، وأما : ما حاذى شمالك حيث الجامع المعروف : بجامع الصالح ، والدرب الأحمر إلى قطائع ابن طولون التي هي الآن الرميلة ، والميدان تحت القلعة فإن ذلك كان مقابر أهل القاهرة.

وأما جهة القاهرة الغربية : وهي التي فيها الخليج الكبير ، وهي من باب القنطرة إلى المقس ، وما جاور ذلك ، فإنها كانت بساتين من غربيها النيل ، وكان ساحل النيل بالمقس حيث الجامع الآن ، فيمرّ من المقس إلى المكان الذي يقال له الجرف ، ويمضي على شماليّ أرض الطبالة إلى البعل ، وموضع كوم الريش إلى المنية ، ومواضع هذه البساتين اليوم أراضي اللوق والزهري ، وغيرها من الحكورة التي في برّ الخليج الغربيّ إلى بركة قرموط ، والخور ، وبولاق ، وكان فيما بين باب سعادة ، وباب الخوخة ، وباب الفرج ، وبين الخليج فضاء لا بنيان فيه ، والمناظر تشرف على ما في غربيّ الخليج من البساتين التي وراءها بحر النيل ، ويخرج الناس فيما بين المناظر والخليج للنزهة ، فيجتمع هناك من أرباب البطالة ، واللهو ما لا يحصى عددهم ، ويمرّ لهم هنالك من اللذات والمسرّات ما لا تسع الأوراق حكايته خصوصا في أيام النيل عند ما يتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة ، ويتحوّل خاصته إلى دار الذهب ، وما جاورها ، فإنه يكثر حينئذ الملاذ بسعة الأرزاق ، وإدرار النعم في تلك المدّة ، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وأما جهة القاهرة البحرية ، فإنها كانت قسمين : خارج باب الفتوح ، وخارج باب النصر ، أما خارج باب الفتوح : فإنه كان هناك منظرة من مناظر الخلفاء ، وقدّامها البستانان الكبيران ، وأوّلهما من زقاق الكحل ، وآخرهما منية مطر التي تعرف اليوم : بالمطرية ، ومن غربيّ هذه المنظرة في جانب الخليج الغربيّ منظرة البعل فيما بين أرض الطبالة ، والخندق ، وبالقرب منها مناظر الخمس وجوه ، والتاج ذات البساتين الأنيقة المنصوبة لتنزه الخليفة ، وأما خارج باب النصر : فكان به مصلى العيد التي عمل من بعضها مصلى الأموات لا غير ، والفضاء من المصلى إلى الريدانية ، وكان بستانا عظيما ، ثم حدث فيما خرج من باب النصر تربة أمير الجيوش بدر الجمالي ، وعمر الناس الترب بالقرب منها ، وحدث فيما خرج عن باب الفتوح عمائر منها : الحسينية ، وغيرها.

وأما جهة القاهرة الشرقية ، وهي ما بين السور والجبل ، فإنه كان فضاء ثم أمر الحاكم بأمر الله أن تلقى أتربة القاهرة من وراء السور ، لتمنع السيول أن تدخل إلى القاهرة ، فصار منها الكيمان التي تعرف بكيمان البرقية ، ولم تزل هذه الجهة خالية من العمارة إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية ، فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.

__________________

(١) بالأصل فراغ.

٢٠٩

ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها

قد تقدّم أن القاهرة إنما وضعت منزل سكنى للخليفة ، وحرمه ، وجنده ، وخواصه ، ومعقل قتال يتحصن بها ، ويلتجأ إليها ، وإنها ما برحت هكذا حتى كانت السنة العظمى في خلافة المستنصر ، ثم قدم أمير الجيوش بدر الجمالي ، وسكن القاهرة ، وهي يباب دائرة خاوية على عروشها غير عامرة ، فأباح للناس من العسكرية ، والملحية ، والأرمن ، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة بأن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من فسطاط مصر ، ومات أهله ، فأخذ الناس ما كان هناك من أنقاض الدور ، وغيرها ، وعمروا به المنازل في القاهرة ، وسكنوها فمن حينئذ سكنها أصحاب السلطان إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية باستيلاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي في سنة سبع وستين وخمسمائة.

