كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

الصالحية : هذه البلدة اختطها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي ، بأرض المسانح والعلاقمة في أوّل الرمل الذي بين مصر والشام ، وأنشأ بها قصورا وجامعا وسوقا لتكون منزلة العساكر إذا خرجوا من الرمل ، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة.

ذكر مدينة أيلة

ذكر ابن حبيب : أنّ أثال ، بضم أوّله ثم ثاء مثلثة ، وادي أيلة ، وأيلة ، بفتح أوّله على وزن فعلة ، مدينة على شاطىء البحر فيما بين مصر ومكة سميت : بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وأيلة ، أوّل حدّ الحجاز ، وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح ، بها التجارة الكثيرة وأهلها أخلاط من الناس ، وكانت حدّ مملكة الروم في الزمن الغابر ، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر ، قد كان فيه مسلحته ، يأخذون المكس ، وبين أيلة والقدس ، ست مراحل.

والطور الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، على يوم وليلة من أيلة ، وكانت في الإسلام منزلا لبني أمية ، وأكثرهم موالي عثمان بن عفان ، وكانوا سقاة الحاج ، وكان بها علم كثير ، وآداب ومتاجر وأسواق عامرة ، وكانت كثيرة النخل والزروع ، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب ، وأصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون ، وسوّى طريقها ، ورمّ ما استرم منها ، وكان بأيلة مساجد عديدة ، وبها كثير من اليهود ، ويزعمون أن عندهم برد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه بعثه إليهم أمانا وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب قد أبرز منه قدر شبر فقط ، ويقال : إنّ أيلة هي القرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه حيث قال : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف / ١٦٣]. وقد اختلف في تعيين هذه القرية ، فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : وعكرمة والسديّ ، هي أيلة ؛ وعن ابن عباس أيضا : أنها مدينة بين أيلة والطور ؛ وعن الزهريّ : إنها طبرية ؛ وقال قتادة وزيد بن أسلم : هي ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينونة ، يقال لها : معناة ، وسئل الحسين بن الفضل ، هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام يأتيك جزافا؟ قال : نعم في قصة أيلة : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف / ١٦٣].

وكان من خبر أهل القرية أنهم كانوا من بني إسرائيل ، وقد حرّم الله عليهم العمل في يوم السبت ، فزين لهم إبليس الحيلة ، وقال : إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة ، فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد.

٣٤١

وقيل : كان الرجل يأخذ خيطا ، ويضع فيه وهقه ، ويلقيه في ذنب الحوت ، وهو بتحريك الهاء وإسكانها ، حبل كالطول ، ويجعل في الطرف الآخر من الخيط وتدا ، ويتركه كذلك إلى يوم الأحد ، ثم تطرّق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلي حتى كثر الصيد للحيتان ، ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ، فقامت طائفة من بني إسرائيل ، وجاهرت بالنهي ، واعتزلت وقالت : لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار ، فأصبح الناهون ، ذات يوم في مجالسهم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إنّ للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فإذا هم قردة ، فدخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، فجعلت تأتيهم فتشم ثيابهم ، وتبكي ، فيقول الناهون للقردة : ألم ننهكم ، فتقول برأسها : نعم. قال قتادة : فصارت الشباب قردة ، والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم.

وقيل : إنّ ذلك كان في زمن نبيّ الله داود عليه‌السلام ، وقيل : إنّ أيلة أصلها أيليالية ، وقد وقع ذكرها في التوراة كذلك ، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ : دكالة من البربر ، بطن من المصامدة ، وقالت طائفة : إنّ دكالة ولد أيلة ، ويقال : أيل الذي سميت به عقبة أيلة ، وأخر ، أنهم من دغفل بن أيلة ، وأنهم يعزون إلى البربر ، ويقولون : نحن من ربيعة الفرس ، وفي ذلك خلاف عظيم.

وذكر المسعوديّ : أن يوشع بن نون عليه‌السلام حارب السميدع بن هزبر بن مالك العمليقيّ ، ملك الشام ، ببلد أيلة نحو مدين وقتله ، واحتوى على ملكه ، وفي ذلك يقول عون بن سعيد الجرهميّ :

ألم تر أن العملقيّ بن هرمز

بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا

تداعت عليه من يهود جحافل

ثمانون ألفا حاسرين ودرّعا

وهي أبيات كثيرة. وقال ابن إسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، أتاه تحية بن روبة صاحب أيلة فصالحه ، وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جرباء وأذرح ، فأعطوه الجزية ، وكتب لهم كتابا فهو عندهم ، وكتب لتحية بن روبة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمد النبيّ رسوله لتحية بن روبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله وذمّة النبيّ ، ومن كان معهم من أهل الشام ، وأهل اليمن ، وأهل البحر ، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه ، وإنه طيب لمن أخذه من الناس ، وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر». هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة ، بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة ، ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة.

وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة ، طرق عبد الله بن إدريس الجعفري أيلة ومعه بعض بني الجرّاح ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار ، وعدّة غلال ، وسبى النساء والأطفال ، ثم

٣٤٢

إنه صرف عن ولاية وادي القرى ، فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته.

قال القاضي الفاضل : وفي سنة ست وستين وخمسمائة ، أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، مراكب مفصلة وحملها على الجمال ، وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة ، وكانت قد ملكها الفرنج ، وامتنعوا بها ، فنازلها في ربيع الأوّل ، وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر ، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة ، وقاتل قلعة أيلة في البرّ والبحر حتى فتحها في العشرين من شهر ربيع الآخر ، وقتل من بها من الفرنج وأسرهم ، وأسكن بها جماعة من ثقاته ، وقوّاهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره ، وعاد إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى.

وفي سنة سبع وسبعين ، وصل كتاب النائب بقلعة أيلة : أنّ المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج ، ثم وصل الإيريس ، لعنه الله ، إلى أيلة ، وربط العقبة وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشام لخوفه من عسكر يطلبه من الشام أو مصر ، فلما كان في شعبان من السنة المذكورة كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة ، حتى صارت به مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدّة شهرين ، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر ، ووهت لضعف أساسها فتداركها أصحابها وأصلحوها.

وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان : ومن أباده الحدثان : الكوكة ، وهم أمّة لهم أربعة ملوك ، ملكوا أرض أيلة والحجاز وبنى كل واحد منهم مدينة سماها باسمه ، وجعلوا سائر الأرض خيمات ، وقسموها على ثلاثين كورة وجعلوها أربعة أعمال لكل عمل ، ملك يجلس على منبر ذهب في مدينته ، وعمل بربا وهي بيت الحكمة وعمل هيكلا لأخذ الكواكب ، وجعل فيه أصناما من ذهب كل صنم له مرتبة ، وكانت الإسكندرية واسمها رقودة ، فجعلوا لها خمس عشرة كورة ، وجعلوا فيها كبار الكهنة ، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما في غيرها ، وكان فيها مائتا صنم من ذهب وقسموا الصعيد على ثمانين كورة ، وجعلوا أربعة أقسام ، وكان عدد مدن أهل مصر الداخلة في كورها ، ثلاثين مدينة فيها العجائب.

