كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ٢

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

عمروا الأرض مدّة ثم صاروا إلى الحفر

واستبدّ الزمان من عاش منهم فلم يذر

فهم في الهوان والذل أسرى على خطر

وهم بعد صفو عيش من الذل في كدر

يا آل طولون ما لكم صرتم للورى سمر

يا آل طولون كنتم خبرا فانقضى الخبر

وقال :

مررت على الميدان معتبرا به

فناديته أين الجبال الشوامخ

خمار وعباس وأحمد قبلهم

وأين ترى شبانهم والمشايخ

وأين ذراري آل طولون بعدهم

أما فيك منهم أيها الربع صارخ

وأين ثياب الخز والوشي والحلى

وأربابها أم أين تلك المطابخ

وأين فتات المسك والعنبر الذي

عنيت به دهرا وتلك اللطائخ

لقد غالك الدهر الخؤون بصرفه

فأصبحت منحطا وغيرك باذخ

وقال :

مررت على الميدان بالأمس ضاحيا

فأبصرته قفر الجناب فراعني

فناديت فيه يا آل طولون ما لكم

فهود فما حلق بحرف أجابني

فأذريت عينا ذات دمع غزيرة

ورحت كئيب القلب مما أصابني

وإني عليهم ما بقيت لموجع

ولست أبالي من لحاني وعابني

وحدّث محمد بن أبي يعقوب الكاتب قال : لما كانت ليلة عيد الفطر من سنة اثنتين وتسعين ومائتين تذكرت ما كان فيه آل طولون في مثل هذه الليلة من الزيّ الحسن بالسلاح ، وملوّنات البنود والأعلام ، وشهرة الثياب ، وكثرة الكراع وأصوات الأبواق والطبول ، فاعتراني لذلك فكرة ، ونمت في ليلتي ، فسمعت هاتفا يقول : ذهب الملك التملك والزينة لما مضى بنو طولون.

وقال القاضي أبو عمرو عثمان النابلسيّ في كتاب حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة : رأيت كتابا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون قال : فإذا كانت أسماء الشعراء في ثنتي عشرة كراسة ، كم يكون شعرهم؟ مع أنه لم يوجد من لك الآن ديوان واحد. وقال أبو الخطاب بن دحية في كتاب النبراس : وخربت قطائع أحمد بن طولون ، يعني في الشدّة العظمى زمن الخليفة المستنصر ، وهلك جميع من كان بها من الساكنين ، وكانت نيفا على مائة ألف دار نزهة للناظرين محدقة بالجنان والبساتين ، والله يرث الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين.

١٤١

ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع

إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر

وكان أوّل من ولي مصر بعد زوال دولة بني طولون وخراب القطائع.

محمد بن سليمان الكاتب (١) كاتب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون دخل مصر يوم الخميس مستهلّ ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين ، ودعا على المنبر لأمير المؤمنين المكتفي بالله وحده ، وجعل أبا عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ على الخراج عوضا عن أحمد بن عليّ المادرانيّ.

ثم ورد كتاب المكتفي بولاية : عيسى بن محمد (٢) النوشريّ أبي موسى ، فولي على الصلاة ، ودخل خليفته لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى ، فتسلم الشرطتين وسائر الأعمال ، ثم قدم عيسى لسبع خلون من جمادى الآخرة ، وخرج محمد بن سليمان مستهلّ رجب ، وكان مقامه بمصر أربعة أشهر ، فأخرج كل من بقي من الطولونية ، فلما بلغوا دمشق ، انخنس عنهم محمد بن عليّ الخليج في جمع كثير ممن كره مفارقة مصر من القوّاد ، فعقدوا له عليهم ، وبايعوه بالإمرة في شعبان ، ورجع إلى مصر ، فبعث إليه النوشريّ بجيش أوّل رمضان ، وقد دخل أرض مصر ، ثم خرج إليه النوشري ، وعسكر بباب المدينة أوّل ذي القعدة ، وسار إلى العباسة ، ثم رجع لثلاث عشرة خلت منه ، وخرج إلى الجيزة من غده وأحرق الجسرين ، وسار يريد الإسكندرية ، ففرّ عنه طائفة إلى ابن الخليج ، فبعث إليه بجيش ، فهزمه وسار إلى الصعيد.

ودخل محمد بن الخليج الفسطاط لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة ، فوضع العطاء ، وفرض الفروض ، وقدم أبو الأعز من قبل المكتفي في طلب ابن الخليج ، فخرج إليه لثلاث خلون من المحرّم سنة ثلاث وتسعين وحاربه ، فانهزم منه أبو الأعز ، وأسر من أصحابه جمعا كثيرا ، وعاد لثمان بقين منه ، فقدم فاتك المعتضدي من بغداد في البرّ ، فعسكر وقدم دميانة (٣) في المراكب ، فنزل فاتك النويرة (٤) ، فخرج ابن الخليج وعسكر بباب المدينة ، وقام في الليل بأربعة آلاف من أصحابه ليبيت فاتكا ، فأضلوا الطريق ، وأصبحوا قبل أن يبلغوا النويرة ، فعلم بهم فاتك ، فنهض بأصحابه ، وحارب ابن الخليج ، فانهزم عنه

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) من ولاة الدولة العباسية المقدمين استعمله المنتصر على دمشق سنة ٢٤٧ ه‍ ثم ولّاه المكتفي إمارة مصر سنة ٢٩٢ ولم يزل فيها إلى أن توفي سنة ٢٩٧ ه‍. الأعلام ج ٥ / ١٠٧.

(٣) دميانة : من أقاليم أكشونية بالأندلس. معجم البلدان ج ٢ / ٤٧٥.

(٤) النويرة : ناحية بمصر. معجم ج ٥ / ٣١٢.

١٤٢

أصحابه ، وثبت في طائفة ، ثم انهزم إلى الفسطاط لثلاث خلون من رجب ، فاستتر ، ودخل دميانة في مراكب الثغور ، وأقبل عيسى النوشري ، ومعه الحسين المادرانيّ ، ومن كان معهما لخمس خلون منه ، فعاد النوشري إلى ما كان عليه من صلاتها ، والمادرانيّ إلى ما كان عليه من الخراج ، وعرف النوشريّ بمكان ابن الخليج ، فهجم عليه وقيده لست خلون من رجب ، وكانت مدّة ابن الخليج بمصر سبعة أشهر وعشرين يوما ، ودخل فاتك في عسكره إلى الفسطاط لعشر خلون من رجب ، فأخرج ابن الخليج في البحر لست خلون من شعبان ، فلما قدم بغداد طيف به وبأصحابه وهم ثلاثون نفرا ، فكان يوما مذكورا ، وابتدئ في هدم ميدان بني طولون في شهر رمضان ، وبيعت أنقاضه ، وخرج فاتك إلى العراق للنصف من جمادى الأولى سنة أربع وتسعين ، وأمر النوشري بنفي المؤنثين ، ومنع النوح والنداء على الجنائز ، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلاتين ، ثم أمر بفتحه بعد أيام ، ومات المكتفي في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ، فشغب الجند بمصر ، وحاربوا النوشريّ على طلب مال البيعة ، فظفر بجماعة منهم ، وبويع جعفر المقتدر ، فأقرّ النوشري على الصلاة ، وقدم زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية مهزوما من أبي عبد الله الشيعيّ في رمضان سنة ست وتسعين إلى الجيزة ، فمنعه النوشري من العبور ، وكانت بين أصحابه ، وبين جند مصر منافسة ، ثم أذن له أن يعبر وحده ، ومات النوشري لأربع بقين من شعبان سنة سبع وتسعين ، وهو وال ، فكانت ولايته خمس سنين وشهرين ونصفا ، منها مدّة ابن الخليج سبعة أشهر وعشرون يوما ، وقام من بعده ابنه أبو الفتح محمد بن عيسى.

