كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

قال : فأمر السلطان أبو بكر بن يحيى الحفصيّ (١) ، صاحب تونس بطمه ، فطم القبر. قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى : وأنا أدركت شيئا من ذلك ، وهو أنه ترافع في بعض الأيام طائفة من الحجارين إلى السلطان الملك الظاهر برقوق أعوام ، بضع وتسعين وسبعمائة ، وقد اختلفوا على مال وجدوه بجبل المقطم ، وهو أنهم كانوا يقطعون الحجارة من مغار فيما يلي قلعة الجبل من بحريها ، فانكشف لهم حجر أسود عليه كتابة ، فاجتمعوا على قطع ما بين يدي هذا الحجر طمعا في وجود مال ، فانتهى بهم القطع إلى عمود عظيم قائم في قلب الجبل ، فلعجلتهم أقبلوا بمعاولهم عليه حتى تكسر قطعا ، فإذا هو مجوّف ، وإنسان قائم على قدميه بطوله وتناثر لهم من جهة رأسه دنانير كثيرة ، فاقتسموها وتنافسوا في قسمتها ، واختلفوا حتى اشتهر أمرهم ، وترافعوا إلى السلطان ، فبعث من كشف المغار فوجد الحجر والعمود ، وقد تكسر فأخذ منهم ما وجد بأيديهم من الدنانير ، ولم يجد من يعرف ما قد كتب على الحجر ، وتسامع الناس بالخبر ، فأقبلوا إلى المغار وعبثوا برمّة الميت ، فأخبرني من شاهد سنا من أسنان هذا الميت ، أنها سوداء بقدر الباذنجانة وإن عظم ساقه فيما بين قدمه إلى ركبته خمسة أذرع فيجيء هذا من حساب طوله عشرين ذراعا وأزيد ، ودماغ سنّ واحدة من أسنانه في قدر الباذنجانة ، ما هو إلا كالقبة الكبيرة ، وأخبرني السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق شهاب الدين أحمد بن عليّ بن إبراهيم الحسينيّ المعروف : بابن عدنان وبابن أبي الجن : أنه وقف في سنة أربع عشرة وثمانمائة بمقبرة باب الصغير من دمشق على قبر ليدفن فيه ميت لهم ، فلما تهيأ القبر ، ولم يبق إلا أن يدلى فيه الميت ، انخسف وخرج من الخسف ذباب كثير كبار زرق الألوان حتى كادت تظلهم ، فنزل الحفار في الخسف ، فإذا قبر طوله اثنان وعشرون ذراعا وفيه بطوله ميت قد صار كالرماد.

وأخبرني أيضا : أنه شاهد بهذه المقبرة ضرس إنسان وله ثلاث شعب ، وقد سقطت منه قطعة وهو في قدر البطيخة ، وأنه وزن بحضرته فبلغ رطلين وتسع أواقي بالرطل الشامي ، وإنّ القطعة التي انكسرت منه نحو أوقيتين بالشامي ، فيكون على هذا زنة هذا الضرس نحو اثني عشر رطلا بالمصريّ ، والله تعالى أعلم.

ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

قال أبو عمرو الكنديّ : أجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات ، غير الإسكندرية ، ولما دخل عبد العزيز بن مروان الإسكندرية ، سأل رجلا من علماء الروم عنها وعن عدد أهلها؟ فقال : والله أيها الأمير ، ما أدرك علم هذا أحد من الملوك ، والذي أخبرك

__________________

(١) من ملوك الحفصيين في تونس كان يلي (قسنطينة) لأخيه خالد ، ثم انتفض عليه بعد حروب كثيرة ثم استقر على تونس ، ولد سنة ٦٩٢ ه‍ وتوفي سنة ٧٤٧ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٧١.

٣٠١

كم كان فيها من اليهود ، فإنّ ملك الروم أمر بإحصائهم ، فكانوا ستمائة ألف. قال : فما هذا الخراب الذي في أطرافها ، قال : بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية ، فأتاه كبراء أهلها وعلماؤهم ، وقالوا : أيها الملك لا تتعب فإنّ الإسكندرية أقام الإسكندر على بنائها ، ثلثمائة سنة ، وعمرت ثلثمائة سنة ، وإنها لخراب منذ ثلثمائة سنة ، ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهارا إلا بخرق سود في أيديهم خوفا على أبصارهم من شدّة بياضها.

ومن فضائلها ما قاله بعض المفسرين من أهل العلم : أنها المدينة التي وصفها الله عزوجل في كتابه العزيز فقال : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر / ٨].

قال أحمد بن صالح : قال لي سفيان بن عيينة : يا مصريّ أين تسكن؟ قلت : أسكن الفسطاط ، فقال : أتاني الإسكندرية؟ قلت : نعم ، قال : تلك كنانة الله يجعل فيها خيار سهامه.

