كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

مصر خرّبوا هناك قرى عديدة ، وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانا لحاجتهم إلى المعادن ، وكذلك الروم لما أن ملكوا مصر ، ولهم في المعادن آثار مشهورة ، وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر.

قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم : وتجمع لعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، في انصرافه من النوبة على شاطىء النيل البجة ، فسأل عن شأنهم؟ فأخبر : أن ليس لهم ملك يرجعون إليه ، فهان عليه أمرهم ، وتركهم ، فلم يكن لهم عقد ولا صلح ، وكان أوّل من هادنهم عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ ، ويذكر أنه وجد في كتاب ابن الحبحاب ، لهم ثلثمائة بكر في كل عام حين ينزلون الريف مجتازين تجارا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلما ، ولا ذميّا ، فإن قتلاه فلا عهد لهم ، ولا يؤوا عبيد المسلمين ، وأن يردّوا آبقيهم إذا وقعوا إليهم.

ويقال : إنهم كانوا يؤاخذون بهذا وبكل شاة أخذها البجاوي فعليه أربعة دنانير ، وللبقرة عشرة ، وكان وكيلهم مقيما بالريف رهينة بيد المسلمين ، ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم ، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاما ضعيفا ، وهم شوكة القوم ، ووجوههم ، وهم مما يلي مصر من أوّل حدّهم إلى العلاقي ، وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك ، ومنهم جنس آخر يعرفون بالرنافج هم أكثر عددا من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب ، قوم من الرنافج في حملته ، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديما أظهر عليهم ، ثم كثرت أذيتهم على المسلمين ، وكان ولاة أسوان من العراق ، فرفع إلى أمير المؤمنين المأمون خبرهم ، فأخرج إليهم عبد الله بن الجهم ، فكانت له معهم وقائع ، ثم وادعهم ، وكتب بينه وبين ركنون رئيسهم الكبير الذي يكون بقريتهم ، هجر المقدّم ذكرها كتابا نسخته : هذا كتاب ، كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله في شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة ومائتين ، لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان ، إنك سألتني وطلبت إليّ أن أؤمنك وأهل بلدك من البجة ، وأعقد لك ولهم أمانا عليّ ، وعلى جميع المسلمين ، فأجبتك إلى أن عقدت لك ، وعلى جميع المسلمين أمانا ما استقمت ، واستقاموا على ما أعطيتني ، وشرطت لي في كتابي هذا ، وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حدّ أسوان من أرض مصر إلى حدّ ما بين دهلك (١) وباضع (٢) ملكا للمأمون عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أعزه الله تعالى ، وأنت وجميع أهل بلدك عبيد لأمير المؤمنين إلا أنك تكون في

__________________

(١) دهلك : اسم أعجمي معرب وهي جزيرة في بحر اليمن بين اليمن والحبشة.

(٢) باضع : جزيرة في بحر اليمن وهي اليوم خراب. معجم البلدان ج ١ / ٣٢٣.

٣٦١

بلدك ملكا على ما أنت عليه في البجة ، وعلى أن تؤدّي إليه الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة ، وذلك مائة من الإبل ، أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة في بيت المال ، والخيار في ذلك لأمير المؤمنين ولولاته ، وليس لك أن تخرم شيئا عليك من الخراج ، وعلى أنّ كل أحد منكم إن ذكر محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به ، أو قتل أحدا من المسلمين حرّا أو عبدا ، فقد برئت منه الذمّة ، ذمّة الله وذمّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذمّة أمير المؤمنين ، أعزه الله ، وذمة جماعة المسلمين ، وحلّ دمه كما يحلّ دم أهل الحرب وذراريهم ، وعلى أنّ أحدا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال أو دلّه على عورة من عورات المسلمين ، أو أثر لعزتهم فقد نقض ذمّة عهده وحلّ دمه ، وعلى أنّ أحدا منكم إن قتل أحدا من المسلمين عمدا أو سهوا أو خطأ حرّا أو عبدا أو أحدا من أهل ذمة المسلمين أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمّتهم ما لا ببلد البجة ، أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة أو في شيء من البلدان برّا أو بحرا ، فعليه في قتل المسلم عشر ديات ، وفي قتل العبد المسلم عشر قيم ، وفي قتل الذميّ عشر ديات من دياتهم ، وفي كل مال أصبتموه للمسلمين ، وأهل الذمّة عشرة أضعافه ، وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا أو مقيما أو مجتازا أو حاجا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم ، ولا تؤوا أحدا من آبقي المسلمين ، فإن أتاكم آت فعليكم أن تردّوه إلى المسلمين ، وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت في بلادكم بلا مؤنة تلزمهم في ذلك ، وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحا ، ولا تدخلون المدائن والقرى بحال ، ولا تمنعوا أحدا من المسلمين الدخول في بلادكم والتجارة فيها برّا ولا بحرا ، ولا تخيفوا السبيل ، ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين ، ولا أهل الذمّة ، ولا تسرقوا لمسلم ولا ذميّ مالا وعلى أن لا تهدموا شيئا من المساجد التي ابتناها المسلمون ، بصيحة وهجر ، وسائر بلادكم طولا وعرضا فإن فعلتم ذلك ، فلا عهد لكم ولا ذمّة.

وعلى أن كنون بن عبد العزيز ، يقيم بريف صعيد مصر وكيلا يفي للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج ، وردّ ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال ، وعلى أن أحدا من البجة لا يعترض حدّ القصر إلى قرية يقال لها قبان ، من بلد النوبة حدّا لا عمدة عقد ، عبد الله بن الجهم ، مولى أمير المؤمنين لكنون بن عبد العزيز ، كبير البجة الأمان على ما سمينا وشرطنا في كتابنا هذا ، وعلى أن يوافي به أمير المؤمنين فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد له ، ولا ذمّة ، وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة ، لقبض صدقات من أسلم من البجة ، وعلى كنون الوفاء بما شرط ، لعبد الله بن الجهم ، وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق.

ولكنون بن عبد العزيز ، ولجميع البجة : عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين ، وذمّة الأمير ، أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد ، وذمّة عبد الله بن الجهم ، وذمّة المسلمين

٣٦٢

بالوفاء ، بما أعطاه عبد الله بن الجهم ، ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه ، فإن غيّر كنون ، أو بدّل أحد من البجة ، فذمّة الله جل اسمه ، وذمّة أمير المؤمنين ، وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد ، وذمّة عبد الله بن الجهم ، وذمّة المسلمين بريئة منهم ، وترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفا حرفا ، زكريا بن صالح المخزوميّ من سكان جدّة وعبد الله بن إسماعيل القرشيّ ، ثم نسق جماعة من شهود أسوان ، فأقام البجة على ذلك برهة ، ثم عادوا إلى غزو الريف من صعيد مصر ، وكثر الضجيج منهم إلى أمير المؤمنين ، جعفر المتوكل على الله ، فندب لحربهم ، محمد بن عبد الله القميّ ، فسأل أن يختار من الرجال ، من أحبّ ، ولم يرغب إلى الكثرة لصعوبة المسالك.