وقيل : إنّ حمير الأكبر واسمه العرنجح بن سبأ الأكبر واسمه عامر ويعرف بعبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، لما ملك بعد أبيه جمع جيوشه ، وسار يطأ الأمم ويدوس الممالك ، كما فعل أبوه فأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج إلى مطلع الشمس ، ثم قفل نحو المغرب ، فجاءه قبائل من أهل اليمن من بني هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، يشكون من ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وما نزل بهم من ظلمهم ، فأمر برفعهم من أرض اليمن ، وأنزلهم أيلة فعمروها من أيلة إلى ذات الآصال إلى أطراف جبل نجد ، فقطعت ثمود هناك الصخور ، ونحتوا من الجبال

٣٤٣

البيوت ، وتكبروا وطغوا ، فبعث الله فيهم صالحا نبيا ورسولا ، فكذبوه وسألوه ، أن يخرج لهم ناقة من صخرة ، فأخرجها لهم ، فعقروها ، فأهلكهم الله بالصيحة ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

وقد ذكر أنّ موسى عليه‌السلام ، سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص وهي التي تعرف بجبال السراة جنب بلد الشوبك ، ثم مرّ فيها إلى أيلة ، وتوجه بعد أيام إلى برّية باب حيث بلاد الكرك ، حتى حارب تلك الأمم ، وكان إلى جانب أيلة مدينة يقال لها : عصبون جليلة عظيمة.

مربوط : كورة من كور الإسكندرية ، كانت لشدّة بياضها لا يكاد يبين فيها دخول الليل إلا بعد وقت ، وكان الناس يمشون فيها ، وفي أيديهم خرق سود خوفا على أبصارهم ، ومن شدّة بياضها لبس الرهبان السواد ، وكانت بلاد مربوط في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة ، وهي اليوم من قرى الإسكندرية يزرع بها الفواكه وغيرها ، وقد وقفها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، على جهات برّ بالجامع الحاكمي من القاهرة وبها جامع عمر في سنة ست وستين وستمائة ، ثم استأجرها الملك المؤيد شيخ المحمودي في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ، وجدّد عمارة بستانها ، وقد خرب لترداد عرب لبدة وبرقة إليه ، فاستمرّت في ديوان السلطان.

وادي هبيب : هذا الوادي بالجانب الغربيّ من أرض مصر ، فيما بين مربوط والفيوم ، يجلب منه الملح والنطرون عرف بهبيب بن محمد بن معقل بن الواقعة بن حزام بن عفان الغفاريّ ، أحد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد فتح مكة ، وروى عنه أبو تميم الجيشانيّ ، وأسلم مولى تجيب وسعيد بن عبد الرحمن الغفاريّ ، وكان قد اعتزل عند فتنة عثمان رضي‌الله‌عنه بهذا الوادي ، فعرف به ، وكان يقول : لا يفرق بين قضاء دين رمضان ، ويجمع بين الصلاتين في السفر ، ويقال لهذا الوادي أيضا : وادي الملوك ، ووادي النطرون ، وبرّية شهاب ، وبرّية الإسقيط ، وميزان القلوب ، وكان به مائة دير للنصارى ، وبقي به سبعة ديورة ، وقد ذكرت عند ذكر الأديار من هذا الكتاب ، وهو واد كثير الفوائد فيه النطرون ، ويتحصل منه مال كثير وفيه الملح الأندرانيّ والملح السلطانيّ ، وهو على هيئة ألواح الرخام ، وفيه : الوكت والكحل الأسود ، ومعمل الزجاج وفيه الماسكة ، وهو طين أصفر في داخل حجر أسود يحك في الماء ، ويشرب لوجع المعدة ، وفيه البرديّ لعمل الحصر ، وفيه عين الغراب وهو ماء في هيئة البركة وطولها نحو خمسة عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع في مغار بالجبل لا يعلم من أين يأتي ، ولا إلى أين يذهب وهو حلو رائق.

ويذكر أنه خرج منه سبعون ألف راهب ، بيد كل واحد عكاز ، فتلقوا عمرو بن العاص بالطرّانة مرجعه من الإسكندرية يطلبون ، أمانة لهم على أنفسهم وأديارهم ، فكتب لهم بذلك

٣٤٤

أمانا بقي عندهم ، وكتب لهم أيضا بجراية الوجه البحري ، فاستمرّت بأيديهم ، وإنّ جرايتهم جاءت في سنة زيادة على خمسة آلاف أردب وهي الآن لا تبلغ مائة أردب.

ذكر مدينة مدين

اعلم أن مدين أمّة شعيب هم : بنو مديان (١) بن إبراهيم عليه‌السلام ، وأمهم قنطوراء (٢) ابنة يقطان الكنعانية ، ولدت له (٣) ثمانية من الولد ، تناسلت منهم أمم ، ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل وهي أكبر من تبوك ، وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب ، وعمل عليها بيت.

قال الفرّاء : مدين اسم بلد وقطر ، وقيل : اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين.

ويقال له : مديان بن إبراهيم ، قاله مقاتل وغيره ، والجمهور على أنّ مدين أعجميّ ، وقيل : عربيّ ، فإن كان عربيا فإنه يحتمل أن يكون فعيلا من مدّن بالمكان ، أقام به ، وهو بناء نادر ، وقيل : مهمل أو مفعلا من دان فتصحيحه شاذ ، وهو ممنوع الصرف على كل حال ، سواء كان اسم الأرض أو اسم القبيلة عجميا أو عربيا.

وقال المسعوديّ : قد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نوفل بن رعويل بن مرّ بن عيقا بن مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وكان لسانه العربية ، فمنهم من رأى أنهم من العرب الدائرة والأمم البائدة ، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية ، ومنهم من رأى أنهم من ولد المحصن بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم الخليل ، وأنّ شعيبا آخرهم في النسب ، وقد كانوا عدّة ملوك تفرّقوا في ممالك متصلة ، فمنهم المسمى : بأبجد ، وهوّز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، وهم على ما ذكرنا بنو المحصن بن جندل.

