كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

فدخلت سنة أربع وستين ، والحال على ذلك ، وشادى قد استبدّ بأمر الدولة ، وفسد ما بينه وبين ابن حمدان ، ومنعه من المال الذي تقرّر له وشح به عليه ، فلم يوصله إلى القليل ، فجرد من ذلك ابن حمدان ، وجمع العربان ، وسار إلى الجيزة ، وخادع شادي حتى صار إليه ليلا في عدّة من الأكابر ، فقبض عليه وعليهم ، وبعث أصحابه فنهبوا مصر ، وأطلقوا فيها النار ، فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة ، وهزموهم ، فعاد إلى البحيرة ، وبعث رسولا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له ، وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر ، وتلاشى ذكره ، وتفاقم الأمر في الشدّة من الغلاء ، حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد ، وليس في أحد قوّة يمنعه بها ، فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر ، فسير إليه رسولا يطلب منه المال ، فوجده ، وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة ، حتى جلس على حصير ، ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم ، فبلغه رسالة ابن حمدان ، فقال المستنصر للرسول : ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال؟ فبكى الرسول رقة له ، وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر ، وسوء حاله ، فكف عنه ، وأطلق له في كل شهر مائة دينار ، وامتدّت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة ، وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة ، واستصفى أموالها ، فحاز منها شيئا كثيرا ، فتفرّق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه ، وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب ، ومنهم من سار إلى الشام والعراق.

قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ (١) النسابة في كتاب النقط : حلّ بمصر غلاء شديد ، في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة ، وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة ، وعمّ مع الغلاء وباء شديد ، فأقام ذلك سبع سنين ، والنيل يمدّ وينزل ، فلا يجد من يزرع ، وشمل الخوف من العسكرية ، وفساد العبيد ، فانقطعت الطرقات برّا وبحرا إلّا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر ، ونزا المارقون بعضهم على بعض ، واستولى الجوع لعدم القوت ، وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل : كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهما ، وبيع أردب من القمح بثمانين دينارا ، ثم عدم ذلك ، وأكلت الكلاب والقطاط ، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا ، وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف ، وقد أعدّوا سلبا ، وخطاطيف فإذا مرّ بهم أحد شالوه في أقرب وقت ، ثم ضربوه بالأخشاب ، وشرّحوا لحمه وأكلوه.

قال : وحدّثني بعض نسائنا الصالحات قالت : كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها ، وفيها كالحفر ، فكنا نسألها ، فتقول : أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدّة ،

__________________

(١) سبقت ترجمته.

١٦١

فأخذني إنسان ، وكنت ذات جسم وسمن ، فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء ، وزفرة القتلى ، فأضجعني على وجهي ، وربط في يديّ ورجليّ سلبا إلى أوتاد حديد عريانة ، ثم شرّح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث ، ولا أحد يجيبني ، ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي ، وأكل أكلا كثيرا ، ثم سكر حتى وقع على جنبه لا يعرف أين هو ، فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط ، وأعان الله على الخلاص ، وتخلصت وحللت الرباط ، وأخذت خرقا من داره ، ولففت بها أفخاذي ، وزحفت إلى باب الدار ، وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن ، وجئت إلى بيتي ، وعرّفتهم بموضعه ، فمضوا إلى الوالي ، فكبس عليه وضرب عنقه ، وأقام الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح ، وبقي كذا حفرا ، وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط ، وخلا موضع العسكر والقطائع ، وظاهر مصر ، مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش ، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ إلى مصر ، وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع ، وصار فضاء وكيمانا ، فيما بين مصر والقاهرة ، وفيما بين مصر والقرافة ، وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدّة.

وأما حريق مصر : فكان سببه : أنّ الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام ، واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية (١) إلى بلبيس إلّا مدينة دمشق فقط ، وصار أمر الوزارة بديار مصر : لشاور بن مجير السعديّ ، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف ، اسم لا معنى له ، وقام في منصب الوزارة بالقوّة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وتلقب بأمير الجيوش ، وأخذ أموال بني رزيك وزراء مصر ، وملوكها من قبله ، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب ، وجمع جموعا كثيرة ، وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها ، فسار شاور إلى الشام ، واستقل ضرغام بسلطنة مصر ، فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم : العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك ، وشاور بن مجير ، وضرغام ، فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة ، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر ، ثم إن شاور استنجد بالسلطان : نور الدين محمود بن زنكي (٢) صاحب الشام ، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر ، وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر ، ولا يتصرّف إلا بأمر نور الدين ، فخرج ضرغام بالعسكر ، وحاربه في بلبيس فانهزم ، وعاد إلى مصر ، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة ، وانتشر عسكره في البلاد ، وبعث

__________________

(١) ملطية : من بلاد الروم تتاخم الشام. معجم البلدان ج ٢ / ١٩٢.

(٢) الملقب بالملك العادل ملك الشام وديار الجزيرة ومصر وهو أعدل ملوك أهل زمانه وأجلهم. ولد في حلب سنة ٥١١ ه‍ وتوفي في دمشق سنة ٥٦٩ ه‍. الأعلام ج ٧ / ١٧٠.

١٦٢

ضرغام إلى أهل البلاد ، فأتوه خوفا من الترك القادمين معه ، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية ، فامتنعوا بالقاهرة ، وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة ، فنزل شاور في المقس ، وحارب أهل القاهرة فغلبوه ، وحتى ارتفع إلى بركة الحبش ، فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر ، وأقام أياما فمال الناس إليه ، وانحرفوا عن ضرغام لأمور ، فنزل شاور باللوق ، وكانت بينه وبين ضرغام حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة ، وقتل كثير من الفريقين ، واختلّ أمر ضرغام ، وانهزم ، فملك شاور القاهرة ، وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين ، فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين ، وأمره بالخروج عن مصر ، فأبى عليه واقتتلا.

وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس ، ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال ، فحشد شاور ، وقاتل الشاميين ، فجرت وقائع ، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره ، وقطعة من حارة زويلة ، فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد ، وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه ، فبلغ ذلك شيركوه ، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها ، ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج ، وحصروه بها ، وكانت إذا ذاك حصينة ذات أسوار ، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر ، وبلغ ذلك نور الدين ، فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج ، وأخذها من أيديهم ، فخافوه ، ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام ، فخرج في ذي الحجة ، ولحق بنور الدين ، فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين ، فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قويّ في ربيع الأوّل ، وسيره فبلغ ذلك شاور ، فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدا به ، فسار بجموع الفرنج ، حتى نزل بلبيس ، فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر ، فلم يطق لقاء القوم ، فسار حتى خرج من إطفيح (١) إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم ، فبلغ شاور أنّ شيركوه قد ملك بلاد الصعيد ، فسقط في يده ، ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج ، فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالأشمونين ، وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها ، وأقرّ بها ابن أخيه صلاح الدين ، وخرج إلى الصعيد ، فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشدّ حصار ، فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة ، وحاصرها ، فرحل إليه شاور ، وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوّال ، فطمع مري في البلاد ، وجعل له شحنة بالقاهرة ، وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج ، وتقرّر لهم في كل سنة مائة ألف دينار ، ثم رحل إلى بلاده ، وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج ، وسار شيركوه إلى الشام ، فتحكم الفرنج في القاهرة حكما جائرا ، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم ، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم ، وانكشفت لهم

__________________

(١) إطفيح : بلد بالصعيد الأدنى من أقصى مصر على شاطىء النيل في شرقيه. البلدان ج ١ / ٢١٨.