ثم ولي تكين الخزريّ أبو منصور ، من قبل المقتدر على الصلاة ، فدعي له بها يوم الجمعة لإحدى عشرة خلت من شوّال ، وقدم خليفته لسبع بقين منه ، ثم قدم تكين لليلتين خلتا من ذي الحجة ، وتقدّم إليه بالجدّ في أمر المغرب ، والاحتراس منه ، فبعث جيشا إلى برقة عليه أبو اليمن ، فحاربه حباسة بن يوسف بعساكر المهديّ عبيد الله الفاطميّ صاحب إفريقية ، واستولى على برقة ، وسار إلى الإسكندرية في زيادة على مائة ألف ، فدخلها في المحرّم سنة اثنتين وثلثمائة ، فقدمت الجيوش من العراق مددا لتكين في صفر ، وقدم الحسين المادرانيّ ، وأحمد بن كيغلغ (١) في جمع من القوّاد ، وبرزت العساكر إلى الجيزة في جمادى الأولى ، وخرج تكين ، فكانت واقعة حباسة : قتل فيها آلاف من الناس ، وعاد حباسة إلى المغرب ، وقدم مونس الحادم من بغداد في جيوشه للنصف من رمضان ، ومعه جمع من الأمراء ، فنزل الحمراء ، ولقي الناس منهم

__________________

(١) أبو العباس من أمراء العصر العباسي تركي الأصل نشأ في بغداد وقدم مصر سنة ٢٩٢ ه‍ و ٣٠٢ ه‍ لقمع ثورات نشبت فيها ثم تولى إمارة مصر سنة ٣١١ ه‍ ثم تولى أصبهان سنة ٣١٩ ه‍ وأعيد إلى ولاية مصر سنة ٣٢٢ ه‍ وعزل سنة ٣٢٣ ه‍. الأعلام ج ١ / ٨٥.

١٤٣

شدائد ، وخرج ابن كيغلغ إلى الشام في رمضان ، وصرف تكين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة صرفه مؤنس ، فخرج لسبع خلون من ذي الحجة ، وأقام مونس يدعى ويخاطب بالأستاذ.

ثم ولي : ذكا الروميّ أبو الحسن الأعور من قبل المقتدر على الصلاة ، فدخل لثنتي عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلثمائة ، وخرج موسى بجميع جيوشه لثمان خلون من ربيع الآخر ، وخرج ذكا إلى الإسكندرية في المحرّم سنة أربع وثلثمائة ، ثم عاد في ثامن ربيع الأوّل ، وتتبع كل من يومأ إليه بمكاتبة المهديّ صاحب إفريقية ، فسجن منهم ، وقطع أيدي أناس ، وأرجلهم ، وجلا أهل لوبية (١) ومراقية (٢) إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة ، وسير العساكر إلى الإسكندرية ، ثم فسد ما بينه وبين الرعية بسبب سب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، وسب القرآن ، وقدمت عساكر المهديّ صاحب إفريقية إلى لوبية ومراقية عليها أبو القاسم ، فدخل الإسكندرية ثامن صفر سنة سبع وثلثمائة ، وفرّ الناس من مصر إلى الشام في البرّ والبحر ، فهلك أكثرهم ، وأخرج ذكا الجند المخالفون له ، فعسكر بالجيزة ، وقدم أبو الحسن بن المادرانيّ واليا على الخراج ، فوضع العطاء ، وجدّ ذكا في أمر الحرب ، واحتفر خندقا على عسكره بالجيزة ، فمرض ومات لإحدى عشرة خلت من ربيع الأوّل بالجيزة ، فكانت إمرته أربع سنين وشهرا.

فولي : تكين مرّة ثانية من قبل المقتدر ، وقدمت جيوش العراق عليها ، محمود بن حمل ، وإبراهيم بن كيغلغ في ربيع الأوّل ، ودخل تكين لإحدى عشرة خلت من شعبان ، فنزل الجيزة ، وحفر خندقا ثانيا ، وأقبلت مراكب المغرب ، فظفر بها في شوّال ، وقدم مونس الخادم من بغداد بعساكره لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وثلثمائة ، فنزل الجيزة ، وكان في نحو ثلاثة آلاف وسيّر ابن كيغلغ إلى الأشمونين ، فمات بالبهنساء أوّل ذي القعدة ، وملك أصحاب المهديّ الفيوم ، وجزيرة الأشمونين ، فقدم جنى الخادم من بغداد في عسكر آخر ذي الحجة ، فعسكر بالجيزة ، فكانت حروب مع أصحاب المهديّ بالفيوم والإسكندرية ، ورجع أبو القاسم بن المهديّ إلى برقة ، وصرف تكين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة.

فولّى مونس : أبا قابوس محمود بن حمل ، فأقام ثلاثة أيام ، وعزله ورد تكين لخمس بقين من ربيع الأوّل ، ثم صرفه بعد أربعة أيام ، وأخرجه إلى الشام في أربعة آلاف من أهل الديوان.

__________________

(١) لوبية : في أول طريق القاصدين من الإسكندرية إلى إفريقية. معجم ج ٥ / ٩٤.

(٢) مراقية : مدينة بين الإسكندرية وبرقة. معجم ج ٥ / ٢٤.

١٤٤

ثم ولي : هلال بن بدر من قبل المقتدر على الصلاة ، فدخل لست خلون من ربيع الآخر ، وخرج مونس لثمان عشرة خلت منه ومعه ابن حمل ، فشغب الجند على هلال ، وخرجوا إلى منية الأصبغ ، ومعهم محمد بن طاهر صاحب الشرط ، فكثر النهب والقتل والفساد بمصر ، إلى أن صرف عنها في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة وخرج في نفر من أصحابه.

فولي : أحمد بن كيغلغ من قبل المقتدر على الصلاة ، وقدم ابنه أبو العباس خليفة له أوّل جمادى الأولى ، ثم قدم ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب المادرانيّ على الخراج في رجب ، فأحضرا الجند ، ووضعا العطاء ، وأسقطا كثيرا من الرجالة ، وكان ذلك بمنية الأصبغ ، فثار الرجالة به ، ففرّ إلى فاقوس (١) ، وأدخل المادرانيّ إلى المدينة لثمان خلون من شوال ، وأقام ابن كيغلغ بفاقوس إلى أن صرف بقدوم رسول تكين في ثالث ذي القعدة.

فولي : تكين المرّة الثالثة من قبل المقتدر على الصلاة ، وخلفه ابن منجور إلى أن قدم يوم عاشوراء سنة اثنتي عشرة وثلثمائة ، فأسقط كثيرا من الرجالة ، وكانوا أهل الشرّ والنهب ، ونادى ببراءة الذمّة ، ممن أقام منهم بالفسطاط ، وصلى الجمعة في دار الإمارة بالعسكر ، وترك حضور الجمعة في مسجد العسكر ، والمسجد الجامع العتيق في سنة سبع عشرة ، ولم يصلّ قبله أحد من الأمراء في دار الإمارة الجمعة ، ثم قتل المقتدر في شوّال سنة عشرين ، وبويع أبو منصور القاهر بالله ، فأقرّ تكين حتى مات في سادس عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ، فحمل إلى بيت المقدس ، وكانت إمرته هذه تسع سنين وشهرين وخمسة أيام.

فقام ابنه محمد بن تكين موضعه ، وقام أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ بأمر البلد كله ، ونظر في أعماله فشغب الجند عليه في طلب أرزاقهم ، وأحرقوا دوره ، ودور أهله ، فخرج ابن تكين إلى منية الأصبغ ، فبعث إليه المادرانيّ يأمره بالخروج من أرض مصر ، وعسكر بباب المدينة ، وأقام هناك بعدما رحل ابن تكين إلى سلخ ربيع الأوّل ، فلحق ابن تكين بدمشق ، ثم أقبل يريد مصر ، فمنعه المادرانيّ.

ثم ولي : محمد بن طغج (٢) بن جف الفرغانيّ أبو بكر من قبل القاهر بالله على الصلاة ، فورد كتابه لسبع خلون من رمضان سنة إحدى وعشرين ، ودعي له ، وهو بدمشق

__________________

(١) فاقوس : مدينة في حوض مصر الشرقي وهي آخر ديار مصر من جهة الشام. معجم البلدان ج ٤ / ٢٣٢.

(٢) الملقب بالإخشيد مؤسس الدولة الإخشيدية بمصر والشام. تركي الأصل. ولد سنة ٢٦٨ ه‍ وتوفي سنة ٣٣٤ ه‍. الأعلام ج ٦ / ١٧٤.