وقال وقال عبد الله بن مرزوق الصدفيّ ، لما نعى لي ابن عمي خالد بن يزيد ، وكان قد توفي بالإسكندرية ، لقيني موسى بن عليّ بن رباح وعبد الله بن لهيعة والليث بن سعد متفرّقين كلهم يقول : أليس مات بالإسكندرية؟ فأقول : نعم ، فيقولون : هو حيّ عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما أقامت الدنيا ، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك ، وقال الذين ينظرون في الأهوية والبلدان وترتب الأقاليم والأمصار : أنه لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان طولها بمربوط من كورة الإسكندرية ، ووادي فرغانة. وقال الحسن بن صفوان : وأما الإسكندرية وتنيس ، وأمثالهما ، فقربها من البحر وسكون الحرارة والبرد عندهم ، وظهور ريح الصبا فيهم مما يصلح أمرهم ، ويرق طباعهم ، ويرفع همتهم وليس يعرض لهم ما يعرض لأهل اليشمون من غلظ الطبع والحمارية ، وقد وصف أهل الإسكندرية بالبخل ، قال جلال الدين بن مكرم بن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ :

نزيل اسكندرية ليس يقري

بغير الماء أو نعت السواري

ويتحف حين يكرم بالهواء ال

ملاتن والإشارة للمنار

وذكر البحر والأمواج فيه

ووصف مراكب الروم الكبار

فلا يطمع نزيلهم بخبز

فما فيها لذاك الحرف قاري

وقال أحمد بن جردادية من الفسطاط إلى ذوات الساحل ، أربعة وعشرون ميلا ، ثم إلى مربوط ثلاثون ميلا ، ثم إلى كوم شريك ثلاثون ميلا ، ثم إلى كريون أربعة وعشرون ميلا ، ثم إلى الإسكندرية أربعة وعشرون ميلا ، وقال آخر : وطريق الإسكندرية إذا نضّب ماء النيل يأخذ بين المدائن والضياع ، وذلك إذا أخذت من شطنوف إلى سبك العبيد ، فهو منزل فيه منية لطيفة ، وبينهما اثنا عشر سقسا ، ومن سبك إلى مدينة منوف ، وهي كبيرة فيها

٣٠٢

حمامات وأسواق ، وبها قوم فيهم يسار ووجوه من النار ، وبينهما ستة عشر سقسا ، ومن منوف إلى محلة صرد وفيها منبر وحمام وفنادق ، وسوق صالح ستة عشر سقسا ، ومن محلة صرد إلى سخا وهي مدينة كبيرة ذات حمامات وأسواق ، وعمل واسع وإقليم جليل له عامل بعسكر وجند ، وبه الكتان الكثير وزيت الفجل ، وقموح عظيمة ستة عشر سقسا ، ومن سخا إلى شبر كمية وهي مدينة كبيرة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا ، ومن شبر كمية إلى مسير وهي مدينة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا ، ومن مسير إلى سنهور وهي مدينة ذات إقليم كبير وبها حمامات وأسواق ، وعمل كبير ستة عشر سقسا ، ومن سنهور إلى التخوم وهي إقليم وبها حمامات وفنادق وأسواق ستة عشر سقسا ، ومن التخوم إلى نسترو ، وكانت مدينة عظيمة حسنة على بحيرة اليشمون عشرون سقسا ، ومن نسترو إلى البرلس وهي مدينة كثيرة الصيد في البحيرة وبها حمامات عشر سقسات ، ومن نسترو إلى البرلس إلى اخنا وهي حصن على شط بحر الملح عشر سقسات ، ومن اخنا إلى رشيد وهي مدينة على النيل ومنها يصب النيل في البحر من فوهة تعرف بالأشتوم وهي المدخل ثلاثون سقسا ، وكان بها أسواق صالحة وحمام ، وبها نخيل وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية.

وهذا الطريق الآخذ من شطنوف إلى رشيد ربما امتنع سلوكه عند زيادة النيل ، والثياب المنسوجة بالإسكندرية لا نظير لها ، وتحمل إلى أقطار الأرض ، وفي ثياب الإسكندرية ما يباع الكتان منه إذا عمل ثيابا يقال لها الشرب كل زنة درهم بدرهم فضة ، وما يدخل في الطرز ، فيباع بنظير وزنه مرّات عديدة.

ذكر فتح الإسكندرية

قال أبو عمرو الكندي : لما حاز المسلمون الحصن بما فيه ، أجمع عمرو على المسير إلى الإسكندرية ، فسار إليها في ربيع الأوّل سنة عشرين ، وقال غيره : بل سار في جمادى الآخرة منها.

وذكر سيف بن عمر : أنّ عمرو بن العاص بعث إلى الإسكندرية ، وهو على عين شمس ، عوف بن مالك ، فنزل عليها ، وبعث يقول لأهلها : إن شئتم أن نزلوا فلكم الأمان ، فقالوا : نعم ، فراسلهم وتربصوا أهل عين شمس ، وسار المسلمون من بين ذلك.

