كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهما بذلك يخبره ، أنّ همدان وآل ذي أصبح ويافعا ومن كان معهم أحبوا المقام بالجيزة ، فكتب إليه كيف رضيت أن تفرّق عنك أصحابك ، وتجعل بينك وبينهم بحرا لا تدري ما يفجأهم ، فلعلك لا تقدر على غياثهم ، فاجمعهم إليك ، ولا تفرّقهم فإن أبوا وأعجبهم مكانهم ، فابن عليهم حصنا من فيء المسلمين ، فجمعهم عمرو وأخبرهم بكتاب عمر فامتنعوا من الخروج من الجيزة ، فأمر عمرو ببناء الحصن عليهم ، فكرهوا ذلك ، وقالوا : لا حصن أحصن لنا من سيوفنا ، وكرهت ذلك همدان ويافع ، فأقرع عمرو بينهم ، فوقعت القرعة على يافع ، فبنى فيهم الحصن في سنة إحدى وعشرين ، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين عشرين ، وأمرهم عمرو بالخطط بها ، فاختط ذو أصبح من حمير من الشرق ، ومضوا إلى الغرب ، حتى بلغوا أرض الحرث والزرع ، وكرهوا أن يبني الحصن فيهم ، واختط يافع بن الحرث من رعين ، بوسط الجيزة وبنى الحصن في خططهم وخرجت طائفة منهم عن الحصن أنفه منه ، واختطت بكيل بن جشم من نوف من همدان في مهب الجنوب من الجيزة في شرقيها ، واختطت حاشد بن جشم من نوف في مهب الشمال من الجيزة في غربيها ، واختطت الجباوية بنو عامر بن بكيل في قبليّ الجيزة ، واختطت بنو حجر بن أرحب بن بكيل في قبليّ الجيزة ، واختط بنو كعب بن مالك بن الحجر بن الهبو بن الأزد ، فيما بين بكيل ويافع ، والحبشة اختطوا على الشارع الأعظم.

والمسجد الجامع بالجيزة بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلثمائة بأمر الأمير عليّ بن الإخشيد ، فتقدّم كافور ، إلى الخازن ببنائه ، وعمل له مستغلا ، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد همدان ، وهو مسجد مراحق بن عامر بن بكيل ، كان يجمع فيه الجمعة في الجيزة ، وشارف بناء هذا الجامع الخازن ، أبو الحسن بن أبي جعفر الطحاويّ ، واحتاجوا إلى عمد للجامع ، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها ، ونصب بدلها أركانا ، وحمل العمد إلى الجامع ، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا.

قال اليمنيّ : وقد كان ابن الطحاويّ ، يصلي في جامع الفسطاط العتيق ، وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية ، وأرياف مصر ، وبعضه بناه قرّة بن شريك ، عامل الوليد بن عبد الملك ، ويقال : إنّ بالجيزة قبر كعب الأحبار ، وإنه كان بها أحجار ورخام قد صوّرت فيها التماسيح ، فكانت لا تظهر فيما يلي البلد من النيل ، مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا.

وفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة منع الملك الناصر ، محمد بن قلاون ، الوزير أن يتعرّض إلى شيء مما يتحصل من مال الجيزة ، فصار جميعه يحمل إليه.

٣٨١

قال القضاعيّ : سجن يوسف عليه‌السلام ببوصير من عمل الجيزة ، أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان ، وفيه أثر نبيين ، أحدهما يوسف ، سجن به المدّة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين ، وكان الوحي ينزل عليه فيه ، وسطح السجن موضع معروف ، بإجابة الدعاء ، يذكر أن كافور الإخشيديّ ، سأل أبا بكر بن الحدّاد عن موضع معروف بإجابة الدعاء ليدعو فيه؟ فأشار عليه بالدعاء على سطح السجن ، والنيّ الآخر موسى عليه‌السلام ، وقد بنى على أثره مسجد هناك يعرف بمسجد موسى.

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الشرفيّ بالشرف قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن الورد ، وكان قد هلكت أخته ، وورث منها مورثا وكنا نسمع عليه دائما ، وكان لسجن يوسف وقت يمضي الناس إليه يتفرّجون ، فقال لنا يوما : يا أصحابنا هذا أوان السجن ، ونريد أن نذهب إليه ، وأخرج عشرة دنانير ، فناولها لأصحابه وقال لهم : ما اشتهيتموه ، فاشتروه ، فمضى أصحاب الحديث ، واشتروا ما أرادوا وعدّينا يوم أحد الجيزة كلنا ، وبتنا في مسجد همدان ، فلما كان الصباح مشينا حتى جئنا إلى مسجد موسى ، وهو الذي في السهل ، ومنه يطلع إلى السجن ، وبينه وبين السجن تل عظيم من الرمل ، فقال الشيخ : من يحملني ويطلع بي إلى هذا السجن حتى أحدّثه بحديث لا أحدّثه لأحد بعده ، حتى تفارق روحي الدنيا.

قال الشرفيّ : فأخذت الشيخ ، وحملته حتى صرت في أعلاه ، فنزل وقال : معك ورقة؟ قلت : لا ، قال : أبصر لي بلاطة ، فأخذ فحمة وكتب : حدّثني يحيى بن أيوب ، عن يحيى بن بكير ، عن زيد بن أسلم بن يسار ، عن ابن عباس قال : إنّ جبريل أتى إلى يوسف في هذا السجن في هذا البيت المظلم ، فقال له يوسف : من أنت الذي مذ دخلت السجن ما رأيت أحسن وجها منك؟ فقال له : أنا جبريل ، فبكى يوسف ، فقال : ما يبكيك يا نبيّ الله ، فقال : إيش يعمل جبريل في مقام المذنبين؟ فقال : أما علمت أنّ الله تعالى يطهر البقاع بالأنبياء ، والله لقد طهر الله بك السجن وما حوله ، فما أقام إلى آخر النهار ، حتى أخرج من السجن.

قال القضاعيّ : سقط بين يحيى وزيد رجل ، وقال الفقيه أبو محمد أحمد بن محمد بن سلامة الطحاويّ ، وذكر سجن يوسف لو سافر الرجل من العراق ليصلي فيه ، وينظر إليه لما عنفته في سفره.