١٤٥

مدّة اثنتين وثلاثين يوما إلى أن قدم رسول أحمد بن كيغلغ بولايته الثانية من قبل القاهر بالله لتسع خلون من شوّال ، واستخلف أبا الفتح بن عيسى النوشريّ ، فشغب الجند في أرزاقهم على المادرانيّ صاحب الخراج ، فاستتر منهم ، فأحرقوا دوره ودور أهله ، وكانت فتن قتل فيها جماعة إلى أن أتاهم محمد بن تكين من فلسطين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين ، فأنكر المادرانيّ ولايته ، وتعصب له طائفة ، ودعي له بالإمارة ، وخرج قوم إلى الصعيد فيهم : ابن النوشريّ ، فأمّروه عليهم وهم على الدعاء لابن كيغلغ ، فنزل منية الأصبغ لثلاث خلون من رجب ، فلحق به كثير من أصحاب تكين ، ففرّ ابن تكين ليلا ، ودخل ابن كيغلغ المدينة لست خلون منه ، وكان مقام ابن تكين بالفسطاط مائة يوم واثني عشر يوما ، وخلع القاهر ، وبويع أبو العباس الراضي بالله ، فعاد ابن تكين ، وأظهر أنّ الراضي ولّاه فخرج إليه العسكر ، وحاربوه فيما بين بلبيس وفاقوس ، فانهزم وجيء به إلى المدينة ، فحمل إلى الصعيد ، فورد الخبر بأنّ محمد بن طفج سار إلى مصر بولاية الراضي له ، فبعث إليه ابن كيغلغ بجيش ليمنعوه من دخول الفرما ، فأقبلت مراكب ابن طغج إلى تنيس ، وسارت مقدّمته في البرّ ، وكانت بينهما حروب في تاسع عشر شعبان سنة ثلاث وعشرين كانت لأصحاب ابن طفج ، وأقبلت مراكبه إلى الفسطاط سلخ شعبان ، وأقبل فعسكر ابن كيغلغ للنصف من رمضان ، ولاقاه لسبع بقين منه ، فسلم ابن كيغلغ إلى محمد بن طفج من غير قتال.

وولي : محمد بن طغج الثانية من قبل الراضي على الصلاة والخراج ، فدخل لست بقين من رمضان ، وقدم أبو الفتح الفضل (١) بن جعفر بن محمد بن فرات بالخلع لمحمد بن طغج ، وكانت حروب مع أصحاب ابن كيغلغ انهزموا منها إلى برقة ، وساروا إلى القائم بأمر الله محمد بن المهديّ بالمغرب ، فحرّضوه على أخذ مصر ، فجهز جيشا إلى مصر ، فبعث ابن طغج عسكره إلى الإسكندرية والصعيد ، ثم ورد الكتاب من بغداد بالزيارة في اسم الأمير محمد بن طغج ، فلقب الإخشيد ودعي له بذلك على المنبر في رمضان سنة سبع وعشرين ، وسار محمد (٢) بن رائق إلى الشامات ، ثم سار في المحرّم سنة ثمان وعشرين ، واستخلف أخاه الحسن بن طغج ، فنزل الفرما ، وابن رائق بالرملة ، فسفر بينهما الحسن بن طاهر بن يحيى العلويّ في الصلح ، حتى تمّ ، وعاد إلى الفسطاط مستهل جمادى الأولى ، ثم أقبل ابن رائق من دمشق في شعبان ، فسير إليه الإخشيد الجيوش ، ثم خرج لست عشرة خلت من شعبان ، والتقيا للنصف من رمضان بالعريش ، فكانت بينهما وقعة عظيمة انكسرت فيها

__________________

(١) وزير من الكتاب من أعيان الدولة العباسية كان وزيرا للمقتدر سنة ٣٢٠ ه‍ ثم ولي خراج مصر والشام.

ولد سنة ٢٨٠ ه‍ وتوفي سنة ٣٢٧ ه‍. الأعلام ج ٥ / ١٤٧.

(٢) من الدهاة الشجعان ولي شرطة بغداد إمارة واسط والبصرة ثم ولي إمرة الأمراء سنة ٤٢٤ ه‍ ثم اشتغل بالشام وزحف ليأخذ مصر فقاتله الإخشيد وهزمه. قتل سنة ٣٣٠ ه‍. الأعلام ج ٦ / ١٢٣.

١٤٦

ميسرة الإخشيد ، ثم حمل بنفسه ، فهزم أصحاب ابن رائق ، وأسر كثيرا منهم ، وأثخنهم قتلا وأسرا ، ومضى ابن رائق فقتل الحسين بن طغج باللجون (١) ، ودخل الإخشيد الرملة بخمسمائة أسير ، فتداعى ابن طغج وابن رائق إلى الصلح ، فمضى ابن رائق إلى دمشق على صلح ، وقدم الإخشيد محمد بن طغج إلى مصر لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين ، ومات الراضي بالله ، وبويع المتقي لله إبراهيم في شعبان ، فأقرّ الإخشيد ، وقتل محمد بن رائق بالموصل ، قتله بنو حمدان في شعبان سنة ثلاثين وثلثمائة ، فبعث الإخشيد بجيوشه إلى الشام ، ثم سار لست خلون من شوّال ، واستخلف أخاه أبا المظفر الحسن بن طغج ، ودخل دمشق ، ثم عاد لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ، فنزل البستان الذي يعرف اليوم بالكافوريّ من القاهرة ، ثم دخل داره ، وأخذ البيعة لابنه أبي القاسم أونوجور على جميع القوّاد ، آخر ذي القعدة ، وسار المتقي لله إلى بلاد الشام ، ومعه بنو حمدان ، فسار الإخشيد لثمان خلون من رجب سنة اثنتين وثلاثين ، واستخلف أخاه الحسن ، فلقي المتقي ، ثم رجع فنزل البستان لأربع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين ، وخلع المتقي ، وبويع عبد الله المستكفي لسبع خلون من جمادى الآخرة ، فأقرّ الإخشيد ، وبعث الإخشيد بحانك وكافور (٢) في الجيوش إلى الشام.

ثم خرج لخمس خلون من شعبان سنة ست وثلاثين ، واستخلف أخاه الحسن ، فلقي عليّ بن عبد الله (٣) بن حمدان بأرض قنسرين وحاربه ، ومضى فأخذ منه حلب ، وخلع المستكفي ، ودعي للمطيع لله الفضل بن جعفر في شوّال سنة أربع وثلاثين ، فأقرّ الإخشيد إلى أن مات بدمشق يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة.

فولي بعده ابنه (أونوجور) أبو القاسم باستخلافه إياه ، وقبض على أبي بكر محمد بن عليّ بن مقاتل في ثالث المحرّم سنة خمس وثلاثين ، وجعل مكانه على الخراج محمد بن عليّ المادرانيّ ، وقدم العسكر من الشام أوّل صفر ، فلم يزل أونوجور واليا إلى أن مات لسبع خلون من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلثمائة ، وحمل إلى القدس ، فدفن عند أبيه ، وكان كافور متحكما في أيامه ، ويطلق له في السنة أربعمائة ألف دينار ، فلما مات ، قوي كافور ، وكانت ولايته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر.

__________________

(١) بلد بالأردن بينه وبين طبرية عشرون ميلا وبها صخرة مدورة زعموا أنها مسجد إبراهيم الخليل عليه‌السلام. معجم البلدان ج ٥ / ١٣.

(٢) هو الأستاذ أبو المسك كافور بن عبد الله الإخشيدي الخادم الأسود (صاحب مصر والشام) اشتراه سيده أبو بكر محمد الإخشيد بثمانية عشر دينارا ثم رباه وأعتقه ثم رقاه حتى صار من كبار القواد لما رأى من حزمه وحسن تدبيره. توفي بمصر سنة ٣٥٧ ه‍. النجوم الزاهرة ج ٤ / ٣.

(٣) هو سيف الدولة الحمداني ولد سنة ٣٠٣ ه‍ وتوفي سنة ٣٥٦ ه‍ ملك واسط وحلب والشام كان شجاعا مهذبا عالي الهمة له وقائع مشهورة في محاربة الروم. الأعلام ج ٤ / ٣٠٣.

١٤٧

فأقام كافور أخاه عليّ بن الإخشيد أبا الحسن لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة ، فأقرّ المطيع لله على الحرب والخراج بمصر والشام والحرمين ، وصار خليفته على ذلك كافور غلام أبيه ، وأطلق له ما كان يطلق لأخيه في كل سنة ، وفي سنة إحدى وخمسين ترفع السعر ، واضطربت الإسكندرية والبحيرة بسبب المغاربة الواردين إليها ، وتزايد الغلاء ، وعز وجود القمح ، وقدم القرمطيّ إلى الشام في سنة ثلاث وخمسين ، وقلّ ماء النيل ، ونهبت ضياع مصر ، وتزايد الغلاء ، وسار ملك النوبة إلى أسوان ، ووصل إلى إخميم ، فقتل ونهب وأحرق ، واشتدّ اضطراب الأعمال ، وفسد ما بين كافور وبين عليّ بن الإخشيد ، فمنع كافور من الاجتماع به ، واعتلّ عليّ بعد ذلك علة أخيه ، ومات لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة ، فحمل إلى القدس ، وبقيت مصر بغير أمير أياما ، ولم يدع بها إلّا للمطيع لله وحده ، وكافور يدبر أمورها ، ومعه أبو الفضل جعفر بن الفرات.