فنقلها عما كانت عليه من الصيانة ، وجعلها مبتذلة لسكن العامّة والجمهور ، وحط من مقدار قصور الخلافة ، وأسكن في بعضها ، وتهدّم البعض ، وأزيلت معالمه ، وتغيرت معاهده ، فصارت خططا وحارات ، وشوارع ومسالك ، وأزقة ، ونزل السلطان منها في دار الوزارة الكبرى حتى بنيت قلعة الجبل ، فكان السلطان صلاح الدين يتردّد إليها ، ويقيم بها ، وكذلك ابنه الملك العزيز عثمان ، وأخوه الملك العادل ، أبو بكر ، فلما كان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب تحوّل من دار الوزارة إلى القلعة ، وسكنها ونقل سوق الخيل والجمال والحمير إلى الرميلة تحت القلعة ، فلما خرب المشرق والعراق بهجوم عساكر التتر منذ كان جنكيزخان في أعوام بضع عشرة وستمائة إلى أن قتل الخليفة المستعصم ببغداد في صفر سنة ست وخمسين وستمائة ، كثر قدوم المشارقة إلى مصر ، وعمرت حافتي الخليج الكبير ، وما دار على بركة الفيل ، وعظمت عمارة الحسينية ، فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون الثالثة بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، واستجدّ بقلعة الجبل المباني الكثيرة من القصور وغيرها ، حدثت فيما بين القلعة وقبة النصر عدّة ترب بعد ما كان ذلك المكان فضاء يعرف : بالميدان الأسود وميدان القبق ، وتزايدت العمائر بالحسينية ، حتى صارت من الريدانية إلى باب الفتوح ، وعمر جميع ما حول بركة الفيل ، والصليبة إلى جامع ابن طولون ، وما جاوره إلى المشهد النفيسيّ ، وحكر الناس أرض الزهريّ ، وما قرب منها ، وهو من قناطر السباع إلى منشاة المهرانيّ ، ومن قناطر السباع إلى البركة الناصرية إلى اللوق إلى المقس ، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ اتسعت الخطة فيما بين المقس ، والدكة إلى ساحل النيل ، وأنشأ الناس فيها البساتين العظيمة ، والمساكن الكثيرة ، والأسواق والجوامع والمساجد ، والحمامات والشون ، وهي من المواضع التي من باب البحر خارج المقس إلى ساحل النيل المسمى

٢١٠

ببولاق ، ومن بولاق إلى منية الشيرج ، ومنه في القبلة إلى منشأة المهرانيّ ، وعمر ما خرج عن باب زويلة يمنة ويسرة من قنطرة الخرق إلى الخليج ، ومن باب زويلة إلى المشهد النفيسيّ ، وعمرت القرافة من باب القرافة إلى بركة الحبش طولا ، ومن القرافة الكبرى إلى الجبل عرضا ، حتى أنه استجدّ في أيام الناصر بن قلاون بضع وستون حكرا ، ولم يبق مكان يحكر ، واتصلت عمائر مصر والقاهرة ، فصارا بلدا واحدا يشتمل على البساتين والمناظر والقصور ، والدور والرباع ، والقياسر ، والأسواق ، والفنادق ، والخانات ، والحمامات ، والشوارع ، والأزقة ، والدروب ، والخطط والحارات ، والأحكار والمساجد ، والجوامع ، والزوايا والربط ، والمشاهد والمدارس ، والترب والحوانيت ، والمطابخ والشون ، والبرك والخلجان والجزائر والرياض ، والمنتزهات متصلا جميع ذلك بعضه ببعض من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش ، ومن شاطىء النيل بالجيزة إلى الجبل المقطم ، وما زالت هذه الأماكن في كثرة العمارة ، وزيادة العدد تضيق بأهلها لكثرتها ، وتختال عجبا بهم لما بالغوا في تحسينها ، وتأنقوا في جودتها ، وتنميقها إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، فخلا كثير من هذه المواضع ، وبقي كثير أدركناه ، فلما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة ، وقصر جري النيل في مدّة ، وخربت البلاد الشامية بدخول الطاغية تيمور لنك ، وتحريقها ، وقتل أهلها وارتفاع أسعار الديار المصرية ، وكثرة الغلاء فيها ، وطول مدّته ، وتلاف النقود المتعامل بها ، وفسادها ، وكثرة الحروب والفتن بين أهل الدولة ، وخراب الصعيد ، وجلاء أهله عنه ، وتداعى أسفل أرض مصر من البلاد الشرقية والغربية إلى الخراب ، واتضاع أمور ملوك مصر ، وسوء حال الرعية ، واستيلاء الفقر والحاجة والمسكنة على الناس ، وكثرة تنوّع المظالم الحادثة من أرباب الدولة بمصادرة الجمهور ، وتتبع أرباب الأموال ، واحتجاب ما بأيديهم من المال بالقوّة والقهر والغلبة ، وطرح البضائع مما يتجر فيه السلطان ، وأصحابه على التجار والباعة بأغلى الأثمان إلى غير ذلك مما لا يتسع لأحد ضبطه ، ولا تسع الأوراق حكايته ، كثر الخراب بالأماكن التي تقدّم ذكرها ، وعمّ سائرها ، وصارت كيمانا ، وخرائب موحشة مقفرة يأويها البوم والرخم أو مستهدمة واقعة ، أو آئلة إلى السقوط والدثور ، سنة الله التي قد خلت في عباده ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