وأحرف الجمل هي : أسماء هؤلاء الملوك وهي الاثنان والعشرون حرفا التي عليها حساب الجمل ، وقد قيل في هذه الحروف غير ما ذكرنا من الوجوه ، فكان أبجد ، ملك مكة ، وما يليها من الحجاز ، وكان هوّز وحطي ، ملكين ببلادوج ، وهي الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد ، وكلمن وسعفص وقرشت ، ملوك بمدين ، وقيل : ببلاد مصر ، وكان كلمن على ملك مدين ، ومن الناس من رأى أنه كان ملك جميع من سمينا مشاعا متصلا على ما ذكرنا ، وإنّ عذاب يوم الظلة كان في ملك ، كلمن منهم ، وإنّ شعيبا دعاهم ، فكذبوه وعدهم بعذاب يوم الظلة ، ففتح عليهم باب من السماء من نار ، ونجا شعيب بمن آمن معه إلى الموضع المعروف بأيلة ، وهي غيضة نحو مدين ، فلما أحس القوم بالبلاء واشتدّ عليهم الحرّ ، وأيقنوا بالهلاك طلبوا شعيبا ، ومن آمن معه ، وقد أظلتهم سحابة بيضاء طيبة النسيم

__________________

(١) في الكامل لابن الأثير يقول : بنو مدين بن إبراهيم عليه‌السلام وأمهم قطورا ابنة يقطن الكنعانية فولدت لهم ستة نفر هم : يقشان وزمران ومدين ومدان ونشق وسوح. ابن الأثير ج ١ / ١١٩.

٣٤٥

والهواء لا يجدون فيها ألم العذاب ، فأخرجوا شعيبا ومن آمن معه من مواضعهم ، وأزالوهم عن أماكنهم ، وتوهموا أن ذلك ينجيهم مما نزل بهم ، فجعلها الله عليهم نارا ، فأتت عليهم فرثت جارية بنت كلمن أباها ، وكانت بالحجاز فقالت :

كلمن هدّم ركني

هلكه وسط المحله

سيد القوم أتاه ال

حتف نارا وسط ظله

كوّنت نارا فأضحت

دار قومي مضمحله

وقال المتنصر بن المنذر المدينيّ :

ألا يا شعيب قد نطقت مقالة

أبدت بها عمرا وتحيي بني عمرو

هم ملكوا أرض الحجاز بأوجه

كمثل شعاع الشمس في صورة البدر

وهم قطنوا البيت الحرام وزينوا

قطورا وفازوا بالمكارم والفخر

ملوك بني حطي وسعفص ذي الندى

وهوّز أرباب الثنية والحجر

قال المسعوديّ : ولهؤلاء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير ، وكيفية تغلبهم على هذه الممالك ، وتملكهم عليها وإبادتهم من كان فيها قبلهم من الأمم ، وقيل : إنّ الأيكة المذكورة في قوله عزوجل : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء / ١٧٦] ، وفي قوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الحجر / ٧٨] هي مدين ، وقيل : من ساحل البحر إلى مدين ، وقيل : هي غيضة نحو مدين ، وقيل : بل أصحاب الأيكة ، الذين بعث إليهم شعيب كانوا بتبوك بين الحجر ، وأوّل الشام ، ولم يكن شعيب منهم ، وإنما كان من مدين.

وقال أبو عبيد البكريّ : الأيكة المذكورة في كتاب الله تعالى التي كانت منازل قوم شعيب ، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيها روايتان ، إحداهما : إنّ الأيكة من مدين إلى شعيب ، والرواية الثانية : إنها من ساحل البحر إلى مدين ، وكان شجرهم المقل والأيكة عند أهل اللغة الشجر الملتف ، وكانوا أصحاب شجر ملتف ، وقال قوم : الأيكة : الغيضة ، وليكة : اسم البلد وما حولها كما قيل : مكة ، وبكة.

وقال أبو جعفر النحاس : ولا يعلم ليكة اسم البلد ، وقال ابن قتيبة : وكان بعضهم يزعم أن بكة ، هو موضع المسجد وما حولها مكة كما فرق بين الأيكة وليكة ، فقيل : الأيكة : الغيضة ، وليكة البلد : حولها.

وقال البكريّ : مدين بلد بالشام معلوم تلقاء غزة ، وهو المذكور في كتاب الله تعالى ، وهذا وهم ، بل مدين من أرض مصر ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سرية إلى مدينة مدين ، أميرهم : زيد بن حارثة رضي‌الله‌عنه ، فأصاب سبيا من أهل ميتا. قال ابن إسحاق : وميتا هي السواحل ، فبيعوا وفرّق بين الأمهات والأولاد ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبكون فقال :

٣٤٦

«ما لهم»؟ فأخبر خبرهم ، فقال : «لا تبيعوهم إلّا جميعا». ومدين من منازل جذام بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عزيب بن زيد بن كهلان.

وشعيب (١) النبيّ المبعوث إلى أهل مدينة أحد بني وائل (٢) بن جذام.

وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لوفد جذام : «مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى ولا تقوم الساعة حتى يتزوّج فيكم المسيح ويولد له».

وقال محمد بن سهل الأحول : مدين من أعراض المدينة مثل فدك والفرع ورهاط.

قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى : وكان بأرض مدين ، عدّة مدائن كثيرة قد باد أهلها ، وخربت ، وبقي منها إلى يومنا هذا ، وهو سنة خمس وعشرين وثمانمائة نحو الأربعين مدينة قائمة منها ما يعرف اسمه ، ومنها ما قد جهل اسمه ، فمما يعرف اسمه فيما بين أرض الحجاز ، وبلاد فلسطين ، وديار مصر ، ست عشرة مدينة منها : في ناحية فلسطين ، عشر مدائن ، وهي الخلصة ، والسنيطة ، والمدرة ، والمنية ، والأعوج ، والخويرق ، والبئرين ، والماءين ، والسبع ، والمعلق ، وأعظم هذه المدائن العشر : الخلصة والسنيطة ، وكثيرا ما تنقل حجارتها إلى غزة ويبنى بها هناك ، ومن مدائن مدين بناحية بحر القلزم والطور مدينة فاران ، ومدينة الرقة ، ومدينة القلزم ، ومدينة أيلة ، ومدينة مدين ، وبمدينة مدين إلى الآن آثار عجيبة وعمد عظيمة.

ووجد في مدينة الأعوج ، أعوام بضع وستين وسبعمائة جب بقلعتها بعيد المهوى يبلغ عمقه نحو مائة ذراع ، وبقاعه عدة أسفار على رفوف حمل منها سفر طوله ، ذراعان وأزيد ، قد غلف بلوحين من خشب ، وكتابته بالقلم المسند ، طول الألف واللام ، نحو شبر ، فوجد ببلاد الكرك من قرأه ، فإذا هو سفر من عشرة أسفار قد ابتدأه ، بحمد الله ، ثم قال : خروج موسى من أرض مصر إلى بلاد مدين ، وملوك بني مدين فيما بعد شعيب ، فذكر لموسى عليه‌السلام ، عدّة أسماء منها ، اسمه بالعربية : موسى بن عمران ، وبالعبرانية : موشي ، وبالفارسية : داران ، وبالقبطية : هروسيس ، وذكر أنه تزوّج ابنة شعيب ، وأنه أقام بمدينة ثماني حجج ، ثم قال لابن شعيب : قد أتممت لك شرطك ، وسأزيدك سنتين فضلا مني.