١٦٣

عورات الناس إلى أن دخلت سنة أربع وستين ، فجمع مري جمعا عظيما من أجناس الفرنج ، وأقطعهم بلاد مصر ، وسار يريد أخذ مصر ، فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره ، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر ، وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها ، وسار فنزل على بلبيس ، وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر ، فسبي أهلها ، وقصد القاهرة ، فسير العاضد كتبه إلى نور الدين ، وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج ، وسار مري من بلبيس ، فنزل على بركة الحبش ، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة ، فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد ، وأزعج الناس في النقلة منها ، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم ، وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده ، ولا يلتفت أخ إلى أخيه ، وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا ، وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارا ، ونزلوا بالقاهرة في المساجد ، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات ، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم ، وقد سلبوا سائر أموالهم ، وينتظرون هجوم العدوّ على القاهرة بالسيف ، كما فعل بمدينة بلبيس ، وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط ، وعشرة آلاف مشعل نار ، فرّق ذلك فيها ، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء ، فصار منظرا مهولا ، فاستمرّت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما ، والنّهابة من العبيد ، ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا ، فلما وقع الحريق بمصر ، رحل مري من بركة الحبش ، ونزل بظاهر القاهرة ، مما يلي باب البرقية ، وقاتل أهلها قتالا كثيرا ، حتى زلزلوا زلزالا شديدا ، وضعفت نفوسهم ، وكادوا يؤخذون عنوة ، فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج ، وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال ، فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود ، فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس ، وساروا منها إلى فاقوس ، فصاروا إلى بلادهم بالساحل ، ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة ، وكان من قتل شاور ، واستيلاء شيركوه على مصر ما كان ، فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن : كيمان مصر ، وتلاشى أمرها ، وافتقر أهلها ، وذهبت أموالهم ، وزالت نعمهم ، فلما استبدّ شيركوه بوزارة العاضد ، أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة ، وصاروا بالقاهرة ، وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة ، وأمرهم بالعود إليها ، فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل ، وقالوا : إلى أيّ مكان نرجع؟ وفي أيّ مكان ننزل ونأوي؟ وقد صارت كما ترى ، وبكوا وأبكوا ، فوعدهم جميلا ، وترفق بهم وأمر ، فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر ، فتراجع إليها الناس قليلا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير ، ثم تحايا الناس بها ، وأكثروا من العمارة بجانب

١٦٤

مصر الغربيّ على شاطىء النيل ، لمّا عمّر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة ، وصار بمصر عدّة آدار جليلة ، وأسواق ضخمة ، فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل : كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر ، وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر ، وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء ، وصار ما يحيط بالجامع العتيق ، وما على شط النيل عامرا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة ، فشرقت بلاد مصر ، وحدث الوباء بعد الغلاء ، فخرب كثير من عامر مصر ، ولم يزل يخرب شيئا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة ، فعظم الخراب في خط زقاق القناديل ، وخط النحاسين ، وشرع الناس في هدم دور مصر ، وبيع أنقاضها ، حتى صارت على ما هي عليه الآن ، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.

ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر

قال ابن رضوان : والمدينة الكبرى اليوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء : الفسطاط ، والقاهرة ، والجزيرة ، والجيزة ، وبعد هذه المدينة عن خط الاستواء ثلاثون درجة ، والجبل المقطم في شرقيها ، وبينها وبين مقابر المدينة.

وقد قالت الأطباء : إن أردأ المواضع ما كان الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه ، وأعظم أجزائها : هو الفسطاط ، ويلي الفسطاط من الغرب : النيل ، وعلى شط النيل الغربيّ أشجار طوال وقصار ، وأعظم أجزاء الفسطاط : موضع في غور ، فإنه يعلوه من المشرق المقطم ، ومن الجنوب الشرف ، ومن الشمال الموضع العالي من عمل فوق ، أعني الموقف والعسكر وجامع ابن طولون ، ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق أو من مكان آخر عال : رأيت وضعها في غور. وقد بيّن أبقراط أن المواضع المتسفلة : أسخن من المواضع المرتفعة ، وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها ، ولأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها ، وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة ، وأبنيتها عالية ، وقد قال روفس : إذا دخلت مدينة ، فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء ، فاهرب منها لأنها وبيئة أراد أن البخار لا ينحل منها كما ينبغي لضيق الأزقة وارتفاع البناء.

ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السنانير والكلاب ، ونحوها من الحيوان الذي يخالط الناس في شوارعهم وأزقتهم فتعفن ، وتخالط عفونتها الهواء ، ومن شأنهم أيضا : أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول حيواناتهم وجيفها ، وخرّارا كنفهم تصب فيه ، وربما انقطع جري الماء ، فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء ، وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط ، وهي أيضا كثيرة الغبار لسخانة أرضها ، حتى أنك ترى الهواء في أيام الصيف كدرا يأخذ بالنفس ، ويتسخ الثوب

١٦٥

النظيف في اليوم الواحد ، وإذا مرّ الإنسان في حاجة لم يرجع إلّا وقد اجتمع في وجهه ولحيته غبار كثير ، ويعلوها في العشيات خاصة في أيام الصيف بخار كدر أسود وأغبر ، سيّما إذا كان الهواء سليما من الرياح ، وإذا كانت هذه الأشياء كما وصفنا ، فمن البيّن أنه يصير الروح الحيوانيّ الذي فيها حالة كهذه الحال ، فيتولد إذا في البدن من هذه الأعراض فضول كثيرة ، واستعدادات نحو العفن إلّا أنّ ألف أهل الفسطاط لهذه الحال ، وأنسهم بها يعوق عنهم أكثر شرّها ، وإن كانوا على كل حال أسرع أهل مصر وقوعا في الأمراض ، وما يلي النيل من الفسطاط ، يجب أن يكون أرطب مما يلي الصحراء ، وأهل الشرق أصلح حالا لتخرّق الرياح لدورهم ، وكذلك عمل فوق والحمراء ، إلّا أن أهل الشرف الذي يشربونه أجود لأنه يستقى قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط ، فأمّا القرافة فأجود هذه المواضع ، لأن المقطم يعوق بخار الفسطاط من المرور بها ، وإذا هبت ريح الشمال مرّت بأجزاء كثيرة من بخار الفسطاط ، والقاهرة على الشرف ، فغيرت حاله ، وظاهر أن المواضع المكشوفة في هذه المدينة هي أصح هواء ، وكذلك حال المواضع المرتفعة ، وأردأ موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل والسواحل ، وإذا كان في الشتاء وأوّل الربيع حمل من بحر الملح سمك كثير ، فيصل إلى هذه المدينة ، وقد عفن ، وصارت له رائحة منكرة جدّا ، فساغ في القاهرة ، ويأكله أهلها وأهل الفسطاط ، فيجتمع في أبدانهم منه فضول كثيرة عفنة ، فلو لا الاعتدال أمزجتهم وصحة أبدانهم في هذا الزمان لكان ذلك يولد في أبدانهم أمراضا كثيرة ، قاتلة ، إلّا أن قوّة الاستمرار تعوق عن ذلك ، وربما انقطع النيل في آخر الربيع ، وأوّل الصيف من جهة الفسطاط ، فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن تصير له رائحة منكرة محسوسة ، وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحال ، غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا. قال : فمن البيّن أن أهل هذه المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفيوم ، فإنها أيضا قريبة ، وأردأ ما في المدينة : الموضع الغائر من الفسطاط ، ولذلك غلب على أهلها الحين ، وقلة الكرم ، وأنه ليس أحد منهم يغيث ، ولا يضيف الغريب إلا في النادر ، وصاروا من السعاية والاغتياب على أمر عظيم ، ولقد بلغ بهم الجبن إلى أنّ خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل وأكثر ، ويسوق الأعوان المذكورين : رجل واحد من أهل البلدان الأخر ، وممن قد تدرّب في الحرب ، فقد استبان إذا العلة والسبب في أن صار أهل المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ، وأضعف أنفسا ، ولعل لهذا السبب اختار القدماء : اتخاذ المدينة في غير هذا الموضع ، فمنهم من جعلها بمنف ، وهي : مصر القديمة ، ومنهم من جعلها بالإسكندرية ، ومنهم من جعلها بغير هذه المواضع ، ويدل على ذلك آثارهم.

