كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ذكر عين شمس (١)

وكان يقال لها في القديم : رعمساس ، وكانت عين شمس ، هيكلا يحج الناس إليه ، ويقصدونه من أقطار الأرض في جملة ما كان يحج إليه من الهياكل التي كانت في قديم الدهر ، ويقال : إنّ الصابئة أخذت هذه الهياكل عن عاد وثمود ، ويزعمون أنه عن شيث بن آدم ، وعن هرمس الأوّل ، وهو إدريس ، وإن إدريس هو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية والحركات النجومية ، وبنى الهياكل ومجد الله فيها.

ويقال : إنّ الهياكل كانت عدّتها في الزمن الغابر : اثني عشر هيكلا ، وهي هيكل : العلة الأولى ، وهيكل : العقل ، وهيكل : السياسة ، وهيكل : الصورة ، وهيكل : النفس ؛ وكانت هذه الهياكل الخمسة مستديرات ، والهيكل السادس هيكل : زحل ، وهو مسدّس ، وبعده هيكل : المشتري وهو مثلث ، ثم هيكل : المرّيخ ، وهو مربع ، وهيكل : الشمس ، وهو أيضا مربع ، وهيكل : الزهرة ، وهو مثلث مستطيل ، وهيكل : عطارد مثلث في جوف مربع مستطيل ، وهيكل : القمر مثمن.

وعللوا عبادتهم للهياكل بأن قالوا : لما كان صانع العالم مقدّسا عن صفات الحدوث ، وجب العجز عن إدراك جلاله ، وتعين أن يتقرّب إليه عباده بالمقرّبين لديه ، وهم : الروحانيون ليشفعوا لهم ، ويكونوا وسائط لهم عنده ، وعنوا بالروحانيين : الملائكة ، وزعموا أنها المدبرات للكواكب السبعة السيارة في أفلاكها ، وهي هياكلها وأنه لا بدّ لكل روحانيّ من هيكل ، ولا بدّ لكل هيكل من فلك ، وأن نسبة الروحانيّ ، إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد ، وزعموا : أنه لا بدّ من رؤية المتوسط بين العباد ، وبين بارئهم حتى يتوجه إليه العبد بنفسه ، ويستفيد منه ، ففزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات ، فعرفوا بيوتها من الفلك ، وعرفوا مطالعها ومغاربها واتصالاتها ، وما لها من الأيام والليالي ، والساعات والأشخاص والصور والأقاليم ، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه من العلم الرياضي.

وسموا هذه السبعة السيارة : أربابا وآلهة ، وسموا : الشمس إله الآلهة ورب الأرباب ، وزعموا أنها المفيضة على ألسنة أنوارها ، والمظهرة فيها آثارها ، فكانوا يتقرّبون إلى الهياكل تقرّبا إلى الرّوحانيين لتقرّبهم إلى الباري ، لزعمهم أن الهياكل أبدان الروحانيين ، وكلّ من تقرّب إلى شخص ، فقد تقرّب إلى روحه.

وكانوا : يصلون لكل كوكب يوما ، يزعمون أنه رب ذلك اليوم ، وكانت صلاتهم في ثلاثة أوقات : الأولى عند طلوع الشمس ، والثانية عند استوائها في الفلك ، والثالثة عند

__________________

(١) عين شمس : مدينة فرعون موسى بمصر بينها وبين الفسطاط ثلاث فراسخ بها عجائب كثيرة في المباني. معجم البلدان ج ٤ / ١٧٨.

٤٢١

غروبها ، فيصلون لزحل يوم السبت ، وللمشتري يوم الأحد ، وللمريخ يوم الاثنين ، وللشمس يوم الثلاثاء ، وللزهرة يوم الأربعاء ، ولعطارد يوم الخميس ، وللقمر يوم الجمعة.

ويقال : إنه كان ببلخ (١) هيكل بناه : بنو حمير على اسم القمر لتعارض به الكعبة ، فكانت الفرس تحجه وتكسوه الحرير ، وكان اسمه : نوبهر ، فلما تمجست الفرس ، عملته بيت نار ، وقيل للموكل بسدانته : برمك ، يعني والي مكة ، وانتهت البرمكة إلى جد خالد جدّ جعفر بن يحيى بن خالد ، فأسلم على يد هشام بن عبد الملك ، وسماه عبد الله ، وخرّب هذا الهيكل ، قيس بن الهيثم في أوّل خلافة معاوية سنة إحدى وأربعين ، وكان بناء عظيما حوله أروقة وثلثمائة وستون مقصورة لسكن خدّامه.

وكان بصنعاء ، قصر غمدان من بناء الضحاك ، وكان هيكل الزهرة ، وهدم في خلافة عثمان بن عفان.

وكان بالأندلس : في الجبل الفارق بين جزيرة الأندلس ، والأرض الكبيرة ، هيكل المشتري من بناء كلوبطرة بنت بطليموس.

وكان بفرعانة (٢) بيت يقال له : كلوسان هيكل للشمس ، بناه بعض ملوك الفرس ، الأول خرّبه المعتصم ، وقد اختلف فيمن بنى هيكل عين شمس ، وسأقص من أخباره ما لم أره مجموعا في كتاب.

قال ابن وصيف شاه : وقد كان الملك ، منقاوس إذا ركب ، عملوا بين يديه التخاييل العجيبة ، فيجتمع الناس ، ويعجبون من أعمالهم ، وأمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصا ، ويجعل فيه قبة فيها صورة الشمس والكواكب ، وجعل حولها أصناما ، وعجائب ، فكان الملك يركب إليه ويقيم فيه سبعة أيام ، وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذي عمله فيه ، وهما باقيان إلى اليوم ، وهو الموضع الذي يقال له عين شمس ، ونقل إلى عين شمس كنوزا وجواهر وطلسمات وعقاقير وعجائب ، ودفنها بها وبنواحيها ، وأقام ملكا بإحدى وتسعين سنة ، ومات من الطاعون ، وقيل : من سمّ ، وعمل له ناوس في صحراء الغرب ، وقيل : في غربيّ قوص ، ودفن معه مصاحف الحكمة والصنعة ، وتماثيل الذهب والجوهر ، ومن الذهب المضروب شيء كثير ، ودفن معه تمثال روحانيّ الشمس من ذهب يلمع ، وله جناحان من زبرجد ، وصنم على صورة امرأته ، وكان يحبها.

فلما ماتت ، أمر أن تعمل صورتها في الهياكل كلها ، وعمل صورتها من ذهب بذؤابتين

__________________

(١) بلخ : مدينة مشهورة بخراسان بينها وبين ترمذ اثنا عشر ميلا. معجم البلدان ج ١ / ٤٨٠.

(٢) فرغانة : مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان بينها وبين سمرقند خمسون ميلا معجم البلدان ج ٤ / ٢٥٢.

٤٢٢

سوداوين ، وعليها حلة من جواهر منظومة ، وهي جالسة على كرسيّ ، وكان يجعلها بين يديه في كل موضع يجلس فيه يتسلى بذلك عنها ، فدفنت هذه الصورة معه تحت رجليه كأنها تخاطبه.

وقال الحكيم الفاضل أحمد بن خليفة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء : واشتاق فيثاغورس إلى الاجتماع بالكهنة الذين كانوا بمصر ، فورد على أهل مدينة الشمس المعروفة في زماننا بعين شمس ، فقبلوه قبولا كريما ، وامتحنوه زمانا ، فلم يجدوا عليه نقصا ولا تقصيرا ، فوجهوا به إلى كهنة منف كي يبالغوا في امتحانه ، فقبلوه على كراهة واستقصوا امتحانه ، فلم يجدوا عليه معيبا ، ولا أصابوا له عثرة ، فبعثوا به إلى أهل ديوسوس ليمتحنوه ، فلم يجدوا عليه طريقا ، ولا إلى إدحاضه سبيلا ، ففرضوا عليه فرائض صعبة ، كيما يمتنع من قبولها ، فيدحضوه ويحرموه طلبته ، مخالفة لفرائض اليونانين ، فقبل ذلك ، وقام به ، فاشتدّ إعجابهم به ، وفشا بمصر ورعه حتى بلغ ذكره إلى أماسيس ملك مصر ، فأعطاه سلطانا على ضحايا الرب ، وعلى سائر قرابينهم ، ولم يعط ذلك لغريب قط.