بقية خبر مدينة مدين (٣)

قال : وخرج موسى متوجها إلى مصر ، والملك يومئذ على مدين أبجد. قال : وقوي

__________________

(١) و (٢) جاء في الكامل لابن الأثير : أن شعيب هو يثرون بن ضيعون بن عنقا بن نابت بن مدين بن إبراهيم. وقيل : هو شعيب بن ميكل من ولد مدين.

(٣) مدين : من كور مصر القبلية على بحر القلزم محاذية لتبوك وبها البئر الذي استسقى منها موسى عليه‌السلام. البلدان ج ٥ / ٧٧.

٣٤٧

أمر أبجد ، فطغى حتى ملك الحجاز واليمن ، وكان له خمسة أولاد هم : هوّز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، فأقام أبجد ملكا باليمن ، مائة سنة. ومات وقد استخلف من بعده ابنه : كلمن باليمن ، وجعل ابنه هوّز على الحجاز ، وابنه حطي على أرض مصر ، وابنه سعفص على الجزيرة ، وبلادها حيث الموصل وحرّان إلى أرض العراق ، وابنه قرشت على العراق ومشارفها من خراسان ، وكان قرشت هو الجبار فيهم ، وكان سعفص وهوّز وكلمن أهل عدل وحلم ، وكان حطي صاحب بطش وجرأة.

وكان بنو إسرائيل إذ ذاك بالشام ، فلم يملك أولاد أبجد أرض الشام ، ولا احتووا عليها ، وكانت مدّة ملكهم نحوا من مائة وخمسين سنة ، فتم لهم بدولة أبيهم أبجد ثلثمائة سنة وأزيد.

ثم ملك بعدهم على بني إسرائيل ، روزيت بن هوّز ، وعرزيت بن حطي بن أبجد نحو سبع سنين ، ثم خرجت الدولة عن أولاد أبجد ، وأقام هذا الكتاب عندهم زمانا ، ثم أعادوه إلى الجبّ من قلعة الأعوج.

حدّثني بهذا الخبر ، الحافظ المتقن الضابط أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الغريانيّ التونسيّ المالكيّ ، قال : حدثني به شتر بن غنيم العامريّ شيخ لقيه بأرض فلسطين ، أنه شاهد الكتاب المذكور ، وهو شاب ، وحفظ منه ما تقدّم ذكره.

وقيل : إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا ذكرا ، فكثرت أولادهم ، حتى بنوا المدائن والقرى والحصون ، وعمروا بلاد مدين كلها ، وغلبوا على بلاد الشام ومصر والحجاز ، وغيرها خمسمائة سنة ، وقيل : إنما كان استيلاء ملوك مدين على مصر ، خمسمائة سنة بعد غرق فرعون موسى ، وهلاكه دلوكة بنت زفان ، حتى أخرجهم منها نبيّ الله سليمان بن داود ، فعاد الملك إلى القبط بعدهم.

ذكر مدينة فاران (١)

هذه المدينة بساحل بحر القلزم ، وهي من مدن العماليق على تل بين جبلين ، وفي الجبلين ثقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتا ، ومن هناك إلى بحر القلزم ، مرحلة واحدة ، ويقال له هناك ساحل بحر فاران ، وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون ، وبين مدينة فاران ، والتيه مرحلتان ، ويذكر أنّ فاران اسم لجبال مكة ، وقيل : اسم لجبال الحجاز ، وهي التي ذكرت في التوراة ، والتحقيق أنّ فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية ، وهي غير فاران المذكورة في التوراة ، وقيل : إنّ فاران بن عمرو بن عمليق هو الذي نسب إليه جبال الحرم ،

__________________

(١) فاران : كورة من كور مصر القبلية وأيضا من أسماء مكة وجبالها. البلدان ج ٤ / ١٢٥.

٣٤٨

فقيل : جبال فاران ، وبعضهم يقول : جبال فران وكانت مدينة فاران من جملة مدائن ، مدين إلى اليوم ، وبها نخل كثير مثمر ، أكلت من ثمره ، وبها نهر عظيم ، وهي خراب يمرّ بها العربان.

ذكر أرض الجفار (١)

اعلم أنّ الجفار اسم لخمس مدائن ، وهي : الفرما ، والبقارة ، والورادة ، والعريش ، ورفج ، والجفار كله رمل وسمي بالجفار لشدّة المشي فيه على الناس ، والدواب من كثرة رمله ، وبعد مراحله ، والجفار تجفر فيه الإبل ، فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل الذي يهجر به البعير ، هجار ، وللذي يحجر به حجار ، وللذي يعقل به عقال ، وللذي يبطن به بطان ، وللذي يخطم به خطام ، وللذي يزم به زمام ، واشتقت البقارة من البقر ، والواردة من الوريد ، والعريش أخذ من العريش ، وقيل : إن رفج اسم جبل.

وكان يسكن الجفار في القديم خذام بن العريان.

ويقال : إنّ أرض الجفار كانت في الدهر الأوّل والزمن الغابر متصلة العمارة ، كثيرة البركات مشهورة بالخيرات لكثرة زراعة أهلها الزعفران والعصفر وقصب السكر ، وكان ماؤها غزيرا عذبا ، ثم صار بها نخل يحدق بها من كل النواحي إلى أن دمرها الله تدميرا ، فصارت إلى اليوم ذات رمل عظيم يسلك فيه إلى العريش ، وإلى رفج كله قفر تعرف بقعته برمل الغرابيّ قليل الماء عديم المرعى ، لا أنيس به ، فسبحان محيل الأحوال.

ذكر صعيد مصر

الصعيد : المرتفع من الأرض ، وقيل : الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة ، وقيل : ما لم يخالطه رمل ولا سبخة ، وقيل : هو وجه الأرض ، وقيل : الأرض الطيبة ، وقيل : هو كل تراب طيب ، وتسمية هذه الجهة من أرض مصر بهذا الاسم إنما حدث في الإسلام ، سماها العرب بذلك لأنها جهة مرتفعة عما دونها من أرض مصر ، ولذلك يقال فيها : أعلى الأرض ، ولأنها أرض ليس فيها رمل ولا سباخ ، بل كلها أرض طيبة مباركة ، ويقال للصعيد أيضا : الوجه القبليّ.

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه : ولما حضرت مصرايم الوفاة ، عهد إلى ابنه قبطيم ، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه.

__________________

(١) الجفار : أرض على مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها. البلدان ج ٢ / ١٤٥.

٣٤٩

فجعل لقبطيم من بلد إلى أسوان ، ولأشمون ، من بلد أشمون إلى منف ، ولأتريب ، الحوف كله ، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة ، وقال لأخيه فارق لك من برقة إلى الغرب ، فهو صاحب إفريقية وولده الأفارق ، وأمر كلّ واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه.