وقال ابن سعيد عن كتاب الكمائم : وأما فسطاط مصر فإنّ مبانيها كانت في القديم

١٦٦

متصلة بمباني مدينة عين شمس ، وجاء الإسلام ، وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن ، وعليه نزل عمرو بن العاص ، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ، ثم لما فتحها : قسم المنازل على القبائل ، ونسبت المدينة إليه ، فقيل : فسطاط عمرو ، وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر ، فاتخذوها سريرا للسلطنة وتضاعفت عمارتها ، فأقبل الناس من كل جانب إليها ، وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون ، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع ، وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة ، وهي مدينة مستطيلة يمرّ النيل مع طولها ، ويحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل ، وجنوبه بأنواع الفوائد ، ولها منتزهات ، وهي في الإقليم الثالث ، ولا ينزل فيها مطر إلّا في النار ، وترابها تثيره الأرجل ، وهو قبيح اللون تتكدّر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها ، ولها أسواق ضخمة إلّا أنّها ضيقة ومبانيها بالقصب ، والطوب طبقة على طبقة ، ومذ بنيت القاهرة ، ضعفت مدينة الفسطاط ، وفرّط في الاغتباط بها بعد الإفراط ، وبينهما نحو ميلين ، وأنشد فيها الشريف العقيلي :

أحنّ إلى الفسطاط شوقا وإنني

لأدعو لها أن لا يحلّ بها القطر

وهل في الحيا من حاجة لجنابها

وفي كل قطر من جوانبها نهر

تبدّت عروسا والمقطم تاجها

ومن نيلها عقد كما انتظم الدر

وقال عن كتاب آخر : فالفسطاط هي قصبة مصر ، والجبل المقطم شرقها ، وهو متصل بجبل الزمرّذ.

وقال عن كتاب ابن حوقل : والفسطاط مدينة حسنة ينقسم النيل لديها ، وهي كبيرة نحو ثلث بغداد ، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيبة واللذة ، ذات رحاب في محالها ، وأسواق عظام فيها ضيق ، ومتاجر فخام ، ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة ، ومنتزهات على ممرّ الأيام خضرة ، وفي الفسطاط قبائل ، وخطط للعرب تنسب إليها كالبصرة والكوفة إلا أنها أقل من ذلك ، وهي سبخة الأرض غير نقية التربة ، وتكون بها الدار سبع طبقات وستا وخمسا ، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ، ومعظم بنيانهم بالطوب ، وأسفل دورهم غير مسكون ، وبها مسجدان للجمعة : بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط ، والآخر على الموقف بناه أحمد بن طولون ، وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده تعرف بالقطائع ، كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان وقادة ، وقد خربتا في وقتنا هذا ، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة.

قال ابن سعيد : ولما استقررت بالقاهرة تشوّقت إلى معاينة الفسطاط ، فسار معي أحد أصحاب العزمة ، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط

١٦٧

جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد ، فركب منها حمارا ، وأشار إليّ أن اركب حمارا آخر ، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلّفته في بلاد المغرب ، فأعلمني أنه غير معيب على أعيان مصر ، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والسادة الظاهرة يركبونها فركبت ، وعندما استويت راكبا أشار المكاري على الحمار ، فطار بي ، وأثار من الغبار الأسود ، ما أعمى عيني ، ودنس ثيابي ، وعاينت ما كرهته ، ولقلة معرفتي بركوب الحمار ، وشدّة عدوه على قانون لم أعهده ، وقلة رفق المكاري ، وقفت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت :

لقيت بمصر أشدّ البوار

ركوب الحمار وكحل الغبار

وخلفي مكار يفوق الريا

ح لا يعرف الرفق بهمي استطار

أناديه مهلا فلا يرعوي

إلى أن سجدت سجود العثار

وقد مدّ فوقي رواق الثرى

وألحد فيه ضياء النهار

فدفعت إلى المكاري أجرته ، وقلت له : إحسانك إليّ أن تتركني أمشي على رجليّ ، ومشيت إلى أن بلغتها ، وقدّرت الطريق بين القاهرة والفسطاط ، وحققت بعد ذلك نحو الميلين ، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرّة ، وتأمّلت أسوار مثلمة سوداء ، وآفاقا مغبرّة ، ودخلت من بابها ، وهو دون غلق مفض إلى خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع ، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب ، والنخيل طبقة فوق طبقة ، وحول أبوابها من التراب الأسود ، والأزبال ما يقبض نفس النظيف ، ويغض طرف الطريف ، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن سرت في أسواقها الضيقة ، فقاسيت من ازدحام الناس فيها بحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا يفي به إلّا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع ، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضدّه في جامع إشبيلية ، وجامع مراكش ، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف ، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه ، وتبسط فيه ، وأبصرت العامّة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق ، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك ، وما جرى مجرى ذلك ، والناس يأكلون منه في أمكنة عديدة غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك ، وعدّة صبيان بأواني ماء يطوفون على من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منهم رزقا ، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع ، وفي زواياه والعنكبوت قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان ، والصبيان يلعبون في صحنه ، وحيطانه مكتوبة بالفحم ، والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة إلّا أن مع هذا كله على الجامع المذكور من الرونق ، وحسن القبول ، وانبساط النفس ، ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته ، والبستان الذي في صحنه ، وقد تأمّلت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك ، فعلمت أنه سرّ مودع من

١٦٨

وقوف الصحابة رضوان الله عليهم في ساحته عند بنائه ، واستحسنت ما أبصرته فيه من حلق المصدّرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدّة أماكن ، وسألت عن موارد أرزاقهم ، فأخبرت أنها من فروض الزكاة ، وما أشبه ذلك. ثم أخبرت أن اقتضاءها يصعب إلا بالجاه والتعب ، ثم انفصلنا من هنالك إلى ساحل النيل ، فرأيت ساحلا كدر التربة غير نظيف ، ولا متسع الساحة ، ولا مستقيم الاستطالة ، ولا عليه سور أبيض ، إلّا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب ، وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار الأرض والنيل ، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل ، فإني أقول حقا والنيل هنا لك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط ، وبحسن سورها المبيض الشامخ : حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل ، وقد ذكر ابن حوقل (١) الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة ، وهو غير طويل ، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ المعروف ببرّ الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه ، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان ، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الجزيرة والفسطاط راكبا احتراما لموضع السلطان ، ويتنافى ليلة ذلك اليوم بطيارة (٢) مرتفعة على جانب النيل فقلت :