وذكر المسبحيّ : في حوادث شهر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وأربعمائة ، أنّ العامّة والسوقة طافت بمصر بالطبول والبوقات يجمعون من التجار ، وأرباب الأسواق ما ينفقونه في مضيهم إلى سجن يوسف ، فقال لهم التجار : شغلنا بعدم الأقوات يمنعنا من هذا ، وكان قد اشتدّ الغلاء ، وأنهوا حالهم إلى الحضرة المطهرة ، يعني أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله ، فرسم لنائب الدولة أبي طاهر بن كافي متولي الشرطة

٣٨٢

السفلي : الترسيم على التجار ، حتى يدفعوا إليهم ما جرت به رسومهم ، ورسم لهم بالخروج إلى سجن يوسف ، ووعدوا أن يطلق لهم من الحضرة ضعف ما أطلق لهم في السنة الماضية من الهبة ، فخرجوا ، وفي يوم السبت لتسع خلون من جمادى الأولى ركب القائد الأجل عز الدولة ، وسناها معضاد الخادم الأسود ، في سائر الأتراك ووجوه القوّاد ، وشق البلد ، ونزل إلى الصناعة التي بالجسر بمن معه ، ثم خرج من هناك ، وعدّى في سائر عساكره إلى الجيزة ، حتى رتب لأمير المؤمنين عساكر تكون معه مقيمة هناك لحفظه ، لأنه عدّى يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت منه في أربع عشاريات ، وأربع عشرة بغلة من بغال النقل ، وفي جميع من معه من خاصته وحرمه إلى سجن يوسف عليه‌السلام ، وأقام هناك يومين وليلتين ، إلى أن عاد الرمادية الخارجون إلى السجن بالتماثيل ، والمضاحك والحكايات والسماجات ، فضحك منهم واستظرفهم ، وعاد إلى قصره بكرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه ، وأقام أهل الأسواق نحو الأسبوعين يطرقون الشوارع بالخيال والسماجات والتماثيل ، ويطلعون إلى القاهرة بذلك ليشاهدهم أمير المؤمنين ، ويعودون ومعهم سجل قد كتب لهم أن لا يعارض أحد منهم في ذهابه وعوده ، وأن يعتمد إكرامهم وصيانتهم ، ولم يزالوا على ذلك إلى أن تكامل جميعهم ، وكان دخولهم من سجن يوسف يوم السبت لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى ، وشقوا الشوارع بالحكايات والسماجات والتماثيل فتعطل الناس في ذلك اليوم عن أشغالهم ومعايشهم ، واجتمع في الأسواق خلق كثير لنظرهم ، وظل الناس أكثر هذا اليوم على ذلك ، وأطلق لجميعهم ثمانية آلاف درهم ، وكانوا اثني عشر سوقا ونزلوا مسرورين ، وبخارج مدينة الجيزة موضع يعرف بأبي هريرة ، فيظنّ من لا علم له أنه أبو هريرة الصحابيّ ، وليس كذلك ، بل هو منسوب إلى ابن ابنته.

ذكر قرية ترسا

قال القضاعيّ : وذكر أنّ القاسم بن عبيد الله بن الحبحاب ، عامل هشام بن عبد الملك على خراج مصر ، بنى في الجيزة قرية تعرف بترسا.

والقاسم هذا خرج إلى مصر ، وولي خلافة عن أبيه ، عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ على الخراج ، في خلافة هشام بن عبد الملك ، ثم أمّره هشام على خراج مصر ، حين خرج أبوه إلى إمارة إفريقية في سنة ست عشرة ومائة ، فلم يزل إلى سنة أربع وعشرين ومائة ، فنزع عن مصر ، وجمع لحفص بن الوليد ، عربها وعجمها ، فصار يلي الخراج والصلاة معا ، وبترسا هذه كانت وقعة هارون بن محمد الجعديّ.

ذكر منية أندونة

هي إحدى قرى الجيزة ، عرفت بأندونة ، كاتب أحمد المدائني الذي كان يتقلد ضياع

٣٨٣

موسى بن بغا ، التي بمصر ، فقبض أحمد بن طولون على أندونة هذا ، وكان نصرانيا ، فأخذ منه خمسين ألف دينار.

ذكر وسيم

قال ابن عبد الحكم : وخرج عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، أمير مصر إلى وسيم ، وكانت لرجل من القبط ، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله ، ويجعل له مائة ألف دينار ، فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك ، وقيل : إنما خرج عبد الله إلى قرية أبي النمرس ، مع رجل من الكتاب ، يقال له : ابن حنظلة ، فأتى عبد الله العزل ، وولاية قرّة بن شريك ، وهو هناك ، فلما بلغه ذلك ، قام ليلبس سراويله ، فلبسه منكوسا ، وقيل : إنّ عبد الله لمّا بلغه العزل ، ردّ المال على صاحبه ، وقال : قد عزلنا ، وكان عبد الله قد ركب معه إلى المعديّة ، وعدّى أصحابه قبله تأخر ، فورد الكتاب بعزله ، فقال صاحب المال : والله لا بدّ أن تشرّف منزلي ، وتكون ضيفي ، وتأكل طعامي ، وو الله لا عاد لي شيء من ذلك ، ولا أدعك منصرفا فعدّى معه.

ذكر منية عقبة

هذه القرية بالجيزة عرفت بعقبة بن عامر الجهنيّ (١) رضي‌الله‌عنه.

قال ابن عبد الحكم : كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي‌الله‌عنهما ، يسأله أرضا يسترقق فيها عند قرية عقبة ، فكتب له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع ، فقال له مولى له : كان عنده ، انظر أصلحك الله أرضا صالحة ، فقال عقبة : ليس لنا ذلك ، إنّ في عهدهم شروطا ستة منها ، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء ، ولا من نسائهم ، ولا من أولادهم ، ولا يزاد عليهم ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم ، وأنا شاهد لهم بذلك.

وفي رواية : كتب عقبة إلى معاوية يسأله نقيعا في قرية يبني فيه منازل ومساكن ، فأمر له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع ، فقال له مواليه ومن كان عنده : انظر إلى أرض تعجبك ، فاختط فيها وابتن ، فقال : إنه ليس لنا ذلك ، لهم في عهدهم ستة شروط منها ، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء ، ولا يزاد عليهم ، ولا يكلفوا غير طاقتهم ، ولا تؤخذ ذراريهم ، وأن يقاتل عنهم عدوّهم من ورائهم.

قال أبو سعيد بن يونس : وهذه الأرض التي اقتطعها عقبة هي : المنية المعروفة ،

__________________

(١) صحابي شهد فتح مصر مع عمرو بن العاص ثم وليها من قبل معاوية بعد موت أخيه عتبة في سنة ٤٤ ه‍ ودامت ولايته سنتين وأشهر ثم عزل وولي غزو البحر توفي بمصر سنة ٥٨ ه‍. الأعلام ج ٤ / ٢٤٠.

٣٨٤

بمنية عقبة في جيزة فسطاط مصر.

عقبة بن عامر بن عيسى بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عديّ بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة ، كذا نسبه أبو عمرو الكنديّ.

وقال الحافظ : أبو عمر بن عبد البر ، عقبة بن عامر بن حسن الجهنيّ من جهينة بن زيد بن مسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، وقد اختلف في هذا النسب ، يكنى : أبا حماد ، وقيل : أبا أسد ، وقيل : أبا عمرو ، وقيل : أبا سعاد ، وقيل : أبا الأسود.

وقال خليفة بن خياط : وقتل أبو عامر عقبة بن عامر الجهنيّ يوم النهروان ، شهيدا وذلك سنة ثمان وثلثين ، وهذا غلط منه ، وفي كتابه بعد ، وفي سنة ثمان وخمسين توفي عقبة بن عامر الجهنيّ ، قال : سكن عقبة بن عامر مصر ، وكان واليا عليها ، وابتنى بها دارا ، وتوفي في آخر خلافة معاوية ، روى عنه من الصحابة جابر ، وابن عباس ، وأبو أمامة ، ومسلمة بن مخلد ، وأما رواته من التابعين فكثير.