ثم ولي كافور الخصيّ الأسود مولى الإخشيد من قبل المطيع على الحرب والخراج ، وجميع أمور مصر والشام والحرمين ، فلم يغير لقبه ، وإنما كان يدعى ويخاطب بالأستاذ (١) ، وأخرج كتاب المطيع بولايته لأربع بقين من المحرّم سنة خمس وخمسين ، فلم يزل إلى أن توفي لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة.

فولي أحمد بن عليّ (٢) الإخشيد أبو الفوارس وسنة إحدى عشرة سنة في يوم وفاة كافور ، وجعل الحسين بن عبيد الله بن طغج يخلفه ، وأبو الفضل جعفر بن الفرات يدبر الأمور وسمول الإخشيديّ (٣) العساكر إلى أن قدم جوهر القائد من المغرب بجيوش المعز لدين الله في سابع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ، ففرّ الحسين بن عبيد الله ، وتسلم جوهر البلاد ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فكانت مدّة الدعاء لبني العباس بمصر ، منذ ابتدئت دولتهم إلى أن قدم القائد جوهر إلى مصر : مائتي سنة ، وخمسا وعشرين سنة ، ومدّة الدولة الإخشيدية بها أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر ، وأربعة وعشرين يوما ، ومنذ افتتحت مصر إلى أن انتقل كرسيّ الإمارة منها إلى القاهرة ثلثمائة سنة وسبع وثلاثون سنة وأشهر ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الأستاذ : من الألقاب العامة التي استخدمت في العصر العباسي. حيث كان يطلق على الخصيان من الغلمان المعبر عنهم في عصر المماليك : بالطواشية واستمر هذا اللقب في العهد الفاطمي. أما في العصر التركي فيطلق على رب النعمة. وقد يطلق على الصانع وهو تحريف عن لقب (الأسطى).

النجوم الزاهرة ج ٤ / ٣.

(٢) هو أحمد بن علي بن الإخشيد : محمد بن طغج بن جف الفرغاني ولي مصر سنة ٣٥٧ ه‍ وله من العمر إحدى عشرة سنة واستمر إلى أن دخل جوهر الصقلي مصر سنة ٣٥٨ ه‍. النجوم الزاهرة ج ٤.

(٣) ورد الاسم عند ابن خلكان / شمول /. وفي تاريخ الإسلام للذهبي / سموءل /.

١٤٨

ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

قال ابن يونس عن الليث بن سعد : أن حكيم بن أبي راشد حدّثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أنه وقف على جزار ، فسأله عن السعر؟ فقال : بأربعة أفلس الرطل ، فقال له أبو سلمة : هل لك أن تعطينا بهذا السعر ما بدا لنا وبدا لك؟ قال : نعم ، فأخذ منه أبو سلمة ، ومرّ في القصبة ، حتى إذا أراد أن يوفيه ، قال : بعثني بدينار ، ثم قال : اصرفه فلوسا ، ثم وفه.

وقال الشريف أبو عبد الله محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط : سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالضمضام يقول : في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ، وحدّثني القاضي أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعيّ عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ قال : كان في مصر الفسطاط من المساجد ، ستة وثلاثون ألف مسجد ، وثمانية آلاف شارع مسلوك ، وألف ومائة ، وسبعون حماما ، وإن حمام جنادة في القرافة ما كان يتوصل إليها إلّا بعد عناء من الزحام ، وإن قبالتها في كل يوم جمعة خمسمائة درهم.

وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ في كتاب الخطط : إنه طلب لقطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون ألف تكة بعشرة آلاف دينار من أثمان كل تكة بعشرة دنانير ، فوجدت في السوق في أيسر وقت ، وبأهون سعي ، وذكر عن القاضي أبي عبيد : أنه لما صرف عن قضاء مصر كان في المودع مائة ألف دينار ، وإنّ فائقا مولى أحمد بن طولون اشترى دارا بعشرين ألف دينار ، وسلم الثمن إلى البائعين ، وأجلهم شهرين ، فلما انقضى الأجل سمع فائق صياحا عظيما وبكاء فسأل عن ذلك؟ فقيل : هم الذين باعوا الدار ، فدعاهم وسألهم عن ذلك؟ فقالوا : إنما نبكي على جوارك ، فأطرق وأمر بالكتب ، فردّت عليهم ، ووهب لهم الثمن ، وركب إلى أحمد بن طولون ، فأخبره فاستصوب رأيه ، واستحسن فعله.

ويقال : إنه كان لفائق ثلثمائة فرشة كل فرشة لحظية مثمنة ، وإنّ دار الحرم بناها خمارويه لحرمه ، وكان أبوه اشتراها له ، فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار ، وإنّ عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينيّ دخل الجامع ، فلم يجد مكانا في الصفّ الأوّل ، فوقف في الصف الثاني ، فالتفت أبو حفص بن الجلاب ، فلما رآه تأخر ، وتقدّم الشريف مكانه ، فكافأه على ذلك بنعمة حملها إليه ، ودارا ابتاعها له ، ونقل أهله إليها بعد أن كساهم وحلّاهم.

وذكر غير القضاعيّ : أنه دفع إليه خمسمائة دينار قال : ويقال : إنه أهدى إلى أبي جعفر الطحاويّ كتبا قيمتها ألف دينار ، وإنّ رشيقا الإخشيديّ استحجبه أبو بكر محمد بن

١٤٩

عليّ المادرانيّ ، فلما مضت عليه سنة رفع فيه أنه كسب عشرة آلاف دينار ، فخاطبه في ذلك ، فحلف بالإيمان الغليظة على بطلان ذلك ، فأقسم أبو بكر المادرانيّ بمثل ما أقسم به لئن خرجت سنتنا هذه ، ولم تكسب هذه الجملة لأصحبتني ، ولم يزل في صحبته إلى أن صودر أبو بكر ، فأخذ منه ، ومن رشيق مال جزيل ، وذكر : أن الحسن بن أبي المهاجر موسى بن إسماعيل بن عبد الحميد بن بحر بن سعد كان على البريد في زمن أحمد بن طولون ، وقتله خمارويه ، وسبب ذلك ما كان في نفس عليّ بن أحمد المادرانيّ منه ، فأغرى خمارويه به ، وقال : قد بقي لأبيك مال غير الذي ذكره في وصيته ، ولم يقف عليه غير ابن مهاجر ، فطالبه ، فلم يزل خمارويه بابن مهاجر إلى أن وصف له موضع المال من دار خمارويه ، فأخرج فكان مبلغه ألف ألف دينار ، فسلمه إلى أحمد المادرانيّ ، فحمله إلى داره ، وأقبلت توقيعات خمارويه فأخرج ، فكان مبلغه ألف ألف دنار ، فسلمه أموال الضياع والمرافق ، وحصلت له تلك الأموال ، ولم يضع يده عليها إلى أن قتل ، وصودر أبو بكر محمد بن عليّ في أيام الإخشيد ، وقبضت ضياعه ، فعاد إلى تلك الألف ألف دينار مع ما سواها من ذخائره وأعراضه وعقده ، فما ظنك برجل ذخيرته ألف ألف دينار ، سوى ما ذكر عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ أنه قال : بعث إليّ أبو الجيش خمارويه أن أشتري له أردية وأقنعة للجواري ، وعمل دعوة خلا فيها بنفسه وبهم ، وغدوت متعرّفا لخبره ، فقيل له : إنه طرب لما هو فيه ، فنثر دنانير على الجواري والغلمان ، وتقدّم إليهم أنّ ما سقط من ذلك في البركة ، فهو لمحمد بن عليّ كاتبي ، فلما حضرت ، وبلغني ذلك أمرت الغلمان ، فنزلوا في البركة ، فأصعدوا إليّ منها سبعين ألف دينار ، فما ظنك بمال نثر على أناس فتطاير منه إلى بركة ماء هذا المبلغ.

وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حل المغرب : وفي الفسطاط دار تعرف بعبد العزيز يصب فيها لمن بها في كل يوم أربعمائة راوية ماء ، وحسبك من دار واحدة يحتاج أهلها في كل يوم إلى هذا القدر من الماء.