٢١١

ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها

قال أبو الحسن عليّ بن رضوان الطبيب : ويلي الفسطاط في العظم ، وكثرة الناس القاهرة ، وهي في شمال الفسطاط ، وفي شرقيها أيضا الجبل المقطم يعوق عنها ريح الصبا ، والنيل منها أبعد قليلا ، وجميعها مكشوف للهواء ، وإن كان عمل فوق ربما عاق عن بعض ذلك ، وليس ارتفاع الأبنية بها كارتفاع الفسطاط ، لكن دونها كثيرا ، وأزقتها وشوارعها بالقياس إلى أزقة الفسطاط ، وشوارعها أنظف ، وأقل وسخا ، وأبعد عن العفن ، وأكثر شرب أهلها من مياه الآبار ، وإذا هبت ريح الجنوب أخذت من بخار الفسطاط على القاهرة شيئا كثيرا ، وقرب مياه آبار القاهرة من وجه الأرض مع سخافتها موجب ضرورة أن تكون يصل إليها بالرشح من عفونة الكتف شيء ما ، وبين القاهرة والفسطاط بطائح تمتلىء من رشح الأرض في أيام فيض النيل ، ويصب فيها بعض خرّارات القاهرة ، ومياه البطائح هذه رديئة وسخة أرضها ، وما يصب فيها من العفونة يقتضي أن يكون البخار المرتفع منها على القاهرة ، والفسطاط زائدا في رداءة الهواء بهما ، ويطرح في جنوب القاهرة قذر كثير نحو حارة الباطلية ، وكذلك يطرح في وسط حارة العبيد إلّا أنه إذا تأمّلنا حال القاهرة ، كانت بالإضافة إلى الفسطاط أعدل وأجود هواء ، وأصلح حالا ، لأنّ أكثر عفوناتهم ترمى خارج المدينة والبخار ينحل منها أكثر ، وكثير أيضا من أهل القاهرة يشرب من ماء النيل ، وخاصة في أيام دخوله الخليج ، وهذا الماء يستقى بعد مروره بالفسطاط ، واختلاطه بعفوناتها.

قال : وقد اقتصر أمر الفسطاط والجيزة والجزيرة ، فظاهر أن أصح أجزاء المدينة الكبرى : القرافة ، ثم القاهرة ، والشرف ، وعمل فوق مع الحمراء والجيزة ، وشمال القاهرة أصح من جميع هذه لبعده عن بخار الفسطاط ، وقربه من الشمال ، وأرقى موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل ، والسواحل ، وإلى جانب القاهرة من الشمال الخندق ، وهو في غور فهو يتغير أبدا لهذا السبب ، فأما المقس فمجاورته للنيل تجعله أرطب. وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حلي المغرب عن البيهقيّ : وأما مدينة القاهرة ، فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون ، وأبدعوا في بنائها ، واتخذوها وطنا لخلافتهم ، ومركزا لأرجائها ، فنسي الفسطاط ، وزهد فيه بعد الاغتباط.

٢١٢

قال : وسميت القاهرة ، لأنها تقهر من شذّ عنها ، ورام مخالفة أميرها ، وقدّروا أن منها يملكون الأرض ، ويستولون على قهر الأمم ، وكانوا يظهرون ذلك ، ويتحدّثون به.

قال ابن سعيد : هذه المدينة اسمها أعظم منها ، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته ، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين ، وكان سلطانه ، قد عمّ جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط ، وخطب له في البحرين من جزيرة عند القرامطة ، وفي مكة والمدينة ، وبلاد اليمن ، وما جاورها ، وقد علت كلمته ، وسارت مسير الشمس في كل بلدة ، وهبت الريح في البرّ والبحر ، لا سيما ، وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية (١) التي إلى جانب القيروان ، وعاين المهدية (٢) مدينة جدّه عبيد الله المهديّ لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة ، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله درّ القائل :

هم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إن البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدل على عظيم الشأن

واهتم من بعد الخلفاء المصريون بالزيادة في تلك القصور ، وقد عاينت فيها إيوانا يقولون : إنه بني على قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن ، وكان يجلس فيه خلفاؤهم ، ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار ، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديد من الكلس والجبس ، ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة ، والمكان المعروف في القاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر ، والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ، ولكن ذلك أمد قليل ، ثم تسير منه إلى أمد ضيق ، وتمرّ في ممرّ كدر حرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ذلك ما تضيق منه الصدور ، وتسخن منه العيون ، ولقد عاينت يوما وزير الدولة ، وبين يديه أمراء الدولة ، وهو في موكب جليل ، ولقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة ، وقد سدّت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ، ووقف الوزير وعظم الازدحام ، وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير ، وعلى ثيابه ، وقد كاد يهلك المشاة ، وكدت أهلك في جملتهم.

وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب ، والأزبال ، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينهما ، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ

__________________

(١) المنصورية : مدينة بقرب القيروان من نواحي إفريقية استحدثها القائم بن المهدي الفاطمي سنة ٣٧٧ ه‍ ثم صارت منزلا لهم. معجم البلدان ج ٥ / ٢١١.

(٢) المهدية : مدينة بإفريقية بينها وبين القيروان مرحلتان إلى الشمال منها وقد اختطها المهدي العبيدي.

معجم البلدان ج ٥ / ٢٣٠.

٢١٣

حالا منها في ذلك ، ولقد كنت إذا مشيت فيها بضيق صدري ، ويدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين.

ومن عيوب القاهرة : أنها في أرض النيل الأعظم ، ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها ، ويأكل ديارها ، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف : بالمقس ، وجوّها لا يبرح كدرا ، بما تثيره الأرجل من التراب الأسود ، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها :

يقولون سافر إلى القاهرة

وما لي بها راحة ظاهره

زحام وضيق وكرب وما

تثير بها أرجل السائره

وعند ما يقبل المسافر عليها ، يرى سورا أسود كدرا ، وجوّا مغبرّا ، فتنقبض نفسه ، ويفرّ أنسه ، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة ، لا سيما أرض القرط والكتان فقلت :

سقى الله أرضا كلما زرت أرضها

كساها وحلّاها بزينته القرط

تجلت عروسا والمياه عقودها

وفي كل قطر من جوانبها قرط

وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي :

ما زالت الأنحال تأخذه

حتى غدا كذؤابة النجم

وقلت في نوّار الكتان على جانبي هذا الخليج :

انظر إلى النهر والكتان يرمقه

من جانبيه بأجفان لها حدق

رأته سيفا عليه للصبا شطب

فقابلته بأحداق بها أرق

وأصبحت في يد الأرواح تنسجها

حتى غدت حلقا من فوقها حلق

فقم وزرها ووجه الأفق متضح

أو عند صفرته إن كنت تغتبق

وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر ، والمناظرة فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل ، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم ، وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب وفيها أقول :

انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت

بها المناظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها

كواكب قد أداروها على القمر

ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت :

٢١٤

انظر إلى بركة الفيل التي نحرت

لها الغزالة نحرا من مطالعها (١)

وخل طرفك مجنونا ببهجتها

تهيم وجدا وحبا في بدائعها

والفسطاط أكثر أرزاقا ، وأرخص أسعارا من القاهرة لقرب النيل من الفسطاط ، فالمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك ، ويباع ما يصل فيها بالقرب منها ، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة ، لأنه بعيد عن المدينة ، والقاهرة هي أكثر عمارة ، واحتراما وحشمة من الفسطاط ، لأنها أجلّ مدارس ، وأضخم خانات ، وأعظم دثارا لسكنى الأمراء فيها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها ، فأمور السلطنة كلها فيها أيسر ، وأكثر ، وبها الطراز وسائر الأشياء التي تتزين بها الرجال والنساء ، إلّا أنّ في هذا الوقت لما اعتنى السلطان الآن ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط ، وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط ، وانتقل إليها كثير من الأمراء ، وضخمت أسواقها وبنى فيها للسلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة تنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ ، وما أشبه ذلك.

ومعاملة القاهرة والفسطاط بالدراهم المعروفة بالسوداء ، كل درهم منها ثلث من الدرهم الناصريّ ، وفي المعاملة بها شدّة وخسارة في البيع والشراء ، ومخاصمة مع الفريقين ، وكان بها في القديم الفلوس ، فقطعها الملك الكامل فبقيت إلى الآن مقطوعة منها ، وهي في الإقليم الثالث ، وهواءها رديء لا سيّما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة ، وأيضا رمد العين فيها كثير ، والمعايش فيها متعذرة نزرة ، لا سيّما أصناف الفضلاء وجوامك المدارس قليلة كدرة ، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الخراج والطب ، والنصارى بها يمتازون بالزنار في أوساطهم ، واليهود بعلامة صفراء في عمائمهم ، ويركبون البغال ، ويلبسون الملابس الجليلة ، ومآكل أهل القاهرة الدميس ، والصير ، والصحناة ، والبطارخ ، ولا تصنع النيدة ، وهي حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية ، وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين لهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورياسة متقدّمة ، ومطابخ السكر ، والمطابخ التي يصنع فيها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة ، ويصنع فيها من الأنطاع المستحسنة ، ما يسفر إلى الشام وغيرها ، ولها من الشروب الدمياطية وأنواعها ، ما اختصت به ، وفيها صناع للقسيّ كثيرون متقدّمون ، ولكن قسيّ دمشق بها يضرب المثل وإليها النهاية ، ويسفر من القاهرة إلى الشام ما يكون من أنواع الكمرانات ، وخرائط الجلد ، والسيور ، وما أشبه ذلك وهي الآن عظيمة آهلة يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ولا ترسيما وعذابا ، ولا يطلب برفيق له إذا مات فيقال له : ترك عندك مالا ، فربما سجن في شأنه أو ضرب وعصر ، والفقير