وقال الكنديّ : ثم وليها عقبة بن عامر من قبل معاوية ، وجمع له صلاتها وخراجها ، فجعل على شرطته حمادا ، وكان عقبة قارئا فقيها فرضيا شاعرا له الهجرة والصحبة السابقة ، وكان صاحب بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشهباء الذي يقودها في الأسفار ، وكان صرف عقبة من مصر ، بمسلمة بن مخلد لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة أربعين ، فكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر.

وقال ابن يونس : توفي بمصر سنة ثمان وخمسين ، ودفن في مقبرتها بالمقطم ، وكان يخضب بالسواد رحمه‌الله تعالى.

ذكر حلوان

يقال : إنها تنسب إلى حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس ، ملك مصر بن سائب بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وكان حلوان هذا بالشام على مقدّمة أبرهة ذي المنار أحد التبابعة.

قال ابن عبد الحكم : وكان الطاعون قد وقع بالفسطاط ، فخرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط ، فنزل بحلوان داخلا في الصحراء في موضع منها يقال له : أبو قرقورة ، وهو رأس العين التي احتفرها عبد العزيز بن مروان ، وساقها إلى نخيلة التي غرسها بحلوان ، فكان ابن خديج يرسل إلى عبد العزيز في كل يوم بخبر ما يحدث في البلد من موت وغيره ، فأرسل إليه ذات يوم رسولا ، فأتاه فقال له عبد العزيز : ما اسمك؟ فقال : أبو طالب ، فثقل ذلك على عبد العزيز ، وغاظه ، فقال له عبد العزيز : أسألك عن اسمك؟! فتقول أبو طالب! ما اسمك؟ فقال : مدرك ، فتفاءل بذلك ، ومرض في مخرجه ذلك ، ومات هنالك ، فحمل

٣٨٥

في البحر يراد به الفسطاط حتى تغير ، فأنزل في بعض خصوص ساحل مريس ، فغسل فيه ، وأخرجت من هنالك جنازته ، وخرج معه بالمجامر فيها العود لما كان قد تغير من ريحه ، وأوصى عبد العزيز أن يمرّ بجنازته إذا مات على منزل ، جناب بن مرثد بن زيد بن هانىء الرعينيّ ، صاحب حرسه ، وكان صديقا له وقد توفي قبل عبد العزيز فمرّ بجنازته على باب جناب ، وقد خرج عيال جناب ، ولبسن السواد ووقفن على الباب صائحات ، ثم اتبعنه إلى المقبرة ، وكان لنصيب من عبد العزيز ناحية ، فقدم عليه في مرضه ، فأذن له ، فلما رأى شدّة مرضه أنشأ يقول :

ونزور سيدنا وسيد غيرنا

ليت التشكي كان بالعوّاد

لو كان يقبل فدية لفديته

بالمصطفى من طارفي وتلادي

فلما سمع صوته ، فتح عينيه ، وأمر له بألف دينار ، واستبشر بذلك آل عبد العزيز ، وفرحوا به ، ثم مات.

وقال الكندي : ووقع الطاعون بمصر في سنة سبعين ، فخرج عبد العزيز بن مروان منها إلى الشرقية منتديا ، فنزل حلوان ، فأعجبته فاتخذها وسكنها ، وجعل بها الحرس والأعوان والشرط ، فكان عليهم جناب بن مرثد بحلوان ، وبنى عبد العزيز بحلوان الدور والمساجد ، وعمّرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس نخلها وكرمها ، فقال ابن قيس الرقيات :

سقيا لحلوان ذي الكروم وما

صنف من تينه ومن عنبه

نخل مواقير بالفناء من ال

برنيّ يهتز ثم في سربه

أسود سكانه الحمام فما

ينفك غربانه على رطبه

ولما غرس عبد العزيز ، نخل حلوان وأطعم دخله ، والجند معه ، فجعل يطوف فيه ويقف على غروسه ومساقيه ، فقال يزيد بن عروة الجمليّ : ألا قلت أيها الأمير ، كما قال العبد الصالح: ما شاء الله لا قوّة إلا بالله ، فقال : أذكرتني شكرا يا غلام ، قل لأنيتاس : يزيد في عطائه عشرة دنانير.

عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ ، أبو الأصبغ ، أمّه ليلى ابنة زبان بن الأصبغ الكنديّ ، روى عن أبي هريرة ، وعقبة بن عامر الجهنيّ ، وروى عنه عليّ بن رباح ، وبحير بن داخرة ، وعبيد الله بن مالك الخولانيّ ، وكعب بن علقمة ، ووثقه النسائي وابن سعد.

ولما سار أبوه مروان إلى مصر ، بعثه في جيش إلى أيلة ، ليدخل مصر من تلك الناحية ، فبعث إليه ابن جحدم أمير مصر بجيش عليهم : زهير بن قيس البلويّ ، فلقي عبد العزيز ببصاق ، وهي سطح عقبة أيلة ، فقاتله فانهزم زهير ومن معه ، فلما غلب مروان

٣٨٦

على مصر في جمادى الآخرة سنة خمس وستين ، جعل صلاتها وخراجها إلى ابنه عبد العزيز بعد ما أقام بمصر شهرين ، فقال عبد العزيز : يا أمير المؤمنين! كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له مروان : يا بني عمّهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك ، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودّتهم ، وأوقع إلى كل رئيس منهم إنه خاصتك دون غيره ، يكن لك عينا على غيره ، وينقاد قومه إليك ، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا ، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا أو مشيرا ، وما عليك يا بنيّ أن تكون أميرا بأقصى الأرض ، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك ، وأوصاه عند مخرجه من مصر إلى الشام ، فقال : أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته ، فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأوصيك أن لا تجعل لداعي الله عليك سبيلا ، فإن المؤذن يدعو إلى فريضة افترضها الله ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، وأوصيك أن لا تعد الناس موعدا إلا أنفذته لهم ، وإن حملته على الأسنة ، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير ، فإنّ الله لو أغنى أحدا عن ذلك لأغنى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، بالوحي الذي يأتيه ، قال الله عزوجل : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [١٥٩ / آل عمران].

وخرج مروان من مصر ، لهلال رجب سنة خمس وستين ، فوليها عبد العزيز على صلاتها وخراجها ، وتوفي مروان لهلال رمضان ، وبويع ابنه عبد الملك بن مروان ، فأقرّ أخاه عبد العزيز ووفد على عبد الملك في سنة سبع وستين ، وجعل له الحرس والخيل والأعوان جناب بن مرثد الرعينيّ ، فاشتدّ سلطانه ، وكان الرجل إذا غلظ لعبد العزيز وخرج تناوله جناب ومن معه فضربوه ، وحبسوه ، وعبد العزيز أوّل من عرّف بمصر في سنة إحدى وسبعين.

قال يزيد بن أبي حبيب : أوّل من أحدث القعود يوم عرفة في المسجد بعد العصر عبد العزيز بن مروان.