وقال ابن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل عن ساحل مصر ، ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل ، وكان عددها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر ، وأطناب بها ترخى وتملأ. أخبرني بذلك من أثقل بنقله ، قال : وكان بالفسطاط في جهته الشرقية حمام من بناء الروم عامرة زمن أحمد بن طولون. قال الراوي : دخلتها في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون ، وطلبت بها صانعا يخدمني ، فلم أجد فيها صانعا متفرّغا لخدمتي ، وقيل لي : إن كل صانع معه اثنان يخدمهم وثلاثة ، فسألت كم فيها من صانع؟ فأخبرت : أنّ بها سبعين صانعا قلّ من معه دون ثلاثة ، سوى من قضى حاجته ، وخرج قال : فخرجت ولم أدخله لعدم من يخدمني بها ، ثم طفت غيرها ، فلم أقدر على من أجده فارغا إلّا بعد أربع حمامات ، وكان الذي خدمني فيها نائبا ، فانظر رحمك الله

١٥٠

ما اشتمل عليه هذا الخبر ، مع ما ذكره القضاعيّ من عدد الحمامات ، وأنها ألف ومائة وسبعون حماما ، تعرف من ذلك كثرة ما كان بمصر من الناس ، هذا والسعر راخ والقمح كل خمسة أرادب بدينار ، وبيعت عشرة أرادب بدينار في زمن أحمد بن طولون.

قال ابن المتوّج : خطة مسجد عبد الله أدركت بها آثار دار عظيمة ، قيل : إنها كانت دار كافور الإخشيديّ ، ويقال : إن هذه الخطة تعرف بسوق العسكر ، وكان به مسجد الزكاة ، وقيل : إنه كان منه قصبة سوق متصلة إلى جامع أحمد بن طولون ، وأخبرني بعض المشايخ العدول عن والده ، وكان من أكابر الصلحاء أنه قال : عددت من مسجد عبد الله إلى جامع ابن طولون ثلثمائة وتسعين قدر حمص مصلوق بقصبة هذا السوق بالأرض ، سوى المقاعد والحوانيت التي بها الحمص ، فتأمّل أعزك الله ما في هذا الخبر مما يدل على عظمة مصر ، فإن هذا السوق كان خارج مدينة الفسطاط ، وموضعه اليوم الفضاء الذي بين كوم الجارح وبين جامع ابن طولون ، ومن المعروف أن الأسواق التي تكون بداخل المدينة أعظم من الأسواق التي هي خارجها ، ومع ذلك ففي هذا السوق من صنف واحد من المآكل هذا القدر ، فكم ترى تكون جملة ما فيه من سائر أصناف المآكل ، وقد كان إذ ذاك بمصر عشرة أسواق كلها أو أكثرها أجلّ من هذا السوق ، قال : ودرب السفافير بني فيه زقاق بني الرصاص ، كان به جماعة إذا عقد عندهم عقد لا يحتاجون إلى غريب ، وكانوا هم وأولادهم نحوا من أربعين نفسا.

وقال ابن زولاق (١) في كتاب سيرة المادرانيين : ولما قدم الأستاذ مونس الخادم من بغداد إلى مصر استدعى أبو عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ المعروف بأبي زنبور الدقاق ، وهو الذي نسميه اليوم الطحان ، وقال : إن الأستاذ مؤنسا قد وافى ، ولي بمشتول (٢) قدر ستين ألف أردب قمحا ، فإذا وافى ، فقم له بالوظيفة ، فكان يقوم له بما يحتاج إليه من دقيق حواري مدّة شهر ، فلما كمل الشهر قال كاتب مونس للدقاق : كم لك حتى ندفعه إليك؟

فأعلمه الخبر ، فقال : ما أحسب الأستاذ يرضى أن يكون في ضيافة أبي عليّ ، وأعلم مونسا بذلك ، فقال : أنا آكل خبز حسين؟! لا يبرح الرجل حتى يقبض ماله ، فمضى الدقاق وعلم أبا زنبور ، فقام من فوره إلى مونس ، فأكب على رجليه ، فاحتشم منه ، وقال : والله لا أجيبك إلا هذا الشهر الذي مضى ولا تعاود ، ثم رجع فقال الدقاق : قم له بالوظيفة في المستقبل واعمل ما يريده؟ قال : فجئته وقد فرغ القمح ، ومعي الحساب ، وأربعمائة دينار قال :

__________________

(١) ابن زولاق : الحسن ابن إبراهيم بن الحسن مؤرخ مصري ولي المظالم أيام الفاطميين له مؤلفات عديدة منها (خطط مصر) ، (أخبار قضاة مصر) ، ولد سنة ٣٠٦ ه‍ وتوفي سنة ٣٨٧ ه‍. الأعلام ج ٢ / ١٧٨.

(٢) مشتول : قرية من كورة الشرقية بمصر. معجم البلدان ج ٥ / ١٣٢.

١٥١

إيش هذا؟ فقلت : بقية ذلك القمح ، فقال : أعفني منه وتركه ، فتأمّل ما اشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر ، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح ، وكيف صار مما يفضل عنه ، حتى يجعله ضيافة ، وكيف لم يعبأ بأربعمائة دينار ، حتى وهبها لدقاق قمح ، وما ذاك إلا من كثرة المعاش ، وقس عليه باقي الأحوال.

وقال عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ : أنه حج اثنتين وعشرين حجة متوالية ، أنفق في كل حجة مائة ألف دينار ، وخمسين ألف دينار ، وأنه كان يخرج معه بتسعين ناقعة لقبته التي يركبها ، وأربعمائة لجهازه وميرته ، ومعه المحامل فيها أحواض البقل ، وأحواض الرياحين ، وكلاب الصيد ، وينفق على الأشراف ، وأولاد الصحابة ، ولهم عنده ديوان بأسمائهم ، وأنه أنفق في خمس حجات أخر ألفي ألف دينار ، ومائتي ألف دينار ، وكانت جاريته تواصل معه الحج ، ومعها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها ، ومائة وخمسون عربيا لجهازها ، وأحصى ما يعطيه كل شهر لحاشيته ، وأهل الستر ، وذوي الأقدار جراية من الدقيق الحواري ، فكان بضعا وثمانين ألف رطل ، وكان سنة القرمطيّ بمكة ، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قميص ديبقي ثمن كل ثوب منها خمسون دينارا ، وقال مرّة : وهو في عطلته أخذ مني محمد بن طفج الإخشيد عينا وعرضا يبلغ نيفا وثمانين ويبة دنانير ، فاستعظم من حضر ذلك ، فقال ابنه الذي أخذ أكثر : وأنا أوقفه عليه ، ثم قال لأبيه : يا مولاي أليس نكتب ثلاث مرّات؟ قال : قريب منها ، قال : وعرض وعين؟ قال : كذلك ، فأمر بعض الحساب بضبط ذلك ، فجاء ما ينيف عن ثلاثين أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانيّ ، وقس عليها بقية أحوال مصر ، فما كان سوى كاتب الخراج ، وهذه أمواله كما قد رأيت.

وقال الشريف الجوانيّ : إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك المحشوّ بالسكر ، والقرص الصغار المسمى افطن له ، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك ، وعمل منه في أوّل الحال أشياء عوض لبه : لب ذهب في صحن واحد ، فمضى عليه جملة ، وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون ، ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس ، وكان قد سمع في سيرة المادرانيين أنه عمل له هذا الإفطن له ، وفي كل واحدة خمسة دنانير ، ووقف أستاذ على السماط ، فقال لأحد الجلساء : افطن له ، وكان عمل على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس ، لكن ما فيه الدنانير صحن واحد ، فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله : افطن له ، وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه ، فأصاب الذهب ، واعتمد عليه ، فحصل له جملة ، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه ، ويجمع بيده ، ويحط في حجره ، فتنبهوا له ، وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ : افطن له.