فخرج إليهم من مصر في عدّة قليلة ، ورجال منتخبة ، وسارت المراكب في البحر ، فاجتمع البجة لهم في عدد كثير عظيم قد ركبوا الإبل ، فهاب المسلمون ذلك ، فشغلهم بكتاب طويل كتبه في طومار ، ولفه بثوب فاجتمعوا لقراءته ، فحمل عليهم ، وفي أعناق الخيل الأجراس ، فنفرت الجمال بالبجة ، ولم تثبت لصلصلة الأجراس ، فركب المسلمون أقفيتهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل كبيرهم ، فقام من بعده ، ابن أخيه ، وبعث يطلب الهدنة ، فصالحهم ، على أن يطأ بساط أمير المؤمنين ، فسار إلى بغداد ، وقدم على المتوكل ، بسرّمن رأى في سنة إحدى وأربعين ومائتين ، فصولح على أداء الإداوة والبقط ، واشترط عليهم أن لا يمنعوا المسلمين من العمل في المعدن.

وأقام القميّ بأسوان مدّة ، وترك في خزائنها ما كان معه من السلاح وآلة الغزو ، فلم تزل الولاة تأخذ منه حتى لم يبقوا منه شيئا ، فلما كثر المسلمون في المعادن ، واختلطوا بالبجة ، قلّ شرهم ، وظهر التبر لكثرة طلابه ، وتسامع الناس به فوفدوا من البلدان ، وقدم عليهم أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ ، بعد محاربته النوبة في سنة خمس وخمسين ومائتين ، ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب ، فكثرت بهم العمارة في البجة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان ، ستين ألف راحلة ، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب ، ومالت البجة إلى ربيعة وتروّحوا إليهم.

وقيل : إنّ كهان البجة قبل إسلام من أسلم منهم ذكرت ، عن معبودهم الطاعة لربيعة ، ولكنون معا ، فهم على ذلك ، فلما قتل العمريّ ، واستولت ربيعة على الجزائر ، والاهم على ذلك البجة ، فأخرجت من خالفها من العرب ، وتصاهروا إلى رؤساء البجة ، وبذلك كف ضررهم عن المسلمين.

والبجة الداخلة في صحراء بلد علوة مما يلي البحر الملح إلى أوّل الحبشة ، ورجالهم في الظعن والمواشي واتباع الرعي والمعيشة ، والمراكب والسلاح ، كحال الحدارب ، إلا أن الحدارب أشجع وأهدى من الداخلة على كفرهم من عبادة الشيطان ، والاقتداء بكهانهم ،

٣٦٣

ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها ، فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرّى ، ودخل إلى القبة مستدبرا ، ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع ، يقول : الشيطان يقرئكم السلام ، ويقول لكم : ارحلوا عن هذه الحلة ، فإنّ الرهط الفلانيّ يقع بكم ، وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا ، فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا ، والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي ، والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ ، والغنم التي من صفتها كذا ، ونحو هذا القول ، فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك ، فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر ، ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل ، فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد ، فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد ، وكذلك سيره ويتصبب عرقا ، والخيمة فارغة لا شيء فيها ، وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب ، ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه.

قال مؤرخ النوبة : ومنه لخصت ما تقدّم ذكره ، وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : ذكر البجة والكجة ويقول عنهم : شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، فالبجة كذلك ، وأما الكجة ، فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة.

وقال أبو الحسن المسعودي : فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر ، وتشعبوا فرقا وملّكوا عليهم ملكا ، وفي أرضهم معادن الذهب ، وهو التبر ومعادن الزمرّذ ، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة ، فيغزون ويسبون ، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشدّ من البجة إلى أن قوي الإسلام ، وظهر وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب ، وبلاد العلاقي وعيذاب ، وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان ، فاشتدّت شوكتهم ، وتزوّجوا من البجة ، فقويت البجة ، ثم صاهرها قوم من ربيعة ، فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها ، وجاورها من قحطان وغيرهم ، ممن سكن تلك الديار.

وصاحب المعدن في وقتنا هذا ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر ، واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية ، وهم الحدارب ، وهم مسلمون ممن بين سائر البجة ، والداخلة من البجة ، كفار يعبدون صنما لهم ، والبجة المالكة لمعدن الزمرّذ يتصل ديارها بالعلاقي ، وهو معدن الذهب ، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان ، وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل ، وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض ، وأهلها طائفة من البجة تسمى : الخاسة ، وهم مسلمون ولهم بها ملك.

٣٦٤

وقال الهمدانيّ : نكح كنعان بن حام أرتيب بنت شاويل بن ترس بن يافث ، فولدت له حقا ، والأساود ، ونوبة ، وقران ، والزنج ، والزغاوة ، وأجناس السودان ، وقيل : البجة من ولد حام بن نوح ، وقيل : من ولد كوش بن كنعان بن حام ، وقيل : البجة قبيلة من الحبش أصحاب أخبية من شعر ، وألوانهم أشدّ سوادا من الحبشة يتزيون بزيّ العرب ، وليس لهم مدن ولا قرى ولا مزارع ، ومعيشتهم مما ينقل إليهم من أرض الحبشة ، وأرض مصر والنوبة.

وكانت البجة تعبد الأصنام ، ثم أسلموا في إمارة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وفيهم كرم وسماحة ، وهم قبائل وأفخاذ لكل فخذ رئيس ، وهم أهل نجعة وطعامهم اللحم واللبن فقط.

ذكر مدينة أسوان (١)

أسوان من قولهم : أسى الرجل ، يأسى أسى : إذا حزن ، ورجل أسيان وأسوان : أي حزين ، وأسوان في آخر بلاد الصعيد ، وهي ثغر من ثغور الإقليم يفصل بين النوبة وأرض مصر ، وكانت كثيرة الحنطة ، وغيرها من الحبوب والفواكه والخضراوات والبقول ، وكانت كثيرة الحيوان من الإبل والبقر والغنم ، ولحمانها هناك غاية في الطيب والسمن ، وكانت أسعارها أبدا رخيصة ، وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة ، ولا يتصل بأسوان من شرقها بلد إسلاميّ ، وفي جنوبها جبل به معدن الزمرّذ ، وهو في برّية منقطعة عن العمارة ، وعلى خمسة عشر يوما من أسوان ، معدن الذهب ، ويتصل بأسوان من غربيها : الواحات ، ويسلك من أسوان إلى عيذاب ، ويتوصل من عيذاب إلى الحجاز وإلى اليمن والهند.

قال المسعوديّ : ومدينة أسوان يسكنها خلق من العرب من قحطان ، ونزار بن ربيعة ومضر ، وخلق كثير من قريش ، وأكثرهم من الحجاز والبلد كثير النخل خصيب ، كثير الخير تودع النواة في الأرض فتنبت نخلة ، ويؤكل من ثمرها بعد سنتين ، ولمن بأسوان ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدّون خراجها إلى ملك النوبة ، وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الإسلام في دولة بني أمية وبني العباس.

وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم ، يوفد وفدهم إلى الفسطاط ، ذكروا عنه أنّ أناسا من أهل مملكته وعبيده ، باعوا ضياعا من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم ، وإنما تملكهم على هذه

__________________

(١) أسوان : مدينة كبيرة وكورة في آخر صعيد مصر وأول بلاد النوبة على النيل في شرقيه. البلدان ج ١ / ١٩١.

٣٦٥

الضياع تملك العبيد العامرين فيها ، فجعل المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ، ومن بها من أهل العلم والشيوخ ، وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم ، فاحتالوا على ملك النوبة بأن يقدّموا إلى من ابتيع منهم من النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقرّوا لملكهم بالعبودية ، وأن يقولوا سبيلنا معاشر النوبة ، سبيلكم مع ملككم ، يجب علينا طاعته ، وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيدا لملككم وأموالكم له ، فنحن كذلك ، فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك ، أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه ، مما أوقفوهم عليه من هذا المعنى ، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت.

وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس ، وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين من وصفنا ، أحرار غير عبيد ، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان وهي بلاد مريس. قال : وأما النوبة ، فافترقت فرقتين ، فرقة في شرق النيل وغربه ، فأناخت على شاطئه ، واتصلت ديارها بديار القبط من أرض صعيد مصر ، واتسعت مساكن النوبة على شاطىء النيل مصعدة ، ولحقوا بقريب من أعاليه ، وبنوا دار مملكة ، وهي مدينة عظيمة تدعى : دنقلة ، والفرقة الأخرى من النوبة ، يقال لها : علوة وبنوا مدينة عظيمة سموها : سرقته ، والبلد المتصل مملكته بأرض أسوان يعرف بمريس ، وإليه تضاف الريح المريسية ، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من أرض الصعيد ، ومدينة أسوان. قال : وفي الجانب الشرقيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها. فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ، ومنها حجارة الطواحين ، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ، ومنها العمد التي بالإسكندرية. وفي ذي الحجة سنة أربع وأربعين وثلثمائة ، أغار ملك النوبة على أسوان ، وقتل جمعا من المسلمين ، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل ، أو نوجور بن الإخشيد في محرّم سنة خمس وأربعين ، فساروا في البرّ والبحر ، وبعثوا بعدّة من النوبة أسروهم ، فضربت أعناقهم ، بعد ما أوقع بملك النوبة ، وسار الخازن ، حتى فتح مدينة أبريم وسبى أهلها ، وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيرا ، وعدّة رؤوس. وقال القاضي الفاضل : إنّ متحصل ثغر أسوان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بلغ ، خمسة وعشرين ألف دينار. وقال الكمال جعفر الأدفوي : وكان بأسوان ثمانون رسولا من رسل الشرع ، وتحصل من أسوان في سنة واحدة ، ثلاثون ألف أردب تمرا ، وأخبرنا من وقف على مكتوب كان فيه أربعون شريفا خاصة ، وأنّ مكتوبا آخر رأى فيه ستين شريفا دون من عداهم.

قال : ووقفت أنا ، على مكتوب فيه نحو من أربعين مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة من الهجرة.

٣٦٦

وكان بثغر أسوان ، بنو الكنز من ربيعة أمراء ممدوحون مقصودون ، صنع لهم الفاضل الشديد ، أبو الحسن بن عرام سيرة ، ذكر فيها مناقبهم ، وأسماء من مدحهم ومن ورد عليهم ، ولما أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب جيشا إلى كنز الدولة وأصحابه ترحلوا عن البلاد ، فدخلوا بيوتهم ، فوجدوا بها قصائد من مدحهم منها ، قصيدة أبي محمد الحسن بن الزبير قال فيه :

وينجده إن خانه الدهر أوسطا

أناس إذا ما أنجد الذل اتهموا

أجاروا فما تحت الكواكب خائف

وجادوا فما فوق البسيطة معدم

وأنه أجازه عليها بألف دينار ، ووقف عليه ساقية تساوي ألف دينار ، وكان بأسوان رجال من العسكر مستعدون بالأسلحة لحفظ الثغر من هجوم النوبة والسودان عليه ، فلما زالت الدولة الفاطمية أهمل ذلك ، فسار ملك النوبة في عشرة آلاف ، ونزله تجاه أسوان في جزيرة وأسر من كان فيها من المسلمين ، ثم تلاشى بعد ذلك أمر الثغر ، واستولى عليه أولاد الكنز من بعد سنة تسعين وسبعمائة ، فأفسدوا فسادا كبيرا ، وكانت لهم مع ولاة أسوان عدّة حروب إلى أن كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة ، وخرب إقليم الصعيد ، فارتفعت يد السنة عن ثغر أسوان ، ولم يبق للسلطان في مدينة أسوان وال ، واتضع حاله عدّة سنين ، ثم زحفتّ هوّارة في محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة إلى أسوان ، وحاربت أولاد الكنز وهزموهم ، وقتلوا كثيرا من الناس ، وسبوا ما هناك من النساء والأولاد ، واسترقوا الجميع وهدموا سور مدينة أسوان ، ومضوا بالسبي ، وقد تركوها خرابا يبابا لا سكن بها ، فاستمرت على ذلك بعد ما كانت بحيث يقول عنها عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة : أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ ، لما غلب على المعدن كتب إلى أسوان يسأل التجار الخروج إليه بالجهاز من طريق المعدن ، فخرج إليه رجل يعرف بعثمان بن حيخلة التميميّ في ألف راحلة فيها الجهاز والبرّ.

وذكر أنّ العمريّ لما عاد إلى بلاد البجة بعد حروبه للنوبة ، كثرت العمارة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان ، ستين ألف راحلة ، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب ، قال : ومما شاهده جماعة من شيوخنا الثقات بأسوان بقرية تدعى أساشي ، هي من أسوان على مرحلتين ونصف ، أنهم رأوا شرقها من جانب النيل قرية بسور ، وخارج بابها جميزة وناس يدخلون ويخرجون ، فإذا عبروا إلى الموضع لم يجدوا شيئا ، وهذا يكون في الشتاء دون الصيف قبل طلوع الشمس ، والناس مجمعون على رؤيتها ، وصحة هذا الخبر ، وكان بها أنواع من التمر وأنواع من الرطب منها نوع من الرطب ، أشدّ ما يكون من خضرة السلق.

وأمر هارون الرشيد ، أن يجمع له من ألوان تمر أسوان من كل صنف ، تمرة واحدة ،

٣٦٧

فجمع له ويبة ، ولا يعرف في الدنيا بسر يتتمر قبل أن يصير رطبا إلا بأسوان.

ذكر بلاق (١)

بلاق : أجلّ حصن للمسلمين ، وهي جزيرة تقرب من الجنادل ، محيط بها النيل فيها بلد كبير يسكنه خلق كثير من الناس وبها نخل عظيم ، ومنبر في جامع وإليها تنتهي سفن النوبة ، وسفن المسلمين من أسوان ، وبينها وبين القرية التي تعرف بالقصر ، وهي أوّل بلد النوبة ميل واحد ، وبينها وبين أسوان أربعة أميال ، ومن أسوان إلى هذا الموضع ، جنادل في البحر ، لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ، ودلالة من يخبر ذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك ، وبالقصر مسلحة وباب إلى بلد النوبة.

ذكر حائط العجوز (٢)

هذا الحائط ، كان حصنا لأرض مصر ، يحدق بجميعها ، وكان فيه محارس ومسالح ، ومن ورائه خليج يجري فيه الماء ، معقود عليه القناطر ، عملته دلوكة بنت زبا ، وقد وهي وتلاشى ، ولم يبق منه إلا يسير في شط النيل الشرقيّ ينتهي إلى أسوان.

قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر : فبقيت مصر بعد غرقهم ، يعني فرعون وجنوده ، وليس فيها من أشراف أهلها أحد ، ولم يبق بها إلا العبيد ، والأجراء ، والنساء ، فأعظم أشراف من بمصر من النساء ، أن يولين منهم أحدا ، وأجمع رأيهنّ ، أن يولين امرأة منهن يقال لها : دلوكة بنت زبا ، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب ، وكانت في شرف منهنّ وموضع ، وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة ، فملكوها ، فخافت أن يتناولها ملوك الأرض ، فجمعت نساء الأشراف فقالت لهنّ : إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد ، ولا يمدّ عينه إليها ، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا ، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم ، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا ، فأضع عليه المحارس من كل ناحية ، فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس ، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها ، المزارع والمدائن والقرى ، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء ، وأقامت القناطر والترع ، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال ، محرس ومسلحة ، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل ، وجعلت في كل محرس رجالا ، وأجرت عليهم الأرزاق ، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس ، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس ، فأتاهم الخبر من أيّ جهة كانت في ساعة واحدة ، فنظروا في ذلك ، فمنعت

__________________

(١) بلاق : بلد في آخر عمل الصعيد وأول بلاد النوبة كالحد بينهما. البلدان ج ١ / ٤٧٨.

(٢) حائط العجوز : بمصر على شاطىء النيل قيل بنته عجوز ملكت مصر اسمها دلوكة بنت زبا كي تحافظ على ابنها وكان مطلسما. وقيل غير ذلك. البلدان ج ٢ / ٢٠٩.

٣٦٨

بذلك مصر ، ممن أرادها ، وفرغت من بنائه في ستة أشهر ، وهو الجدار الذي يقال له : جدار العجوز بمصر ، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كبيرة ، والله أعلم.

ذكر البقط

البقط : ما يقبض من سبي النوبة في كل عام ، ويحمل إلى مصر ، ضريبة عليهم ، فإن كانت هذه الكلمة عربية ، فهي إمّا من قولهم في الأرض بقط من بقل وعشب ، أي نبذ من مرعى ، فيكون معناه على هذا ، نبذة من المال أو يكون من قولهم ، إنّ في بني تميم ، بقطا من ربيعة أي فرقة أو قطعة ، فيكون معناه على هذا ، فرقة من المال ، أو قطعة منه ، ومنه بقط الأرض ، فرقة منها ، وبقط الشيء : فرّقه.

والبقط : أن تعطي الحبة على الثلث أو الربع ، والبقط أيضا : ما سقط من التمر إذا قطع ، فأخطأ المخرف ، فيكون معناه على هذا بعض ما في أيدي النوبة ، وكان يؤخذ منهم في قرية يقال لها : القصر ، مسافتها من أسوان خمسة أميال فيما بين بلد بلاق وبلد النوبة ، وكان القصر فرضة لقوص ، وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص ، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين ، وقيل : سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفا ، فمكث بها زمانا ، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه.

فلما مات عمرو رضي‌الله‌عنه ، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد ، وكثرت سراياهم إلى الصعيد ، فأخربوا ، وأفسدوا ، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي‌الله‌عنه ، سنة إحدى وثلاثين ، وحصرهم بمدينة دنقلة حصارا شديدا ، ورماهم بالمنجنيق ، ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر ، فبهرهم ذلك ، وطلب ملكهم واسمه : قليدوروث الصلح ، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعا ، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه ، ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأسا في كل سنة ، ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده ، وكتب لهم كتابا نسخته بعد البسملة.

عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته ، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد ، جعل لهم أمانا وهدنة جارية بينهم ، وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر ، وغيرهم من المسلمين ، وأهل الذمّة ، إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن لا نحاربكم ، ولا ننصب لكم حربا ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه ، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه ، وعليكم حفظ من نزل بلدكم ، أو يطرقه من مسلم أو معاهد ، حتى يخرج عنكم ، وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين ، حتى تردّوه إلى أرض

٣٦٩

الإسلام ، ولا تستولوا عليه ، ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه ، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم ، ولا تمنعوا منه مصليا ، وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته ، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا ، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب ، يكون فيها ذكران وإناث ، ليس فيها شيخ هرم ، ولا عجوز ، ولا طفل لم يبلغ الحلم ، تدفعون ذلك إلى والي أسوان ، وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم ، من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان ، فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلما أو معاهدا ، أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئا من الثلاثمائة رأس والستين رأسا ، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح ، وذمّة الحواريين ، وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم ، وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين.

وكانت النوبة دفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكثهم ، وأهدوا إلى عمرو أربعين رأسا من الرقيق ، فلم يقبلها ، وردّ الهدية إلى كبير البقط ويقال له : سمقوس ، فاشترى له بذلك جهازا وخمرا ، ووجهه إليه ، وبعث إليهم عبد الله بن سعد ، ما وعدهم به من الحبوب ، قمحا وشعيرا وعدسا وثيابا وخيلا ، ثم تطاول الرسم على ذلك ، فصار رسما يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة ، وصارت الأربعون رأسا التي أهديت إلى عمرو يأخذها والي مصر.

وعن أبي خليفة حميد بن هشام البحتريّ ، أن الذي صولح عليه النوبة ، ثلثمائة وستون رأسا لفيء المسلمين ، ولصاحب مصر أربعون رأسا ويدفع إليهم ألف أردب قمحا ، ولرسله ثلثمائة أردب ، ومن الشعير كذلك ، ومن الخمر ألف اقتيز للمتملك ، ولرسله ثلثمائة اقتيز ، وفرسين من نتاج خيل الإمارة ، ومن أصناف الثياب مائة ثوب ، ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة ، ومن البقطرية ، ثمانية أثواب ، ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك ، ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب ، ومن أحاص عشرة أثواب ، وهي ثياب غلاظ.

قال أبو خليفة : ليس في كتاب عبد الله بن وهب ولا في كتاب الواقديّ تسمية ينتهي إليها ، وإنما أخذت التسمية من أبي زكريا ، قال أبو زكريا : سمعت والدي عمرو بن صالح يقول هذا الخبر ، فحفظت منه ، ما وقفت عليه ، وقال : حضرت مجلس الأمير ، عبد الله بن طاهر ، وهو على مصر ، فقال : أنت عثمان بن صالح ، الذي وجهنا إليك في كتاب بقط النوبة ، قلت : نعم ، فأقبل عليّ محفوظ بن سليمان ، فقال : ما أعجب أمر هذه البلدة وجهنا

٣٧٠

إليهم نطلب علما من علومهم ، وإلى هذا الشيخ ، فما شقانا أحد منهم ، فقلت : أصلح الله الأمير ، إنّ الذي طلبت من خبر النوبة عندي ، قد حفظه شيوخ عن الشيوخ الذين حضروا هناك ، والهدنة والصلح الذي جرى بين عبد الله بن سعد ، وبين النوبة ، ثم حدّثته عن أخبارهم ، كما سمعت فأنكر عطية الخمر ، فقلت : قد أنكرها عبد العزيز بن مروان ، وكان هذا المجلس بفسطاط مصر سنة إحدى عشرة ومائتين ، بعد أن تم الصلح بينه وبين عبد الله بن السريّ بن الحكم التميميّ الأمير كان قبله ، قال عثمان بن صالح ، فوجه الأمير إلى الديوان بظهر المسجد الجامع بمصر ، فاستخرج منه خبر النوبة ، فوجده كما ذكرت ، فسرّه ذلك.

وعن مالك بن أنس : أنه كان يرى أنّ أرض النوبة إلى حدّ علوة صلح ، وكان لا يجيز شراء رقيقهم ، وكان أصحابه مثل عبد الله بن عبد الحكم ، وعبد الله بن وهب ، والليث بن سعد ، ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم من فقهاء مصر ، يرون خلاف ذلك.