وقال ابن عبد الحكم : ويقال : إنّ المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص ، لما فتح الإسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر ، وألحّ عليهم فخافوه ، وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك ، فحدّثنا يزيد بن أبي حبيب : أنّ المقوقس الرومي الذي كان ملكا على مصر صالح عمرو بن العاص ، على أن يسير من أراد من الروم المسير ، ويقرّ من أراد من الروم على أمر قد سماه ، فبلغ ذلك هرقل ملك الروم ، فسخط أشد السخط ، وأنكر أشدّ الإنكار ، وبعث الجيوش ، فأغلقوا أبواب الإسكندرية ،

٣٠٣

وآذنوا عمرا بالحرب ، فخرج إليه المقوقس ، فقال : أسألك ثلاثا ، قال : ما هنّ؟ قال : لا تبذل للروم ما بذلت لي ، فإني قد نصحت لهم ، فاستغشوني. ولا تنقض القبط ، فإنّ النقض لم يأت من قبلهم ، وأن تأمر بي إذا متّ فادفني في بخنس ، فقال عمرو : هذه أهونهنّ علينا ، قال : فخرج عمرو بالمسلمين حين أمكنهم الخروج ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط ، وقد أصلحوا لهم الطرق ، وأقاموا لهم الجسور والأسواق ، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم ، وسمعت بذلك الروم فاستعدّت واستجاشت ، وقدمت عليهم مراكب من أرض الروم فيها جمع عظيم من الروم بالعدّة والسلاح ، فخرج إليهم عمرو من الفسطاط ، متوجها إلى الإسكندرية ، فلم ير منهم أحدا حتى بلغ مربوط ، فلقي فيها طائفة من الروم ، فقاتلهم قتالا خفيفا ، فهزمهم الله ، ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك ، فاقتتلوا ثلاثة أيام ، ثم فتح الله على المسلمين وولي الروم أكتافهم.

ويقال : بل أرسل عمرو بن العاص ، شريك بن سميّ في آثارهم ، فأدركهم عند الكوم الذي يقال له : كوم شريك ، فهزمهم ، وكان على مقدّمة عمرو ، وعمرو بمربوط ، فألجأوه إلى الكوم ، فاعتصم به ، وأحاطت به الروم ، فلما رأى ذلك شريك بن سميّ ، أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفيّ ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له : أشقر صدف ، وكان لا يجاري سرعة ، فانحط عليهم من الكوم ، وطلبته الروم ، فلم تدركه حتى أتى عمرا ، فأخبره ، فأقبل عمرو متوجها ، وسمعت به الروم ، فانصرفت ، ثم التقوا بسلطيس ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هزمهم الله تعالى ، ثم التقوا بالكريون ، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما ، وكان عبد الله بن عمرو ، على المقدّمة ، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو ، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة ، فقال : يا وردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروم ، فقال وردان : الروم تريد الروح أمامك وليس خلفك ، فتقدّم عبد الله ، فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال :

أقول لها إذا جشأت وجاشت

رويدك تحمدي أو تستريحي

وهذا البيت لعمرو بن الإطنابة ، وهو أنّ رجلا من بني النجار كان مجاورا لمعاذ بن النعمان ، فقتل ، فقال معاذ : لا أقتل به إلا عمرو بن الإطنابة ، وهو يومئذ أشرف الخزرج ، فقال عمرو :

ألا من مبلغ الأكفاء عني

وقد تهدي النصيحة للنصيح

بأنكم وما تزجون شطري

من القول المرغي والصريح

سيقدم بعضكم عجلا عليه

وما أثر اللسان إلى الجروح

أبت لي عفتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على المكروه مالي

وإقدامي على البطل المشيح

٣٠٤

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات

وأحمي بعد عن عرض صحيح

بذي شطب كلون الملح صاف

ونفس لم تقرّ على القبيح

الشطب : سعف النخل الأخضر ، الواحدة شطبة ، وجشأت : ارتفعت من حزن أو فزع ، وجاشت : دارت للغثيان ، وقيل : هما بمعنى ارتفع ، والمشيح : البارد المنكمش.

فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال ، فقال عمرو : هو ابني حقا ، وصلى عمرو يومئذ صلاة الخوف ، ثم فتح الله للمسلمين ، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة ، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية ، فتحصن بها الروم ، وكان عليها حصون متينة لا ترام ، حصن دون حصن ، فنزل المسلمون ومعهم رؤساء القبط يمدّونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة ، فأقاموا شهرين ثم تحوّل ، فخرجت عليه خيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن ، فواقعوه ، فقتل يومئذ من المسلمين ، اثنا عشر رجلا ، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم.

وكان ملك الروم يقول : لئن ظهرت العرب على الإسكندرية ففي ذلك انقطاع الروم وهلاكهم لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية ، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية ، فقال الملك : لئن غلبونا على الإسكندرية ، هلكت الروم ، وانقطع ملكها ، فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية حتى يباشر قتالها بنفسه ، فلما فرغ من جهازه صرعه الله عزوجل ، فأماته وكفى المسلمين مؤنته ، وكان موته في سنة تسع عشرة ، فكسر الله بموته شوكة الروم ، فرجع جمع كثير ممن كان قد توجه.

وقال الليث : مات هرقل في سنة عشرين ، وفيها فتحت قيسارية الشام. قال : واستأسدت العرب عند ذلك ، وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وخرج طرف من الروم من باب حصن الإسكندرية ، فحملوا على الناس ، فقتلوا رجلا من مهرة واحتزوا رأسه ، ومضوا به ، فجعل المهريون يتغضبون ، ويقولون : لا ندفنه إلا برأسه ، فقال عمرو : تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم ، احملوا على القوم إذا خرجوا ، فاقتلوا منهم رجلا ثم ارموا برأسه ، يرمونكم برأس صاحبكم ، فخرجت الروم إليهم فاقتتلوا ، فقتل من الروم رجل من بطارقتهم ، فاحتزوا رأسه ، ورموا به الروم ، فرمت الروم برأس المهري إليهم ، فقال : دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.