١٥٢

وقال أبو سعيد (١) عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر : حدّثني بعض أصحابنا بتفسير رؤيا رآها غلام ابن عقيل الخشاب عجيبة ، فكانت حقا ، كما فسرت ، فسألت غلام ابن عقيل عنها؟ فقال لي : أنا أخبرك ، كان أبي في سوق الخشابين فأنفق بضاعته ، ورثت حاله وماله ، فأسلمتني أمي إلى ابن عقيل ، وكان صديقا لأبي ، فكنت أخدمه ، وأفتح حانوته وأكنسها ، ثم أفرش ما يجلس عليه ، فكان يجري عليّ رزقا أتقوّت به ، فأتى يوما في الحانوت ، وقد جلس أستاذي ابن عقيل ، فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الريف يطلب عود خشب لطاحونة ، فاشترى من ابن عقيل عود طاحونة بخمسة دنانير ، فسمعت قوما من أهل السوق يقولون : هذا ابن العسال المفسر للرؤيا عند ابن عقيل ، فجاء منهم قوم ، وقصوا عليه منامات رأوها ، ففسرها لهم ، فذكرت رؤيا رأيتها في ليلتي ، فقلت له : إني رأيت البارحة في نومي كذا وكذا ، فقصصت عليه الرؤيا ، فقال لي : أيّ وقت رأيتها من الليل ، فقلت : انتبهت بعد رؤياي في وقت كذا ، فقال لي : هذه رؤيا لست أفسرها إلّا بدنانير كثيرة ، فألححت عليه ، فقال أستاذي ابن عقيل : إن قرّبت علينا وزنت أنا لك ذلك من عندي ، فلم يزل به ينزله ، حتى قال : والله لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانير ، فقال له ابن عقيل : إن صحت الرؤيا دفعت إليك العود بلا ثمن ، فقال له : يأخذ مثل هذا اليوم ألف دينار ، قال أستاذي : فإذا لم يصح هذا ، فقال : يكون العود عندك إلى مثل هذا اليوم ، فإن كان لم يصح أخذ ما قلت له في ذلك اليوم ، فليس لي عندك شيء ، ولا أفسر رؤيا أبدا ، فقال له أستاذي : قد أنصفت ومضت الجمعة ، فلما كان مثل ذلك اليوم غدوت مثل ما كنت أغدو إلى دكان أستاذي ، ففتحتها ورششتها ، واستلقيت على ظهري أفكر فيما قال لي ، ومن أين يمكن أن يصير إليّ ألف دينار ، فقلت : لعل سقف المكان ينفرج ، فيسقط منه هذا المال ، وجعلت أجيل فكري ، وإني كذلك إلى ضحى إذ وقف عليّ جماعة من أعوان الخراج معهم ناس ، فقالوا : هذه دكان ابن عقيل؟ ثم قالوا لي : قم ، فقلت لهم : لست ابن عقيل ، أنا غلامه ، فقالوا : بل أنت ابنه ، وجبذوني ، فأخرجوني من الدكان ، فقلت : إلى أين؟ فقالوا : إلى ديوان الأستاذ أبي عليّ الحسين بن أحمد يعنون أبا زنبور ، فقلت : وما يصنع بي؟ فقالوا : إذا جئت سمعت كلامه ، وما يريده منك ، وكنت بعقب علة ضعيف البدن ، فقلت : ما أقدر أمشي ، فقالوا : اكتر حمارا تركبه ، ولم يكن معي ما أكتري به حمارا ، فنزعت تكة سراويلي من وسطي ، ودفعتها على درهمين لمن أكراني الحمار ، ومضيت معهم ، فجاءوا بي إلى دار أبي زنبور ، فلما دخلت قال لي : أنت ابن عقيل؟ فقلت : لا يا سيدي ، أنا غلام في حانوته ، قال ، : أفليس تبصر قيمة الخشب؟ قلت : بلى ، قال : فاذهب مع هؤلاء ، فقوّم لنا هذا الخشب ، فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فمضيت

__________________

(١) مؤرخ محدث له تاريخان أحدهما (أخبار مصر ورجالها) وهو والد العالم الفلكي ابن يونس ولد سنة ٢٨١ ه‍ وتوفي سنة ٣٤٧ ه‍ ، الأعلام ج ٣ / ٢٩٤.

١٥٣

معهم ، فجاءوا بي إلى شط البحر إلى خشب كثير من أثل وسنط جاف ، وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب ، فقوّمته تقويم جزع ، حتى بلغت قيمته ألفي دينار ، فقالوا لي : انظر هذا الموضع الآخر فيه من الخشب أيضا ، فنظرت فإذا هو أكثر مما قوّمت بنحو مرّتين فأعجلوني ، ولم أضبط قيمة الخشب ، فردّوني إلى أبي زنبور ، فقال لي : قوّمت الخشب كما أمرتك؟ ففزعت ، فقلت : نعم ، فقال : هات كم قوّمته ، فقلت : ألفا دينار ، فقال : انظر لا تغلط ، فقلت : هو قيمته عندي ، فقال لي : فخذه أنت بألفي دينار ، فقلت : أنا فقير لا أملك دينارا واحدا ، فكيف لي بقيمته ، قال : ألست تحسن تدبيره وتبيعه؟ فقلت : بلى ، قال : فدبره وبعه ونحن نصبر عليك بالثمن إلى أن تبيع شيئا شيئا ، وتؤدّي ثمنه ، فقلت : أفعل ، فأمر بكتاب يكتب عليّ في الديوان بالمال ، فكتب عليّ ، ورجعت إلى الشط أعرف عدد الخشب ، وأوصي به الحرّاس ، فوافيت جماعة أهل سوقنا ، وشيوخهم قد أتوا إلى موضع الخشب ، فقالوا لي : إيش صنعت؟ قوّمت الخشب؟ قلت : نعم ، قالوا : بكم قوّمته؟ فقلت : بألفي دينار ، فقالوا لي : وأنت تحسن تقوّم؟ لا يساوي هذا هذه القيمة ، فقلت لهم : قد كتب عليّ كتاب في الديوان ، وهو عندي يساوي أضعاف هذا ، فقالوا لي : اسكت لا يسمعك أحد ، وكانوا قد قوّموه قبلي لأبي زنبور بألف دينار ، فقال بعضهم لبعض : أعطوا هذا ربحه ، وتسلموه أنتم ، فقال قائل : أعطوه ربحه خمسمائة دينار ، فقلت : لا والله لا آخذ ، فقالوا : قد رأى رؤيا ، فزيدوه ، فقلت : لا والله لا آخذ أقلّ من ألف دينار ، قالوا : فلك ألف دينار ، فحوّل اسمك من الديوان نعطك إذا بعنا ألف دينار ، فقلت : لا والله لا أفعل حتى آخذ الألف دينار في وقتي هذا ، فمضوا إلى حوانيتهم ، وإلى منازلهم حتى جاءوني بألف دينار ، فقلت : لا آخذها إلا بنقد الصيرفيّ وميزانه ، فمضيت معهم إلى صيرفيّ الناحية ، حتى وزنوا عنده الألف دينار ، ونقدتها وأخذتها فشددتها في طرف رداءي ، فمضيت معهم إلى الديوان ، وحوّلت أسماءهم مكان اسمي ، ووفوا حتى الديوان من عندهم ، ورجعت وقت الظهر إلى أستاذي ، فقال لي : قبضت ألف دينار منهم؟ فقلت : نعم ببركتك ، وتركت الدنانير بين يديه ، وقلت له : يا أستاذ خذ ثمن العود الخشب ، فقال : لا والله لا آخذ منك شيئا أنت عندي مقام ابني ، وجاء في الوقت ابن العسال ، فدفع إليه أستاذي العود الخشب ، فمضى ، فهذا خبر رؤياي وتفسيرها ، فتأمّل أعزك الله ما يشتمل عليه من عظم ما كانت عليه مصر ، وسعة حال الديوان ، وكيف فضل فيه خشب يساوي آلافا من الذهب ، ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية بخشب أو غيره أخذ من الناس إما بغير ثمن أو بأخس القيم ، مع ما يصيب مالكه من الخوف والخسارة للأعوان ، وكيف لما قوّم هذا الخشب لم يكلف المشتري دفع المال في الحال ، وفي زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانية على الباعة يكلفون حمل ثمنها بالسرعة ، حتى أنّ فيهم من يبيعها بأقلّ من نصف ما اشتراها به ، ويكمل الثمن إمّا من ماله ، أو يقترضه بربح ، وكيف لما علم أهل السوق أن الخشب بيع بدون القيمة