ويقال : إنه كان للكواكب السبعة السيارة ، هياكل تحج الناس إليها من سائر أقطار الدنيا ، وضعها القدماء ، فجعلوا على اسم كل كوكب هيكلا في ناحية من نواحي الأرض ، وزعموا أن البيت الأوّل هو الكعبة ، وأنه مما أوصى إدريس الذي يسمونه هرمس الأوّل المثلث ، أن يحج إليه ، وزعموا أنه منسوب لزحل ، والبيت الثاني بيت المرّيخ ، وكان بمدينة صور من الساحل الشاميّ ، والبيت الثالث للمشتري ، وكان بدمشق ، بناه جيرون بن سعد بن عاد ، وموضعه الآن جامع بني أمية ، والبيت الرابع بيت الشمس بمصر ، ويقال : إنه من بناء هرشيك أحد ملوك الطبقة الأولى من ملوك الفرس ، وهو المسمى بعين شمس ، والبيت الخامس بيت الزهرة ، وكان بمنتيح ، والبيت السادس بيت عطارد ، وهو بصيدا من ساحل البحر الشاميّ ، والبيت السابع بيت القمر ، وكان بحرّان (١) ويقال : إنه قلعتها ، ويسمى المدوّر ، ولم يزل عامرا إلى أن خرّبه التتر ، ويقال : إنه كان هو هيكل الصابئة الأعظم. وقال شافع بن عليّ (٢) في كتاب عجائب البلدان : وعين شمس مدينة صغيرة تشاهد سورها محدقا بها مهدوما ، ويظهر من أمرها أنها كانت بيت عبادة ، وفيها من الأصنام الهائلة العظيمة الشكل من نحيت الحجارة ما يكون طول الصنم ، بقدر ثلاثين ذراعا ، وأعضاؤه في تلك النسبة من العظم ، وكل هذه الأصنام قائمة على قواعد ، وبعضها قاعد على نصبات عجيبة وإتقانات محكمة ، وباب المدينة موجود إلى الآن ، وعلى معظم تلك الحجارة تصاوير على

__________________

(١) حرّان : مدينة على طريق الموصل والشام والروم قيل : إنها أول مدينة بنيت على الأرض بعد الطوفان بينها وبين الرّها يوم وبينها وبين الرقة يومان. معجم البلدان ج ٢ / ٢٣٥.

(٢) شافع بن علي : كاتب ومؤرخ له مؤلفات عديدة ولد سنة ٦٤٩ ه‍ وتوفي سنة ٧٣٠ ه‍. الأعلام ج ٣ / ١٥٢.

٤٢٣

شكل الإنسان وغيره من الحيوان ، وكتابة كثيرة بالقلم المجهول ، وقلما ترى حجرا خلا عن كتابة أو نقش أو صورة.

وفي هذه المدينة ، المسلتان المشهورتان ، وتسميان مسلتي فرعون وصفة المسلة قاعدة مربعة طولها عشرة أذرع في مثلها عرضا في نحوها سمكا ، قد وضعت على أساس ثابت في الأرض ، ثم أقيم عليها ، عمود مثلث مخروط ينيف طوله على مائة ذراع ، يبتدئ من القاعدة ببسطة ، قطرها خمسة أذرع ، وينتهي إلى نقطة ، وقد لبّس رأسها بقلنسوة نحاس إلى نحو ثلاثة أذرع منها كالقمع ، وقد تزنجر بالمطر ، وطول المدّة ، واخضرّ ، وسال من خضرته على بسيط المسلة ، وكلها عليها كتابات بذلك القلم ، وكانت المسلتان قائمتين ، ثم خربت إحداهما ، وانصدعت من نصفها العظم الثقل ، وأخذ النحاس من رأسها ، ثم إنّ حولها من الأصنام شيئا كثيرا لا يحصى عدده على نصف تلك العظمى ، أو يليها ، وقلما يوجد في هذه المسال الصغار ما هو قطعة واحدة ، بل فصوصها بعضها على بعض ، وقد تهدّم أكثرها ، وإنما بقيت قواعدها.

وقال محمد بن إبراهيم الجزريّ في تاريخه : وفي رابع شهر رمضان ، يعني من سنة ست وخمسين وستمائة : وقعت إحدى مسلتي فرعون التي بأراضي المطرية من ضواحي القاهرة ، فوجدوا داخلها مائتي قنطار من نحاس ، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار.

ويقال : إنّ عين شمس ، بناها الوليد بن دومع من الملوك العماليق ، وقيل : بناها الريان بن الوليد ، وكانت سرير ملكه.

والفرس تزعم : أنّ هرشيك بناها.

ويقال : طول العمودين مائة ذراع ، وقيل : أربعة وثمانون ذراعا ، وقيل : خمسون ذراعا.

ويقال : إنّ بخت نصر هو الذي خرّب عين شمس لما دخل إلى مصر.

وقال القضاعيّ : وعين شمس ، وهي هيكل الشمس بها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما ، ولا من شأنهما ، طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا ، وهما محمولان على وجه الأرض ، وبينهما صورة إنسان على دابة ، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس ، فإذا جاء النيل ، قطر من رأسيهما ما تستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري من أسافلهما ، فينبت في أصلهما العوسج وغيره ، وإذا دخلت الشمس دقيقة من الجدي ، وهو أقصر يوم في السنة ، انتهت إلى الجنوبيّ منهما ، فطلعت عليه على قمة رأسه ، وهما منتهى الميلين وخط الاستواء في الواسطة منهما ، ثم خطرت بينهما ذاهبة ، وجائية سائر السنة ، كذا يقول أهل العلم بذلك.

٤٢٤

وقال ابن سعيد (١) في كتاب المغرب : وكانت عين شمس في قديم الزمان عظيمة الطول والعرض ، متصلة البناء بمصر القديمة ، حيث مدينة الفسطاط الآن ، ولما قدم عمرو بن العاص ، نازل عين شمس ، وكان جمع القوم حتى فتحها.

وقال جامع السيرة الطولونية : كان بعين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلق ، من كدّان أبيض محكم الصنعة يتخيل من استعرضه أنه ناطق ، فوصف لأحمد بن طولون ، فاشتاق إلى تأمّله ، فنهاه ندوسة عنه ، وقال : ما رآه وال قط إلا عزل ، فركب إليه ، وكان هذا في سنة ثمان وخمسين ومائتين ، وتأمّله ، ثم دعا بالقطاعين ، وأمرهم باجتثاثه من الأرض ، ولم يترك منه شيئا ، ثم قال لندوسة خازنه : يا ندوسة من صرف منا صاحبه؟ فقال : أنت أيها الأمير ، وعاش بعدها أحمد اثنتي عشرة سنة أميرا. وبنى العزيز بالله نزار بن المعز قصورا بعين شمس.

وقال أبو عبيد البكريّ : عين شمس ، بفتح الشين وإسكان ثانيه بعده سين مهملة ، عين ماء معروفة.

قال محمد بن حبيب : عين شمس حيث بنى فرعون الصرح ، وزعم قوم : أنّ عين شمس إلى هذا الماء أضيف ، وأوّل من سمى هذا الاسم ، سبا بن يشجب.

وذكر الكلبيّ : أن شمسا الذي تسموا به صنم قديم.

وقال ابن خرداذبه : وأسطوانتين بعين شمس من أرض مصر ، ومن بقايا أساطين كانت هناك في رأس كل أسطوانة : طوق من نحاس يقطر من إحداهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه ، ولا ينقطع قطره ليلا ولا نهارا ، فموضعه من الأسطوانة أخضب رطب ، ولا يصل الماء إلى الأرض ، وهو من بناء أوسهنك.