وفي سنة اثنتين وسبعين ، صرف بعث البحر إلى مكة ، لقتال عبد الله بن الزبير ، وجعل عليهم مالك بن شرحبيل الخولانيّ ، وهم : ثلاثة آلاف رجل فيهم : عبد الرحمن بن بحنس ، مولى ابن أبزى ، وهو الذي قتل ابن الزبير (١) وخرج إلى الإسكندرية في سنة أربع وسبعين ، ووفد على أخيه عبد الملك في سنة خمس وسبعين ، وهدم جامع الفسطاط كله ، وزاد فيه من جوانبه كلها في سنة سبع وسبعين ، وأمر بضرب الدنانير المنقوشة.

وقال ابن عفير : كان لعبد العزيز ألف جفنة ، كل يوم تنصب حول داره ، وكانت له

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ٢٤٤ : أن الحجاج بن يوسف الثقفي هو الذي نصب المنجنيق على الكعبة وحاصر ابن الزبير أشهرا ثم رمى على البيت غير مرة حتى قتل عبد الله بن الزبير وصلبه وذلك في سنة ٧٣ ه‍.

٣٨٧

مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل ، وكتب عبد الملك إليه ، أن ينزل له عن ولاية العهد ، ليعهد إلى الوليد وسليمان ، فأبى ذلك ، وكتب إليه إن يكن لك ولد فلنا أولاد ، ويقضي الله ما يشاء ، فغضب عبد الملك ، وقال : فرّق الله بيني وبينه ، فلم يزل به عليّ حتى رضي ، فقدم على عبد العزيز ، فأخبره عن عبد الملك وعن حاله ، ثم أخبره بدعوته فقال : أفعل أنا ، والله مفارقه ، والله ما دعا دعوة قط إلا أجيبت ، وكان عبد العزيز يقول : قدمت مصر في إمرة مسلمة بن مخلد ، فتمنيت بها ثلاث أمانيّ ، فأدركتها تمنيت ولاية مصر ، وأن أجمع بين امرأتي مسلمة ويحجبني قيس بن كليب حاجبه ، فتوفي مسلمة ، وقدم مصر ، فوليها وحجبه قيس ، وتزوّج امرأتي مسلمة ، وتوفي ابنه الأصبغ بن عبد العزيز لتسع بقين من ربيع الآخر ، سنة ست وثمانين ، فمرض عبد العزيز وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين ، فحمل في النيل من حلوان إلى الفسطاط ، فدفن بها.

وقال ابن أبي مليكة : رأيت عبد العزيز بن مروان حين حضره الموت يقول : ألا ليتني لم أك شيئا مذكورا ، ألا ليتني كنابتة من الأرض أو كراعي إبل في طرف الحجاز ، ولما مات لم يوجد له مال ناض! إلا سبعة آلاف دينار ، وحلوان ، والقيسارية ، وثياب بعضها مرقوع ، وخيل ورقيق ، وكانت ولايته على مصر ، عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما ، ولم يلها في الإسلام قبله أطول ولاية منه.

وكان بحلوان في النيل ، معدّية من صوّان تعدّي بالخيل تحمل فيها الناس وغيرهم من البرّ الشرقيّ بحلوان إلى البرّ الغربيّ فلما كان (١) وهذا من الأسرار التي في الخليقة ، فإنّ جميع الأجسام المعدنية كالحديد والنحاس والفضة والرصاص والذهب والقصدير ، إذ عمل من شيء منها إناء يسع من الماء أكثر من وزنه ، فإنه يعوم على وجه الماء ، ويحمل ما يمكنه ، ولا يغرق ، وما برح المسافرون في بحر الهند إذا أظلم عليهم الليل ولم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى معرفة الجهات ، يحملون حديدة مجوّفة على شكل سمكة ، ويبالغون في ترقيقها جهد المقدرة ، ثم يعمل في فم السمكة شيء من مغناطيس جيدا ، ويحك فيها بالمغناطيس ، فإنّ السمكة إذا وضعت في الماء دارت ، واستقبلت القطب الجنوبيّ بفمها ، واستدبرت القطب الشماليّ وهذا أيضا من أسرار الخليفة فإذا عرفوا جهتي الجنوب والشمال تبين منهما المشرق والمغرب ، فإنّ من استقبل الجنوب فقد استدبر الشمال وصار المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره ، فإذا تحدّدت الجهات الأربع عرفوا مواقع البلاد بها ، فيقصدون حينئذ جهة الناحية التي يريدونها.

__________________

(١) فراغ بالأصل.

٣٨٨

ذكر مدينة العريش

العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر ، وهي مدينة قديمة من جملة المدائن التي اختطت بعد الطوفان.

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه : عن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام ، وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر ، وستره بحشيش الأرض ، ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسمّاها : درسان ، أي : باب الجنة ، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر ، فكانت كلها زروعا وجنانا وعمارة.

وقال آخر : إنما سميت بذلك ، لأنّ بيصر بن حام بن نوح ، تحمّل في ولده وهم أربعة ، ومعهم أولادهم ، فكانوا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى ، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامه نحو أرض مصر ، حتى خرج من حدّ الشام ، فتاهوا ، وسقط مصر في موضع العريش ، وقد اشتدّ تعبه ونام ، فرأى قائلا يبشره بحصوله في أرض ذات خير ودر ، وملك وفخر ، فانتبه فزعا فإذا عليه ، عريش من أطراف الشجر ، وحوله عيون ماء ، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته ، وأن يبارك له في أرضه ، فاستجيب له ، وقادهم الله إليه ، فنزلوا في العريش ، وأقاموا به ، فأخرج الله لهم من البحر دوابّ ما بين خيل وحمر وبقر وغنم وإبل ، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف ، فنزلوه ، وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية : مافة يعني قرية ثلاثين ، فنمت ذرية بيصر حتى عمروا الأرض ، وزرعوا وكثرت مواشيهم ، وظهرت لهم المعادن ، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد ، يعمل منها مائة كبيرة ، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الأسطوانة وكالبعير الرابض.

وقال ابن سعيد عن البيهقيّ : كان دخول إخوة يوسف وأبويه ، عليهم‌السلام ، عليه بمدينة العريش ، وهي أوّل أرض مصر ، لأنه خرج إلى تلقيهم ، حتى نزل المدينة بطرف سلطانه ، وكان له هناك عرش ، وهو سرير السلطنة ، فأجلس أبويه عليه ، وكانت تلك المدينة تسمى في القديم بمدينة العرش لذلك ، ثم سمتها العامّة مدينة العريش ، فغلب ذلك عليها.

ويقال : إنه كان ليوسف عليه‌السلام حرس في أطراف أرض مصر من جميع جوانبها ، فلما أصاب الشام القحط ، وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر أقاموا بالعريش ، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف ، إنّ أولاد يعقوب الكنعانيّ ، يريدون البلد لقحط نزل بهم ، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشا يستظلون به من الشمس ، حتى يعود الجواب ، فسمى الموضع العريش ، وكتب يوسف بالإذن لهم ، فكان من شأنهم ما قد ذكر في موضعه ، ويقال للعرش : الج فهذا كما ترى ، وابن وصيف شاه أعرف بأخبار مصر.

٣٨٩

وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة ، طرق عبد الله بن إدريس الجعفريّ العريش بمعاونة بني الجرّاح وأحرقها ، وأخذ جميع ما فيها.