قال الليث بن سعد : نحن أعرف بأرض النوبة من الإمام مالك بن أنس ، إنما صولحوا على أن لا تغزوهم ، ولا تمنع منهم عدوّا فما استرقه متملكهم ، أو غزا بعضهم بعضا ، فشراؤه جائز ، وما استرقه بغاة المسلمين وسرّاقهم ، فغير جائز ، وكان عند جماعة منهم جوار نوبيات لفرشهم ، ولم يزل النوبة يؤدّون البقط في كل سنة ، ويدفع إليهم ما تقدّم ذكره إلى أيام أمير المؤمنين المعتصم بالله ، أبي إسحاق بن الرشيد ، وكبير النوبة ، يومئذ زكرياء بن بجنس ، وكانت النوبة ، ربما عجزت عن دفع البقط ، فشنت الغارة عليهم ولاة المسلمين القريبون من بلادهم ، ويمنع من إخراج الجهاز إليهم ، فأنكر فيرقي ولد كبيرهم زكرياء على أبيه ، بذله الطاعة لغيره ، واستعجزه فيما يدفع ، فقال له أبوه فما تشاء ، قال : عصيانهم ومحاربتهم ، قال أبوه : هذا شيء رآه السلف من آبائنا صوابا وأخشى أن يفضي هذا الأمر إليك فتقدم على محاربة المسلمين ، غير أني أوجهك إلى ملكهم رسولا ، فأنت ترى حالنا وحالهم فإن رأيت لنا بهم طاقة حاربناهم على خبرة وإلا سألته الإحسان إلينا ، فشخص فيرقى إلى بغداد ، وكانت البلدان تزين له ويسير على المدن ، وانحدر بانحداره رئيس البجة بأسبابه ، ولقيا المعتصم ، فنظروا إلى ما بهرهما من حال العراق في كثرة الجيوش ، وعظم العمارة مع ما شاهداه في طريقهما ، فقرّب المعتصم فيرقي وأدناه وأحسن إليه إحسانا تامّا ، وقبل هديته ، وكافأه بأضعافها ، وقال له : تمنّ ما شئت ، فسأله في إطلاق المحبوسين فأجابه إلى ذلك ، وكبر في عين المعتصم ووهب له الدار التي نزلها بالعراق وأمر أن يشتري له في كل منزل من طريقه دار تكون لرسلهم ، فإنه امتنع من دخول دار لأحد في طريقه فأخذ له بمصر : دار بالجيزة ، وأخرى ببني وائل ، وأجرى لهم في ديوان مصر سبعمائة دينار وفرسا وسرجا ولجاما وسيفا محلّى وثوبا مثقلا وعمامة من الخز وقميص شرب ورداء شرب وثيابا لرسله غير محدودة عند وصول البقط إلى مصر ، ولهم حملان وخلع على المتولي لقبض

٣٧١

البقط ، وعليهم رسوم معلومة لقابض البقط والمتصرّفين معه ، وما يهدي إليهم بعد ذلك فغير محدود ، وهو عندهم هدية يجازون عليها ، ونظر المعتصم إلى ما كان يدفعه المسلمون ، فوجده أكثر من البقط ، وأنكر عطية الخمر ، وأجرى الحبوب والثياب التي تقدّم ذكرها ، وقرّر دفع البقط بعد انقضاء كل ثلاث سنين ، وكتب لهم كتابا بذلك بقي في يد النوبة ، وادّعى النوبيّ على قوم من أهل أسوان أنهم اشتروا أملاكا من عبيده ، فأمر المعتصم بالنظر في ذلك ، فأحضر والي البلد ، والمختار للحكم فيه ، التابعين من النوبة وسألاهم : عما ادّعاه صاحبهم من بيعهم ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : نحن رعية ، فزال ما ادّعاه ، وطلب أشياء غير ذلك من إزالة المسلحة المعروفة بالقصر عن موضعها إلى الحدّ الذي بينهم وبين المسلمين لأنّ المسلحة على أرضهم ، فلم يجبه إلى ذلك ، ولم يزل الرسم جاريا بدفع البقط على هذا التقرير ، ويدفع إليهم ما أجراه المعتصم إلى أن قدمت الدولة الفاطمية إلى مصر ، ذكر ذلك مؤرخ النوبة.

وقال أبو الحسن المسعوديّ : والبقط هو ما يقبض من السبي في كل سنة ، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم ، وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأسا لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين ، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا أربعون رأسا ، ولخليفته المقيم بأسوان وهو المتولي لقبض البقط عشرون رأسا وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قبض البقط ، خمسة أرؤس ولاثني عشر شاهدا عدول من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم لقبض البقط اثنا عشر رأسا من السبي على حسب ما جرى به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة.

وقال البلاذري (١) في كتاب الفتوحات : إنّ المقرّر على النوبة أربعمائة رأس يأخذون بها طعاما ، أي غلة وألزمهم أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور ، ثلثمائة وستين رأسا وزراقة.

وفي سنة أربع وسبعين وستمائة ، كثر خبث داود ، متملك النوبة ، وأقبل إلى أن قرب من مدينة أسوان ، وحرّق عدّة سواق ، بعد ما أفسد بعيذاب ، فمضى إليه والي قوص ، فلم يدركه ، وقبض على صاحب الخيل في عدّة من النوبة ، وحملهم إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري بقلعة الجبل فوسطهم وقدم سكندة ابن أخت متملك النوبة متظلما من خاله داود ، فجرّد السلطان معه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني الإستادار ، والأمير عز الدين إيبك الأفرم ، وأمير جاندار في جماعة كثيرة من العسكر ، ومن أجناد الولايات وعربان

__________________

(١) البلاذري : أحمد بن يحيى بن جابر مؤرخ جغرافي نسابة من أهل بغداد كان يجيد الفارسية أصيب في آخر عمر بذهول يشبه الجنون. له مؤلفات كثيرة منها : (فتوح البلدان) ، (أنساب الأشراف). توفي سنة ٢٧٩ ه‍ ، الأعلام ج ١ / ٢٦٧.

٣٧٢

الوجه القبليّ والزراقين والرماة ورجال الحراريق ، فساروا في أوّل شعبان من القاهرة حتى وصلوا إلى أرض النوبة ، فخرجوا إلى لقائهم على النجب بأيديهم الحراب ، وعليهم دكادك سود ، فاقتتل الفريقان قتالا كبيرا ، انهزم فيه النوبة وأغاز الأفرم على قلعة الدار ، وقتل وسبى وأوغل الفارقاني في أرض النوبة برّا وبحرا ، يقتل ويأسر ، فحاز من المواشي ما لا يعدّ ، ونزل بجزيرة ميكائيل برأس الجنادل ، ونفر المراكب من الجنادل ، ففرّ النوبة إلى الجزائر ، وكتب لقمر الدولة نائب داود متملك النوبة أمانا ، فحلف لسكندة على الطاعة ، وأحضر رجال المريس ومن فرّ ، وخاض الأفرم إلى برج في الماء وحصره ، حتى أخذه وقتل به مائتين وأسر أخا لداود ، فهرب داود والعسكر في أثره ، مدّة ثلاثة أيام وهم يقتلون ويأسرون ، حتى أذعن القوم ، وأسرت أم داود وأخته ، ولم يقدر على داود ، فتقرّر سكندة عوضه ، وقرّر على نفسه القطيعة في كل سنة ثلاث فيلة ، وثلاث زرافات ، وخمس فهود من أناثها ، ومائة نجيب أصهب ، وأربعمائة رأس من البقر المنتجة ، على أن تكون بلاد النوبة نصفين ، نصفها للسلطان ، ونصفها لعمارة البلاد ، وحفظها ما خلا بلاد الجنادل ، فإنها كلها للسلطان لقربها من أسوان ، وهي نحو الربع من بلاد النوبة ، وأن يحمل ما بها من التمر والقطن ، والحقوق الجارية بها العادة من قديم الزمان ، وأن يقوموا بالجزية ما بقوا على النصرانية ، فيدفع كل بالغ منهم في السنة دينارا عينا ، وكتب نسخة يمين بذلك ، حلف عليها الملك سكندة.