وذكر محمد بن عبد الرحيم (٢) في كتاب تحفة الألباب : أنّ هذا المنار مربع علوه : مائة ذراع قطعة واحدة محدّد الرأس على قاعدة من حجر ، وعلى رأس المنار ، غشاء من صفر كالذهب فيه صورة إنسان على كرسيّ ، قد استقبل المشرق ، ويخرج من تحت ذلك الغشاء الصفر ، ماء يسيل ، مقدار عشرة أذرع ، وقد نبت منه شيء كالطحلب ، فلا يبرح لمعان الماء على تلك الخضرة أبدا صيفا وشتاء ، لا ينقطع ولا يصل إلى الأرض منه شيء ،

__________________

(١) ابن سعيد : علي بن موسى العنسي من ذرية عمار بن ياسر مؤرخ أندلسي من الشعراء العلماء زار العديد من البلدان وله تآليف غزيرة مخطوطة ومطبوعة ولد سنة ٦١٠ ه‍ وتوفي سنة ٦٨٥ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٢٦.

(٢) من علماء تخطيط البلدان ولد بغرناطة سنة ٤٧٣ ه‍. له : (تحفة الألباب ونحبة الإعجاب) وكتاب (نخبة الأذهان في عجائب البلدان). توفي سنة ٥٦٥ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٢٠٠.

٤٢٥

وبعين شمس نبت يزرع كالقضبان يسمى البلسم ، يتخذ منه دهن البلسان لا يعرف بمكان من الأرض إلا هناك ، وتؤكل لحمى هذه القضبان ، فيكون له طعم ، وفيه حرارة ، وحرافة لذيذة.

وبناحية المطرية من حاضرة عين شمس ، البلسان ، وهو شجر قصار يسقى من ماء بئر هناك ، وهذه البئر ، تعظمها النصارى وتقصدها ، وتغتسل بمائها ، وتستشفي به ، ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان ، من يتولى ذلك ، ويحفظه ويحمل إلى الخزانة السلطانية ، ثم ينقل منه إلى قلاع الشام ، والمارستانات لمعالجة المبرودين ، ولا يؤخذ منه شيء إلا من خزانة السلطان بعد أخذ مرسوم بذلك ، ولملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج فيه غلوّ عظيم ، وهم يتهادونه من صاحب مصر ، ويرون أنهم لا يصح عندهم لأحد أن يتنصر إلا أن ينغمس في ماء المعمودية ، ويعتقدون أنه لا بدّ أن يكون في ماء المعمودية شيء من دهن البلسان ، ويسمونه : الميرون.

وكان في القديم ، إذا وصل من الشام خبر انتهى إلى صاحب عين شمس ، ثم يرد من عين شمس إلى الحصن الذي عرف بقصر الشمع حيث الآن مدينة مصر ، ثم يرد من الحصر إلى مدينة منف ، حيث كانت منف تحت الملك.

وسبب تعظيم النصارى لدهن البلسان ، ما ذكره في كتاب السنكسار ، وهو يشتمل على أخبار النصارى : أنّ المسيح لما خرجت به أمّه ، ومعهما يوسف النجار من بيت المقدس فرارا من هيرودس ملك اليهود ، نزلت به أول موضع من أرض مصر ، مدينة بسطة في رابع عشري بشنس ، فلم يقبلهم أهلها ، فنزلوا بظاهرها ، وأقاموا أياما ، ثم ساروا إلى مدينة سمنود ، وعدّوا النيل إلى الغربية ، ومشوا إلى مدينة الأشمونين ، وكان بأعلاها إذ ذاك ، شكل فرس من نحاس قائم على أربعة أعمدة ، فإذا قدم إليها غريب صهل ، فجاءوا ونظروا في أمر القادم ، فعندما وصلت مريم بالمسيح عليه‌السلام ، إلى المدينة سقط الفرس المذكور ، وتكسر فدخلت به أمّه ، وظهرت له عليه‌السلام في الأشمونين آية ، وهو أنّ : خمسة جمال محملة زاحمتهم في مرورهم ، فصرخ فيها المسيح في الأشمونين ، فصارت حجارة ، ثم إنهم ساروا من الأشمونين ، وأقاموا بقرية تسمى : فيلس مدّة أيام ، ثم مضوا إلى مدينة تسمى : قس وقام ، وهي التي يقال لها اليوم : القوصية ، فنطق الشيطان من أجواف الأصنام التي بها ، وقال : إنّ امرأة أتت ، ومعها ولدها يريدون أن يخربوا بيوت معابدكم ، فخرج إليهم مائة رجل بسلاحهم ، وطردوهم عن المدينة ، فمضوا إلى ناحية ميرة في غربيّ القوصية ، ونزلوا في الموضع الذي يعرف اليوم بدير المحرق ، وأقاموا به ستة أشهر وأياما ، فرأى يوسف النجار في منامه قائلا يخبره بموت هيرودس ، ويأمره أن يرجع بالمسيح إلى القدس ، فعادوا من ميرة حتى نزلوا حيث الموضع الذي يعرف اليوم في مدينة مصر بقصر الشمع ، وأقاموا بمغارة تعرف اليوم بكنيسة بوسرجة ، ثم خرجوا منها إلى عين شمس ، فاستراحوا هناك

٤٢٦

بجوار ماء ، فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح ، وقد اتسخت ، وصبت غسالتها بتلك الأراضي ، فأنبت الله هنالك البلسان ، وكان إذ ذاك بالأردن ، فانقطع من هناك ، وبقي بهذه الأرض ، وغمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم ، وبلغني أنها إلى الآن إذا اعتبرت يوجد ماؤها عينا جارية في أسفلها ، فهذا سبب تعظيم النصارى لهذه البئر وللبلسان ، فإنه إنما سقي منها ، والله أعلم.

المنصورة (١)

هذه البلدة على رأس بحر أشموم تجاه ناحية طلخا (٢) بناها : السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، في سنة ست عشرة وستمائة عند ما ملك الفرنج ، مدينة دمياط ، فنزل في موضع هذه البلدة ، وخيم به ، وبنى قصرا لسكناه ، وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء ، فبنى هناك عدّة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورا مما يلي البحر ، وستره بالآلات الحربية والستائر ، وتسمى هذه المنزلة المنصورة ، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط ، كما تقدّم ذكره عند ذكر مدينة دمياط من كتابنا هذا ، فصارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق ، ولما استنقذ الملك الكامل دمياط من الفرنج ، ورحل الفرنج إلى بلادهم جلس بقصره في المنصورة وبين يديه إخوته الملك المعظم عيسى صاحب دمشق ، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق وغيرهما من أهله ، وخواصه ، فأمر الملك الأشرف جاريته ، فغنت على عودها :

ولما طغى فرعون عكا وقومه

وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض

أتى نحوهم موسى وفي يده العصا

فأغرقهم في اليم بعضا على بعض

فطرب الأشرف ، وقال لها : بالله كرّري ، فشق ذلك على الملك الكامل ، وأسكتها ، وقال لجاريته : غني أنت فأخذت العود ، وغنت :

أيا أهل دين الكفرة قوموا لتنظروا

لما قد جرى في وقتنا وتجدّدا

أعباد عيسى إن عيسى وحزبه

وموسى جميعا ينصران محمدا

وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أوّلها : (أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدا) فأعجب ذلك الملك الكامل ، وأمر لكل من الجاريتين ، بخمسمائة دينار ، فنهض القاضي الصدر الأجل الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة وكان من جملة الجلساء على قدميه وأنشد يقول :

__________________

(١) المنصورة : مدينة بين دمياط والقاهرة أنشأها الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب سنة ٦١٦ ه‍ ليرابط فيها في مواجهة الإفرنج. معجم البلدان ج ٥ / ٢١٢.

(٢) طلخا : موضع بمصر على النيل المفضي إلى دمياط وفي معجم البلدان كتبت طلخاء. الأعلام ج ٤ / ٣٨.

٤٢٧

هنيئا فإنّ السعد جاء مخلدا

وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا لنا بدا

مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا

تهلل وجه الأرض بعد قطوبه

وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا

ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال

طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا

أقام لهذا الدين من سلّ عزمه

صقيلا كما سلّ الحسام المهندا

فلم ينج إلا كل شلو مجدّل

ثوى منهم أو من تراه مقيدا

ونادى لسان الكون في الأرض رافعا

عقيرته في الخافقين ومنشدا

أعباد عيسى إنّ عيسى وحزبه

وموسى جميعا ينصران محمدا

فكانت هذه الليلة بالمنصورة ، من أحسن ليلة مرّت لملك من الملوك ، وكان عند إنشاده يشير إذا قال عيسى إلى عيسى المعظم ، وإذا قال موسى إلى موسى الأشرف ، وإذا قال محمدا إلى السلطان الملك الكامل ، وقد قيل : إنّ الذي أنشد هذه الأبيات إنما هو راجح المحلي الشاعر.