نزلنا من الفسطاط أحسن منزل

بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد

وقد جمعت فيه المراكب سحرة

كسرب قطا أضحى يزف على ورد

وأصبح يطغى الموج فيه ويرتمي

ويطغو حنانا وهو يلعب بالنرد

غدا ماؤه كالريق ممن أحبه

فمدّت عليه حلية من حلي الخدّ

وقد كان مثل الزهر من قبل مدّة

فأصبح لما زاده المدّ كالورد

قلت : هذا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه ، وأنه يكون قبل المدّ الذي يزي به ، ويفيض على أقطاره أبيض ، فإذا كان عباب النيل صار أحمر. وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط وأهلها :

حبذا الفسطاط من والدة

جنبت أولادها درّ الجفا

يرد النيل إليها كدرا

فإذا مازج أهليها صفا

لطفوا فالمزن لا يألفهم

خجلا لما رآهم ألطفا

ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط ، حتى أنهم ألطف من أهل القاهرة ، وبينهما نحو ميلين ، وجملة الحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام ،

__________________

(١) ابن حوقل : محمد بن حوقل البغدادي الموصلي ، رحالة من علماء البلدان كان تاجرا. له كتاب (المسالك والممالك) توفي بعد ٣٦٧ ه‍ ، الأعلام ج ٦ / ١١١.

(٢) الطيارة نوع من المراكب الصغيرة.

١٦٩

وتحت ذلك من الملق ، وقلة المبالاة برعاية قدم الصحبة ، وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره ، وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندرانيّ ، والبحر الحجازي ، فإنه فوق ما يوصف ، وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة ، ومنها تجهز إلى القاهرة ، وسائر البلاد ، وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ، ومعظم ما يجري هذا المجرى ، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند ، كما أنّ جميع زيّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج ، ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية ، والخراب في الفسطاط كثير ، والقاهرة أجدّ وأعمر ، وأكثر زحمة بسبب انتقال السلطان إليها ، وسكنى الأجناد فيها ، وقد نفخ روح الاعتناء والنموّ في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية ، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة ، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر ، يعني ابن سعيد : ما بني على شقة مصر من جهة النيل.

ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها

قد تقدّم من الأخبار جملة تدل على عظم ما كان بمدينة فسطاط مصر من المباني وكثرتها ، ثم الأسباب التي أوجبت خرابها ، وآخر ما رأيت من الكتب التي صنفت في خطط مصر كتاب إيقاظ المتغفل ، واتعاظ المتأمّل تأليف : القاضي الرئيس تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج الزبيريّ رحمه‌الله ، وقطع على سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، فذكر من الأخطاط المشهورة بذاتها لعهده اثنين وخمسين خطا ، ومن الحارات ثنتي عشرة حارة ، ومن الأزقة المشهورة : ستة وثمانين زقاقا ، ومن الدروب المشهورة : ثلاثة وخمسين دربا ، ومن الخوخ المشهورة : خمسا وعشرين خوخة ، ومن الأسواق المشهورة : تسعة عشر سوقا ، ومن الخطط المشهورة بالدور : ثلاثة عشر خطا ، ومن الرحاب المشهورة : خمس عشرة رحبة ، ومن العقبات المشهورة : إحدى عشرة عقبة ، ومن الكيمان المسماة : ستة كيمان ، ومن الأقباء : عشرة أقباء ، ومن البرك : خمس برك ، ومن السقائف : خمسا وستين سقيفة ، ومن القياسر : سبع قياسر ، ومن مطابخ السكر العامرة : ستة وستين مطبخا ، ومن الشوارع : ستة شوارع ، ومن المحارس : عشرين محرسا ، ومن الجوامع التي تقام فيها الجمعة بمصر ، وظاهرها من الجزيرة ، والقرافة : أربعة عشر جامعا ، ومن المساجد : أربعمائة وثمانين مسجدا ، ومن المدارس : سبع عشرة مدرسة ، ومن الزوايا : ثماني زوايا ، ومن الربط التي بمصر والقرافة : بضعا وأربعين رباطا ، ومن الأحباس والأوقاف كثيرا ، ومن الحمامات : بضعا وسبعين حماما ، ومن الكنائس وديارات النصارى : ثلاثين ما بين دير وكنيسة ، وقد باد أكثر ما ذكره ودثر ، وسيرد ما قاله من ذلك في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

فأقول : إنّ مدينة مصر محدودة الآن بحدود أربعة : فحدّها الشرقيّ اليوم : من قلعة الجبل ، وأنت آخذ إلى باب القرافة ، فتمرّ من داخل السور الفاصل بين القرافة ، ومصر إلى

١٧٠

كوم الجارح ، وتمرّ من كوم الجارح ، وتجعل كيمان مصر كلها عن يمينك حتى تنتهي إلى الرصد حيث أوّل بركة الحبش ، فهذا طول مصر من جهة المشرق ، وكان يقال لهذه الجهة عمل فوق.

وحدّها الغربي : من قناطر السباع خارج القاهرة إلى موردة الحلفاء ، وتأخذ على شاطىء النيل إلى دير الطين ، فهذا أيضا طولها من جهة المغرب. وحدّها القبليّ من شاطىء النيل بدير الطين حيث ينتهي الحدّ الغربيّ إلى بركة الحبش تحت الرصد ، حيث انتهى الحدّ الشرقيّ ، فهذا عرض مصر من جهة الجنوب التي تسميها أهل مصر الجهة القبلية.

وحدّها البحريّ : من قناطر السباع حيث ابتداء الحدّ الغربيّ إلى قلعة الجبل ، حيث ابتداء الحدّ الشرقيّ ، فهذا عرض مصر من جهة الشمال التي تعرف بمصر بالجهة البحرية ، وما بين هذه الجهات الأربع فإنه يطلق عليه الآن مصر ، فيكون أوّل عرض مصر في الغرب بحر النيل ، وآخر عرضها في الشرق أوّل القرافة ، وأوّل طولها من قناطر السباع ، وآخره بركة الحبش ، فإذا عرفت ذلك ففي الجهة الغربية خط السبع سقايات ، ويجاوره الخليج ، وعليه من شرقيه حكر أقبغا ، ومن غربيه المريس ، ومنشأه المهرانيّ ، ويحاذي المنشأة من شرقيّ الخليج خط قنطرة السدّ ، وخط بين الزقّاقين ، وخط موردة الحلفاء ، وخط الجامع الجديد ، ومن شرقيّ خط الجامع الجديد خط المراغة ، ويتصل به خط الكبارة ، وخط المعاريج ، ويجاوز خط الجامع الجديد من بحريه الدور التي تطلّ على النيل ، وهي متصلة إلى جسر الأفرم المتصل بدير الطين وما جاوره إلى بركة الحبش ، وهذه الجهة هي أعمر ما في مصر الآن ، وأما الجهة الشرقية ، فليس فيها شيء عامر إلّا قلعة الجبل ، وخط المراغة المجاور لباب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة ، ويجاور خط مشهد السيدة نفيسة من قبليه الفضاء الذي كان موضع الموقف ، والعسكر إلى كوم الجارح ، ثم خط كوم الجارح ، وما بين كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش تحت الرصد ، فإنه كيمان ، وهي الخطط التي ذكرها القضاعيّ ، وخربت في الشدّة العظمى زمن المستنصر ، وعند حريق شاور لمصر كما تقدّم ، وأما عرض مصر الذي من قناطر السباع إلى القلعة ، فإنه عامر ويشتمل على بركة الفيل الصغرى ، بجوار خط السبع سقايات ، ويجاور الدور التي على هذه البركة من شرقيها خط الكبش ، ثم خط جامع أحمد بن طولون ، ثم خط القبيبات ، وينتهي إلى الفضاء الذي يتصل بقلعة الجبل ، وأما عرض مصر الذي من شاطىء النيل بخط دير الطين إلى تحت الرصد حيث بركة الحبش ، فليس فيه عمارة سوى خط دير الطين ، وما عدا ذلك فقد خرب بخراب الخطط ، وكان فيه خط بني وائل ، وخط راشدة ، فأما خط السبع سقايات : فإنه من جملة الحمراء الدنيا ، وسيرد عند ذكر الأخطاط إن شاء الله تعالى ، وما عدا ذلك فإنه يتبين من ذكر ساحل مصر.