١٥٤

لم يمضوا إلى الديوان ، ويدفعون فيه زيادة إمّا لقلة شره الناس إذ ذاك وتركهم الأخلاق الرذيلة من الحسد ونحوه أو لعلمهم بعدل السلطان ، وإنه لا ينكث ما عقده ، وفي زمننا لو ادّعى عدوّ على عدوّه أنّ البضاعة التي كان اشتراها من الديوان قيمتها أكثر مما أخذها به لقبل قوله ، ورغم زيادة على ما ادّعاه عدوّه من قلة القيمة جملة أخرى لا جرم أنه تظاهر سفهاء الناس بكل رذيلة وذميمة من الأخلاق ، فإنّ الملك سوق يجبى إليه ما نفق به ، وكيف لما علم ابن عقيل أنّ غلامه استفاد على اسمه ألف دينار ، لم يشره إلى أخذها بل دفع عنه خمسة الدنانير ، وما ذاك إلا من انتشار الخير في الناس ، وكثرة أموالهم ، وسعة حال كل أحد بحسبه وطيب نفوس الكافة ، ولعمري لو سمع زمننا أحد من الأمراء والوزراء فضلا عن الباعة ، أنّ غلاما من غلمانه أخذ على اسمه عشر هذا المبلغ لقامت قيامته ، وكيف اتسعت أحوال الخشابين حتى وزنوا ألف دينار في ساعة ، وإنه ليعسر اليوم على الخشابين أن يزنوا في يوم مائة دينار ، وهذا كله من وفور غنى الناس بمصر ، وعظم أمرهم ، وكثرة سعاداتهم ، وكان الفسطاط نحو ثلث بغداد ، ومقداره فرسخ على غاية العمارة ، والخصب والطيبة ، واللذة ، وكانت مساكن أهلها خمس طبقات وستا وسبعا وربما سكن في الدار الواحدة المائتان من الناس ، وكان فيه دار عبد العزيز بن مروان يصب فيها لمن في كل يوم أربعمائة راوية ماء ، وكان فيها خمسة مساجد وحمامان ، وعدّة أفران يخبز بها عجين أهلها ، وقد قال أبو داود في كتاب السنن : شبرت قثاءة بمصر : ثلاثة عشر شبرا ، ورأيت أترجة على بعير قطعتين : قطعت ، وصيرت على مثل عدلين ، ذكره في باب صدقة الزرع من كتاب الزكاة ، قلت : وقد ذكر أن هذا كان في جنان بني سنان البصريّ خارج مدينة الفسطاط ، وكانت بحيث لم ير أبدع منها ، فلما قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد مصر : سنة سبع عشرة ومائتين ، رأى جنان بني سنان هذه؟ فأعجب بها ، وسأل إبراهيم بن سنان : كم عليه من الخراج لجنانه؟ فذكر أنه يحمل إلى الديوان في كل سنة عشرين ألف دينار ، فقال المأمون : وكم ترد عليك هذه الجنان؟ قال : لا أستطيع حصره إلا أن ما زاد على مائة ألف دينار ، أتصدّق به ولو درهما هذا ، وله ولد اسمه أحمد بن إبراهيم بن سنان يوصف بعلم وزهد ، والله تعالى أعلم.

ذكر الآثار الواردة في خراب مصر

روى قاسم بن أصبغ عن كعب الأحبار قال : الجزيرة آمنة من الخراب ، حتى تخرب أرمينية ، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة ، والكوفة آمنة من الخراب ، حتى تكون الملحمة ، ولا يخرج الدجال حتى تفتح القسطنطينية.

وعن وهب بن منبه أنه قال : الجزيرة آمنة من الخراب ، حتى تخرب أرمينية ، وأرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة من الخراب ، حتى تخرب الكوفة ، ولا

١٥٥

تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة ، فإذا كانت الملحمة الكبرى ، فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم ، وخراب الأندلس من قبل الزنج ، وخراب إفريقية من قبل الأندلس ، وخراب مصر من انقطاع النيل ، واختلاف الجيوش فيها ، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف ، وخراب الكوفة من قبل عدوّ من ورائهم يخفرهم ، حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة ، وخراب البصرة من قبل العراق ، وخراب الأبلة من قبل عدوّ يخفرهم مرّة برّا ، ومرّة بحرا ، وخراب الريّ من قبل الديلم ، وخراب خراسان من قبل التبت ، وخراب التبت من قبل الصين ، وخراب الصين من قبل الهند ، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان ، وخراب مكة من قبل الحبشة ، وخراب المدينة من قبل الجوع ، وفي رواية : وخراب أرمينية من قبل الرجف والصواعق ، وخراب الأندلس ، وخراب الجزيرة من سنابك الخيل ، واختلاف الجيوش.

وعن عبد الله بن الصامت قال : إن أسرع الأرضين خرابا البصرة ومصر ، فقيل له : وما يخربهما وفيهما عيون الرجال والأموال؟ فقال : يخربهما القتل الأحمر والجوع الأغبر ، كأني بالبصرة : كأنها نعامة جاثمة ، وأما مصر : فإنّ نيلها ينضب ، أو قال : ييبس ، فيكون ذلك خرابها ، وعن الأوزاعيّ : إذا دخل أصحاب الرايات الصفر مصر ، فلتحفر أهل الشام أسرابا تحت الأرض.

وعن كعب : علامة خروج المهديّ ألوية تقبل من قبل المغرب عليها رجل من كندة أعرج ، فإذا ظهر أهل المغرب على مصر ، فبطن الأرض يومئذ خير لأهل الشام.

وعن سفيان الثوريّ (١) قال : يخرج عنق من البربر ، فويل لأهل مصر. وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن مولى لشرحبيل بن حسنة أو لعمرو بن العاص قال : سمعته يوما ، واستقبلنا فقال : إيها لك مصر إذا رميت بالقسيّ الأربع : قوس الأندلس ، وقوس الحبشة ، وقوس الترك ، وقوس الروم.

وعن قاسم بن أصبغ : حدّثنا أحمد بن زهير حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الشيبانيّ قال : تهلك مصر غرقا ، أو حرقا.

وعن عبد الله بن مغلا أنه قال لابنته : إذا بلغك أن الإسكندرية قد فتحت ، فإن كان خمارك بالمغرب ، فلا تأخذيه حتى تلحقي بالمشرق.

وذكر مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه قال : أنزل الله تعالى من الجنة

__________________

(١) سفيان الثوري : كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى أمير المؤمنين في الحديث. راوده الخليفة المنصور العباسي على أن يلي الحكم فأبى. له مؤلفات عديدة في الحديث والفقه ولد سنة ٩٧ ه‍ وتوفي سنة ١٦١ ه‍. الأعلام ج ٤ / ١٠٤.

١٥٦

إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون ، وهو نهر الهند ، وجيحون ، وهو نهر بلخ ، ودجلة والفرات ، وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه‌السلام ، واستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم ، وذلك قوله عزوجل : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون / ١٨] فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه‌السلام ، فرفع من الأرض القرآن كله ، والعلم كله ، والحجر من ركن البيت ، ومقام إبراهيم ، وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء ، فذلك قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) [المؤمنون / ١٨] فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقدت أهلها خير الدنيا والدين ، وقال ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الحضرميّ عن حيان بن الأعين عن عبد الله بن عمرو قال : إنّ أوّل مصر خرابا أنطابلس ، وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن عبد الله بن عمرو قال : إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر قال : فقلت له : ما يخرجنا منها يا أبا محمد ، أعدوّ؟ قال : لا ، ولكن يخرجكم منها نيلكم هذا ، يغور فلا تبقى منه قطرة حتى تكون فيه الكثبان من الرمل ، وتأكل سباع الأرض حيتانه.

ذكر خراب الفسطاط

وكان لخراب مدينة فسطاط مصر سببان : أحدهما : الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر بالله الفاطمي ، والثاني : حريق مصر في وزارة شاور بن مجير السعديّ.

فأما الشدّة العظمى : فإنّ سببها أنّ السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأربعمائة ، وتبع الغلاء ، وباء ، فبعث الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر ، فأطلق أربعمائة ألف أردب ، وعزم على حملها إلى مصر ، فأدركه أجله ومات قبل ذلك ، فقام في الملك بعده امرأة ، وكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونا لها ، ويمدّها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد ، فأبى أن يسعفها في طلبتها ، فجردت لذلك ، وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر ، فخنق المستنصر ، وجهز العساكر ، وعليها مكين الدولة الحسن بن ملهم ، وسارت إلى اللاذقية ، فحاربتها بسبب نقض الهدنة وإمساك الغلال عن الوصول إلى مصر ، وأمدّها بالعساكر الكثيرة ، ونودي في بلاد الشام بالغزو ، فنزل ابن ملهم قريبا من فامية (١) ، وضايق أهلها ، وجال في أعمال أنطاكية ، فسبى ونهب ، فأخرج صاحب قسطنطينية ثمانين قطعة في البحر ، فحاربها ابن ملهم عدّة مرار ، وكانت عليه ، وأسر هو وجماعة كثيرة في شهر ربيع

__________________

(١) فامية : مدينة كبيرة وكورة من سواحل حمص وقد يقال لها أفامية قيل : إنها ثاني مدينة على الأرض بنيت بعد الطوفان. معجم البلدان ج ٤ / ٢٣٣.

١٥٧

الأوّل منها ، فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين : أبا عبد الله القضاعيّ برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقيّ من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية ، فأذن له في ذلك ، فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة.

وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ ، فبعث القاضي القضاعيّ إلى المستنصر يخبره بذلك ، فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس ، وقبض على جميع ما فيها ، وكان شيئا كثيرا من أموال النصارى ، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين ، حتى استولوا على بلاد الساحل كلها ، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى ، واشتدّ في هذه السنة الغلاء ، وكثر الوباء بمصر والقاهرة ، وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله ، وذلك أنّ المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء ، والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة ، وجرّد بعض الأتراك سيفا ، وهو سكران على أحد عبيد الشراء ، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه ، فحنق لقتله الأتراك ، وساروا بجميعهم إلى المستنصر.