العباسة (١)

هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية ، من أرض السدير لم يزل منتزها لملوك مصر ، وبها ولد العباس بن أحمد بن طولون ، فسماه لذلك أبوه العباس ، وولد بها أيضا الملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العادل أبي بكر بن أيوب ، وكان الملك الكامل محمد بن العادل يقيم بها كثيرا ، ويقول : هذه تعلو مصر إذا أقمت بها أصطاد الطير من السماء ، والسمك من الماء ، والوحش من الفضاء ، ويصل الخبز من قلعة الجبل إليّ بها في قلعتي ، وهو سخن ، وبنى بها آدرا ومناظر وبساتين ، وبنى أمراؤه بها أيضا عدّة مساكن في البساتين ، ولم تزل العباسة على ذلك حتى أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل ، المنزلة الصالحية ، فتلاشى حينئذ أمر العباسة ، وخربت المناظر في سلطنة الملك المعز أيبك.

فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، مرّ على السدير ، وهو فم الوادي ، فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية ، وأنشأ بها جامعا ، وذلك في سنة ست وستين وستمائة.

وسميت : بالعباسة بنت أحمد بن طولون ، فإنها خرجت إلى هذا الموضع مودّعة لبنت أخيها ، قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ، لما حملت إلى المعتضد ، وضربت

__________________

(١) العباسة : بليدة أول ما يلقي القاصد لمصر من الشام بينها وبين القاهرة خمسة عشر فرسخا سميت بعباسة بنت أحمد بن طولون. معجم البلدان ج ٤ / ٧٥.

٤٢٨

هناك فساطيطها ، ثم بنت قرية ، فسميت باسمها.

ذكر مدينة قفط (١) بصعيد مصر

هذه المدينة عرفت : بقفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام ، وكانت في الدهر الأوّل ، مدينة الإقليم ، وإنما بدا خرابها بعد الأربعمائة من تاريخ الهجرة النبوية ، وآخر ما كان فيها بعد السبعمائة من سني الهجرة ، أربعون مسبكا للسكر ، وست معاصر للقصب ، ويقال : كان فيها قباب بأعالي دورها ، وكانت إشارة من ملك من أهلها عشرة آلاف دينار أن يجعل في داره قبة ، وبالقرب منها معدن الزمرّذ ، ولم يبطل إلا من قريب ، فإنّ قفطريم ولي الملك بعد أبيه قبطيم.

قال ابن وصيف شاه : كان أكبر ولد أبيه ، وكان جبارا عظيم الخلق ، وهو الذي وضع أساسات الأهرام الدهشورية وغيرها ، وهو الذي بنى مدينة دندرة (٢) ، ومدينة الأصنام ، وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه ، وأثار من المعادن ما لم يثره غيره ، وكان يتخذ من الذهب مثل حجر الرحى ، ومن الزبرجد مثل الأسطوانة ، ومن الإسبادشم في صحراء الغرب كالقلة ، وعمل من العجائب شيئا كثيرا.

وبنى منارا عاليا على جبل قفط ، يرى منه البحر الشرقيّ ، ووجد هناك معدن زئبق ، فعمل منه تمثالا كالعمود لا ينحلّ ، ولا يذوب.

وعمل البركة التي سماها صيادة الطير إذا مرّ عليها طائر سقط فيها ، ولم يقدر على الحركة ، حتى يؤخذ ، وهذه البركة يقال : إنها هناك إلى الآن ، وأما المنار فسقط ، وعمل عجائب كثيرة ، وفي أيامه أثار عبادة الأصنام التي كان الطوفان غرّقها وزين الشيطان أمرها وعبادتها ، ويقال : إنه بنى المدائن الداخلة ، وعمل فيها عجائب ، وبنى غربيّ النيل ، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة ، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها ، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها ، إلا أن يعمل قرابين لأولئك الروحانيين ، وأقام قفطريم ملكا أربعمائة وثمانين سنة ، وأكثر العجائب عملت في وقته ، ووقت ابنه ، البودسير ، ولذلك كان الصعيد أكثر عجائب من أسفل ، لأنّ حيز قفطريم فيه.

ولما حضر قفطريم الوفاة عمل ناوسا في الجبل الغربيّ قرب مدينة الكهان في سرب تحت الأرض معقود على آزاج إلى الأرض ، ونقر تحت الجبل ، دارا واسعة ، وجعل دورها

__________________

(١) قفط : كلمة أعجمية سميت ب قفط بن مصر ... بن نوح عليه‌السلام وهو الذي ابتنى المدينة في الصعيد الأعلى إلى الشرق من أسوان. معجم البلدان ج ٤ / ٣٨٢.

(٢) دندرة : بليد على غربي النيل من نواحي الصعيد دون قوص فيها برابي كثيرة وبساتين ونخل وكروم.

معجم البلدان ج ٢ / ٤٧٨.

٤٢٩

خزائن منقورة ، وفي سقفها مسارب للرياح ، وبلط السرب ، وجميع الدار بالمرمر ، وجعل في وسط الدار مجلسا على ثمانية أركان مصفحا بالزجاج الملوّن المسبوك ، وجعل في سقفه جواهر تسرج ، وجعل في كل ركن من أركان المجلس ، تمثالا من الذهب بيده كالبوق الذي يبوق به ، وتحت القبة دكة مصفحة بذهب ، ولها حواف من زبرجد ، وفوق الدكة فرش من حرير ، وجعل عليها جسد بعد أن لطخ بالأدوية المجففة ، ووضع في جانبه آلات كافور ، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب ، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج مكلل ، وعن جوانب الدكة أربعة تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك في صور النساء بأيديهنّ مراوح من ذهب ، وعلى صدره من فوق الثياب ، سيف فاخر قائمته من زبرجد ، وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب ، والتيجان والجوهر ، وبرابي الحكم ، وأصناف العقاقير والطلسمات ومصاحف العلوم ، ما لا يحصى كثرة ، وجعل على باب المجلس : ديكا من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين ، مزبورا عليه آيات مانعة ، وجعل على كل مدخل أزج ، صورتين من نحاس بأيديهما سيفان ، وقدّامهما بلاطة ، تحتها لوالب من وطئها ، ضرباه بأسيافهما ، فقتلاه ، وفي سقف كل أزج ، كرة وعليها الطوخ مدبر يسرج ، فيقد طول الزمان ، وسدّ باب الأزج بالأساطين المرصصة ، ورصوا على سقفه البلاط العظام ، وردموا فوقها الرمال ، وزبروا على باب الأزج ، هذا المدخل إلى جسد الملك المعظم المهيب الكريم الشديد قفطريم ذي الأيد والفخر والغلبة والقهر ، وأفل نجمه ، وبقي ذكره وعلمه ، فلا يصل أحد إليه ولا يقدر بحيلة عليه ، وذلك بعد سبعمائة وسبعين ودورات مضت من السنين.

وقال المسعوديّ : ومعدن الزمرّد في عمل الصعيد الأعلى ، من مدينة قفط ، ومنها يخرج إلى هذا المعدن ، والموضع الذي هو فيه يعرف : بالخربة ، وهي مفازة وجبال ، والبجة تحمي هذا المكان المعروف بالخربة ، وإليها يؤدّي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرّذ ، ووجدت جماعة من صعيد مصر من ذوي الدراية ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن ، وعرف هذا النوع من الجوهر يخبرون أنه يكثر ، ويقلّ في فصول السنة ، فيكثر في قوّة موادّ الهواء ، وهبوب نوع من الرياح الأربع ، وتقوى الخضرة فيه ، والشعاع النوريّ في أوائل الشهر ، والزيادة في نور القمر ، وبين الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن الزمرّذ ، وبين ما اتصل من العمارة ، وقرب منه من الديار مسيرة سبعة أيام ، وهي قفط وقوص وغيرهما من صعيد مصر ، وقوص راكبة النيل ، وبين النيل وقفط نحو من ميلين.