وقال ابن عبد الحكم : فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم ، قطع مصر لكل واحد منهم قطعة يحوزها لنفسه ولولده ، وقسم لهم هذا النيل ، فقطع لابنه قفط ، موضع قفط فسكنها ، وبه سميت : قفط قفطا ، وما فوقها إلى أسوان ، وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب ، وقطع لأشمون من أشمون فما دونها في الشرق والغرب إلى منف ، فسكن أشمون أشمون ، فسميت به ، وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريب فسميت به ، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر ، فسكن صا فسميت به ، فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء : جزأين بالصعيد ، وجزأين بأسفل الأرض.

وقال أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي (١) في كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد : مسافة إقليم الصعيد الأعلى مسيرة اثني عشر يوما بسير الجمال ، وعرضه ثلاث ساعات ، وأكثر بحسب الأماكن العامرة ، ويتصل عرضه في الكورة الشرقية بالبحر الملح وأراضي البجة ، وفي الغربية ، بألواح وهي كورتان : شرقية ، وغربية ، والنيل بينهما فاصل ، وأوّل الشرقية من مرج بني هميم المتصلة أرضها بأراضي جرجا من عمل أخميم ، وآخرها من قبليّ الهو ويليها أوّل أراضي النوبة ، وفي هذه الكورة تيج ، وقفط وقوص ، وأوّل الكورة الغربية ، برديس تتصل أرضها بأرض جرجا ، وفي هذه الكورة الغربية سمهود ، وآخر الكورة الغربية أسوان وبحافته أكثر النخل من الجانبين ، تكون مساحة الأراضي التي فيها النخل والبساتين تقارب عشرين ألف فدّان ، والمستولي على إقليم الصعيد المشتري.

ويقال : كان بصعيد مصر ، نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا ، فغصبها بعض الولاة فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة ، وكانت هذه النخلة في الجانب الغربيّ ، وبيع منها في الغلاء كل ويبة بدينار.

ويقال : لما صوّرت الدنيا لأمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد لم يستحسن إلا كورة سيوط من صعيد مصر ، فإنها ثلاثون ألف فدّان في استواء من الأرض لو وقعت فيها قطرة ماء لانتشرت في جميعها.

__________________

(١) مؤرخ له علم بالأدب والفقه والفرائض ولد في أدفو بصعيد مصر سنة ٦٨٥ ه‍ وتوفي سنة ٧٤٨ ه‍.

الأعلام ج ٢ / ١٢٢.

٣٥٠

وبالصعيد بقايا سحر قديم ، حكى الأمير طقطبا والي قوص في أيام الناصر محمد بن قلاون قال : أمسكت امرأة ساحرة ، فقلت لها : أريد أن أبصر شيئا من سحرك؟ فقالت : أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه ، فلا بدّ أن تقع عليه ويصيبه سمها ، فتقتله. فقلت : أريني هذا واقصديني بسحرك؟ فأخذت عقربا وعملت ما أحبت ، ثم أرسلت العقرب فتبعني! وأنا أتنحى عنه ، وهو يقصدني فجلست على تخت وضعته على بركة ماء ، فأقبل العقرب إلى ذلك الماء ، وأخذ في التوصل إليّ ، فلم يطق ذلك ، فمرّ إلى الحائط وصعد فيه ، وأنا أشاهده ، حتى وصل إلى السقف ومرّ فيه إلى أن صار فوقي وألقى نفسه صوبي ، وسعى نحوي حتى قرب مني ، فضربته فقتلته ، ثم قتلت الساحرة أيضا.

وأرض الصعيد كثيرة المواشي من الضأن وغير ذلك لكثرة نتاجه ، حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن ، يتولد عنه في عشر سنين ، ألف وأربع وعشرون رأسا! وذلك بتقدير السلامة ، وأن تلد كلها أناثا ، وتلدّ مرّة واحدة في كل سنة ، ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد ، وإلا فإن ولدت في السنة مرّتين ، وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد ، وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحا ، وقد شوهد كثيرا أنّ من أغنام الصعيد ، ما يلد في السنة ثلاث مرّات ويلد في البطن الواحد ، ثلاثة أرؤس.

وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لست قبائل ، وهم : بنو هلال ، وبلى ، وجهينة ، وقريش ، ولواته ، وبنو كلاب ، وكان ينزل مع هؤلاء عدّة قبائل سواهم من الأنصار ، ومن مزينة ، وبني دراج وبني كلاب وثعلبة وجذام.

وبلغ من عمارة الصعيد ، أن الرجل في أيام الناصر ، محمد بن قلاون ، وما بعدها كان يمرّ من القاهرة إلى أسوان ، فلا يحتاج إلى نفقة ، بل يجد بكل بلد وناحية ، عدّة دور للضيافة ، إذا دخل دارا منها ، أحضر لدابته علفها ، وجيء له بما يليق به من الأكل ونحوه ، وآل أمره الآن إلى أن لا يجد الرجل أحدا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال ، ثم تلاشى أمر بلاد الصعيد منذ سنة الشراقي في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون سنة ست وسبعين وسبعمائة ، وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجور الولاة ، ولم يزل في إدبار ، إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة ، وشرقت مصر بقصور مدّ النيل ، فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف ، حتى أنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان ، وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات ، ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم ، ثم دمّر في أيام المؤيد شيخ ، فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها ، نسأل الله حسن الخاتمة.

٣٥١

ذكر الجنادل (١) ولمع من أخبار أرض النّوبة

الجندل : ما يقلّ الرجل من الحجارة ، وقيل : هو الحجر كله ، الواحدة ، جندلة ، والجندل: الجنادل.

قال سيبويه : وقالوا جندل يعنون : الجنادل ، وصرفوه لنقصان البناء عما لا ينصرف ، وأرض جندلة ، ذات جندل وقيل : الجندل ، المكان الغليظ فيه حجارة ، ومكان جندل ، كثير الجندل.

قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة : والمقرة وعلوة والبجة والنيل ، وأوّل بلد النوبة ، قرية تعرف بالقصر من أسوان إليها خمسة أميال ، وآخر حصن للمسلمين ، جزيرة تعرف ببلاق ، بينها وبين قرية النوبة ميل ، وهو ساحل بلد النوبة ، ومن أسوان إلى هذا الموضع ، جنادل كثيرة الحجر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ، ودلالة من يخبر بذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك ، لأنّ هذه الجنادل متقطعة وشعاب معترضة في النيل ، ولانصبابه فيها خرير عظيم ودويّ يسمع من بعد ، وبهذه القرية مسلحة ، وباب إلى بلد النوبة ، ومنها إلى الجنادل الأولى من بلد النوبة ، عشر مراحل ، وهي الناحية التي يتصرّف فيها المسلمون ، ولهم فيما قرب أملاك ويتجرون في أعلاها ، وفيها جماعة من المسلمين قاطنون ، لا يفصح أحدهم بالعربية ، وشجرها كثير ، وهي ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال ، وما تخرج عن النيل ، وقراها متسطرة على شاطئه وشجرها النخل والمقل ، وأعلاها أوسع من أدناها ، وفي أعلاها الكروم ، والنيل لا يروي مزارعها لارتفاع أرضها ، وزرعها ، الفدّان والفدّانان والثلاثة على أعناق البقر بالدواليب ، والقمح عندهم قليل والشعير أكثر والسلت ، ويعتقبون الأرض لضيقها ، فيزرعونها في الصيف بعد تطريتها بالزبل والتراب. الدخن والذرة والجاورس والسمسم واللوبيا.