__________________

(١) الغزالة : الشمس.

٢١٥

المجرّد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماعات ، والفرج في ظواهرها ودواخلها ، وقلة الاعتراض عليه ، فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في السوق أو تجريد ، أو سكر من حشيشة أو غيرها أو صحبة المردان ، وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب ، وسائر الفقراء لا يعترضون بالقبض للأسطول إلّا المغاربة ، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر ، فقد عمّ ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ، ومن لا يعرف ، وهم في القدوم عليها بين حالين إن كان المغربيّ غنيا طولب بالزكاة ، وضيقت عليه أنفاسه حتى يفرّ منها ، وإن كان مجرّدا فقيرا حمل إلى السجن حتى يجيء وقت الأسطول ، وفي القاهرة أزاهير كثيرة غير منقطعة الاتصال ، وهذا الشأن في الديار المصرية تفضل به كثيرا من البلاد ، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول :

من فضل النرجس وهو الذي

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام في خدمته النرجس

وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه : الرمان والموز والتفاح ، وأما الإجاص فقليل غال ، وكذلك الخوخ ، وفيها الورد والنرجس والنسرين واللينوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر ، وأما العنب والتين فقيل غال ولكثرة ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل ، ومع هذا فشراؤه عندهم في نهاية الغلاء ، وعامّتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من القمح ، حتى أن القمح يطلع عندهم سعره بسببه ، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه ، وكسر أوانيه ، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ، ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولا تبرّج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب ، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر ، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة ، فرأيت فيه من ذلك العجائب ، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر ، فيمنع فيه الشرب ، وذلك في بعض الأحيان ، وهو ضيق عليه في الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم ، والمخالفة حتى إنّ المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب ، وللسرج في جانبيه الليل منظر فتان ، وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر بالليل ، وفي ذلك أقول :

لا تركبن في خليج مصر

إلا إذا أسدل الظلام

فقد علمت الذي عليه

من عالم كلهم طغام

صفان للحرب قد أظلا

سلاح ما بينهم كلام

يا سيدي لا تسر إليه

إلا إذا هوّم النيام

والليل ستر على التصابي

عليه من فضله لثام

والسرج قد بدّدت عليه

منها دنانير لا ترام

وهو قد امتدّ والمباني

عليه في خدمة قيام

لله كم دوحة جنينا

هناك أثمارها الآثام

٢١٦

انتهى. وفيه تحامل كثير. وقال زكي الدين الحسين من رسالة كتبها من مصر في شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة إلى أخيه ، وهو بدمشق يتشوّق إليها ، ويذكر ما فيها من المواضع ، والمنتزهات ، ويذم من مصر بقوله : فكيف يبقى لمن حلّ في جنة النعيم ورياضها ، ويرتع في ميادين المسرّات ، وغياضها تلفت إلى من سلمته يد الأقدار إلى أرض ليست بذات قرار ، وبدّلوا بجنتهم ذات البان المتفاوح ، والورق المتصادح ، والنشر المتقادح ، والماء المطلق المسلسل ، والنسيم الصحيح العليل جنتين ذواتي أكل خمط (١) ، وأثل وشيء من سدر قليل ، وتقصدتهم يد القضاء ، فأخذتهم بالبأساء والضرّاء ، وأوقعتهم بمصر وشموسها ، وحميمها وغمومها ، وحزونها ، ووعورها ، وحرورها ، وزفيرها ، وسعيرها ، وكيمانها ، ونيرانها ، وسودانها ، وفلاحيها ، وملاحيها ، ومشاربها ، ومساربها ، ومسالكها ، ومهالكها ، وصحناتها ، وعصفورها ، وبوريها ، وصقورها ، ومخاوف نوروها ، وحرارة تموزها ، ودارس طلولها ، ورائس أسطولها ، وتعكر مائها ، وتكدّر هوائها ، فلو تراهم في أرجائها القصوى كالأباعر الهمل ، وهم يصطخرون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل.