ولمدينتي قفط وقوص أخبار عجيبة في بدء عمارتهما ، وما كان في أيام القبط من أخبارهما إلا أنّ مدينة قفط في هذا الوقت ، متداعية للخراب ، وقوص أعمر والناس فيها أكثر ، وكان بقفط بربا موكل بها روحانيّ في صورة جارية سوداء تحمل صبيا أسود صغيرا ، حكي أنها رئيت بها مرارا ، ومعدن الزمرّذ في البرّ المتصل بأسوان ، وكان له ديوان فيه شهود

٤٣٠

وكتاب ، وينفق على العمال به ، وتنال لهم المؤن لحفره ، واستخراج الزمرّذ منه ، وهو في جبال مرملة يحفر فيه ، وربما سقط على الجماعة به فماتوا. وكان يجمع ما يخرج منه ، ويحمل إلى الفسطاط ، ومنه يحمل إلى البلاد ، وقد كان الناس يسيرون من قوص إلى معدن الزمرّذ ، في ثمانية أيام بالسير المعتدل.

وكانت البجاه ، تنزل حوله وقريبا منه لأجل القيام بحفره ، وحفظه وهذا المعدن في الجبل الآخذ على شرقيّ النيل في بحريّ قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى : اقرشندة ، وليس هناك من الجبال أعلى منها ، وهو في منقطع من البرّ لا عمارة عنده ، ولا حوله ولا قريبا منه ، والماء عنه مسيرة نصف يوم أو أزيد ، وهو ما يتحصل من المطر ، ويعرف بغدير أعين يكثر بكثرة المطر ، ويقلّ بقلته ، وهذا المعدن في صدر مفازة طويلة في حجر أبيض يستخرج منه الزمرّذ ، وهذا الحجر الأبيض ، ثلاثة أنواع أحدها يقال له : طلق كافوريّ ، والثاني يقال له : طلق فضيّ ، والثالث يقال له : حجر جرويّ ، ويضرب في هذه الحجارة ، حتى يخرج الزمرّذ ، وهو كالغريق فيه ، وأنواعه الريانيّ ، وهو أقلّ من القليل لا يخرج إلا في النادر ، وإذا استخرج ألقي في الزيت الحار ، ثم يحط في قطن ، ويصرّ ذلك القطن في خرق خام أو نحوها ، وكان الاحتراز على هذا المعدن كثير جدّا ، ويفتش الفعلة عند الخروج منه كل يوم ، حتى تفتش عوراتهم ، ومع ذلك فيختلسون منه بصناعات لهم في ذلك ، ولم يزل هذا المعدن يستخرج منه الزمرّذ إلى أن أبطل العمل منه الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة بضع وستين وسبعمائة.

وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، كانت فتنة كبيرة بمدينة قفط ، سببها أنّ داعيا من بني عبد القوي ، ادّعى أنه داود بن العاضد ، فاجتمع الناس عليه ، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على جيش ، فقتل من أهل قفط نحو ثلاثة آلاف ، وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائمهم ، وطيالستهم.

ذكر مدينة دندرة

هي إحدى مدن الصعيد الأعلى القديمة بناها قفطريم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام ، وكا فيها بربا عظيمة ، فيها : مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم من كوّة ، حتى تأتي على آخرها ، ثم تكرّ راجعة إلى حيث بدأت ، وكانت روحانيتها الموكلة بها تظهر في هيئة إنسان له رأس أسد بقرنين ، وكان بها أيضا شجرة تعرف بشجرة العباس متوسطة ، وأوراقها خضر مستديرة ، إذا قال الإنسان عندها : يا شجرة العباس ، جاءك الفاس ، تجتمع أوراقها ، وتحزن لوقتها ، ثم تعود كما كانت ، وبين دندرة ، وبين قوص بريد واحد ، وكانت بربا دندرة أعظم من بربا إخميم.

٤٣١

ذكر الواحات الداخلة

الواحات منقطعة وراء الوجه القبليّ في مغاربه ، ولا تعدّ في الولايات ، ولا في الأعمال ، ولا يحكم عليها من قبل السلطان وال وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها.

وبلاد الواحات بين مصر ، والإسكندرية ، والصعيد ، والنوبة ، والحبشة بعضها داخل ببعض ، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره ، ولا يفتقر إلى سواه ، وأرضها شبية وزاجية ، وعيون حامضة الطعم تستعمل كاستعمال الخل ، وعيون مختلفة الطعوم من الحامض ، والقابض ، والمالح ، ولكل نوع منها خاصية ومنفعة ، وهي على قسمين ، واحات داخلة ، وواحات خارجة جملتها أربع واحات.

ويقال : إنّ الواحات ولدوا حويلا بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وإنّ أخر سبا بن كوش ، أبو الحبش ، وأبو شنبا بن كوش ، أبو زغاوة ، وأبو شفحيا بن كوش : أبو الحبش الرمرم.

قال ابن وصيف شاه ويقال : إنّ قفطريم بنى المدائن الداخلة ، وعمل فيها عجائب منها الماء القائم كالعمود ، لا ينحلّ ، ولا يذوب والبركة التي تسمى فلسطين ، أي صيادة الطير ، إذا مرّ عليها الطير سقط فيها ، ولم يمكنه الخروج منها ، حتى يؤخذ ، وعمل أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر إذا قرب الأسد أو الحيات أو غيرها من الأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر تصفيرا عاليا ، فترجع تلك الدواب هاربة ، وعمل على أربعة أبواب هذه المدينة ، أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلا ألقي عليه النوم ، والسبات ، فينام عندها ، ولا يبرح حتى يأتيه أهل المدينة ، وينفخون في وجهه ليقوم ، وإن لم يفعلوا ذلك لا يزال نائما عند الأصنام ، حتى يهلك.

وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس ، وعمل على رأس المنار صورة صنم من أخلاط كثيرة ، وفي يده كالقوس كأنه يرمي عنها ، فإن عاينه غريب وقف في موضعه ، ولم يبرح حتى ينحيه أهل المدينة ، وكان ذلك الصنم ، يتوجه إلى مهب الرياح الأربع من نفسه ، وقيل : إن هذا الصنم على حاله إلى الآن ، وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم أن تقع عين إنسان عليه ، فلا يزال قائما حتى يتلف ، وكان بعض الملوك ، عمل على قلعه فما أمكنه ، وهلك لذلك خلق كثير.

ويقال : إنه عمل في بعض المدائن الداخلة مرآة ، يرى فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه ، وبنى غربيّ النيل ، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة ، ووكل الروحانيين بها الذين يمنعون منها ، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها ، أو يعمل

٤٣٢

قرابين أولئك الروحانيين ، فيصل إليها حينئذ ، ويأخذ من كنوزها ما أب من غير مشقة ، ولا ضرر ، وبنى الملك صا بن الساد ، وقيل : صا بن مرقونس بداخل الواحات مدينة ، وغرس حولها نخلا كثيرا ، وكان يسكن منف ، وملك الأحياز كلها ، وعمل عجائب وطلسمات ، وردّ الكهنة إلى مراتبهم ، ونفى الملهيين ، وأهل الشرّ ممن كان يصحب الساد بن مرقونس ، وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم ، وعمل على غربيّ النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر ، أو قصدهم قاصد.

وكان لما ملك البلد بأسره ، جمع الحكماء إليه ، ونظر في نجومه ، وكان بها حاذقا ، فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها ، ورأى أنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام ، فجمع كل فاعل بمصر ، وبنى في ألواح الأقصى مدينة ، جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعا ، وأودعها جميع الحكم ، والأموال ، وهي المدينة التي وقع عليها ، موسى بن نصير في زمن بني أمية ، لما قدم من المغرب ، فلما دخل مصر أخذ على ألواح الأقصى ، وكان عنده علم منها ، فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين الغرب والجنوب ، فظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب من حديد ، فلم يمكنه فتح الأبواب ، وكان إذا صعد إليها الرجال ، وعلوا الحصن ، وأشرفوا على المدينة ألقوا أنفسهم فيها ، فلما أعياه أمرها مضى وهلك من أصحابه عدّة.