ونسخة يمين أخرى ، حلفت عليها الرعية ، وخرّب الأميران كنائس النوبة ، وأخذ ما فيها ، وقبض على نحو عشرين أميرا من أمراء النوبة ، وأفرج عمن كان بأيدي النوبة من أهل أسوان وعيذاب من المسلمين في أسرهم ، وألبس سكندة تاج الملك ، وأقعد على سرير المملكة ، بعد ما حلف والتزم أن يحمل جميع ما لداود ، ولكل من قتل وأسر من مال ودواب إلى السلطان مع البقط القديم ، وهو أربعمائة رأس من الرقيق ، في كل سنة وزرافة من ذلك ما كان للخليفة ثلثمائة وستون رأسا ، ولنائبه بمصر أربعون رأسا ، على أن يطلق لهم إذا وصلوا بالبقط تاما من القمح ألف أردب لمتملكهم ، وثلثمائة أردب لرسله.

ذكر صحراء عيذاب (١)

اعلم أنّ حجاج مصر والمغرب ، أقاموا زيادة على مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة شرّفها الله تعالى ، إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر الفسطاط إلى قوص (٢) ، ثم يركبون الإبل من قوص ، ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب ، ثم يركبون البحر

__________________

(١) عيذاب : بليدة على ضفة بحر القلزم وهي مرسي المراكب التي تقوم من عدن إلى الصعيد. معجم البلدان ج ٤ / ١٧١.

(٢) قوص : مدينة كبيرة عظيمة واسعة قصبة صعيد مصر بينها وبين الفسطاط اثنا عشر يوما. البلدان ج ٤ / ٤١٣.

٣٧٣

في الجلاب إلى جدّة ساحل مكة ، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة ، يردون في البحر إلى عيذاب ، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص ، ومنها يردون مدينة مصر ، فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر ، أو يرد من قوافل التجار والحجاج ، حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل ، ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد ، إلى أن يأخذها صاحبها.

فلم تزل مسلكا للحجاج في ذهابهم وإيابهم ، زيادة على مائتي سنة من أعوام بضع وخمسين وأربعمائة ، إلى أعوام بضع وستين وستمائة ، وذلك منذ كانت الشدّة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر ، وانقطاع الحج في البرّ إلى أن كسا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، الكعبة وعمل لها مفتاحا ، ثم أخرج قافلة الحاج من البرّ في سنة ست وستين وستمائة ، فقلّ سلوك الحجاج لهذه الصحراء ، واستمرّت بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص ، حتى بطل ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة ، وتلاشى أمر قوص من حينئذ ، وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يوما ، ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية ، وتارة يفقد أربعة أيام ، وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدّة ، وهي غير مسوّرة ، وأكثر بيوتها أخصاص ، وكانت من أعظم مراسي الدنيا بسبب أنّ مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع ، وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة ، فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن إلى أن كانت أعوام بضع وعشرين وثمانمائة ، فصارت جدّة أعظم مراسي الدنيا ، وكذلك هرمز ، فإنها مرسى جليل ، وعيذاب في صحراء لا نبات فيها ، وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء ، وكان لأهلها من الحجاج والتجار فوائد لا تحصى ، وكان لهم على كل حمل يحملونه للحجاج ضريبة مقرّرة ، وكانوا يكارون الحجاج الجلاب التي تحملهم في البحر إلى جدّة ، ومن جدّة إلى عيذاب ، فيجتمع لهم من ذلك مال عظيم ، ولم يكن في أهل عيذاب إلا من له جلبة فأكثر على قدر يساره.

وفي بحر عيذاب ، مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة ، في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر ، فيقيمون هنالك أياما ، ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر ، وعيش أهل عيذاب ، عيش البهائم ، وهم أقرب إلى الوحش في أخلاقهم من الإنس ، وكان الحجاج : يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب ، فينزل إليهم التجار من جبالهم ، فيكارونهم الجمال ، ويسلكون بهم على غير ماء ، فربما هلك أكثرهم عطشا ، وأخذ التجار ما كان معهم ، ومنهم من يضلّ ويهلك عطشا ،

٣٧٤

والذي يسلم منهم يدخل إلى عيذاب ، كأنه نشر من كفن ، قد استحالت هيئاتهم وتغيرت صفاتهم ، وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي ، ومنهم من يساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب ، وهو الأقل وجلباتهم التي تحمل الحجاج في البحر لا يستعمل فيها مسمار البتة ، إنما يخيط خشبها بالقنبار ، وهو متخذ من شجر النارجيل ، ويخللونها بدسر من عيدان النخل ، ثم يسقونها بسمن أو دهن الخروع أو دهن القرش ، وهو حوت عظيم في البحر ، يبتلع الغرقى وقلاع هذه الجلاب من خوص شجر المقل.

ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصا على الأجرة ، ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر ، بل يقولون دائما علينا بالألواح ، وعلى الحجاج بالأرواح ، وأهل عيذاب من البجاة.

ولهم ملك منهم ، وبها وال من قبل سلطان مصر ، وأدركت قاضيها عندنا بالقاهرة ، أسود اللون ، والبجاة قوم لا دين لهم ، ولا عقل ، ورجالهم ونساؤهم أبدا عراة ، وعلى عوراتهم خرق ، وكثير منهم لا يسترون عوراتهم ، وعيذاب حرّها شديد بسموم محرق.

ذكر مدينة الأقصر

هذه المدينة من مدائن الصعيد العظيمة ، يقال : إنّ أهلها المريس ، ومنها : الحمير المريسية.

ذكر البلينا (١)

هذه (٢) وذكر الكمال الأدفويّ : أنه وقع بين أهل البلاد ، ووالي قوص ، فتوجهوا إلى القاهرة وصرفوه ، وولي غيره وطلع الخطيب بالبلينا صحبته ، وكان إقطاعه أرمنت ، فلما وصل إليها أضافه أهلها ، بستين منسفا من طعام اللبن ، فقال للخطيب : في بلادكم مثل هذا؟ فقال الخطيب : وحلوى ، فلما وصل إلى أخميم ، تقدّم الخطيب إلى البلينا ، فعند ما وصل الوالي إليها ، أخرجوا له ستين منسفا حلوى ، وستين منسفا شواء ، قال : وبعض الحكام بها في عيد من الأعياد ، امتدحه من أهلها خمسة وعشرون شاعرا ، وفيها من لا يرضى بمدح القاضي ، وفيها من تقصر رتبته عن ذلك ، قال : وكان عدّة مسابك للسكر ، ويوصف أهلها بالمكارم.

__________________

(١) بلينا : مدينة على شاطىء النيل الغربي بصعيد مصر. البلدان ج ١ / ٤٩٣.

(٢) فراغ بالأصل.

٣٧٥

ذكر سمهود (١)

هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل ، قال الأدفوي : كان بسمهود سبعة عشر حجرا لاعتصار قصب السكر. ويقال : إنّ الفار لا يدخل قصبها.