١٧١

ذكر ساحل النيل بمدينة مصر

قد تقدّم أنّ مدينة فسطاط مصر اختطها المسلمون حول جامع عمرو بن العاص ، وقصر الشمع ، وأنّ بحر النيل كان ينتهي إلى باب قصر الشمع الغربيّ المعروف بالباب الجديد ، ولم يكن عند فتح أرض مصر بين جامع عمرو وبين النيل حائل ، ثم انحسر ماء النيل عن أرض تجاه الجامع ، وقصر الشمع ، فابتنى فيها عبد العزيز بن مروان ، وحاز منه بشر بن مروان لما قدم على أخيه عبد العزيز ، ثم حاز منه هشام بن عبد الملك في خلافته ، وبنى فيه ، فلما زالت دولة بني أمية قبض ذلك في الصوافي ، ثم أقطعه الرشيد السريّ بن الحكم ، فصار في يد ورثته من بعده يكترونه ، ويأخذون حكره ، وذلك أنه كان قد اختط فيها المسلمون شيئا بعد شيء وصار شاطىء النيل بعد انحساره ماء النيل عن الأرض المذكورة حيث الموضع الذي يعرف اليوم بسوق المعاريج.

قال القضاعيّ : كان ساحل أسفل الأرض بإزاء المعاريج القديم ، وكانت آثار المعاريج قائمة سبع درج حول ساحل البيما إلى ساحل البوريّ اليوم ، فعرف ساحل البوريّ بالمعاريج الجديد ، يعني بالمعاريج الجديد : موضع سوق المعاريج اليوم ، وكان من جملة خطط مدينة فسطاط مصر : الحمراوات الثلاث ، فالحمراء الأولى من جملتها سوق وردان ، وكان يشرف بغربيه على النيل ، ويجاوره : الحمراء الوسطى ، ومن بعضها الموضع الذي يعرف اليوم بالكبارة ، وكانت على النيل أيضا ، وبجانب الكبارة : الحمراء القصوى ، وهي من بحريّ الحمراء الوسطى إلى الموضع الذي هو اليوم : خط قناطر السباع ، ومن جملة الحمراء القصوى : خط خليج مصر من حدّ قناطر السباع إلى تجارة قنطرة السدّ من شرقيها ، وبآخر الحمراء القصوى : الكبش وجبل يشكر ، وكان الكبش يشرف على النيل من غربيه ، وكان الساحل القديم ، فيما بين سوق المعاريج اليوم إلى دار التفاح بمصر ، وأنت مارّ إلى باب مصر بجوار الكبارة ، وموضع الكوم المجاور لباب مصر من شرقيه ، فلما خربت مصر بحريق شاور بن مجير إياها صار هذا الكوم من حينئذ ، وعرف بكوم المشانيق ، فأنه كان يشنق بأعلاه أرباب الجرائم ، ثم بنى الناس فوقه دورا فعرف إلى يومنا هذا بكوم الكبارة ، وكان يقال لما بين سوق المعاريج ، وهذا الكوم لما كان ساحل النيل القالوص (١).

قال القضاعيّ : رأيت بخط جماعة من العلماء القالوص : بألف ، والذي يكتب في هذا الزمان القلوص بحذف الألف ، فأما القلوص : بحذف الألف ، فهي من الإبل والنعام الشابة ، وجمعها قلص ، وقلاص وقلائص ، والقلوص من الحباري الأنثى الصغيرة ، فلعل هذا المكان سمي بالقلوص لأنه في مقابلة الجمل الذي كان على باب الريحان الذي يأتي ذكره في

__________________

(١) القالوص : موضع بمصر. معجم البلدان ج ٤ / ٢٩٩.

١٧٢

عجائب مصر ، وأما القالوص بالألف : فهي كلمة رومية ومعناها بالعربية : مرحبا بك ، ولعل الروم كانوا يصفقون لراكب هذا الجمل ، ويقولون هذه الكلمة على عاداتهم. وقال ابن المتوّج : والساحل القديم أوّله من باب مصر المذكور يعني المجاور للكبارة ، وإلى المعاريج جميعه كان بحرا يجري فيه ماء النيل ، وقيل : إنّ سوق المعاريج كان موردة سوق السمك يعني ما ذكره القضاعيّ من أنه كان يعرف بساحل البوريّ ، ثم عرف بالمعاريج الجديد.

قال ابن المتوّج (١) : ونقل أنّ بستان الجرف المقابل لبستان حوض ابن كيسان كان صناعة العمارة ، وأدركت أنا فيه بابها ، ورأيت زريبة من ركن المسجد المجاور للحوض من غربيه تتصل إلى قبالة مسجد العادل الذي بمراغة الدواب الآن.

قال مؤلفه رحمه‌الله : بستان الجرف يعرف بذلك إلى اليوم ، وهو على يمنة من سلك إلى مصر من طريق المراغة ، وهو جار في وقف الخانقاه التي تعرف بالواصلة بين الزقاقين ، وحوض ابن كيسان يعرف اليوم : بحوض الطواشي ، تجاه غيط الجرف المذكور ، يجاوره بستان ابن كيسان الذي صار صناعة ، وقد ذكر خبر هذه الصناعة عند ذكر مناظر الخلفاء ، ويعرف بستان ابن كيسان اليوم ببستان الطواشي أيضا ، وبين بستان الجرف ، وبستان الطواشي هذا مراغة مصر المسلوك منها إلى الكبارة ، وباب مصر.

قال ابن المتوّج : ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى هذا القلوص يتصل إلى آدر الساحل القديم ، وأنه شاهد ما عليه من العمائر المطلة على بحر النيل من الرباع والدور المطلة ، وعدّ الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على بحر النيل ، فكانت عدّتها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر مؤبدة فيها أطناب ترخى بها وتملأ أخبرني بذلك من أثق بنقله ، وقال : إنه أخبره به من يثق به متصلا بالمشاهد له الموثوق به ، قال : وباب مصر الآن بين البستان الذي قبليّ الجامع الجديد يعني بستان العالمة ، وبين كوم المشانيق يعني كوم الكبارة ، ورأيت السور يتصل به إلى دار النحاس ، وجميع ما بظاهره شون ، ولم يزل هذا السور القديم الذي هو قبليّ بستان العالمة موجودا أراه وأعرفه إلى أن اشترى أرضه من باب مصر إلى موقف المكارية بالخشابين القديمة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري ، فأجّر مكانه للعامة ، وصار كل من استأجر قطعة هدم ما بها من البناء بالطوب اللبن ، وقلع الأساس الحجر ، وبنى به ، فزال السور المذكور ، ثم حدث الساحل الجديد.