قال : وفي تلك الصحارى كانت منتزهات القوم ، ومدنهم العجيبة ، وكنوزهم إلا أنّ الرمال غلبت عليها ، ولم يبق يملك ملك إلا وقد عمل للرمل طلسما لدفعه ، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان ، قال : ولا ينبغي لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم ، ولا مدائنهم ، ولا ما نصبوه من الأعلام العظام ، فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم ، وإنّ آثارهم لبينة مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية ، وما في صحارى الشرق والجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فيها ، والأودية المنحوتة ، ومثل ما بالصعيد من البرابي وما نقشوه عليها من حكمتهم ، فلو تعاطى جميع ملوك الأرض أن يبنوا مثل الهرمين ، ما تهيأ لهم ، وكذلك أن ينقشوا بربا لطال بهم الأمد ولم يمكنهم.

وحكي عن قوم من البنائين في ضياع الغرب ، أنّ عاملا عندهم عنف بهم ، ففرّوا في صحراء الغرب ، ومعهم زاد إلى أن تنصلح أحوالهم ، ويرجعوا ، فلما كانوا على مسيرة يوم وبعض آخر قدموا إلى سفح جبل ، فوجدوا عيرا أهليا قد خرج من بعض الشعاب ، فتبعه بعضهم ، فانتهى إلى مساكن وأشجار ، ونخل ومياه تطرد وقوم هناك يرعون ، ولهم مساكن ، وكلمهم وأعجب بهم ، فجاء إلى أصحابه ، وقدم بهم على أولئك القوم ، فسألوهم عن حالهم فأخبروهم ، وأقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم ، ويقيموا عندهم ، فساروا مدّة ، وهم لا يعرفون الطريق ، ولا يتأتى لهم العود فأسفوا على ما فاتهم.

٤٣٣

وضلّ آخرون عن الطريق في الغرب فوقعوا على مدينة عامرة كثيرة الناس ، والمواشي والنخل والشجر ، فأضافوهم وأطعموهم وسقوهم وباتوا في طاحونة ، فسكروا من الشراب ، وناموا فلم ينتبهوا إلا من حرّ الشمس ، فإذا هم في مدينة خراب ليس فيها أحد ، فخافوا ، وخرجوا ، وظلوا يومهم سائرين إلى المساء ، فظهرت لهم مدينة أكبر من الأولى ، وأعمر وأكثر أهلا ، وشجرا ومواشي ، فأنسوا بهم ، وأخبروهم بخبر المدينة الأولى ، فجعلوا يعجبون منهم ، ويضحكون وانطلقوا بهم إلى وليمة لبعض أهل المدينة ، فأكلوا وشربوا وعنوا بهم ، حتى سكروا ، فلما كان من الغد انتبهوا فإذا هم في مدينة عظيمة ليس فيها أحد وحولها نخل قد تساقط ثمره ، وتكدّس ، فخرجوا وهم يجدون ريح الشراب ، ومبادي الخمار ، فساروا يوما إلى المساء وإذا راع يرعى غنما ، فسألوه عن الطريق؟ فدلهم ، فساروا بعض يوم من الغد ، فوصلوا مدينة الأشمونين بالصعيد.

قال : وهذه مدائن القوم الداخلة القديمة قد غلب عليها الجانّ ، ومنها ما سترته عن العيون ، فلا ينظر إليها أحد ، وقال : إنّ البودسير بن قفطريم بن قبطيم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام في أيامه بنيت بصحراء الغرب مناير ومنتزهات ، وحوّل إليها جماعة من أهل بيته ، فعمروا تلك النواحي ، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عامرة كلها ، وأقامت على ذلك مدّة كثيرة ، فخالطهم البربر ، ونكحوا منهم ، ثم تحاسدوا ، فكانت بينهم حروب خربت فيها تلك الجهات ، وبادت إلا بقية منازل تسمى : الواحات.

ذكر مدينة سنتريّة (١)

ومدينة سنتريّة : من جملة الواحات بناها : مناقيوش باني مدينة إخميم ، كان أحد ملوك القبط القدماء ، قال ابن وصيف شاه : وكان في حزم أبيه ، وحنكته تعظم في أعين أهل مصر ، وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه.

وأوّل من عمل المارستان لعلاج المرضى ، والزمنى ، وأودعه العقاقير ، ورتب فيه الأطباء ، وأجرى عليهم ما يسعهم ، وأقام الأمناء على ذلك ، وصنع لنفسه عيدا ، فكان الناس يجتمعون إليه فيه ، وسماه عيد الملك في يوم من السنة ، فيأكلون ، ويشربون سبعة أيام ، وهو مشرف عليهم من مجلس على عمد ، قد طوّقت بالذهب ، وألبست فاخر الثياب المنسوجة بالذهب ، وعليه قبة مصفحة من داخل بالرخام والزجاج والذهب ، وفي أيامه بنيت : سنترية في صحراء الواحات ، عملها من حجر أبيض مربعة ، وفي كل حائط باب في وسطه شارع

__________________

(١) سنترية : بلدة في غربي الفيوم دون فزان السودان وهي آخر أعمال مصر وهي قصبة واح الثالثة. معجم البلدان ج ٣ / ٢٦١.

٤٣٤

إلى حائط محاذ له ، وجعل في كل شارع يمنة ويسرة أبوابا تنتهي طرقاتها إلى داخل المدينة.

وفي وسط المدينة ، ملعب يدور به من كل ناحية سبع درج ، وعليه قبة من خشب مدهون على عمد عظيمة من رخام ، وفي وسطه : منار من رخام عليه ، صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها ، وبسائر نواحي القبة ، صورة معلقة تصفر ، وتصيح بلغات مختلفة ، فكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب ، وحوله بنوه وأقاربه ، وأبناء الملوك ، وعلى الدرجة الثانية ، رؤساء الكهنة والوزراء ، والثالثة رؤساء الجيش ، وعلى الرابعة الفلاسفة والمنجمون والأطباء وأرباب العلوم ، وعلى الخامسة أصحاب العمارات ، وعلى السادسة أصحاب المهن ، وعلى السابعة العامّة.

فيقال : لكل صنف منهم انظروا إلى من دونكم ، ولا تنظروا إلى من فوقكم لا تلحقونهم ، وهذا ضرب من التأديب ، وقتلته امرأته بسكين ، فمات ، وكان ملكه ستين سنة.

وسنترية الآن بلد صغير يسكنه نحو ستمائة رجل من البرّ يعرفون سيوة ، ولغتهم تعرف بالسيوية تقرب من لغة زنانة ، وبها حدائق نخل وأشجار من زيتون وتين وغير ذلك وكرم كثير ، وبها الآن نحو العشرين عينا تسيح بماء عذب ، ومسافتها من الإسكندرية أحد عشر يوما ، ومن جيزة مصر أربعة عشر يوما وهي قرية يصيب أهلها الحمى كثيرا ، وثمرها غاية في الجودة ، وتعبث الجنّ بأهلها كثيرا ، وتختطف من انفرد منهم ، وتسمع الناس بها عزيف الجنّ!.

ذكر الواحات الخارجة

بناها أحد ملوك القبط الأول ، ويقال له : البودسير بن قفطيم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام ، قال ابن وصيف شاه : وأراد البودسير أن يسير مغرّبا لينظر إلى ما هنالك ، فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون ، كثيرة العشب ، فبنى فيها مناير ومنتزهات ، وأقام فيها جماعة من أهل بيته ، فعمروا تلك النواحي ، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عمارة كلها ، وأقامت كذلك مدّة كثيرة ، وخالطهم البربر ، فنكح بعضهم من بعض ، ثم إنهم تحاسدوا ، وبغى بعضهم على بعض ، فكانت بينهم حروب ، فخرب ذلك البلد ، وباد أهله إلا بقية منازل تسمى الواحات.