وكان عمرو يقول : ثلاث قبائل من مصر ، أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما عافق فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفضلها فارسا. وقال رجل لعمرو : لو جعلت المنجنيق ورميتهم به لهدم حائطهم ، فقال عمرو : تستطيع أن يفنى مقامك من الصف ، وقيل له : إنّ العدوّ قد غشوك ونحن نخاف على

٣٠٥

رايطة يريدون امرأته ، فقال : إذا يتخذوا أرياطا كثيرة.

ولما استجرّ القتال ، بارز رجل من الروم ، مسلمة بن مخلد ، فصرعه الروميّ ، وألقاه عن فرسه ، وهوى إليه ليقتله ، حتى حماه رجل من أصحابه ، وكان مسلمة لا يقاوم ، ولكنها مقادير ، ففرحت بذلك الروم وشق على المسلمين ، وغضب عمرو بن العاص لذلك ، وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن ، فقال عمرو عند ذلك : ما بال الرجل السته الذي يشبه النساء يتعرّض مداخل الرجال ، ويتشبه بهم ، فغضب من ذلك مسلمة ، ولم يراجعه ، ثم اشتدّ القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية ، فقاتلهم العرب في الحصن ، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر تفرّقوا في الحصن ، وأغلقوا عليهم باب الحصن ، أحدهم : عمرو بن العاص ، والآخر مسلمة ، ولم نحفظ الآخرين ، وحالوا بينهم وبين أصحابهم ، ولا يدري الروم من هم ، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا إلى ديماس من حماماتهم ، فدخلوا فيه ، فاحترزوا به ، فأمروا روميا أن يكلمهم بالعربية ، فقال لهم : إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى ، فاستأسروا ، ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا عليه ، ثم قال لهم : إنّ في أيدي أصحابكم منا رجالا أسروهم ، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ، ولا نقتلكم ، فأبوا عليه ، فلما رأى ذلك الروميّ منهم قال لهم : هل لكم إلى خصلة ، وهي نصف فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا ، وأمكنتمونا من أنفسكم ، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم ، فرضوا بذلك ، وتعاهدوا عليه ، وعمرو ومسلمة وصاحباهما في الحصن في الديماس ، فتداعوا إلى البراز فبرز رجل من الروم ، وقد وثقت الروم بنجدته وشدّته ، وقالوا : يبرز رجل منكم لصاحبنا ، فأراد عمرو أن يبرز ، فمنعه مسلمة ، وقال : ما هذا تخطىء مرّتين تشذ من أصحابك ، وأنت أمير ، وإنما قوامهم بك ، وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك ، ولا ترضى حتى تبارز وتتعرّض للقتل ، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك ، وأنا أكفيك إن شاء الله تعالى ، فقال عمرو : دونك فربما فرّجها الله بك ، فبرز مسلمة للروميّ ، فتجاولا ساعة ، ثم أعانه الله عليه ، فقتله. فكرّ مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ، ففتحوا لهم باب الحصن ، فخرجوا ولا يدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم بعد ذلك ، فأسفوا على ذلك ، وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم ، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب ، فقال عمرو عند ذلك : استغفر لي ما كنت قلت لك ، فاستغفر له ، وقال عمرو : ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار : مرّتين في الجاهلية ، وهذه الثالثة ، وما منهنّ مرّة إلا وقد ندمت ، وما استحييت من واحدة منهنّ أشدّ مما استحييت مما قلت لك ، وو الله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت ، قال : وأقام عمرو محاصر الإسكندرية أشهرا ، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، قال : ما أبطأوا بالفتح إلا لما أحدثوا ، وكتب إلى عمرو بن العاص : أمّا بعد ، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر ، إنكم تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم

٣٠٦

وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوّكم ، فإنّ الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة (١) نفر ، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس ، وحضهم على قتال عدوّهم ، ورغبهم في الصبر والنية ، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد ، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة ، فإنها ساعة تنزل الرحمة ، ووقت الإجابة وليعجّ الناس إلى الله ، ويسألوه النصر على عدوّهم ، فلما أتى عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه الكتاب ، جمع الناس وقرأ عليهم كتاب عمر رضي‌الله‌عنه ، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس ، وأمر الناس أن يتطهروا ، ويصلوا ركعتين ، ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر ، ففعلوا ، ففتح الله عليهم.

ويقال : إنّ عمرو بن العاص استشار مسلمة ، فقال : أشر عليّ في قتال هؤلاء ، فقال له مسلمة : أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتعقد له على الناس ، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه ، فقال عمرو : من ذلك؟ قال : عبادة بن الصامت ، فدعاه عمرو فأتاه وهو راكب على فرسه ، فلما دنا منه أراد النزول ، فقال له عمرو : عزمت عليك إن نزلت ناولني سنان رمحك ، فناوله إياه ، فنزع عمرو عمامته عن رأسه ، وعقد له ، وولاه قتال الروم ، فتقدّم عبادة مكانه ، فصادف الروم وقاتلهم ، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.