فأجابه من دمشق بكتاب من جملته على لسان دمشق ، كأنها تخاطبه : ويا أيها الولد العزيز كيف سمحت فطرتك السليمة ، ومروءتك الكريمة ، وسيرتك المستقيمة ، وصبرك المحافظ ، ودينك المراقب الملاحظ بذم من جنيت نعمها ، وسكنت حرمها ، وقلت مصر وشموسها ، وسقت عليها القول من كل جانب ، واستعرت لها التكدير حتى في المشارب والمسارب ، وهلا ذكرتها ، وقد باكرها نيل نيل النعيم ، بمغيثة بليل النسيم بكأس من تسنيمه ، وطما البحر عليها زاخرا ، فأغناها عن بكاء السحاب وتجهيمه ، وعمّ معظم أرضها ، وعبّ عبابه في طولها وعرضها ، حتى كاد يعلو رفيع قصورها ، ويتسوّر بسورته شامخ سورها ، ومع ذا لا تراه جسورا على ضعاف جسورها ، وقد طبق التهائم والأنجاد ، وغرّق الآكام والوهاد ، وعلا أعلى الصعيد والصعاد ، وأعاد البرّ سلطانه بحرا بالازدياد ، فإذا ارتوى أوام (٢) أكباد البلاد ، وروى السهل والوعر والهضاب والوهاد ، وذهب إملاق الأرض بكل ملقة وخليج ، وانجاب عنها فاهتزت وربت وأنبتت من كلزوج بهيج ، بدت روضة نضرة بأملاق مقطعة ، كزمرّذة أخضر بلآل مرصعة ، فكم من غدير مستدير كبدر منير ، ودقيق مستطيل كسيف صقيل ، وكم من قليب قلاب بماء كجلاب ، وكم من عظيم بركة حرّكها النسيم بلطفه ، وطيبها عبير عنبرها ، فضمّخها بكفه ، وزهت بزهو نيلوفرها ، فعرّفها بعرفه ، وكم ترى من ملقة لبقة ، عليها عيون النرجس محدّقة ، كصحن خدّ عروس منمقة ، والنوّار

__________________

(١) خمط : طيب الرائحة.

(٢) الأوام : العطش أو حرّه.

٢١٧

قد دارت بمدام الندى كؤوسه ، وجالت في مراح الأفراح نفوسه ، ونجم نجمه وابتسم عروسه ، وسامره الرذاذ المنهل ، وباكره الطل ، فكلله بلؤلؤه وقلده ، وزاره النسيم المعتل فأقامه وأقعده ، ونمق أرضه وروضه ، فذهّبه وفضّضه ، قد تاهت برياضها الغناء ، وزهت بزخرفها وزينتها الحسناء ، وامتدّ بساطها الزمرّدي ، وانبسط مدادها الزبرجدي ، فلا يدرك أقصاه ناظر مسافر ، ولا يحيط بمنتهاه خيال ولا خاطر ، فلله درّها من روضة مرن ، وكعبة حسن ، ومقطعات بماء غير آسن ، وحرم بحر لحجاج طيره آمن ، آتاها حجيج الطير من كل فج عميق ، ملبيا داعي حسنها من كل مكان سحيق ، قد امتطى ركبها متون الرياح ، وعلا جثمانها عالم الأرواح ، ووصلن الإدلاج بالصباح ، وقطعن أجناح الليل بخفاق الجناح ، كأنهن الدراري السواري ، أو المنشآت الجواري ، أو المطايا المهاري :