وقال القاضي الفاضل : وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، ورد الخبر ، بأنّ نخل العريش قطع الفرنج أكثره ، وحملوا جذوعه إلى بلادهم ، وملئت منه ، ولم يجدوا مخاطبا على ذلك ، ونقل عن ابن عبد الحكم : أنّ الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان ، وأنّ قول الله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [١٣٧ / الأعراف] عن هذه المواضع وأنّ العمارة متصلة منه إلى اليمن ، ولذلك سميت العريش : عريشا ، وقيل : إنها نهاية التخوم من الشام ، وإنّ إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه‌السلام بمواشيه ، وإنه عليه‌السلام اتخذ به عريشا كان يجلس فيه ، حتى تحلب مواشيه بين يديه ، فسمي العريش من أجل ذلك ، وقيل : إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جذيلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا منهم : العريش بن مالك ، وبه سميت العريش لأنه نزل بها وبناها مدينة ، وعن كعب الأحبار : أنّ بالعريش قبور عشرة أنبياء.

ذكر مدينة الفرماء (١)

قال البكريّ : الفرماء بفتح أوّله ، وثانيه ممدود على وزن فعلاء ، وقد يقصر مدينة تلقاء مصر.

وقال ابن خالويه في كتاب ليس الفرما : هذه سميت بأخي الإسكندر كان يسمى : الفرما ، وكان كافرا ، وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم ، انتهى.

ويقال : اسمه الفرما بن فيلقوس ، ويقال فيه : ابن فليس ، ويقال : بليس ؛ وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس ، وكانت مدينة خصباء ، وبها قبر جالينوس الحكيم ، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر تولى بناءه عنبسة بن إسحاق ، أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين ، عند ما بنى حصن دمياط ، وحصن تنيس ، وأنفق فيها مالا عظيما ، ولما فتح عمرو بن العاص ، عين شمس ، أنفذ إلى الفرماء ، أبرهة بن الصباح ، فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقلية ، وأربعمائة ناقة ، وألف رأس من الغنم ، فرحل عنهم إلى البقارة.

وفي سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة ، نزل الروم عليها ، فنفر الناس إليهم ، وقتلوا منهم رجلين ، ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلثمائة ، فخرج إليهم المسلمون ،

__________________

(١) الفرماء : مدينة على الساحل من ناحية مصر بين العريش والفسطاط شرقي تنيس. معجم البلدان ج ٤ / ٢٥٦.

٣٩٠

وأخذوا منهم مركبا ، وقتلوا من فيه وأسروا عشرة.

وقال اليعقوبيّ (١) : الفرما ، أوّل مدن مصر من جهة الشمال ، وبها أخلاط من الناس ، وبينها وبين البحر الأخضر ، ثلاثة أميال.

وقال ابن الكنديّ : ومنها الفرما ، وهي أكثر عجائب ، وأقدم آثارا ، ويذكر أهل مصر : أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البرّ ، فغلب عليها البحر ، ويقولون : إنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق ، وإنّ مقطع الأبيض بلوبية.

وقال يحيى بن عثمان : كنت أرابط في الفرما ، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل ، ثم علا البحر على ذلك كله. وقال ابن قديد : وجّه ابن المدبر ، وكان بتنيس ، إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقيّ الحصن ، احتاج أن يعمل منها جيرا ، فلما قلع منها حجر ، أو حجران ، خرج أهل الفرما بالسلاح ، فمنعوا من قلعها ، وقالوا : هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب عليه‌السلام : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) [يوسف / ٦٧] والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا ، فيبتدىء هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين ، فلا ينقطع أربعة أشهر ، حتى يجيء البلح في الربيع ، وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن ، ولا بغيرها من البلدان ، ويكون في هذا البسر ، ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهما ، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر.

وقال ابن المأمون البطائحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة : ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأنّ بغدوين ملك الفرنج ، وصل إلى أعمال الفرما ، فسيّر الأفضل بن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها ، وسيّر الراجل من العطوفية ، وأن يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدّم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع ، ويطاردوا الفرنج ، ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليه ، فاعتمد ذلك ، ثم أمر بإخراج الخيام ، وتجهيز الأصحاب والحواشي ، فلما تواصلت العساكر وتقدّمها العربان ، وطاردوا الفرنج ، وعلم بغدوين ملك الفرنج أنّ العساكر متواصلة إليه ، وتحقق أن الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد ، فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد ، وعزم على الرحيل ، فأخذه الله سبحانه وتعالى ، وعجل بنفسه إلى النار ، فكتم أصحابه موته ، وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين ، وملأوه ملحا حتى بقي إلى بلاده ، فدفنوه بها.

__________________

(١) اليعقوبي : أحمد بن إسحاق بن جعفر مؤرخ جغرافي كثير الأسفار ، له كتاب في التاريخ (تاريخ اليعقوبي) توفي بعد سنة ٢٩٢ ه‍. الأعلام ج ١ / ٩٥.

٣٩١

وأما العساكر الإسلامية فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدوّ ، وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان ، وكتب إلى الأمير ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق بأن يتوجه إلى بلاد الفرنج ، فسار إلى عسقلان ، وحملت إليه الضيافات وطولع بخبر وصوله ، فأمر بحمل الخيام ، وعدّة وافرة من الخيل والكسوات والبنود والأعلام ، وسيف ذهب ، ومنطقة ذهب ، وطوق ذهب ، وبدلة طقم ، وخيمة كبيرة مكملة ومرتبة ملوكية وفرشها وجميع آلاتها ، وما تحتاج إليه من آلات الفضة ، وسير برسم شمس الخواص ، وهو مقدم كبير خلعة مذهبة ومنطقة ذهب وسيف ، وسير برسم المميزين من الواصلين ، خلع وسيوف ، وسلم ذلك بثبت لأحد الحجاب ، وسير معه فرّاشان برسم الخيام ، وأمر بضرب الخيمة الكبيرة وفرشها ، وأن يركب والي عسقلان وظهير الدين وشمس الخواص وجميع الأمراء الواصلين والمقيمين بعسقلان إلى باب الخيمة ويقبلوه ، ثم إلى بساطها والمرتبة المنصوبة ، ثم يجلس الوالي وظهير الدين وشمس الخواص والمقدّمون ، ويقف الناس بأجمعهم إجلالا وتعظيما ، ويخلع على الأمير ظهير الدين ، وشمس الخواص ، وتشدّ المناطق في أوساطهما ، ويقلدا بالسيوف ويخلع بعدهما على المميزين ، ثم يسير ظهير الدين والمقدّمون بالتشريف والأعلام ، والرايات المسيرة إليهم إلى أن يصلوا إلى الخيام التي ضربت لهم ، فإذا كان كل يوم يركب الوالي ، والأميران والمقدّمون والعساكر إلى الخيمة الملوكية ، ويتفاوضون فيما يجب من تدبير العساكر ، فامتثل ذلك ، وتواصلت الغارات على بلاد العدوّ وأسروا وقتلوا ، فسير إليهم الخلع ثانيا ، وجعل الشمس الخواص خاصة في هذه السفرة عشرة آلاف دينار ، وتسلم ظهير الدين الخيمة الكبيرة بما فيها ، وكان تقدير ما حصل له ولأصحابه ثلاثين ألف دينار وبلغ المنفق في هذه النوبة وعلى ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار.

وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة ، نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير ، وأحرقوها ونهبوا أهلها ، وآخر أمرها أنّ الوزير شاور خرّبها لما خرج منها متوليها ، ملهم أخو الضرغام في سنة (١) ، فاستمرّت خرابا لم تعمر بعد ذلك ، وكان بالفرما والبقارة والورادة عرب من جذام يقال لهم : القاطع ، وهو جري بن عوف بن مالك بن شنوءة بن بديل بن جشم بن جذام منهم : عبد العزيز بن الوزير بن صابي بن مالك بن عامر بن عديّ بن حرش بن بقر بن نصر بن القاطع ، مات في صفر سنة خمس ومائتين ، وللسرويّ والجرويّ هنا أخبار كثيرة ، نبهنا عليها في كتاب عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط.

وقال ابن الكنديّ : وبها مجمع البحرين ، وهو البرزخ الذي ذكره الله عزوجل ، فقال : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن / ١٩] وقال : وجعل بين البحرين

__________________

(١) فراغ في الأصل

٣٩٢

حاجزا وهما بحر الروم وبحر الصين ، والحاجز بينهما مسيرة ليلة ، ما بين القلزم والفرما ، وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منهما بهذا الموضع ، وبينهما في السفر مسيرة شهور.

ذكر مدينة القلزم (١)

القلزم : بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي وميم ، بلدة كانت على ساحل بحر اليمن في أقصاه من جهة مصر ، وهي كورة من كور مصر ، وإليها ينسب بحر القلزم ، وبالقرب منها غرق فرعون ، وبينها وبين مدينة مصر ثلاثة أيام ، وقد خربت ويعرف اليوم موضعها بالسويس تجاه عجرود ، ولم يكن بالقلزم ماء ولا شجر ولا زرع ، وإنما يحمل الماء إليها من آبار بعيدة ، وكان بها فرضة مصر والشام ، ومنها تحمل الحمولات إلى الحجاز واليمن ، ولم يكن بين القلزم وفاران قرية ولا مدينة ، وهي نخل يسير فيه صيادو السمك ، وكذلك من فاران وجيلان إلى أيلة.

قال ابن الطوير (٢) : والبلد المعروف بالقلزم ، أكثرها باق إلى اليوم ، ويراها الراكب السائر من مصر إلى الحجاز ، وكانت في القديم ساحلا من سواحل الديار المصرية ، ورأيت شيئا من حسابه من جهة مستخدميه في حواصل القصر ، وما ينفق على واليه وقاضيه وداعيه وخطيبه ، والأجناد المركزين به لحفظه وقربه وجامعه ومساجده ، وكان مسكونا مأهولا.

قال المسبحي في حوادث سنة سبع وثمانين وثلثمائة وفي شهر رمضان : سامح أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أهل مدينة القلزم ، مما كان يؤخذ من مكوس المراكب.

وقال ابن خرداذبة عن التجار ، فيركبون في البحر الغربيّ ، ويخرجون بالفرماء ، ويحملون تجاراتهم على الظهر إلى القلزم ، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا ، ثم يركبون البحر الشرقيّ ، من القلزم إلى تجار جدّة ، ثم يمضون إلى السند والهند والصين ، ومن القلزم ينزل الناس في بريّة وصحراء ، ست مراحل إلى أيلة ، ويتزوّدون من الماء لهذه المراحل الست ، ويقال : إنّ بين القلزم وبحر الروم ثلاث مراحل ، وإنّ ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره تعالى بقوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن / ١٩].

ذكر التيه

هو أرض بالقرب من أيلة بينهما عقبة ، لا يكاد الراكب يصعدها لصعوبتها ، إلا أنها

__________________

(١) القلزم : بلدة على ساحل بحر اليمن قرب أيلة والطور بينها وبين الفرما أربعة أيام وفيها غرق فرعون.

معجم البلدان ج ٤ / ٣٨٧.

(٢) ابن الطوير : ذكر في صبح الأعشى ج ١ ص ٣١٦ حاشية رقم / ٣ / أنه لم يعثر على ترجمة له فيما بين يديه من المراجع.

٣٩٣

مهدت في زمان خمارويه بن أحمد بن طولون ، ويسير الراكب مرحلتين في محض التيه هذا ، حتى يوافي ساحل بحر فاران ، حيث كانت مدينة قاران ، وهناك غرق فرعون ، والتيه مقدار أربعين فرسخا في مثلها ، وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدّلوا ثوبا ، وفيه مات موسى عليه‌السلام.

ويقال : إنّ طول التيه نحو من ستة أيام ، واتفق أنّ المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة مرّ طائفة منهم بالتيه ، فتاهوا فيه خمسة أيام ، ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد ، فقصدوه ، فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر ، فدخلوا بها ، وطافوا بها ، فإذا هي قد غلب عليها الرمل ، حتى طمّ أسواقها ودورها ، ووجدوا بها أواني وملابس ، وكانوا إذا تناولوا منها شيئا ، تناثر من طول البلى ، ووجدوا في صينية بعض البزازين ، تسعة دنانير ذهبا ، عليها صورة غزال ، وكتابة عبرانية ، وحفروا موضعا فإذا حجر على صهريج ماء ، فشربوا منه ماء أبرد من الثلج ، ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة من العربان ، فحملوهم إلى مدينة الكرك ، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة فإذا عليها ، أنها ضربت في أيام موسى عليه‌السلام ، ودفع لهم في كل دينار مائة درهم ، وقيل لهم : إنّ هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل ، ولها طوفان رمل يزيد تارة ، وينقص أخرى لا يراها إلا تائه ، والله أعلم.

ذكر مدينة دمياط

إعلم أنّ دمياط : كورة من كور أرض مصر ، بينها وبين تنيس اثنا عشر فرسخا ، ويقال : سميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام.

ويقال : إنّ إدريس عليه‌السلام ، كان أوّل ما أنزل عليه ذو القوّة والجبروت ، أنا الله مدين المدائن الفلك بأمري وصنعي أجمع بين العذب والملح والنار والثلج ، وذلك بقدرتي ومكنون علمي ، الدال والميم والألف والطاء ، قيل هم : بالسريان ، دمياط ، فتكون دمياط كلمة سريانية ، أصلها دمط أي : القدرة إشارة إلى مجمع العذب والملح.

وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه : دمياط بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمّه ساحرة لقليمون.

ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر كان على دمياط رجل ، من أخوال المقوقس ، يقال له : الهاموك ، فلما افتتح عمرو بن العاص مصر امتنع الهاموك بدمياط ، واستعدّ للحرب ، فأنفذ إليه عمرو بن العاص المقداد بن الأسود ، في طائفة من المسلمين ، فحاربهم الهاموك وقتل ابنه في الحرب ، فعاد إلى دمياط ، وجمع إليه أصحابه ، فاستشارهم في أمره ، وكان عنده حكيم قد حضر الشورى ، فقال : أيها الملك إنّ جوهر العقل لا قيمة له ،

٣٩٤

وما استغنى به أحد إلّا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك ، وهؤلاء العرب من بدء أمرهم ، لم تردّ لهم راية ، وقد فتحوا البلاد ، وأذلوا العباد ، وما لأحد عليهم قدرة ، ولسنا بأشدّ من جيوش الشام ، ولا أعز ولا أمنع ، وإنّ القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأي ، أن تعقد مع القلوم صلحا ننال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم ، فما أنت بأكثر رجالا من المقوقس.