قال مؤلفه رحمه‌الله : وهذا الباب الذي ذكره ابن المتوّج كان يقال له : باب الساحل ، وأوّل حفر ساحل مصر في سنة ست وثلاثين وثلثمائة ، وذلك أنه جف النيل عن برّ مصر

__________________

(١) ابن المتوج : تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوج الزبيري صاحب كتاب (إيقاظ المتغفل واتعاظ المتوسل) في أخبار مصر وأحوالها وخططها. توفي سنة ٧٣٠ ه‍. صبح الأعشى ج ٧ / ١٨١.

١٧٣

حتى احتاج الناس أن يستقوا من بحر الجيزة الذي هو فيما بين جزيرة مصر التي تدعى الآن بالروضة ، وبين الجيزة ، وصار الناس يمشون هم والدواب إلى الجزيرة ، فحفر الأستاذ كافور الإخشيديّ ، وهو يومئذ مقدّم أمراء الدولة لأونوجور بن الإخشيد خليجا حتى اتصل بخليج بني وائل ، ودخل الماء إلى ساحل مصر ، ثم إنه لما كان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر القديمة ، وصار في زمن الاحتراق يقل حتى تصير الطريق إلى المقاييس يبسا ، فلما كان في سنة ثمان وعشرين وستمائة خاف السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من تباعد البحر عن العمران بمصر ، فاهتم بحفر البحر من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر الفاضلية ، وعمل فيه بنفسه فوافقه على العمل في ذلك الجمّ الغفير ، واستوى في المساعدة السوقة ، والأمير ، وقسط مكان الحفر على الدور بالقاهرة ومصر والروضة والمقياس ، فاستمرّ العمل فيه من مستهلّ شعبان إلى سلخ شوّال مدّة ثلاثة أشهر حتى صار الماء يحيط بالمقياس ، وجزيرة الروضة دائما بعد ما كان عند الزيادة يصير جدولا رقيقا في ذيل الروضة ، فإذا اتصل ببحر بولاق في شهر أبيب كان ذلك من الأيام المشهودة بمصر ، فلما كانت أيام الملك الصالح ، وعمر قلعة الروضة ، أراد أن يكون الماء طول السنة كثيرا فيما دار بالروضة ، فأخذ في الاهتمام بذلك ، وغرّق عدّة مراكب مملوءة بالحجارة في برّ الجيزة تجاه باب القنطرة خارج مدينة مصر ، ومن قبليّ جزيرة الروضة ، فانعكس الماء ، وجعل البحر حينئذ يمرّ قليلا قليلا ، وتكاثر أوّلا فأوّلا في برّ مصر من دار الملك إلى قريب المقس ، وقطع المنشأة الفاضلية.

قال ابن المتوّج عن موضع الجامع الجديد : وكان في الدولة الصالحية ، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب : رملة تمرّغ الناس فيها الدواب في زمن احتراق النيل ، وجفاف البحر الذي هو أمامها ، فلما عمر السلطان الملك الصالح قلعة الجزيرة ، وصار في كل سنة يحفر هذا البحر بجنده ونفسه ، ويطرح بعض رمله في هذه البقعة ، شرع خواص السلطان في العمارة على شاطىء هذا البحر ، فذكر من عمّر على هذا البحر من قبالة موضع الجامع الجديد الآن إلى المدرسة المعزية ، وذكر ما وراء هذه الدور من بستان العالمة المطل عليه الجامع الجديد وغيره ، ثم قال : وإنما عرف بالعالمة لأنه كان قد حله السلطان الملك الصالح لهذه العالمة ، فعمرت بجانبه منظرة لها ، وكان الماء يدخل من النيل لباب المنظرة المذكورة ، فلما توفيت بقي البستان مدّة في يد ورثتها ، ثم أخذ منهم ، وذكر أن بقعة الجامع الجديد كانت قبل عمارته شونا للأتبان السلطانية ، وكذلك ما يجاورها ، فلما عمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد كثرت العمائر من حدّ موردة الحلفاء على شاطىء النيل ، حتى اتصلت بدير الطين ، وعمر أيضا ما وراء الجامع من حدّ باب مصر الذي كان بحرا كما تقدّم إلى حدّ قنطرة السدّ ، وأدركنا ذلك كله على غاية العمارة ، وقد اختل منذ الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، فخرب خط بين الزقاقين المطل من غربيه على الخليج ،

١٧٤

ومن شرقيه على بستان الجرف ، ولم يبق به إلا القليل من الدور ، وموضعه كما تقدّم كان في قديم الزمان غامرا بماء النيل ، ثم ربى جرفا ، وهو بين الزقاقين المذكور ، فعمر عمارة كبيرة ، ثم خرب الآن وخرب أيضا خط موردة الحلفاء ، وكان في القديم غامرا بالماء ، فلما ربى النيل الجرف المذكور ، وتربت الجزيرة قدّام الساحل القديم الذي هو الآن البكارة إلى المعاريج ، وأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد عمرت موردة الحلفاء هذه ، واتصلت من بحريها بمنشأة المهرانيّ ، ومن قبليها بالأملاك التي تمتدّ من تجاه الجامع الجديد إلى دير الطين ، وصارت موردة الحلفاء عظيمة تقف عندها المراكب بالغلال وغيرها ، ويملأ منها الناس الروايا ، وكان البحر لا يبرح طول السنة هناك ، ثم صار ينشّف في فصل الربيع والصيف ، واستمرّ على ذلك إلى يومنا هذا ، وخراب ما خلف الجامع الجديد أيضا من الأماكن التي كانت بحرا تجاه الساحل القديم ، ثم لما انحسر الماء صارت مراغة للدواب ، فعرفت اليوم بالمراغة وهي من آخر خط قنطرة السدّ إلى قريب من الكبارة ، ويحصرها من غربيها بستان الجرف المقدّم ذكره ، وعدّة دور كانت بستانا وشونا إلى باب مصر ، ومن شرقيها بستان ابن كيسان الذي صار صناعة ، وعرف الآن ببستان الطواشي ، ولم يبق الآن بخط المراغة إلّا مساكن يسيرة حقيرة.