وقالوا : إن كان هذا عن رضاك ، فالسمع والطاعة ، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين ، فلا نرضى بذلك ، فتبرّأ المستنصر مما جرى وأنكره ، فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد ، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدّة من العبيد.

وانهزم من بقي منهم ، فشق ذلك على أمّ المستنصر ، فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر ، وذلك أنها كانت جارية سوداء ، فأحبت الاستكثار من جنسها ، واشترتهم من كل مكان ، وعرفت رغبتها في هذا الجنس ، فجلبت الناس إلى مصر منهم ، حتى يقال : إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود ، فلما كانت وقعة كوم شريك أمدّت العبيد بالأموال والسلاح سرّا ، وكانت أمّ المستنصر قد تحكمت في الدولة ، وحقدت على الأتراك ، وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستريّ ، فقويت العبيد لذلك ، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار ، فكرهت الأتراك ذلك ، وكان ما ذكر ، فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك ، فاجتمعوا بأسرهم ، ودخلوا على المستنصر ، وأغلظوا في القول ، فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر ، وصار إلى أمه ، فأنكرت ما فعلت ، وخرج الأتراك ، فصار السيف قائما ، ووقعت الفتنة ثانيا فانتدب المستنصر : أبا الفرج ابن المغربيّ ليصلح بين الطائفتين ، فاصطلحه على غلّ ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور ، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر ، ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين ، فقويت شوكة الأتراك ، وضروا على المستنصر ، وزاد طمعهم فيه ، وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم ، وضاقت أحوال

١٥٨

العبيد ، واشتدّت ضرورتهم ، وكثرت حاجتهم ، وقلّ مال السلطان ، واستضعف جانبه ، فبعثت أم المستنصر إلى قوّاد العبيد تغريهم بالأتراك ، فاجتمعوا بالجيزة ، وخرج إليهم الأتراك ، ومقدّمهم ناصر الدين حسين بن حمدان (١) ، فاقتتلا عدّة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد ، وهزموهم إلى بلاد الصعيد ، فعاد ابن حمدان إلى القاهرة ، وقد عظم أمره ، وقوي جأشه ، وكبرت نفسه ، واستخف بالخليفة ، فجاءه الخبر : أنه قد تجمع من العبيد ببلاد الصعيد نحو خمسة عشر ألف فارس ، فقلق وبعث بمقدّمي الأتراك إلى المستنصر ، فأنكر ما كان من اجتماع العبيد ، وجفوا في خطابهم ، وفارقوه على غير رضى منهم ، فبعثت أم المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد ، تأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك ، فهجموا عليهم ، وقتلوا منهم عدّة ، فبادر ابن حمدان إلى الخروج ظاهر القاهرة ، وتلاحق به الأتراك ، وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر ، وحاربوهم عدّة أيام ، فحلف ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إمّا له أو عليه ، وجدّ كل من الفريقين في القتال ، فظهرت الأتراك على العبيد ، وأثخنوا في قتلهم وأسرهم ، فعادوا إلى القاهرة ، وتتبع ابن حمدان من في البلد منهم ، حتى أفنى معظمهم ، هذا والعبيد ببلاد الصعيد على حالهم ، وبالإسكندرية أيضا منهم جمع كثير ، فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية ، وحاصرهم فيها مدّة حتى سألوه الأمان ، فأخرجهم ، وأقام فيها من يثق به ، وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد ، ودخلت سنة ستين وأربعمائة ، وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر ، واستهانوا به ، واستخفوا بقدره ، وصار مقرّرهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعدما كان ثمانية وعشرين ألف دينار ، ولم يبق في الخزائن مال ، فبعثوا يطالبونه بالمال ، فاعتذر إليهم بعجزه عما طلبوه ، فلم يعذروه ، وقالوا : بع ذخائرك ، فلم يجد بدّا من إجابتهم ، وأخرج ما كان في القصر من الذخائر ، فصاروا يقوّمون ما يخرج إليهم بأخس القيم ، وأقل الأثمان ، ويأخذون ذلك في واجباتهم.

وتجهز ابن حمدان ، وسار إلى الصعيد يريد قتال العبيد ، وكانت شرورهم قد كثرت ، وضررهم وفسادهم قد تزايد ، فلقيهم وواقعهم غير مرّة ، والأتراك تنكسر منهم ، وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة ، فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر ، ونسبوه إلى مباطنة العبيد ، وتقويتهم ، فأنكر ذلك ، وحلف عليه ، فأخذوا في إصلاح شأنهم ، ولمّ شعثهم وساروا لقتال العبيد ، وما زالوا يلحون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة ، وقتل منهم خلق كثير ، وفرّ من بقي ، فذهبت شوكتهم ، وزالت دولتهم ، ورجع ابن حمدان ، وقد كشف قناع الحياء ، وجهر بالسوء للمستنصر ، واستبدّ بسلطنة

__________________

(١) في فهرس الأعلام : ناصر الدولة آخر من كانت له إمارة من آل حمدان ملوك حلب كان أمير دمشق وعزله المستنصر الفاطمي سنة ٤٤٠ ه‍ وقبض عليه ثم أطلقه. فجمع حوله أنصارا ونجح في السيطرة على أمور مصر إلى أن قتله بعض القواد الأتراك سنة ٤٦٥ ه‍. الأعلام ج ٢ / ١٨٨.

١٥٩

البلاد ، ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر ، فنقل مكانه على الأتراك ، وتفرّغوا من العبيد ، والتفتوا إليه ، وقد استبدّ بالأمور دونهم ، واستأثر بالأموال عليهم ، ففسد ما بينهم وبينه ، وشكوا منهم إلى الوزير خطير الملك ، فأغراهم به ، ولامهم على ما كان من تقويته ، وحسن لهم الثورة به ، فصاروا إلى المستنصر ، ووافقوه على ذلك ، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر ، ويهدّده إن امتنع ، فلم يقدر على الامتناع منه ، لفساد الأتراك عليه ، وميلهم مع المستنصر ، فخرج إلى الجيزة ، وانتهب الناس دوره ودور حواشيه ، فلما جنّ عليه الليل عاد من الجيزة سرّا إلى دار القائد تاج الملوك شادي ، وترامى عليه ، وقبل رجليه ، وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير ، فإنهما قاما بهذه الفتنة ، فأجابه إلى ذلك ، ووعده بقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان ، فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه ، وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة ، وأقبل الوزير الخطير ، في موكبه ، فبادره شادي على حين غفلة وقتله ، ففرّ الذكر إلى القصر ، والتجأ بالمستنصر ، فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان ، وقد استعدّ للحرب ، فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب ، واجتمع إليه الأجناد والعامّة ، وصار في عدد لا ينحصر ، وبرزت الفرسان ، فكانت بين الخليفة ، وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان ، وقتل كثير من أصحابه ، فمضى في طائفة إلى البحيرة ، وترامى على بني سيس ، وتزوّج منها ، فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدّة الغلاء ، وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب ، وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات ، ووقف أرباب الفساد في الطريق ، فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر ، فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره ، وامتدّ ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين ، فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة ، فسارت إليه ولم يوفق في محاربته ، فكسرها كلها ، واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال ، فتقوّى به ، وقطع الميرة عن البلد ، ونهب أكثر الوجه البحريّ ، وقطع منه الخطبة للمستنصر ، ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ بالإسكندرية ودمياط ، وعامّة الوجه البحريّ ، فاشتدّ الجوع ، وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت ، فلا يمضي يوم وليلة من موته ، حتى يموت سائر من في ذلك البيت ، ولا يوجد من يستولي عليه ، ومدّت الأجناد أيديها إلى النهب ، فخرج الأمر عن الحدّ ، ونجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر ، وساروا إلى الشام والعراق ، وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه ، وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر خزائن القصر ، فاضطرّ الأجناد ما هم فيه من شدّة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه ، ويحمل إليه مال مقرّر ، وينوب عنه شادي بالقاهرة ، فرضي بذلك ، وسير الغلال إلى القاهرة ومصر ، فسكن ما بالناس من شدّة الجوع قليلا ، ولم يكن ذلك إلا نحو شهر ، ووقع الاختلاف عليه ، فقدم من البحيرة إلى مصر ، وحاصرها وانتهبها ، وأحرق دورا عديدة بالساحل ، ورجع إلى البحيرة ،

١٦٠