وقال المسعوديّ : وأما بلاد الواحات فهي بين بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والغرب وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم ، وبها أرض شبية وزاجية ، وعيون حامضة ، وغير ذلك من الطعوم.

وصاحب الواحات في وقتنا هذا ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، عبد الملك بن

٤٣٥

مروان ، وهو رجل من لواتة إلا أنه مروانيّ الذهب ، ويركب في آلاف من الناس خيلا ونجبا ، وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام ، وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر هذا المقدار من المسافة ، وفي أرضه خواص وعجائب ، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره ، ولا يفتقر إليه ، ويحمل من أرضه التمر والزبيب والعناب.

وحدّثني وكيل أبي الشيخ المعز حسام الدين عمرو بن محمد بن زنكي الشهرزوري : أنه سمع ببلاد الواحات ، أنّ فيها شجرة تاريخ يقطف منها في سنة واحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج صفراء ، سوى ما يتناثر ، وسوى ما هو أخضر ، فلم أصدّق ذلك لغرابته ، وقمت حتى شاهدت الشجرة المذكورة ، فإذا هي كأعظم ما يكون من شجر الجميز بمصر وأكبر ، وسألت مستوفي البلد عنها ، فأحضر إليّ جرائد حسباناته وتصفحها حتى أوقفني على أن منها في سنة كذا قطف من النارنجة اللانية ، أربعة عشر ألف حبة نارنج مستوية صفراء ، سوى ما بقي عليها من الأخضر ، وسوى ما تناثر منها وهو صغير.

وبالواحات الشبّ الأبيض بواد تجاه مدينة أدفو (١) كان في زمن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر ، وفي زمن ابنه الصالح نجم الدين أيوب على مقطعي الواحات حمل ألف قنطار شب أبيض في كل سنة إلى القاهرة ، ويطلق لهم في نظير ذلك جوالي الواحات ، ثم أهمل هذا فبطل.

وفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة ، سار ملك النوبة في جيش عظيم إلى الواحات ، فأوقع بأهلها ، وقتل منها ، وأسر كثيرا.

ذكر مدينة قوص

اعلم : أنّ قوص أعظم مدائن الصعيد ، وهي على النيل بنيت بعد قفط في أيام ملك من ملوك القبط الأول يقال له : سدان بن عديم بن البودسير بن قفطريم.

قيل : سميت باسم قوص بن قفط بن أخميم بن سيفاف بن أشمن بن مصر ، قال ابن وصيف شاه : سدان بن عديم ، هو الذي بنى الأهرام الدهشورية من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه ، وعمل مصاحف النيرنجات ، وهيكل أرمنت ، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا ، وأقام فيه في أتريب ، وهيكلا في شرقيّ الإسكندرية ، وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن ، وفي أيامه بنيت قوص العالية ، وأسكن فيها قوما من أهل الحكمة ، وأهل الصناعات ، وكان الحبش والسودان ، قد عاثوا في بلده ، فأخرج لهم ، ابنه منقاوش في جيش عظيم ، فقتل منهم ، وسبى ، واستعبد الذين سباهم ، وصار ذلك سبّة لهم ، واقتطع معدن

__________________

(١) أدفو : اسم قرية بصعيد مصر الأعلى بين أسوان وقوص وهي كثيرة النخل. معجم البلدان ج ١ / ١٢٦.

٤٣٦

الذهب من أرضهم ، وأقام ذلك السبي يعملون فيه ، ويحملون الذهب إليه ، وهو أوّل من أحب الصيد ، واتخذ الجوارح ، وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية ، وعمل من العجائب والطلسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة.

وقال الأدفويّ في تاريخ الصعيد : وقوص بجانب قفط ، حكى بعض المؤرخين : أنها شرعت في العمارة ، وشرعت قفط في الخراب من سنة أربعمائة.

قيل : إنه حضر مرّة قاضي قوص ، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة إلى لقائه.

وفي شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة ، أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس فلوس ، وجدت مدفونة بقوص ، فأخذ منها فلس ، فإذا على أحد وجهيه ، صورة ملك واقف ، وفي يده اليمنى ميزان ، وفي اليسرى سيف ، وعلى الوجه الآخر رأس فيه أذن كبيرة ، وعين مفتوحة ، وبدائر الفلس ، كتابة ، فقرأها راهب يونانيّ ، فكان تاريخه ، إلى وقت قراءته ، ألفين وثلثمائة سنة ، وفيه أنا غلياث الملك ميزان العدل والكرم في يميني لمن أطاع ، والسيف في يساري لمن عصى ، وفي الوجه الآخر ، أنا غلياث الملك ، أذني مفتوحة لسماع المظلوم ، وعيني مفتوحة أنظر بها مصالح ملكي.

وقوص ، كثيرة العقارب والسام أبرص ، وبها صنف من العقارب القتالات ، حتى إنه كان يقال بها أكلة العقرب لأنه كان لا يرجى لمن لسعته حياة ، واجتمع بها مرّة في يوم صائف على حائط الجامع سبعون سام أبرص صفا واحدا ، وكان الواحد من أهلها إذا مشى في الصيف ليلا خارج داره ، يأخذ بإحدى يديه مسرجة تضيء له ، وبالأخرى مشك من حديد يشك به العقارب ، ثم إنها تلاشت بعد سنة ثمانمائة.

فلما كانت الحوادث والمحن ، مات بها سبعة عشر ألف إنسان في سنة ست وثمانمائة ، وكانت من العمارة بحيث إنه تعطل منها في شراقي البلاد سنة ست وسبعين وسبعمائة ، مائة وخمسون مغلقا ، والمغلق عندهم بستان من عشرين فدّانا فصاعدا ، وله ساقية بأربعة وجوه ، وذلك سوى ما تعطل مما هو دون ذلك ، وهو كثير جدّا.

ذكر مدينة أسنا (١)

قال الأدفويّ : وذكر أنّ أسنا في سنة حصل منها ، أربعون ألف إردب تمر ، واثنا عشر ألف إردب زبيب ، وأسنا تشمل على ما يقارب ثلاثة عشر ألف منزل ، وقيل : إنه كان بها في وقت سبعون شاعرا.

__________________

(١) إسنا : مدينة بأقصى الصعيد ليس وراءها إلّا أدفو وأسوان ثم بلاد النوبة وهي على شاطىء النيل الغربي. معجم البلدان ج ١ / ١٨٨.

٤٣٧

ذكر مدينة أدفو

ومدينة أدفو يقال بالدال المهملة ، ويقال أيضا بالتاء المثناة من فوق. قال الأدفويّ : أخبرني الخطيب العدل أبو بكر خطيب أدفو : أن جمارة طرحت ، ثلاثة شماريخ في كل شمروخ تمرة واحدة ، وأنه قلع الجمارة بأصلها ، ووزنها فجاءت خمسة وعشرين درهما ، كلها بجريدها وخشبها ، وذلك بأدفو.

ولما كان بعد سنة سبعمائة ، حفر صناع الطوب ، فظهرت صورة شخص من حجر شكل امرأة متربعة على كرسيّ ، وعليها مثال شبكة ، وفي ظهرها لوح مكتوب بالقلم اليونانيّ ، رأيتها على هذه الحالة في مدينة أدفو.

إهناس (١)

هي كورة من كور الصعيد يقال : إنّ عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، ولد بها ، وإن نخلة مريم عليها‌السلام التي ذكرت في قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) [مريم / ٢٥] لم تزل بها إلى آخر أيام بني أمية ، والذي عليه الجماهرة أنّ عيسى عليه‌السلام إنما ولد بقرية بيت لحم من مدينة بيت المقدس وبإهناس شجر البنج.

ذكر مدينة البهنسا (٢)

هذه المدينة في جهة الغرب من النيل بها تعمل الستور البهنسية ، وينسج المطرّز والمقاطع السلطانية ، والمضارب الكبار ، والثياب المحبرة ، وكان يعمل بها من الستور ، ما يبلغ طول الستر الواحد ثلاثين ذراعا ، وقيمة الزوج مائتا مثقال ذهب ، وإذا صنع بها شيء من الستور والأكسية ، والثياب من الصوف أو القطن ، فلا بدّ أن يكون فيها اسم المتخذ له مكتوبا على ذلك مضوا جيلا بعد جيل.