ذكر المنشأة

اعلم أن خليج مصر كان يخرج من بحر النيل ، فيمرّ بطريق الحمراء القصوى ، وكان في الجانب الغربيّ من هذا الخليج عدّة بساتين من جملتها بستان ، عرف ببستان الخشاب ، ثم خرب هذا البستان ، وموضعه الآن يعرف : بالمريس ، فلما كان بعد الخمسمائة من سني الهجرة انحسر النيل عن أرض فيما بين ميدان اللوق الآتي ذكره في الأحكار ظاهر القاهرة إن شاء الله تعالى ، وبين بستان الخشاب المذكورة ، فعرفت هذه الأرض بمنشأة الفاضل ، لأنّ القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ أنشأ بها بستانا عظيما كان يمير أهل القاهرة من ثماره وأعنابه ، وعمر بجانبه جامعا ، وبنى حوله فقيل لتلك الخطة منشأة الفاضل ، وكثرت بها العمارة ، وأنشأ بها موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ بستانا دفع له فيه ألف دينار في أيام الظاهر بيبرس ، وكان الصرف قد بلغ كل دينار ثمانية وعشرين درهما ونصفا ، فاستولى البحر على بستان الفاضل وجامعه ، وعلى سائر ما كان بمنشأة الفاضل من البساتين والدور ، وقطع ذلك حتى لم يبق لشيء منه أثر ، وما برح باعة العنب بالقاهرة ومصر تنادي على العنب بعد خراب بستان الفاضل هذا عدّة سنين : رحم الله الفاضل يا عنب ، إشارة لكثرة أعناب بستان الفاضل وحسنها ، وكان أكل البحر لمنشأة الفاضل هذه بعد سنة ستين وستمائة ، وكان الموفق الديباجيّ المذكور يتولى خطابة جامع الفاضل الذي كان بالمنشأة ، فلم تلف الجامع باستيلاء النيل عليه سأل : الصاحب بهاء الدين بن حنا ، وألحّ عليه وكان من ألزامه ، حتى قام في عمارة الجامع بمنشأة المهرانيّ ، ومنشأة المهرانيّ هذه

١٧٥

موضعها فيما بين النيل والخليج ، وفيها من الحمراء القصوى فوهة الخليج انحسر عنها ماء النيل قديما وعرف موضعها بالكوم الأحمر من أجل أنه كان يعمل فيها أقمنة الطوب ، فلما سأل الصاحب بهاء الدين بن حنا الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع بهذا المكان ليقوم مقام الجامع الذي كان بمنشأة الفاضل أجابه إلى ذلك ، وأنشأ الجامع بخط الكوم الأحمر كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع ، فأنشأ هناك الأمير سيف الدين بلبان المهرانيّ دارا وسكنها ، وبنى مسجدا ، فعرفت هذه الخطة به ، وقيل لها : منشأة المهرانيّ ، فإنّ المهرانيّ المذكور أوّل من ابتنى فيها بعد بناء الجامع ، وتتابع الناس في البناء بمنشأة المهرانيّ وأكثروا من العمائر حتى يقال : إنه كان بها فوق الأربعين من أمراء الدولة سوى من كان هناك من الوزراء ، وأماثل الكتاب ، وأعيان القضاة ، ووجوه الناس ، ولم تزل على ذلك حتى انحسر الماء عن الجهة الشرقية فخربت ، وبها الآن بقية يسيرة من الدور ، ويتصل بخط الجامع الجديد خط دار النحاس ، وهو مطلّ على النيل ، ودار النحاس هذه من الدور القديمة ، وقد دثرت ، وصار الخط : يعرف بها.

قال القضاعيّ : دار النحاس اختطها : وردان مولى عمرو بن العاص ، فكتب مسلمة بن مخلد ، وهو أمير مصر إلى معاوية يسأله أن يجعلها ديوانا ، فكتب معاوية إلى وردان يسأله فيها ، وعوّضه فيها دار وردان التي بسوقه الآن ، وقال ربيعة : كانت هذه الدار من خطة الحجر من الأزد ، فاشتراها عمر بن مروان ، وبناها ، فكانت في يد ولده ، وقبضت عنهم وبيعت في الصوافي سنة ثمان وثلثمائة ، ثم صارت إلى شمول الإخشيديّ ، فبناها قيسارية وحماما ، فصارت دار النحاس قيسارية شمول.

وقال ابن المتوّج : دار النحاس خط نسب لدار النحاس ، وهو الآن فندق الأشراف ذو البابين أحدهما من رحبة أمامه ، والثاني شارع بالساحل القديم ، وبآخر هذه الشقة التي تطل على النيل (جسر الأفرم) ، وهو في طرف مصر فيما بين المدرسة المعزية ، وبين رباط الآثار كان مطلا على النيل دائما ، والآن ينحسر الماء عنه عند هبوط النيل ، وعرف بالأمير عز الدين أيدمر الأفرم الصالحيّ النجميّ أمير جندار ، وذلك أنه لما استأجر بركة الشعيبية ، كما ذكر عند ذكر البرك من هذا الكتاب جعل منها فدّانين من غربيها أذن للناس في تحكيرها ، فحكرت وبنى عليها عدّة دور بلغت الغاية في إتقان العمارة ، وتنافس عظماء دولة الناصر محمد بن قلاون من الوزراء ، وأعيان الكتاب في المساكن بهذا الجسر ، وبنوا وتأنقوا ، وتفننوا في بدع الزخرفة ، وبالغوا في تحسين الرخام ، وخرجوا عن الحدّ في كثرة إنفاق الأموال العظيمة على ذلك بحيث صار خط الجسر خلاصة العامر من إقليم مصر ، وسكانه أرق الناس عيشا ، وأترف المتنعمين حياة ، وأوفرهم نعمة ، ثم خرب هذا الجسر بأسره ، وذهبت دوره.

١٧٦

وأما الجهة الشرقية من مصر : ففيها قلعة الجبل ، وقد أفردنا لها خبرا مستقلا يحتوي على فوائد كثيرة تضمنه هذا الكتاب فانظره ، ويتصل آخر قلعة الجبل بخط باب القرافة ، وهو من أطراف القطائع والعسكر ، ويلي خط باب القرافة الفضاء الذي كان يعرف بالعسكر ، وقد تقدّم ذكره ، وكان بأطراف العسكر مما يلي كوم الجارح.

الموقف (١) قال ابن وصيف شاه في أخبار الريان بن الوليد : وهو فرعون نبيّ الله يوسف صلوات الله عليه ، ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته وباعوه ، وكانت قوافل الشام تعرّس بناحية الموقف اليوم ، فأوقف الغلام ، ونودي عليه ، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم ، فاشتراه أطفين العزيز ، ويقال : إنّ الذي أخرج يوسف من الجب : مالك بن دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وقال القضاعيّ : كان الموقف فضاء لأم عبد الله بن مسلمة بن مخلد ، فتصدّقت به على المسلمين ، فكان موقفا تباع فيه الدواب ، ثم ملك بعد وقد ذكرته في الظاهر يعني في خطط أهل الظاهر ، فإنّ الموقف من جملة خطط أهل الظاهر.

وقال ابن المتوّج : بقعة (خط الصفاء) هذا الخط دثر جميعه ، ولم يبق له أثر ، وهو قبليّ الفسطاط أوّله بجوار المصنع ، وخط الطحانين أدركته ، كان صفين طواحين متلاصقة متصلة من درب الصفاء إلى كوم الجارح ، وأدركت به جماعة من أكابر المصريين أكثرهم عدول ، وكان المار بين هذين الصفين لا يسمع حديث رفيقه إذا حدّثه لقوّة دوران الطواحين ، وكان من جملتها طاحون واحد فيه سبعة أحجار ، دثر جميع ذلك ، ولم يبق له أثر.

قال : وبقعة درب الصفاء هو الدرب الذي كان باب مصر ، وقيل : إنه كان بظاهره سوق يوسف عليه‌السلام ، وكان بابا بمصراعين يعلوهما عقد كبير ، وهو بعتبة كبيرة سفلى من صوّان ، وكان بجوار المصنع الخراب الموجود الآن ، وكان حول المصنع عمد رخام بدائرة حاملة الساباط يعلوه مسجد معلق ، هدم ذلك جميعه في ولاية سيف الدين المعروف بابن سلار ، والي مصر في دولة الظاهر بيبرس ، وهذا الدرب يسلك منه إلى درب الصفاء ، والطحانين.