وكان حصار الإسكندرية بعد موت هرقل ، تسعة أشهر وخمسة أشهر قبل ذلك ، وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين ، وقال أبو عمرو الكندي : وحاصر عمرو الإسكندرية ثلاثة أشهر ، ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأوّل ، ويقال : بل فتحها عمرو لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين.

قال القضاعيّ عن الليث : أقام عمرو بالإسكندرية في حصارها ، وفتحها ستة أشهر ، ثم انتقل إلى الفسطاط ، فاتخذها دارا في ذي القعدة.

وقال ابن عبد الحكم : فلما هزم الله تعالى الروم ، وفتح الإسكندرية ، هرب الروم في البرّ والبحر ، فخلف عمرو بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى ومن معه في طلب من هرب من الروم في البرّ ، فرجع من كان هرب من الروم في البحر إلى الإسكندرية ، فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلّا من هرب منهم ، وبلغ ذلك عمرا ، فكرّ راجعا ، ففتحها ، وأقام بها وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : قد فتح علينا الإسكندرية بغير عقد ولا عهد ، فكتب إليه عمرو رضي‌الله‌عنه يقبح رأيه ، ويأمره أن لا يجاوزها. قال ابن لهيعة : وهو فتح

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ١٣ : الأربعة هم : الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد.

٣٠٧

الإسكندرية الثاني ، وكان سبب فتحها هذا : أنّ رجلا يقال له : ابن بسامة كان بوّابا ، فسأل عمرا أن يؤمّنه على نفسه وأرضه وأهل بيته ، ويفتح له الباب ، فأجابه عمرو إلى ذلك ، ففتح له ابن بسامة الباب ، فدخل عمرو وقتل من المسلمين من حين كان من آمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا ، وبعث عمرو بن العاص ، معاوية بن خديج وافدا إلى عمر بن الخطاب بشيرا له بالفتح ، فقال له معاوية : ألا تكتب معي ، فقال له عمرو : وما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة ، وما رأيت وحضرت.

فلما قدم على عمر ، أخبره بفتح الإسكندرية فخرّ عمر ساجدا ، وقال : الحمد لله ، وقال معاوية بن خديج : بعثني عمرو بن العاص إلى عمر رضي‌الله‌عنه بفتح الإسكندرية ، فقدمت المدينة في الظهيرة ، فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد ، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فرأتني شاحبا عليّ ثياب السفر ، فأتتني ، وقالت : من أنت؟ فقلت : أنا معاوية بن خديج ، رسول عمرو بن العاص ، فانصرفت عني ، ثم أقبلت تشدّ أسمع حفيف إزارها على ساقها ، حتى دنت مني ، ثم قالت : قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك ، فتبعتها ، فلما دخلت فإذا بعمر يتناول رداءه بإحدى يديه ، ويشدّ إزاره بالأخرى ، فقال : ما عندك؟ فقلت : خير يا أمير المؤمنين ، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد ، فقال للمؤذن : أذن في الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، ثم قال لي : قم فأخبر أصحابك ، فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله ، واستقبل القبلة ، فدعا بدعوات ، ثم جلس ، فقال : يا جارية! هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت ، فقال : كل ، فأكلت حياء ، ثم قال : كل ، فإنّ المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلا لأكلت معك ، فأصبت على حياء ، ثم قال : يا جارية! هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق ، فقال : كل ، فأكلت على حياء ، ثم قال : ما ذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال : قلت : أمير المؤمنين قائل ، قال : بئس ما قلت ، أو بئس ما ظننت لئن نمت النهار لأضيعنّ الرعية ، ولئن نمت الليل لأضيعنّ نفسي ، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية.

ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب : أمّا بعد! فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية ، بأربعة آلاف حمام ، وأربعين ألف يهوديّ ، عليهم الجزية ، وأربعمائة ملهى للملوك.

وعن أبي قبيل : أنّ عمرا لما فتح الإسكندرية وجد فيها : اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر ، وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو ، وفي الليلة التي خافوا فيها دخول عمرو ، سبعون ألف يهوديّ.

وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات : اثنا عشر ألف ديماس ، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس ، كل مجلس يسع جماعة نفر ، وكان عدّة من بالإسكندرية من الروم ،

٣٠٨

مائتي ألف رجل ، فلحق بأرض الروم أهل القوّة وركبوا السفن ، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار ، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل ، وبقي من بقي من الأسارى من بلغ الخراج ، فأحصي يومئذ ستمائة ألف ، سوى النساء والصبيان ، فاختلف الناس على عمرو في قسمها ، فكان أكثر الناس يريدون قسمها ، فقال عمرو : لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها ، ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها ، فكتب إليه عمر : لا تقسمها وذرها يكون خراجها فيئا للمسلمين ، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم ، فأقرّها عمرو ، وأحصى أهلها ، وفرض عليهم الخراج ، فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين على كل رجل ، لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين ، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية ، فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.