وهذه الناحية نجراش مدينة المريس ، وقلعة ابريم ، وقلعة أخرى دونها ، وبها مينا تعرف بأدواء ينسب إليها ، لقمان الحكيم ، وذو النون ، وبها بربا عجيب ، ولهذه الناحية وال من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجلّ ولاتهم لقربه من أرض الإسلام ، ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين فمعاملته معه في تجارة أو هدية إليه ، أو إلى مولاه يقبل الجميع ، ويكافىء عليه بالرقيق ، ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه لمسلم ولا لغيره.

__________________

(١) الجنادل : موضع كثير الحجارة فوق أسوان في أقصى صعيد مصر قرب بلاد النوبة. معجم البلدان ج ٢ / ١٦٦.

٣٥٢

وأوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى ، هي ساحل ، وإليها تنتهي مراكب النوبة المصعدة من القصر أوّل بلدهم ، ولا تتجاوزها المراكب ، ولا يطلق لأحد من المسلمين ، ولا من غيرهم الصعود منها إلا بإذن من صاحب جبلهم ، ومنها إلى المقس الأعلى ، ست مراحل ، وهي جنادل كلها ، وشرّ ناحية رأيتها لهم لصعوبتها ، وضيقها ومشقة مسالكها ، أما بحرها ، فجنادل وجبال معترضة فيه ، حتى إن النيل ينصب من شعاب ويضيق في مواضع ، حتى يكون سعة ما بين الجانبين ، خمسين ذراعا ، وبرّها مجاوب ضيقة ، وجبال شاهقة ، وطرقات ضيقة ، حتى لا يمكن الراكب أن يصعد منها ، والراجل الضعيف يعجز عن سلوكها ، ورمال في غربها وشرقها ، وهذه الجبال حصنهم ، وإليها يفزع أهل الناحية التي قبلها المتصلة بأرض الإسلام ، وفي جزائرها نخل يسير وزرع حقير ، وأكثر أكلهم السمك ويدّهنون بشحمه ، وهي من أرض مريس ، وصاحب الجبل واليهم ، والمسلحة بالمقس الأعلى صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها ، حتى أنّ عظيمهم إذا صار بها وقف به المسلحي ، وأوهم أنه يفتش عليه ، حتى يجد الطريق إلى ولده ووزيره ، فمن دونهما ولا يجوزها دينار ولا درهم إذ كانوا لا يتبايعون بذلك إلا دون الجنادل مع المسلمين ، وما فوق ذلك لا بيع بينهم ولا شراء ، وإنما هي معاوضة بالرقيق والمواشي والحبال والحديد والحبوب ، ولا يطلق لأحد أن يجوزها إلا بإذن الملك ، ومن خالف كان جزاؤه القتل كائنا من كان ، وبهذا الاحتياط تنكتم أخبارهم حتى إنّ العسكر منهم يهجم على البلد إلى البادية وغيرهم ، فلا يعلمون به ، والسنباد الذي يخرط به الجوهر ، يخرج من النيل في هذه المواضع ، يغطس عليه فيوجد جسمه باردا مخالفا للحجارة فإذا أشكل عليه نفخ فيه بالفم فيعرق ، ومن هذه المسلحة إلى قرية تعرف : بساي ، جنادل أيضا ، وهي آخر كرسيهم ، ولهم فيها أسقف وفيها بربا.

ثم ناحية سقلودا وتفسيرها السبع ولاة ، وهي أشبه الأرض بالأرض المتاخمة لأرض الإسلام في السعة والضيق في مواضع ، والنخل والكرم والزرع وشجر المقل ، وفيها شيء من شجر القطن ، ويعمل منه ثياب وخشة ، وبها شجر الزيتون ، وواليها من قبل كبيرهم وتحت يده ولاة يتصرّفون ، وفيها قلعة تعرف : بأصطنون ، وهي أوّل الجنادل الثلاثة ، وهي أشدّ الجنادل صعوبة لأنّ فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل ، والماء ينصب من ثلاثة أبواب ، وربما رجع إلى ما بين عند انحساره شديد الخرير عجيب المنظر يتحدّر الماء عليه من علو الجبل وقبليّة فرش حجارة في النيل نحو ثلاثة برد إلى قرية تعرف : بيستو ، وهي آخر قرى مريس ، وأوّل بلد مقرة ، ومن هذا الموضع إلى حدّ المسلمين لسانهم مريسي ، وهي آخر عمل متملكهم ، ثم ناحية بقون ، وتفسيرها بالعجب ، وهي عند اسمها لحسنها ، وما رأيت على النيل أوسع منها ، وقدّرت أن سعة النيل فيها من الشرق إلى الغرب مسيرة خمس مراحل ، الجزائر تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أرض منخفضة ، وقرى

٣٥٣

متصلة ، وعمارة حسنة بأبرجة حمام ، ومواش وأنعام وأكثر ميرة مدينتهم منها ، وطيورها النقيط والنوبي والببغاء ، وغير ذلك من الطيور الحسان ، وأكثر نزهة كيبرهم في هذه الناحية.

قال : وكنت معه في بعض الأوقات ، فكان سيرنا في ظل شجر من الحافتين في الخلجان الضيقة ، وقيل : إنّ التمساح لا يضرّ هناك ، ورأيتهم يعبرون أكثر هذه الأنهار سباحة ، ثم سفد بقل ، وهي ناحية ضيقة شبيهة بأوّل بلادهم إلا أنّ فيها جزائر حسانا ، وفيها دون المرحلتين نحو ، ثلاثين قرية بالأبنية الحسان ، والكنائس والأديار والنخل الكثير والكروم والبساتين والزرع ، ومروج كبار فيها إبل وجمال صهب مؤبلة للنتاج ، وكبيرهم يكثر الدخول إليها لأنّ طرفها القبليّ يحاذي دنقلة مدينتهم ، ومن مدينة دنقلة دار المملكة إلى أسوان ، خمسون مرحلة ، وذكر صفتها ، ثم قال : إنهم يسقفون مجالسهم بخشب السنط ، وبخشب الساج الذي يأتي به النيل في وقت الزيادة سقالات منحوتة لا يدري من أين تأتي.