وقبط مصر ، مجمعون على أنّ المسيح وأمّه مريم كانا بالبهنسا ، ثم انتقلا عنها إلى القدس.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى عن المسيح وأمّه : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون / ٥٠] ، الربوة ، البهنسا ، وهذه المدينة بناها ملك من القبط يقال له : مناوش بن منقاوش.

__________________

(١) أهناس : كورة في الصعيد الأدنى وهي مدينة قديمة أزلية غربي النيل قرب الفسطاط. معجم البلدان ج ١ / ٢٨٤.

(٢) البهنسا : مدينة من الصعيد الأدنى غربي النيل بها برابي كثيرة. معجم البلدان ج ١ / ٥١٦.

٤٣٨

قال ابن وصيف شاه : واستخلف مناوش الملك فطلب الحكمة مثل أبيه ، واستخرج كتبها ، وأكرم أهلها ، وبذل فيهم الجوائز ، وطلب الأغراب في عمل العجائب ، وكان كل من ملوكهم يجهد جهده في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله ، وثبت في كتبهم ، وزبر على الحجارة في تواريخهم.

وهو أوّل من عبد البقر من أهل مصر ، وكان السبب في ذلك أنه اعتلّ ، علة يئس منه فيها ، فرأى في منامه صورة روحانيّ عظيم ، يقول له : إنه لا يخرجك من علتك إلا عبادتك البقر ، لأنّ الطالع كان وقت حلولها بك صورة ثور بقرنين ، ففعل ذلك ، وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة ، وعمل له مجلسا في قصره ، وسقفه بقبة مذهبة ، فكان ينجره ، ويطيب موضعه ، وكل به سائسا يقوم به ، ويكنس تحته ، ويعبد سرا من أهل مملكته ، فبرأ من علته.

وهو أوّل من عمل العجل في علته ، فكان يركب عليها البيوت من فوقها قباب الخشب ، وعمل ذلك من أحب من نسائه ، وخدمه إلى المواضع ، والمنتزهات ، وكان البقر يجرّه ، فإذا مرّ بمكان نزهة أقام فيه وإذا مرّ بمكان خراب أمر بعمارته ، فيقال : إنه نظر إلى ثور من البقر الذي يجرّ عجلته أبلق حسن الشية ، فأمر بترفيهه ، وسوقه بين يديه إعجابا به ، وجعل عليه جلا من ديباج ، فلما كان في يوم وقد خلا في موضع صار إليه ، وقد انفرد عن عبيده وخدمه ، والثور قائم إذ خاطبه الثور ، وقال له : لو رفهني الملك عن السير معه ، وجعلني في هيكل وعبدني ، وأمر أهل مملكته بعبادتي ، كفيته جميع ما يريد ، وعاونته على أمره ، وقوّيته في مملكته ، وأزلت عنه جميع علله ، فارتاع لذلك ، وأمر بالثور ، فغسل وطيب ، وأدخل في هيكل ، وأمر بعبادته ، فأقام ذلك الثور يعبد مدّة ، وصار فيه آية وهو أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلا أطراف ورق القصب الأخضر في كل شهر مرّة ، فافتتن الناس به ، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر ، وبنى مواضع كنز فيها كنوزا ، وأقام عليها أعلاما ، وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارا ، ودفن حولها كنوزا.

ويقال : إن هذه المدينة قائمة ، وإنّ قوما ، جازوا بها من نواحي الغرب ، وقد ضلوا الطريق ، فسمعوا بها ، عزيف الجنّ ، ورأوا ضوءا يتراءى بها ، وفي بعض كتبهم أنّ ذلك الثور بعد مدّة من عبادتهم له ، أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف ، ويؤخذ من رأسه شعرات ، ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه ، ويجعل في التمثال المذكور ، وعرّفهم أنه يلحق بعالمه ، وأمرهم أن يجعلوا جسده في جرن من حجر أحمر ، ويدفن في الهيكل ، وينصب تمثاله عليه ، وزحل في شرفه ، والشمس تنظر إليه من تثليث القمر زائد النور ، وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة ، ففعلوا ذلك ، وكلّلوه بجميع الأصناف من الجواهر ، وجعلوا عينيه جزعتين ، وغرسوا في الهيكل عليه شجرة بعد ما دفنوه في الجرن الأحمر ، وبنوا منارا طوله ثمانون ذراعا على رأسه قبة تتلوّن كل يوم لونا ، حتى تمضي سبعة

٤٣٩

أيام ، ثم تعود إلى اللون الأوّل ، وكسوا الهيكل ألوان الثياب ، وشقوا نهرا من النيل إلى الهيكل ، وجعل حوله طلسمات رؤوسها رؤوس القرود على أبدان اناس ، كل واحد منها لدفع مضرّة ، وجلب منفعة ، وأقام عند الهيكل ، أربعة أصنام على أربعة أبواب ، ودفن تحت كل صنم صنفا من الكنوز ، وكتب عليها قربانها ، وبخورها وأسكنها الشجرة ، فكانت تعرف بمدينة الشجرة ، ومنها كانت أصناف الشجر تخرج وهو أوّل من عمل النيروز بمصر ، وفي زمانه بنيت البهنسا ، وأقم بها أسطوانات وجعل فيما فوقها مجلسا من زجاج أصفر عليه قبة مذهبة إذا طلعت الشمس ألقت شعاعها على المدينة.

ويقال : إنه ملكهم ثمانمائة وثلاثين سنة ، ودفن في أحد الأهرام الصغار القبلية ، وقيل : في غربيّ الأشمونين ، ودفن معه من المال والجواهر والعجائب شيء كثير ، وأصناف الكواكب السبعة التي يرى الدفين والحية ، وألف سرج ذهبا وفضة ، وعشرة آلاف جام وغضار من ذهب وفضة وزجاج ، وألف عقاقير لفنون الأعمال ، وزبروا عليه اسمه ومدّة ملكه ، ووقت موته.

وفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ، ظهر بالأشمونين في واد بين جبلين ، فساقي (١) مربعة مملوءة ماء عذبا صافيا ، فمشى شخص على حافتها طول يوم وليلة ، فلم يبلغ آخرها.

ويقال : إنها من عمل سوريد باني الأهرام لتكون عدّة لما كانوا قد توقعوه من حدوث طوفان ناريّ ، فردم هذا الوادي بعد ذلك خوفا من تلاف الناس.

يقول الشيخ الإمام محمد بن أحمد الغريانيّ : حدّثني عليّ بن حسن بن خالد الشعريّ ، ثلاث مرّات لم يختلف قوله عليّ فيها ، قال : حدّثني رجل من فزارة ، الساكنين بكورة البهنسا قال : خرجت أنا ورجل رفيق لي نرتاد البلاد ، ونطلب الرزق في الأرض ، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة ، فقطعنا الجبل الغربيّ من ناحية البهنسا ، وسرنا متوكلين على الله تعالى ، فأقمنا أياما ، ونحن نمشي ما بين الغرب والجنوب ، فوقعنا في واد كثير الشجر والنبات والماء والكلأ ليس فيه أنيس ، وهو واد واسع في الطول والعرض ، نحو يوم في الطول ، ويوم في العرض ، كله أعين وبساتين نخل وزيتون كثير الإبل والمعز ، والذئب والضبع به كثير ، والإبل به متوحشة ، وكذلك المعز قد صارت به وحشية بعد أن كانت آنسة به ، وليس بالوادي لا رائح ، ولا غاد من الناس قال : فأخبرني أنهما أقاما بالوادي نحوا من شهرين أو ثلاثة ، وإنهما رأيا في وسط الوادي ، مدينة حصينة منيعة عالية السور شامخة القصور فإذا تقرّبا من سورها سمعا ضجيجا عظيما ، وأصواتا مهولة مخوفة ، ورأيا دخانا يرتفع إلى جوّ السماء ، حتى يغطي سور المدينة ، وجميع ما فيها ، وإنّ تلك الإبل الوحشية

__________________

(١) الفساقي : ج. فسيقة : وهي حوض من الرخام.

٤٤٠