وقد كانت قرى من قرى مصر قاتلت ، فسبوا منها قرية يقال لها : بلهيب ، وقرية يقال لها : الخيس ، وقرية يقال لها : سلطيس ، فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها ، فردّهم عمر بن الخطاب إلى قراهم ، وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمّة.

وعن يزيد بن أبي حبيب : أنّ عمرا سبى أهل بلهيب ، وسلطيس ، وقرطيا وسخا ، فتفرّقوا ، وبلغ أوّلهم المدينة حين نقضوا ، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردّهم ، فردّ من وج منهم ، وفي رواية : إنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كتب في أهل سلطيس خاصة من كان منهم في أيديكم ، فخيروه بين الإسلام ، فإن أسلم فهو من المسلمين له مالهم ، وعليه ما عليهم ، وإن اختار دينه ، فخلوا بينه وبين قريته ، فكان البلهيبي ، خير يومئذ ، فاختار الإسلام.

وفي رواية : إنّ أهل سلطيس ، وصا ، وبلهيب ، ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم ، فلما ظهر عليهم المسلمون استحلوهم ، وقالوا : هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليه عمر : أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ، ذمّة للمسلمين ، وتضرب عليهم الخراج ، ويكون خراجهم ، وما صالح عليه القبط ، قوّة للمسلمين على عدوّهم ، ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا ، ففعل ذلك.

ويقال : إنما ردّهم عمر رضي‌الله‌عنه ، لعهد كان تقدّم لهم. وقال ابن لهيعة : جبى عمرو جزية الإسكندرية ستمائة ألف دينار ، لأنه وجد ثلثمائة ألف من أهل الذمّة ، فقدّر عليهم دينارين دينارين ، فبلغت ذلك ، وقيل : كانت جزية الإسكندرية ثمانية عشر ألف دينار ، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك ، بلغت ستة وثلاثين ألف دينار ، ويقال : إنّ عمرو بن

٣٠٩

العاص ، استبقى أهل الإسكندرية ، فلم يقتل ولم يسب ، بل جعلهم ذمّة كأهل النوبة.

ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

قال ابن عبد الحكم : فأمّا الإسكندرية فلم يكن بها خطط ، وإنما كانت أخائذ ، من أخذ منزلا نزل فيه هو وبنو أبيه ، وإنّ عمرو بن العاص ، لما فتح الإسكندرية ، أقبل هو وعبادة بن الصامت ، حتى علوا الكوم الذي فيه مسجد عمرو بن العاص ، فقال معاوية بن خديج : ننزل ، فنزل عمرو القصر ، ونزل أبو ذر منزلا كان غربيّ المصلى الذي عند مسجد عمرو ، مما يلي البحر ، وقد انهدم ، ونزل معاوية بن خديج فوق التل ، وضرب عبادة بن الصامت خباءه فلم يزل فيه حتى خرج من الإسكندرية.

ويقال : إنّ أبا الدرداء كان معه ، والله أعلم. قال : فلما استقامت لهم البلاد قطع عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الناس ، وربعا في السواحل ، والنصف مقيمون معه ، وكان يصير بالإسكندرية خاصة الربع في الصيف ، بقدر ستة أشهر ، ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر ، وكان لكل عريف قصر ينزل فيه بمن معه من أصحابه ، واتخذوا فيه أخائذ.

وعن يزيد بن أبي حبيب : أن المسلمين لما سكنوا الإسكندرية في رباطهم ، ثم قفلوا ، ثم غزوا ابتدروا ، فكان الرجل منهم يأتي المنزل الذي كان فيه صاحبه قبل ذلك ، فيبتدره فيسكنه ، فلما غزوا قال عمرو : إني أخاف أن تخرّبوا المنازل إذا كنتم تتعاورونها ، فلما كان عند الكريون قال لهم : سيروا على بركة الله ، فمن ركز منكم رمحه في دار فهي له ، ولبني بنيه ، فكان الرجل يدخل الدار ، فيركز رمحه في منزل منها ، ثم يأتي الآخر فيركز رمحه في بعض بيوت الدار ، فكانت الدار تكون لقبيلتين وثلاث ، وكانوا يسكنونها حتى إذا قفلوا سكنها الروم ، وعليهم مرمّتها ، وكان يزيد بن أبي حبيب يقول : لا يحلّ من كرائها شيء ، ولا بيعها ولا يورث منها شيء ، إنما كانت لهم يسنونها في رباطهم.

وعن يزيد بن أبي حبيب : أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ، ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها ، همّ أن يسكنها ، وقال : مساكن قد كفيناها ، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، يستأذنه في ذلك ، فسأل عمر الرسول : هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل ، فكتب عمر إلى عمرو : إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفا ، فتحوّل عمرو بن العاص إلى الفسطاط ، وقال : وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص ، وهو نازل بمدائن كسرى ، وإلى عامله بالبصرة ، وإلى عمرو بن العاص ، وهو نازل بالإسكندرية أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء ، متى ما أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم ، قدمت ، فتحوّل سعد بن أبي وقاص من مدائن كسرى إلى الكوفة ، وتحوّل صاحب البصرة من

٣١٠

المكان الذي كان فيه ، فنزل البصرة ، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط ، وكان عمر بن الخطاب يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية ، وكان على الولاء لا يغفلها ، ويكنف مرابطها ، ولا يأمن الروم عليها.