ذكر إرجنّوس (٢)

هذه المدينة من جملة عمل البهنسا ، بها كنيسة بظاهرها ، فيها بئر يقال لها بئر سيرس صغيرة ، لها عيد يعمل في اليوم الخامس والعشرين من بشنس أحد شهور القبط ، فيفور بها الماء ، عند مضي ست ساعات من النهار حتى يطفو ، ثم يعود إلى ما كان عليه ، ويستدل النصارى على زيادة النيل في كل سنة ، بقدر ما علا الماء من الأرض ، فيزعمون أنّ الأمر في النيل وزيادته يكون موافقا لذلك.

ذكر أبويط (٣)

هذه المدينة أيضا من جملة البهنساوية ، كان بها منارة محكمة البناء ، إذا هزها الرجل تحرّكت يمينا وشمالا ، فيرى ميلها رؤية ظاهرة بانتقال ظلها عن موضعه.

ذكر ملوى

هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل ، وأرضها معروفة بزراعة قصب السكر ، وكان بها عدّة أحجار لاعتصاره ، وآخر من كان بها أولاد فضيل ، بلغت زراعتهم في أيام الناصر محمد بن قلاون ألفا وخمسمائة فدّان من القصب ، في كل سنة ، فأوقع النشو ، ناظر الخاص الحوطة على موجودهم في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ، فوجد من جملة مالهم ، أربعة عشر ألف قنطار من القند ، حملها إلى دار القند بمصر ، سوى العسل ، وألزمهم بحمل ثمانية آلاف قنطار بعد ذلك ، وأفرج عنهم فوجدوا لهم حاصلا لم يهتد له النشو فيه عشرة آلاف قنطار قند ، سوى مالهم من عبيد وغلال وغير ذلك.

ذكر مدينة أنصنا (٤)

اعلم أن مدينة أنصنا إحدى مدائن صعيد مصر القديمة ، وفيها عدّة عجائب ، منها الملعب ، ويقال : إنه كان مقياس النيل ، وإنه من بناء دلوكة أحد من ملك مصر ، وكان

__________________

(١) سمهود : في معجم البلدان : سمنّود : بلد من نواحي مصر جهة دمياط وهي مدينة أزلية على ضفة النيل وبينها وبين المحلة ميلان. البلدان ج ٣ / ٢٥٤.

(٢) ارجنّوس : قرية بالصعيد من كورة البهنسا. البلدان ج ١ / ١٤٤.

(٣) أبويط : قرية قرب بردنيس في شرقي النيل من أعمال الصعيد الأدنى من كورة الأسيوطية. البلدان ج ١ / ٨٢.

(٤) أنصنا : مدينة أزلية من نواحي الصعيد على شرقي النيل. البلدان ج ١ / ٣٦٤.

٣٧٦

كالطيلسان ، وفي دائرة عمد على عدّة أيام السنة الشمسية ، كلها من الصوّان الأحمر الماتع ، ومسافة ما بين كل عمودين ، مقدار خطوة إنسان ، وكان ماء النيل يدخل إلى هذا الملعب من فوهة عند زيادة الماء ، فإذا بلغ ماء النيل الحدّ الذي كان إذ ذاك يحصل منه ريّ أرض مصر وكفايتها ، جلس الملك عند ذلك في مشرف له ، وصعد القوم من خواصه إلى رؤوس الأعمدة المذكورة ، فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت ، ويتساقطون من الأعمدة إلى الملعب ، وهو ممتلئ بالماء.

قال أبو عبيد البكريّ : أنصنا ، بفتح أوّله وإسكان ثانيه بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف ، كورة من كور مصر معروفة منها : كانت سريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ ابنه إبراهيم من قرية يقال لها حفن من قرى هذه الكورة ، ويقال : إن سحرة فرعون كانوا منها ، وإنه جلبهم منها يوم الموعد للقاء موسى عليه‌السلام.

ويقال : إنّ التمساح لا يضرّ بساحل أنصنا لطلاسم وضعت بها ، وإنه إذا حاذى برّها انقلب على ظهره ، حتى يجاوزها ، ويقال : إنّ الذي بنى مدينة أنصنا أشمون بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح ، وهي واقعة في شرقيّ النيل ، وكانت حسنة البساتين والمنتزهات كثيرة الثمار والفواكه ، وهي الآن خراب.

وقال أبو حنيفة الدينوريّ : ولا ينبت البنج إلا بأنصنا ، وهو عود ينشر منه ألواح للسفن ، وربما أرعفت ناشرها ويباع اللوح منها بخمسين دينارا ونحوها ، وإذا شدّ لوح منها بلوح ، وطرح في الماء ستة أيام صارا لوحا واحدا ، وكان لأنصنا سور عتيق هدمه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وجعل على كل مركب منحدر في النيل ، جزأ من حمل صخره إلى القاهرة ، فنقل بأسره إليها.

ذكر القيس

اعلم أن القيس من البلاد التي تجاور مدينة البهنسا ، وكان يقال : القيس والبهنسا. قال ابن عبد الحكم : بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصعيد ، فسار حتى أتى القيس ، فنزل بها فسميت به.

وقال ابن يونس : قيس بن الحارث المراديّ ، ثم الكعبيّ ، شهد فتح مصر ، يروي عن عمر بن الخطاب ، وكان يفتي الناس في زمانه ، روى عنه سويد بن قيس ، وقيل : شديد بن قيس بن ثعلبة ، وروى عنه عسكر بن سوادة ، وهو الذي فتح القرية بصعيد مصر المعروفة بالقيس ، فنسبت إليه.

وقال ابن الكنديّ : ولهم ثياب الصوف وأكسية المرعز ، وليس هي بالدنيا إلا بمصر ، وذكر بعض أهل مصر : أنّ معاوية بن أبي سفيان ، لما كبر كان لا يدفأ ، فاجتمعوا أنه لا يدفّيه

٣٧٧

إلا الأكسية نعمل بمصر من صوفها المرعز العسليّ العين المصبوغ ، فعمل له منها عدد ، فما احتاج منها إلا إلى واحد ، ولهم طراز القيس ، والبهنسا في الستور والمضارب يعرفون به ، ومنه طراز أهل الدنيا.

وظهر بها بالقرب من البهنسا ، سرب في أيام السلطان ، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، فأمر متولي البهنساوية بكشفه ، فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس ، فكانوا ما ينيف على مائتي رجل ما فيهم إلا من نزل السرب ، فلم يجد له قرارا ، ولا جوانب ، فأمر بعمل مركب طويل رقيق بحيث يمكن إدخاله من رأس السرب ، وشحنه بالأزراد والرجال ، وركب فيه حبالا مربوطة في خوازيق عند رأس السرب ، وحمل مع الرجال آلات يعرفون بها أوقات الليل والنهار ، وعدّة شموع وغيرها ، مما تستخرج به النار وتشعل به ، وأمرهم أن يسلكوا بالمركب في السرب حتى ينفد نصف ما معهم من الزاد ، فساروا بالمركب في ظلمة ، وهم يرخون الحبال ، ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب ، فما زالوا حتى قلت أزوادهم ، فأبطلوا حركة المركب بالمجاذيف إلى داخل السرب ، وجرّوا الحبال ليرجعوا إلى حيث دخلوا ، حتى انتهوا إلى رأس السرب ، فكانت مدّة غيبتهم في السرب ، ستة أيام أربعة منها دخولا إلى جوفه وتطواف جوانبه ، ويومان رجوعا إلى رأس السرب ، ولم يقفوا في هذه المدّة على نهاية السرب ، فكتب بذلك الأمير علاء الدين الطنبغا والي البهنسا إلى الملك الكامل ، فتعجب عجبا كثيرا ، واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج على دمياط ، فلما رحلوا عن دمياط ، وعادوا إلى القاهرة ، خرج بعد ذلك حتى شاهد السرب المذكور.