ولقد رأيت على بعضها علامة غريبة ، ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بينها وبين أسوان ، وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم ، أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام ، وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام ، فيها الجبال والوحش والسباع ، ومفاوز يخاف فيها العطش ، والنيل يعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس ، وإلى مغربها مسيرة أيام ، حتى يصير المصعد كالمنحدر ، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف : بالشلة ، وهو بلد يعرف بشنقير ، ومنه خرج العمري ، وتغلب على هذه الناحية إلى أن كان من أمره ما كان ، وفرس البحر ، يكثر في هذه المواضع ، ومن هذه الموضع طرق إلى سواكن وباصع ودهلك وجزائر البحر ، ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة ، وفيها خلق من البجة يعرفون بالرنافج انتقلوا إلى النوبة قديما وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة ، لا يخالطون النوبة ، ولا يسكنون قراهم ، وعليهم وال من قبل النوبة.

ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين ، كلاهما على النيل ، فالنوبة هم : المريس المجاورون لأرض الإسلام ، وبين أوّل بلدهم ، وبين أسوان خمسة أميال ، ويقال : إنّ سلها جدّ النوبة ، ومقري جدّ المقرة من اليمن.

وقيل : النوبة ومقري من حمير ، وأكثر أهل الأنساب على أنهم جميعا من ولد حام بن نوح، وكان بين النوبة والمقرة حروب قبل النصرانية ، وأوّل أرض المقرة قرية تعرف بنافة على مرحلة من أسوان ، ومدينة ملكهم ، يقال لها : نجراش ، على أقل من عشر مراحل من أسوان ، ويقال : إن موسى صلوات الله عليه ، غزاهم قبل مبعثه في أيام فرعون ، فأخرب نافة ، وكانوا صابئة يعبدون الكواكب ، وينصبون التماثيل لهم ، ثم تنصروا جميعا النوبة

٣٥٤
٣٥٥
٣٥٦

المكروه الواقع بهم ، وينادون الملك يعيش فليكن أمره ، وهو يتتوّج بالذهب ، والذهب كثير في بلده.

ومما في بلده من العجائب : أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنسا يعرف : بالكرنينا ، لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر ، فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر ، واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيرا ، وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئا من المزر ، وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط ، قد زرع وشرب المزر ، فإذا كان وقت الحصاد ، حصد يسيرا منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر ، وينصرف ، فيجد الزرع قد حصد بأسره ، وجرّن فإذا أراد دراسه وتذريته فعل به كذلك ، وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش ، فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح ، وقد قلع جميع الزرع ، وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد ، وميرة بلد ، علوة ومتملكهم من هذه الناحية ، فيوجهون المراكب ، فتوسق ، وربما وقع بينهم حرب.

قال : وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة ، وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به ، ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله ، لما ذكرت شيئا منه لشناعته ، فأما أهل الناحية ، فيزعمون أن الجنّ تفعل ذلك ، وأنها تظهر لبعضهم ، وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها ، وتعمل لهم عجائب ، وأنّ السحاب يطيعهم؟!.

قال : ومن عجائب ما حدّثني به متملك المقرة للنوبة ، أنهم يمطرون في الجبال ، ويلتقطون منه للوقت سمكا على وجه الأرض ، وسألتهم عن جنسه ، فذكروا أنه صغير القدر بأذناب حمر ، قال : وقد رأيت جماعة وأجناسا ممن تقدّم ذكر أكثرهم يعترفون بالباري سبحانه وتعالى ، ويتقرّبون إليه بالشمس والقمر والكواكب ، ومنهم من لا يعرف الباري ويعبد الشمس والنار ، ومنهم من يعبد كل ما استحسنه من شجرة أو بهيمة ، وذكر أنه رأى رجلا في مجلس عظيم المقرة سأله عن بلده؟ فقال : مسافته إلى النيل ثلاثة أهلة ، وسأله عن دينه؟ فقال : ربي وربك الله ، وربّ الملك ، وربّ الناس كلهم واحد ، وإنه قال له : فأين يكون؟ قال : في السماء وحده ، وقال : إنه إذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء ، أو وقع بدوابهم آفة صعدوا الجبل ، ودعوا الله ، فيجابون للوقت وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوه ، وسأله هل أرسل فيكم رسول؟ قال : لا ، فذكر له بعثة موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه ، وما أبدوا به من المعجزات ، فقال : إذا كانوا فعلوا هذا ، فقد صدقوا ، ثم قال : قد صدّقتهم إن كانوا فعلوا.

قال مؤلفه رحمه‌الله : وقد غلب أولاد ، كنز الدولة على النوبة وملكوها (من

٣٥٧

سنة) (١) وبنى بدنقلة جامع يأوي إليه الغرباء ، واعلم أنّ على ضفة النيل أيضا ، الكانم ، وملكها مسلم ، وبينه وبين بلاد مالي مسافة بعيدة جدّا ، وقاعدة ملكه بلدة اسمها حميمي ، وأوّل مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زرلا ، وآخرها طولا بلدة يقال لها : كاكا ، وبينهما نحو ثلاثة أشهر ، وهم يتلثمون ، وملكهم متحجب لا يرى إلا يومي العيدين بكرة ، وعند العصر ، وطول السنة لا يكلمه أحد إلا من وراء حجاب ، وغالب عيشهم الأرز ، وهو ينبت من غير بذر ، وعندهم القمح والذرة والتين والليمون والباذنجان واللفت والرطب ، ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه : دندي طول كل ثوب ، عشرة أذرع ، يشترون به من ربع ذراع فأكثر ، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق ، وجميع ذلك بسعر ذلك القماش ، وفي جنوبها شعارى وصحارى ، فيها أشخاص متوحشة كالفيول قريبة من شكل الآدميّ لا يلحقها الفارس تؤذي الناس ، ويظهر في الليل أيضا شبه نار تضيء ، فإذا مشى أحد ليلحقها بعدت عنه ، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه فإذا رماها بحجر ، فأصابها تشظى منها شرر ، وتعظم عندهم اليقطينة حتى تصنع منها مراكب يعبر فيها في النيل.

وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدّة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط ، وهي بلاد قحطان وشطن (٢) وسوء مزاج ، وأوّل من بث بها الإسلام ، الهادي العثمانيّ ، ادّعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وصارت بعده ، لليزنيين من بني سيف بن ذي يزن ، وهم على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه‌الله ، والعدل قائم بينهم ، وهم يابسون في الدين لا يلينون ، وبنوا بمدينة مصر مدرسة للمالكية عرفت بمدرسة ابن رشيق في سني أربعين وستمائة ، وصارت وفودهم تنزل بها ، وسيرد ذكرها في المدارس إن شاء الله تعالى.

ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

اعلم أنّ أول بلد البجة من قرية تعرف بالحزبة معدن الزمرّذ في صحراء قوص ، وبين هذا الموضع ، وبين قوص نحو من ثلاث مراحل ، وذكر الجاحظ أنه ليس في الدنيا معدن للزمرّذ غير هذا الموضع ، وهو يوجد في مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح ، وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال ، ويحفر عليه بالمعاول ، فيوجد في وسط الحجارة ، وحوله غشيم دونه في الصبغ والجوهر ، وآخر بلاد البجة ، أوّل بلاد الحبشة ، وهم في بطن هذه الجزيرة أعني جزيرة مصر إلى سيف البحر الملح مما يلي جزائر سواكن ، وباضع ، ودهلك ، وهم بادية يتبعون الكلأ ، حيثما كان الرعي بأخبية من جلود.

__________________

(١) فراغ بالأصل.

(٢) شطنه : خالفه عن نية. والشاطن : الخبيث والشيطان.

٣٥٨

وأنسابهم من جهة النساء ، ولكل بطن منهم رئيس ، وليس عليهم متملك ولا لهم دين ، وهم يورثون ، ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب ، ويقولون : إنّ ولادة ابن الأخت وابن البنت ، أصح فإنه إن كان من زوجها ، أو من غيره ، فهو ولدها على كل حال ، وكان لهم قديما رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه يسكن قرية تعرف : بهجر ، هي أقصى جزيرة البجة ، ويركبون النجب الصهب ، وتنتج عندهم ، وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضا ، والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم ، وبقرهم ، وحسان ملعمة بقرون عظام ، ومنها جمّ وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان ، وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن ، وأكلهم للجبن قليل ، وفيهم من يأكله ، وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص ، وألوانهم مشرقة الصفرة ، ولهم سرعة في الجري يباينون بها الناس ، وكذلك جمالهم شديدة العدو صبورة عليه ، وعلى العطش ، يسابقون عليها الخيل ، ويقاتلون عليها ، وتدور بهم كما يشتهون ، ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره ، ويتطاردون عليها في الحرب ، فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل ، فأخذها صاحبها ، وإن وقعت في الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.

ونبغ منهم في بعض الأوقات رجل يعرف بكلاز شديد مقدام ، وله جمل ما سمع بمثله في السرعة ، وكان أعور ، وصاحبه كذلك التزم لقومه أنه يشرف على مصلى مصر يوم العيد ، وقد قرب العيد قربا لا يكون للبلوغ إليها في مثله حقيقة ، فوفى بذلك ، وأشرف على المقطم وضربت الخيل خلفه فلم يلحق ، وهذا هو الذي أوجب أن يكون في السفح طليعة يوم العيد ، وكان الطولونية وغيرهم : من أمراء مصر يوقفون في سفح الجبل المقطم ، مما يلي الموضع المعروف : بالحبش ، جيشا كثيفا مراعيا للناس حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد ، وهم أصحاب ذمّة فإذا غدر أحدهم رفع المغدور به ثوبا على حربة ، وقال : هذا عرش فلان يعني أبا الغادر ، فتصير سيئة عليه إلى أن يترضاه ، وهم يبالغون في الضيافة ، فإذا طرق أحدهما الضيف ذبح له ، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره ، وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف ، وعوّضه ما هو خير منها ، وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع ، والعود أربعة أذرع ، وبذلك سميت سباعية والحديدة في عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا في بعض الأوقات ، لأنّ في آخر العود شيئا شبيها بالفلكة يمنع خروجها عن أيديهم ، وصناع هذه الحراب نساء في موضع لا يختلط بهنّ رجل إلا المشتري منهنّ.

فإذا ولدت إحداهنّ من الطارقين لهنّ جارية استحيتها ، وإن ولدت غلاما قتلته ، ويقلن : إنّ الرجال بلاء وحرب ، ودرقهم من جلود البقر مشعرة ، ودرق مقلوبة تعرف بالأكسومة من جلود الجواميس ، وكذلك الدهلكية ومن دابة في البحر ، وقسيّهم عربية كبار

٣٥٩

غلاظ من السدر والشوحط يرمون عليها بنبل مسموم ، وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده ، وسيل الدم ثم شممه هذا السم ، فإذا تراجع الدم علم أنه جيد ، ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسمه فيقتله ، فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته ، ولو مثل شرطة الحجام ، وليس له عمل في غير الجرح والدم وإن شرب منه لم يضرّ ، وبلدانهم كلها معادن ، وكلما تصاعدت كانت أجود ذهبا وأكثر ، وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشيتا والحمست والزمرّذ وحجارة شطبا ، فإذا بلّت الشطبة منها بزيت وقدت مثل الفتيلة وغير ذلك مما شغلهم طلب معادن الذهب عما سواه.

والبجة لا تتعرّض لعمل شيء من هذه المعادن ، وفي أوديتهم شجر المقل (١) والإهليلج والإذخر ، والشيح والسنا والحنظل ، وشجر البان وغير ذلك ، وبأقصى بلدهم : النخل وشجر الكرم والرياحين ، وغير ذلك مما لم يزرعه أحد ، وبها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد ، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت ، ومن الطيور : الببغاء ، والنقيط ، والنوبيّ ، والقماريّ ، ودجاج الحبش ، وحمام بازين ، وغير ذلك.

وليس منهم رجل إلا منزوع البيضة اليمنى ، وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهنّ وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوّج بمقدار ذكر الرجل ، ثم قلّ هذا الفعل عندهم ، وقيل : إنّ السبب في ذلك أنّ ملكا من الملوك حاربهم قديما ، ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثديّ من يولد لهم من النساء ، وقطع ذكور من يولد من الرجال ، أراد بذلك قطع النسل منهم ، فوفوا بالشرط ، وقلبوا المعنى في أن جعلوا قطع الثديّ للرجال ، والفروج للنساء ، وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون : لا نتشبه بالحمير ، وفيهم جنس آخر في آخر بلاد البجة يقال لهم : البازة ، نساء جميعهم يتسمون باسم واحد ، وكذلك الرجال ، فطرقهم في وقت رجل مسلم له جمال ، فدعا بعضهم بعضا ، وقالوا : هذا الله قد نزل من السماء ، وهو جالس تحت الشجرة ، فجعلوا ينظرون إليه من بعد.

وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها ، ورئيت حية في غدير ماء ، قد أخرجت ذنبها والتفت على امرأة وردت فقتلتها ، فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة ، وبها حية ليس لها رأس ، وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات ، وإذا قتلت وأمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده ، ولم يلقه من ساعته مات ، وقتلت حية منها بخشبة ، فانشقت الخشبة ، وإذا تأمّل هذه الحية أحد ، وهي ميتة أو حية أصابه ضررها ، وفي البجة شرّ وتسرع إليه ، ولهم في الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد

__________________

(١) المقل : شجر يشبه النخل. الأعشى ٣ / ٣٨٨.

٣٦٠