فلم يعبأ الهاموك بقوله ، وغضب منه ، فقتله ، وكان له ابن عارف عاقل ، وله دار ملاصقة للسور ، فخرج إلى المسلمين في الليل ، ودلهم على عورات البلد ، فاستولى المسلمون عليها ، وتمكنوا منها ، وبرز الهاموك للحرب ، فلم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد ، وقد ملكوه ، فعند ما رأى شطا بن الهاموك المسلمين فوق السور ، لحق بالمسلمين ، ومعه عدّة من أصحابه ، ففت ذلك في عضد أبيه ، واستأمن للمقداد ، فتسلم المسلمون دمياط ، واستخلف المقداد عليها ، وسير بخبر الفتح ، إلى عمرو بن العاص ، وخرج شطا ، وقد أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح ، فحشد أهل تلك النواحي ، وقدم بهم مدد للمسلمين ، وعونا لهم على عدوّهم ، وسار بهم مع المسلمين لفتح تنيس ، فبرز لأهلها ، وقاتلهم قتالا شديدا ، حتى قتل رحمه‌الله في المعركة شهيدا بعد ما أنكى فيهم ، وقتل منهم ، فحمل من المعركة ، ودفن في مكانه المعروف به ، خارج دمياط ، وكان قتله في ليلة الجمعة النصف من شعبان ، فلذلك صارت هذه الليلة من كل سنة ، موسما يجتمع الناس فيها من النواحي ، عند شطا ، ويحيونها ، وهم على ذلك إلى اليوم ، وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة ، فأسروا خالد بن كيسان ، وكان على البحر هناك وسيروه إلى ملك الروم ، فأنفذه إلى أمير المؤمنين ، الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم.

فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك ، نازل الروم دمياط في ثلثمائة وستين مركبا ، فقتلوا وسبوا ، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة ، ولما كانت الفتنة بين الأخوين : محمد الأمين ، وعبد الله المأمون ، وكانت الفتن بأرض مصر ، طمع الروم في البلاد ، ونازلوا دمياط في أعوام بضع ومائتين.

ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين ، المتوكل على الله وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق (١) ، نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، فملكوها ، وما فيها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين ، وسبوا النساء والأطفال ، وأهل الذمّة ، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر في جيشه ، ونفر كثير من الناس إليهم ، فلم يدركوهم ، ومضى

__________________

(١) عنبسة بن إسحاق أبو حاتم أمير من قواد بني العباس من أهل البصرة ولاه المنصور مصر سنة ٢٣٨ ه‍ ثم صرف عنها وعاد إلى العراق توفي سنة ٢٤٦ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٩١.

٣٩٥

الروم إلى تنيس ، فأقاموا بأشتومها ، فلم يتبعهم عنبسة ، فقال يحيى بن الفضيل للمتوكل :

أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة

وأن يستباح المسلمون ويحربوا

حمار أتى دمياط والروم وثب

بتنيس رأي العين منه وأقرب

مقيمون بالأشتوم يبغون مثل ما

أصابوه من دمياط والحرب ترتب

فما رام من دمياط شبرا ولا درى

من العجز ما يأتي وما يتجنب

فلا تنسنا إنا بدار مضيعة

بمصر وإنّ الدين قد كاد يذهب

فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط ، فابتدىء في بنائه ، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين ، وأنشأ من حينئذ الأسطول بمصر ، فلما كان في سنة سبع طرق الروم دمياط في نحو مائتي مركب ، فأقاموا يعبثون في السواحل شهرا ، وهم يقتلون ويأسرون وكانت للمسلمين معهم معارك.

ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الإخشيديّ ، طرق الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة في بعض وعشرين مركبا ، فقتلوا وأسروا مائة وخمسين من المسلمين.

وفي سنة ثمان وأربعمائة ، ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعا ، وعرضها مائة ذراع ، وكانت حمير الملح تدخل في جوفها موسوقة ، فتفرّغ وتخرج ، ووقف خمسة رجال في قحفها ، ومعهم المجاريف يجرفون الشحم ، ويناولونه الناس ، وأقام أهل تلك النواحي مدّة طويلة يأكلون من لحمها.

وفي أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى ، والوزير حينئذ الصالح طلائع بن رزيك ، نزل على دمياط نحو ستين مركبا في جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة ، بعث بها لوجيز بن رجاو ، صاحب صقلية ، فعاثوا وقتلوا ، ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية ، فأكثروا فيها الفساد.

ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ ، الوزارة الثانية عند ما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة ، وحصرها وقرّر على أهلها المال ، واحترقت مدينة الفسطاط ، فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر ، وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة ، فتل وأسر وسبى.

وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد ، وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة ، وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب ، فخرجت العساكر من القاهرة ، وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ، فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يوما ، وكانت صعبة شديدة ،

٣٩٦

واتهم في هذه النوبة عدّة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم ، وقبض عليهم الملك الناصر ، وقتلهم.

وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه ، تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر ، خشية من تمكن الغزو بها ، فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية ، فأمدّوهم بالأموال والسلاح ، وبعثوا إليهم بعدّة وافرة ، فساروا بالدبابات والمجانيق ، ونزلوا على دمياط في صفر ، وهم في العدّة التي ذكرنا من المراكب ، وأحاطوا بها بحرا وبرّا ، فبعث السلطان بابن أخيه تقيّ الدين عمرو ، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط ، وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح ، واشتدّ الأمر على أهل دمياط ، وهم ثابتون على محاربة الفرنج.

فسيّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده ، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه ، فجهز إليه العساكر شيئا بعد شيء ، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل ، وأغار عليها واستباحها ، فبلغ ذلك الفرنج ، وهم على دمياط ، فخافوا على بلادهم من نور الدين ، أن يتمكن منها ، فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعد ما غرق لهم نحو الثلاثمائة مركب ، وقلّت رجالهم بفناء وقع فيهم ، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها ، وكان صلاح الدين يقول : ما رأيت أكرم من العاضد! أرسل إليّ مدّة مقام الفرنج عل دمياط : ألف ألف دينار سوى ما أرسله إليّ من الثياب وغيرها.

وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين ، وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها ، ويدافع عن الدخول من بين البرجين ، ورمّ شعث سور المدينة ، وسدّت ثلمة ، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين ، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار ، واعتبر السور ، فكان قياسه : أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا.

وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان ، بقطع أشجار بساتين دمياط ، وحفر خندقها ، وعمل جسر عند سلسلة البرج.