تواصل من جوّ حوائض نيله

صعود على حكم الطريق نزول

رفاق تعاهدن على الوفاء ، وتحالفن على النعماء والبلاء ، خرجن مهاجرات من الأوطان ألوفا ، وقدمن صافات كالمصلين صفوفا ، يقدمهن دليل كأنه إمام ، قد قتل طرق الآفاق خبرا واستوى لديه الإضواء والإظلام ، أبصر من زرقاء اليمامة ، وأطير من الورقاء والهامة ، وأهدى من النجم ، وأشدّ من السهم ، يتناجين بلغات أعجميات ، سبحات بألحان مطربات ، فطفن في حرمها الآمن ، واعتمرن بتلك المحاسن ، فتراها عند إقبال نوّها ، وحومها في جوّها ، ما تستقيم خطا مستقيما ، وإن كانت تصطف صفا عظيما ، فمنها ما يستهل هلالا ، ومنها ما يحكي بنات نعس حالا ، ومنها ما ينثني بإدلاله دالا ، ومنها ما يخط نونا نونا ، فيحكي حاجبا مقرونا ، ومنها ما يكتب زينا ، فيعيدها عينا ، ومنها ما يصوّر ميم الهجاء ، فيشاهد مبسم السماء ، ومنها ما يأتي زرافات ووحدانا ، فيبدع في إعجابه حسنا وإحسانا ، فكم من حبل أوز معلق بالسماء ، يحلق إلى ذلك الماء ، وأوانس عرّيسات ، أنيسات كيّسات وصور صور ، كأمثال حور ، وطير لغلغ (١) ، مكتس بديباج مصبغ ، وجليل حبرج (٢) ، كعلج متوّج ، وكركيّ عريض طويل ، كبعير كبير جميل ، وغرير غرّ ، مغرّر متغير ، وسبيطر (٣) شديد شويطر ، وكم ضخم الدسيعة جوّال ، ككوهي بالقوّة المنيعة صوّال ، ورخام مرزم كذي إمرة محتشم ، وجلالة نسر في الشائع الذائع ، والحاضر الواقع ، أبهى من النسر الطائر والواقع ، وعظم عقاب تمّ الحسن بحسنه ، وكل الصيد في ضمنه ، وكم من خضاري وحرمان ، وبلشون وشهرمان ، صنوان وغير صنوان ، وكم من بط على شط وخلط ، وقطقط (٤) منقط ، وغرّ وغرنوق ، وكرسوغ ممشوق ، ونورس مستأنس ، وقد امتلأت بهنّ

__________________

(١) لغلغ : طائر غير اللقلق شبيه به.

(٢) الحبرج : طائر الماء.

(٣) سبيطر : طويل. وطائر طويل العنق.

(٤) قطقط : المطر المتتابع أو صفار البرد.

٢١٨

الآفاق وتكللت بنجومهنّ الأملاق ، وشربن من جريالها ، فأسكرهنّ الاصطباح (١) والاغتباق (٢) ، فكم من مسودّ كخال بخدّ ، وأزرق كلا زورد ، وأشقر كزهر ورد ، أحمر ناصع ، وأصفر فاقع ، وأبيض ذي خضاب عندمي ، بلطيف منقار بقمي ، ومبرقش ومبقع ، ومعمم ومقتنع ، وأشقر منقش ، وأرقش مرشش ، وعودي ، وهندي ، وصيني مسني ، وعينين كياقوتتين ، قد رصعتا في لجين ، وكم من طائر أبهى من قمر سائر بفرق مثل صبح سافر ، فتراهنّ في الماء صموتا وقوفا ، صفوفا عكوفا ، كصور أصنام ، أو حجارة مبدّدة في آكام ، وكم من أطيار ظراف ، ملاح لطاف ، ذوات ألحان ، ونضرة وألوان ، وخلق وأخلاق ، ونطق وأطواق ، وإيناس مع شماس ، قد ازدانت الأرض بأصواتها ، واختلاف لغاتها وعجائب صفاتها ، فبرزت بأنواع الأعاجيب ، وتجلت بأجمل الجلابيب ، وأبدعت في صور الإحسان ، وتصوّرت في بدائع الألوان ، فإذا بدت زرقاء في زهر كتانها ، مذهبة بأزهار لبسانها ، مفضضة بنجوم أقحوانها ، خلعت السماء عليها خلعة جميل أردانها (٣) ، وإذا فاح نشر نوّار قرطها ، شممت المسك الذكيّ من مرطها (٤) ، ورأيت لآلىء سمطها ، مبسوطة على خضر بسطها ، ومغالاتها بغالية نور فولها ، وهزاتها إذا رفل النسيم في ذيولها ، قد رصعت أغصانه بفصوص لجينها ، ونقطته من حسنها بسواد عينها ، فعيونه كعيون غزلانها في فتكها ، وأحداقه كأحداق ولدانها من تركها ، وكم لها من طرّة معتبرة ، وجبهة منوّرة ، ووجنة مزعفرة ، وملاءة منشورة معصفرة ، وخدّ مورّد ، وطرف مهند ، ولماها صيغ من عقيق الشقيق ، وسكرها من ذلك الريق على التحقيق ، وأين بزوغ بشنينها ، وامتداد يقطينها ، وأين حلاوة عرائس نخلاتها ، وطلاوة أوانس قاماتها ، بمشابهتها في صفاتها ، وغرائس فسيلاتها (٥) ، وأين نضيد طلعها ، وحميد فرعها ، ومديد جذعها ، وفرّ جمارها ، عن غرّة جمارها ، واخضرار أكمامها ، واحمرار لثامها ، وبنان بسرها المطرف ، وبنان نشرها المشرف ، وانتظام سرورها ، بابتسام منثورها ، وورد واديها ومنحناها ، وندي ندّها وتمرحناها ، وآسي آسها ، وطبيب طيب أنفاسها ، وتبرّجها بأترجها ، وتبهرجها بنارنجها ، وتختمها بمختمها ، وتبسمها عن بلسمها ، وتشقق أبرادها ، عن نهود كبادها ، وتضاعف أرجها ، بمضعف بنفسجها ، وجلالة مقدارها ، إذا فتحت أزرارها عن جل نارها ، وطيب شميمها من أشمومها ، ونسيمها ووسيمها بأوسيمها ، وجنان قليوبها ، وحرمان قليبها ، وأحواضها ، ببهنيها ورياضها ، وطربتها

__________________

(١) الاصطباح : الشرب صباحا.