ذكر دروط بلهاسة

اعلم أن : دروط وهي : بفتح الدال المهملة وضم الراء وسكون الواو وطاء ، اسم لثلاث قرى : دروط أشموم من الأشمونين ، ودروط سريان ، من الأشمونين أيضا ، ودروط بلهاسة من ناحية البهنسا بالصعيد ، وبها جامع أنشأه زياد بن المغيرة بن زياد بن عمرو العتكيّ ، ومات في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائة ، فدفن به ، وقال فيه الشاعر :

حلف الجود حلفه برّ فيها

ما برا الله واحدا كزياد

كان غيثا لمصر إذ كان حيا

وأمانا من السنين الشداد

ومات أخوه إبراهيم بن المغيرة سنة سبع وتسعين ومائة فقال الشاعر فيه :

ابن المغيرة إبراهيم من ذهب

يزداد حسنا على طول الدهارير (١)

لو كان يملك ما في الأرض عجله

إلى العفاة ولم يهمم بتأخير

__________________

(١) دهارير : ج. دهور.

٣٧٨

ومات أحمد بن زياد بن المغيرة في المحرّم سنة ست وثلاثين ومائتين فقال الشاعر فيه :

أحمد مات ماجدا مفقودا

ولقد كان أحمد محمودا

ورث المجد عن أب ثم عمّ

مثله ليس بعده موجودا

ذكر سكر (١)

هي من الأطفيحية تجاهها ، واد به إلى وقتنا هذا ، شكل جمل من الحجر كأكبر ما يرى من الجمال ، وأحسنها هيئة ، وهو قائم على أربعة ، وقد استقبل بوجهه المشرق ، وعلى فخذه الأيمن كتابة بقلمهم وهي أحرف مقطعة في ثلاثة أسطر ، ثم على نحو مائة وخمسين خطوة منه جمل آخر مثله سواء ، ووجهه إلى وجه الجمل الأوّل ، وليس عليه كتابة ، وفيما بين الجملين المذكورين ، هيئة أعدال قد ملئت قماشا عدّتها أربعون زكيبة موضوعة بالأرض ، عشرين تجاه عشرين ، وجميعها من حجارة ، ولا يشك من رآها أنها أحمال قماش ، وبعد مائة وخمسين خطوة منها ، جمل ثالث على هيئة الجملين المذكورين ، وهو أيضا قائم وظهره إلى ظهر الجمل الثاني ، ووجهه إلى الجبل وهناك آخر الوادي ، وليس على هذا الجمل أيضا كتابة أخبرني بذلك من لا اتهم روايته.

ذكر منية الخصيب (٢)

هذه المدينة تنسب إلى الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر ، من قبل أمير المؤمنين هارون الرشيد.

ذكر منية الناسك

هي بلدة من جملة الأطفيحية عرفت بالناسك أخي الوزير بهرام الأرمنيّ في أيام الخليفة ، الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن محمد ، ولي من قبل أخيه مدينة قوص سنة تسع وعشرين وخمسمائة ، وولاية قوص يومئذ ، أجل ولايات مصر ، فجار على المسلمين ، واشتدّ عسفه ، وأذاه لهم فعند ما وصل الخبر بقيام رضوان بن ولخشي على بهرام وهزيمته منه ، وتقلده الوزارة بعده ، ثار أهل قوص بالناسك في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، وقتلوه وربطوا كلبا ميتا في رجله وسحبوه ، حتى ألقوه على مزبلة ، وكان نصرانيا.

__________________

(١) سكر : موضع بشرقية الصعيد بينها وبين مصر يومان. البلدان ج ٣ / ٢٣٠.

(٢) منية الخصيب أو ابن الخصيب : تقع على شاطىء النيل الغربي وتسميتها نسبة إلى الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر في عهد هارون الرشيد وتسمى اليوم (المنيا). (مصطلحات محمد رمزي).

٣٧٩

ذكر الجيزة

قال ابن سيده : الجيزة الناحية والجانب ، وجمعها جيز وجيز والجيز : جانب الوادي ، وقد يقال فيه : الجيزة ، واعلم أنّ الجيزة اسم لقرية كبيرة جميلة البنيان على النيل من جانبه الغربيّ ، تجاه مدينة فسطاط مصر ، لها في كل يوم أحد سوق عظيم يجيء إليه من النواحي أصناف كثيرة جدّا ، ويجتمع فيه عالم عظيم ، وبها عدّة مساجد جامعة.

وقد روى الحافظ أبو بكر بن ثابت الخطيب من حديث نبيط بن شريط قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجيزة روضة من رياض الجنة ومصر خزائن الله في أرضه». ويقال : إنّ مسجد التوبة الذي بالجيزة ، كان فيه تابوت موسى عليه‌السلام الذي قذفته أمّه فيه بالنيل ، وبها النخلة التي أرضعت مريم تحتها عيسى فلم يثمر غيرها.

وقال ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب : فاستحبت همدان ومن والاها الجيزة ، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهما بما صنع الله للمسلمين ، وما فتح عليهم ، وما فعلوا في خططهم ، وما استحبت همدان من النزول بالجيزة ، فكتب إليه عمر يحمد الله على ما كان من ذلك ، ويقول له : كيف رضيت أن تفرّق أصحابك لم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحر ، ولا تدري ما يفجأهم فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره؟ فاجمعهم إليك فإن أبوا عليك ، وأعجبهم موضعهم بالجيزة ، وأحبوا ما هنالك ، فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا ، فعرض عليهم عمرو ذلك ، فأبوا وأعجبهم موضعهم بالجيزة ، ومن والاهم على ذلك من رهطهم يافع وغيرها ، وأحبوا ما هنالك ، فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن في الجيزة في سنة إحدى وعشرين ، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين وعشرين.

ويقال : إن عمرو بن العاص ، لما سأل أهل الجيزة أن ينضموا إلى الفسطاط قالوا : مقدم قدمناه في سبيل الله ما كنا لنرحل منه إلى غيره ، فنزلت يافع الجيزة فيها مبرح بن شهاب ، وهمدان ، وذو أصبح ، فيهم أبو شمر بن أبرهة وطائفة من الحجر.

وقال القضاعيّ : ولما رجع عمرو بن العاص من الإسكندرية ، ونزل الفسطاط جعل طائفة من جيشه بالجيزة خوفا من عدوّ يغشاهم من تلك الناحية ، فجعل فيها آل ذي أصبح من حمير ، وهم كثير ، ويافع بن زيد من رعين ، وجعل فيها همدان ، وجعل فيها طائفة من الأزديين بني الحجر بن الهبو بن الأزد ، وطائفة من الحبشة ، وديوانهم في الأزد ، فلما استقرّ عمرو في الفسطاط ، أمر الذين خلفهم بالجيزة أن ينضموا إليه فكرهوا ذلك ، وقالوا : هذا مقدم قدمناه في سبيل الله ، وأقمنا به ما كنا بالذين نرغب عنه ، ونحن به منذ أشهر ، فكتب

٣٨٠