وفي سنة خمس عشرة وستمائة ، كانت واقعة دمياط العظمى ، وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة ، تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى (١) : مقرّ البابا ، ومن غيرها من بلاد الفرنج ، وساروا إلى مدينة عكا ، فاجتمع بها عدّة من ملوك الفرنج ، وتعاقدوا على قصد القدس ، وأخذه من أيدي المسلمين ، فصاروا بعكا في جمع عظيم.

__________________

(١) رومية الكبرى : هي مدينة رئاسة الروم وعلمهم واسمها رومانس وهي من عجائب الدنيا بناء وعظمة بينها وبين القسطنطينية مسيرة خمسين يوما. الأعلام ج ٣ / ١٠٠.

٣٩٧

وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب ، فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة ، فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة ، فسار العادل إلى بيسان ، فقصده الفرنج ، فخافهم لكثرتهم ، وقلة عسكره ، فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق ، وكان أهل بيسان وما حولها ، قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك ، فأقاموا في أماكنهم ، وما هو إلا أن سار السلطان ، وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس ، ونهبوا البلاد ، فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة ، وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك ، وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي ، وهلك من المسلمين خلق كثير ، فاستراح الفرنج بالمرج أياما ، ثم عادوا ثانيا ونهبوا صيدا والشقيف ، وعادوا إلى مرج عكا ، فأقاموا به ، وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر ، والملك العادل مقيم بمرج الصفر ، وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها ، والوصول إلى بيت المقدس ، فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يوما ، ثم عادوا إلى عكا ، وعزموا على قصد الديار المصرية ، فركبوا بجموعهم البحر ، وساروا إلى دمياط في صفر ، فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران ، وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل ، فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ ، وحفروا على عسكرهم خندقا ، وأقاموا عليه سورا وشرعوا في قتال برج دمياط ، فإنه كان برجا منيعا فيه سلاسل من حديد غلاظ ، تمدّ على النيل ، لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل ، وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر ، مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف ، فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد ، فيصب في البحر الملح ، والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر ، ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين ، فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس ، وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط ، فتصب في البحر الملح هناك ، وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ ، وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط ، يحيط بها ماء النيل والبحر الملح.

وفي مدّة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ ، عملوا الآلات والمراسي ، وأقاموا أبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه ، فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر ، وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلة ، فتحيل الفرنج عليه ، وعملوا برجا من الصواري على بسطة كبيرة ، وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه ، وقاتلوا من به حتى أخذوه.

فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل ، وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر ، فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر ، بخبر نزول الفرنج

٣٩٨

لخمس خلون منه ، وأمر والي الغربية بجمع العربان ، وسار في جمع كبير ، وخرج الأسطول ، فأقام تحت دمياط ، ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية ، قرب دمياط ، وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر ، والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل ، واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط ، واشتدّ خوفه ، فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض ، ومات في سابع جمادى الآخرة ، فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة ، وجعل عنده خادما وطبيبا راكبا إلى جانب المحفة ، والشر بدار يصلح الشراب ، ويحمله إلى الخادم فيشربه ، ويوهم الناس ، أنّ السلطان شربه ، إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق ، وصارت إليها الخزائن والبيوتات ، فأعلن بموته.

وتسلم ابنه الملك المعظم ، جميع ما كان معه ، ودفنه بالقلعة ، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق ، وبلغ الملك الكامل موت أبيه ، وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط ، فاستقلّ بمملكة ديار مصر ، واشتدّ الفرنج ، وألحوا في القتال ، حتى استولوا على برج السلسلة ، وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل ، ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرا عظيما ، لمنع الفرنج من عبور النيل ، فقاتلت الفرنج عليه قتالا شديدا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر ، ما ينيف على سبعين ألف دينار ، وكان الكامل يركب في كل يوم عدّة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور ، وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج ، فأمر الملك الكامل ، أن يفرّق عدّة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل ، فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما ، فحفروه وعمقوا حفره ، وأجروا فيه المال إلى البحر الملح ، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط ، مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك ، فلما صاروا في بورة جاؤوه ، وقاتلوه في الماء ، وزحفوا إليه عدّة مرار ، فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأنّ الميرة والإمداد متصلة إليهم ، والنيل يحجز بينهم بين الفرنج ، وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر ، والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة ، بحيث امتنعوا من الرقاد خوفا من غاراتهم ، فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارا ، ويأخذون الخيم بمن فيها ، أكمن الفرنج لهم عدّة كمناء ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وأدرك الناس الشتاء ، وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم ، فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال ، وكادوا أن يملكوا ، فبعث الله ريحا قطعت مراسي مرمة الفرنج.

وكانت من عجائب الدنيا ، فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد ، لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع ، فكسروها ، فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا ، وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولا يستنجد أهل

٣٩٩

الإسلام لنصرة المسلمين ، ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر.

فساروا في شوّال وأتته النجدات ، من حماه وحلب ، وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ : المعروف بابن المشطوب (١) في الملك الكامل عند ما بلغه موت الملك العادل ، وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه ، وكان أميرا كبيرا مقدّما عظيما في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك ، معدودا بينهم ، مثل واحد منهم ، وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعا أبيّ النفس تهابه الملوك ، وله الوقائع المشهورة ، وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف ، فاتفق مع جماعة من الجند والأكراد على خلع الملك الكامل ، وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم ، ووافقه الأمير عز الدين الحميدي ، والأمير أسد الدين الهكاريّ ، والأمير مجاهد الدين ، وجماعة من الأمراء ، فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم ، وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز ، فلما رأوه انفضوا ، فخشي على نفسه فخرج ، فاتفق وصول الصاحب ، صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل ، فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه ، فتلقاه وأكرمه ، وذكر له ما هو فيه ، فضمن له تحصيل المال ، فلما كان في الليل ركب ، الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح ، فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان ، فركب كل منهم هواه ، ولم يعطف الأخ على أخيه ، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ، ولحقوا بالسلطان.

فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط ، ونزلوا البرّ الشرقيّ ، يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع ، وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين ، وكان شيئا لا يحيط به الوصف ، وداخل السلطان وهم عظيم ، وكاد أن يفارق البلاد ، فإنه تخيل من جميع من معه ، واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها ، وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى : أغاث المسلمين ، وثبت السلطان ، وواقاه أخوه الملك المعظم ، بأشموم طناح ، فاشتدّ به أزره ، وقوي جأشه ، وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب ، فوعده بإزاحة ما يكره ، ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب ، واستدعاه للركوب معه ومسايرته ، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب ، فلم يمهله ، وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ.

ثم قال له : يا عماد الدين ، هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا ، وأعطاه نفقة ، وسلمه إلى جماعة من أصحابه ، يثق بهم ، وقال لهم : أخرجوه من الرمل ، ولا تفارقوه حتى يخرج

__________________

(١) المشطوب : علي بن أحمد الهكاري أمير له مواقف بالحروب الصليبية حضر مع أسد الدين شيركوه في فتح مصر ولازم صلاح الدين الأيوبي وكان يلقب بالأمير الكبير توفي سنة ٥٨٨ ه‍. الأعلام ج ٤ / ٢٥٦.

٤٠٠