وكتب عثمان رضي‌الله‌عنه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح : قد علمت كيف كان همّ أمير المؤمنين بالإسكندرية ، وقد نقضت الروم مرّتين ، فألزم الإسكندرية مرابطيها ، ثم أجر عليهم أرزاقهم ، وأعقب بينهم في كل ستة أشهر ، قال : وكانت الإسكندرية انتقضت ، وجاءت الروم عليهم ، منويل الخصيّ في المراكب ، حتى أرسوا بالإسكندرية ، فأجابهم من بها من الروم ، ولم يكن المقوقس تحرّك ونكث ، وقد كان عثمان رضي‌الله‌عنه ، عزل عمرو بن العاص ، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فلما نزلت الروم ، سأل أهل مصر ، عثمان أن يقرّ عمرا حتى يفرغ من قتال الروم ، فإنّ له معرفة بالحرب وهيبة في العدوّ ، ففعل.

وكان على الإسكندرية سورها ، فحلف عمرو بن العاص : لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى يكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان ، فخرج إليهم عمرو في البرّ والبحر ، فضموا إلى المقوقس من أطاعه من القبط ، وأمّا الروم فلم يطعه منهم أحد ، فقال خارجة بن حذافة لعمرو : ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ، فلا آمن أن تنتقض مصر كلها ، فقال عمرو : لا ، ولكن أدعهم حتى يسيروا إليّ فإنهم يصيبون من مرّوا به ، فيخزي الله بعضهم ببعض ، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى ، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها ، ويأكلون أطعمتها ، وينتهبون ما مرّوا به ، فلم يتعرّض لهم عمرو ، حتى بلغوا نفيوس ، فلقوهم في البرّ والبحر ، فبدأت الروم القبط ، فرموا بالنشاب في الماء رميا شديدا ، حتى أصابت النشاب يومئذ فرس عمرو في لبته ، وهو في البرّ ، فعقر فنزل عنه عمرو ، ثم خرجوا من البحر ، فاجتمعوا هم والذين في البرّ ، فنفحوا المسلمين بالنشاب ، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا ، وحملوا على المسلمين حملة ولى المسلمون منها ، وانهزم شريك بن سميّ في خيله ، وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف ، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب ، فدعا إلى البراز ، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له : حومل ، يكنى : أبا مذحج ، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ، ثم ألقى البطريق الرمح ، وأخذ السيف ، فألقى حومل رمحه ، وأخذ سيفه ، وكان يعرف بالنجدة ، فجعل عمرو يصيح : أبا مذحج ، فيجيبه : لبيك ، والناس على شاطىء النيل في البرّ على تعبيتهم وصفوفهم ، فتجاولا ساعة بالسيف ، ثم حمل عليه البطريق ، فاحتمله ، وكان نحيفا فاخترط حومل خنجرا ، كان في منطقته أو في ذراعه ، فضرب به نحر العلج أو ترقوته ، فأثبته ووقع عليه ، فأخذ سلبه ، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمه‌الله ، فرؤي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم ، ثم شدّ المسلمون عليهم ، فكانت هزيمتهم ، فطلبهم

٣١١

المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ، ففتح الله عليهم ، وقتل منويل الخصي ، وقتلهم عمرو حتى أمعن في مدينتهم ، فكلم في ذلك ، فأمر برفع السيف عنهم ، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدا ، وهو المسجد الذي بالإسكندرية الذي يقال له : مسجد الرحمة ، سمي بذلك لرفع عمرو السيف هناك ، وهدم سورها كله ، وجمع ما أصاب منهم ، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض ، فقالوا : قد كنا على صلحنا ، وقد مرّ علينا هؤلاء اللصوص ، فأخذوا متاعنا ودوابنا ، وهو قائم في يديك ، فردّ عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه ، وأقاموا عليه البينة ، وقال بعضهم لعمرو : ما حلّ لك ما صنعت بنا ، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمّتك ، ولم ننقض ، فأما من نقض ، فأبعده الله ، فندم عمرو وقال : يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.

وكان سبب نقض الإسكندرية هذا أن ظلما صاحب إخنا قدم على عمرو ، فقال : أخبرنا ما على أحدنا من الجزية ، فيصير لها ، فقال عمرو ، وهو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك؟ إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم ، وإن خفف عنا خففنا عنكم ، فغضب صاحب إخنا ، وخرج إلى الروم فقدم بهم ، فهزمهم الله تعالى ، وأسر فأتي به إلى عمرو ، فقال له الناس : اقتله ، فقال : لا ، بل انطلق ، فجئنا بجيش آخر وسوّره وتوجه وكساه برنس أرجوان ، فرضي بأداء الجزية ، فقيل له : لو أتيت ملك الروم ، فقال : لو أتيته لقتلني ، وقال : قتلت أصحابي ، وعن أبي قبيل : أن عتبة بن أبي سفيان عقد لعلقمة القطيفيّ على الإسكندرية ، وبعث معه اثني عشر ألفا فكتب علقمة إلى معاوية بن أبي سفيان ، يشكو عتبة حين غرّر به ، وبمن معه ، فكتب إليه معاوية : إني قد أمددتك بعشرة آلاف من أهل الشام ، وبخمسة آلاف من أهل المدينة ، فكان في الإسكندرية سبعة وعشرون ألفا ، وفي رواية : أن علقمة بن يزيد كان على الإسكندرية ، ومعه اثنا عشر ألفا ، فكتب إلى معاوية : إنك خلفتني بالإسكندرية ، وليس معي إلا اثنا عشر ألفا ما يكاد بعضنا يرى بعضا من القلة ، فكتب إليه معاوية : إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة آلاف من أهل المدينة ، وأمرت معن بن يزيد السلميّ أن يكون بالرملة في أربعة آلاف مسكين بأعنة خيولهم متى بلغهم عنك فزع ، يعبروا إليك. قال ابن لهيعة : وقد كان عمرو بن العاص يقول : ولاية مصر جامعة ، تعدل الخلافة.