(٢) الاغتباق : الشرب مساء.

(٣) الأردان : جمع الردن أصل الكم.

(٤) المرط : كساء من صوف أو خز جمع مروط.

(٥) الفسيل : النخلة الصغيرة.

٢١٩

بمطريتها ، ونفيس أنسها بمقسها (١) ، وغريب غرسها ببلقسها ، وعظيم آسها بمحلق مقياسها ، وكريم تحيتها من قبل اليمن هبوب أنفاسها ، واجتماع أسعدها ، وارتفاع رصدها ، وسواقيها الحنانة في سجعها ، الهتانة بسكبها من دمعها ، وجنة لوقها ، ولجة بولاقها ، وبركة فيلها ، من بركة نيلها ، وجزيرة ذهبها ، وقلعة الجزيرة بذهبها ، من عجبها حكت فلكها في بحرها ، وأحكمت مملكتها في برّها ، وعظم جللها بقلعة جبلها ، واتلاء أعلامها ، ببناء أهرامها ، وإذا نظرت إلى سعود صعودها ، إلى سعيد صعيدها ، واغتباطها بانحطاطها ، إلى صوب سكندريتها ودمياطها ، ألهتك عن حسن الثريا ومناطها ، ولا تنس الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، التي تسبق عند طياب الرياح مفوّقات السهام ، وإعجابها بغربانها البحرية ، وحراقاتها الحربية ، وشوانيها وحول مبانيها ، وجلال شكلها وجمال معانيها ، تبدو موشاة بالنضار الأحمر ، منقشة باللون الأفخر ، فهي كالأرقم (٢) المنمر ، أو كمتلوّن الثمر ، أو الطاوس الذكر أو الناوس لبني الأصفر ، معمرة بيأس الحديد والأحجار ، محمولة على سيح الماء التيار ، مشحونة بالرجال ، منصورة عند القتال ، مصونة بالمجنّ والنبال تبرز مذكرة بالآية النوحية ، وتضمن إحراز الهمة العلية الفتحية ، حصون أمنع من أعز قلاع ، تطير إذا فتح لها جناح القلاع ، فتسبق وفد الريح عند الإسراع ، وتفوق سرعة السحاب عند الاتساع ، فهن مع العقبان في النيق (٣) حوّم ، وهن مع البنيان في البحر عوّم ، لو أقسم من رآها ، ولو قال مشاهد معناها ، إن الله نفخ فيها الروح فأحياها ، لبرّ في يمينه التي أقسم وتلاها ، وكم من مركب لحسنه معجب ، وكم من سفين قويّ أمين ، وخضاري جليل ، وعشاري طويل ، ومسماري طويل جميل وفستراوي ، عكاوي ، ولكة ودرمونة ، ومعدّية مكينة ، وسلور دقيق ، وشختور رشيق ، وقرقور رقيق ، وزورق ذي زواريق ، وطريدة بخيل الطراد معمورة ، دهماء بحمل الجياد والأجناد مشهورة ، ومخلوف في الآفاق بالمعروف معروف ، وما أحلى بنان رطبها المخضب ، ورشيق قامة قصبها المقصب ، وبهجة فوز ما بطلح موزها ، وخضر أعلام أوراقها ، وصفر كرام إعلاقها ، فلا البلاغة تبلغ من إحصاء فضلها مراما ، ولا الفصاحة تصوغ لوصف تشبيهها كلاما ، فنسأل الله تعالى أن يكنفها بركنه الذي لا يرام ، ويحرسها بعينه التي لا تنام بمنه وكرمه.

وقال الرئيس شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري كاتب السرّ :

لمصر فضل باهر

بعيشها الرغد النضر

في كل سفح يلتقي

ماء الحياة والخضر

__________________

(١) المقس : والمكس والمقسم وأم دنين كلها أسماء مترادفة لقرية كانت واقعة على شاطىء النيل في المكان الذي يمر فيه شارع عماد الدين وميدان محطة مصر. (محمد. رمزي).

(٢) الأرقم : ذكر الحيات وهو أخبث أنواعها وأطلبها للناس.

(٣) النيق : أرفع مكان في الجبل.

٢٢٠