قال مؤلفه رحمه‌الله : كان هذا الباب المذكور أحد أبواب مدينة مصر ، وبابها الآخر من ناحية الساحل الذي موضعه اليوم باب مصر بجوار الكبارة ، وأنا أدركت آثار درب الصفاء المذكور والمصنع الخراب ، وكان يصب فيه الماء للسبيل ، وهو قريب من كوم

__________________

(١) الموقف : محلة بمصر ينسب إليها أبو جرير الموقفي المصري. معجم البلدان ج ٥ / ٢٢٦.

١٧٧

الجارح ، وسيأتي ذكر كوم الجارح في ذكر الكيمان من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وأما الذي يلي كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش ، فإنها الخطط القديمة ، وأدركتها عامرة لا سيما خط النخالين ، وخط زقاق القناديل ، وخط المصاصة ، وقد خرب جميع ذلك ، وبيعت أنقاضه من بعد سنة تسعين وسبعمائة.

وأما الجهة القبلية من مصر : فإن» خط دير الطين حدثت العمارة فيه بعد سنة ستمائة لما أنشأ الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا الجامع هناك ، وعمّر الناس في جسر الأفرم ، وكان قبل ذلك آخر عمارة مدينة مصر دار الملك التي موضعها الآن بجوار المدرسة المعزية ، وأما موضع الجسر فإنه كان بركة ماء ، تتصل بخط راشدة حيث جامع راشدة ، ومن قبليّ هذه البركة البستان الذي كان يعرف ببستان الأمير تميم بن المعز ، ويعرف اليوم : بالمعشوق ، وهو على رباط الآثار ، ويجاور المعشوق بركة الحبش ، وما بين خط دير الطين ، وآخر عرض مصر من الجهة القبلية طرف خط راشدة.

وأما الجهة البحرية من مصر : فإنه يتصل بخط السبع سقايات الدور المطلّة على البركة التي يقال لها بركة قارون ، وهي التي تجاور الآن حدرة ابن قميحة ، وهي من جملة الحمراء القصوى ، وبقبليّ البركة المذكورة الكوم المعروف بالأسرى ، وهو من جملة العسكر ، وسيرد إن شاء الله تعالى ذكره عند ذكر الكيمان ، ويجاور البركة المذكورة خط الكبش ، وقد ذكر في الجبال ، ويأتي إن شاء الله تعالى له خبر عند ذكر الأخطاط ، ويلي خط الكبش خط الجامع الطولونيّ ، ويلي خط الجامع القبيبات ، وخط المشهد النفيسيّ ، وجميع ذلك إلى قلعة الجبل من جملة القطائع.

ذكر أبواب مدينة مصر

وكان لفسطاط مصر أبواب في القديم خربت ، وتجدّد لها بعد ذلك أبواب أخر.

باب الصفاء : هذا الباب كان هو في الحقيقة باب مدينة مصر ، وهي في كمالها ، ومنه تخرج العساكر ، وتعبر القوافل ، وموضعه الآن بالقرب من كوم الجارح ، وهدم في أيام الملك الظاهر بيبرس.

باب الساحل : كان يفضي بسالكه إلى ساحل النيل القديم ، وموضعه قريب من الكبارة.

باب مصر : هذا الباب هو الذي بناه قراقوش ، ومنه يسلك الآن من دخل إلى مدينة مصر من الطريق التي تعرف بالمراغة ، وهو مجاور للكوم الذي يقال له : كوم المشانيق ، ويعرف اليوم بالكبارة ، وكان موضع هذا الباب غامرا بماء النيل ، فلما انحسر الماء عن ساحل مصر صار الموضع المعروف بالمراغة ، والموضع المعروف بغيط الجرف ، إلى موردة

١٧٨

الحلفاء فضاء لا يصل إليه ماء النيل البتة ، فأحب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أن يدير سورا يجمع فيه القاهرة ومصر وقلعة الجبل ، فزاد في سور القاهرة على يد قراقوش من باب القنطرة إلى باب الشعرية ، وإلى باب البحر يريد أن يمدّ السور من باب البحر إلى الكوم الأحمر الذي هو اليوم حافة خليج مصر تجاه خط بين الزقاقين ليصل أيضا من الكوم الأحمر إلى باب مصر هذا ، فلم يتهيأ له هذا ، وانقطع السور من عند جامع المقس ، وزاد في سور القاهرة أيضا من باب النصر إلى قلعة الجبل ، فلم يكمل له ومدّ السور من قلعة الجبل إلى باب القنطرة خارج مصر ، فصار هذا الباب غير متصل بالسور.

باب القنطرة : هذا الباب في قبليّ مدينة مصر عرف بقنطرة بني وائل التي كانت هناك ، وهو أيضا من بناء قراقوش.

١٧٩

ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله

اعلم : أن القاهرة المعزية رابع موضع انتقل سرير السلطنة إليه من أرض مصر في الدولة الإسلامية ، وذلك أن الإمارة كانت بمدينة الفسطاط ، ثم صار محلها العسكر خارج الفسطاط ، فلما عمرت القطائع صارت دار الإمارة إلى أن خربت ، فسكن الأمراء بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله معدّ ، فبنى القاهرة حصنا ، ومعقلا بين يدي المدينة ، وصارت القاهرة دار خلافة ينزلها الخليفة بحرمه ، وخواصه إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية.

فسكنها من بعدهم : السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وابنه الملك العزيز عثمان ، وابنه الملك المنصور محمد ، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب ، وابنه الملك الكامل محمد ، وانتقل من القاهرة إلى قلعة الجبل ، فسكنها بحرمه وخواصه ، وسكنها الملوك من بعده إلى يومنا هذا ، فصارت القاهرة مدينة سكنى بعد ما كانت حصنا يعتقل به ، ودار خلافة يلتجأ إليها ، فهانت بعد العز ، وابتذلت بعد الاحترام ، وهذا شأن الملوك ما زالوا يطمسون آثار من قبلهم ، ويميتون ذكر أعدائهم ، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن والحصون ، وكذلك كانوا أيام العجم ، وفي جاهلية العرب ، وهم على ذلك في أيام الإسلام ، فقد هدم عثمان بن عفان صومعة غمدان ، وهدم الآطام التي كانت بالمدينة ، وقد هدم زياد كل قصر ، ومصنع كان لابن عامر ، وقد هدم بنو العباس مدن الشام لبني مروان :

وإذا تأمّلت البقاع وجدتها

تشقى كما تشقى الرجال وتسعد

وسيأتي من أخبار القاهرة ، والكلام على خططها وآثارها ما تنتهي إليه قدرتي ، ويصل إلى معرفته علمي وفوق كل ذي علم عليم.

ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة

اعلم : أن القوم كانوا ينسبون إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما ، والناس فريقان في أمرهم : فريق يثبت صحة ذلك ، وفريق يمنعه ، وينفيهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويزعم أنهم أدعياء من ولد ديصان البونيّ الذي ينسب إليه النوبة ، وإنّ ديصان كان له ابن اسمه : ميمون القدّاح كان له مذهب في الغلوّ ، فولد ميمون : عبد الله ،

١٨٠