وكان عمرو حين توجه إلى الإسكندرية ، خرّب القرية التي تعرف اليوم بخربة وردان.

واختلف علينا السبب الذي خربت له ، فحدثّنا سعيد بن عفير : أنّ عمرا لما توجه إلى نفيوس ، لقتال الروم ، عدل وردان لقضاء حاجته عند الصبح ، فاختطفه أهل الخربة ، فغيبوه ، ففقده عمرو ، وسأل عنه وقفا أثره ، فوجدوه في بعض دورهم ، فأمر بإخرابها وإخراجهم منها ، وقيل : كان أهل الخربة رهبانا كلهم ، فغدروا بقوم من ساقة عمرو ، فقتلوهم بعد أن

٣١٢

بلغ عمرو الكريون ، فأقام عمرو ووجه إليهم وردان ، فقتلهم وخرّبها فهي خراب إلى اليوم ، وقيل : كان أهل الخربة ، أهل تويت ، وخبت ، فأرسل عمرو إلى أرضهم ، فأخذ له منها جراب فيه تراب من ترابها ، فكلمهم فلم يجيبوه إلى شيء ، فأمر بإخراجهم ، ثم أمر بالتراب ففرش تحت مصلاه ، ثم قعد عليه ، ثم دعاهم ، فكلمهم ، فأجابوه إلى ما أحبّ ، ثم أمر بالتراب فرفع ، ثم دعاهم فلم يجيبوه إلى شيء ، فعل ذلك مرارا ، فلما رأى عمرو ذلك ، قال : هذه بلدة لا يصلح أن توطأ ، فأمر بإخرابها ، فلما هزم الله الروم ، أراد عثمان رضي‌الله‌عنه ، أن يكون عمرو بن العاص على الحرب ، وعبد الله بن سعد على الخراج ، فقال عمرو : إنا إذا كماسك البقرة بقرنيها ، وآخر يحلبها ؛ فأبى عمرو ، وكان فتح عمرو هذا عنوة قسرا في خلافة عثمان سنة خمس وعشرين ، وبينه وبين الفتح الأوّل أربع سنين. وقال الليث : كان فتح الإسكندرية الأوّل سنة اثنتين وعشرين ، وكان فتحها الآخر خمسة وعشرين. وأقامت الجيش من السماء يقاتلون الناس سبع سنين بعد أن فتحت مصر مما يفتحون عليهم من تلك المياه والغياض ، قال : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ذا الصواري ، في سنة أربع وثلاثين.

وكان من حديث هذه الغزوة : أنّ عبد الله بن سعد لما نزل ذو الصواري أنزل نصف الناس ، مع بسر بن أرطاة في البرّ ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله بن سعد فقال : ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل في ألف مركب فافعله الساعة ، وكانت مراكب المسلمين مائتي مركب ونيفا ، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس ، فقال : بلغني أن ابن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب فأشيروا عليّ ، فما كلمه رجل من المسلمين ، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ، ثم قام الثانية ، فكلمهم فما كلمه أحد ، فجلس. ثم قام الثالثة ، فقال : إنه لم يبق شيء فأشيروا عليّ ، فقام رجل من أهل المدينة ، كان متطوّعا مع عبد الله بن سعد ، فقال : أيها الأمير ، إنّ الله جلّ ثناؤه يقول : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة / ٢٤٩] ، فقال عبد الله : اركبوا ، فركبوا ، وإنما في كل مركب نصف شحنته ، لأنه قد خرج النصف الآخر إلى البرّ مع بسر ، فلقوهم ، فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر ابن هرقل ، لئلاتصيبه الهزيمة ، وجعلت القوارب تختلف إليه بالأخبار ، فقال : ما فعلوا؟ قالوا : قد اقتتلوا بالنبل والنشاب ، فقال : غلبت الروم ، ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟ قالوا : قد نفد النبل والنشاب فهم يرمون بالحجارة ، فقال : غلبت الروم ، ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟ قالوا : قد نفدت الحجارة ، وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف ، قال : غلبت الروم ، وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال ، قال : فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدوّ ، فكان مركب العدوّ يجترّ مركب عبد الله إليهم ، فقام علقمة بن يزيد القطيفيّ ، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب ، فضرب السلسلة بسيفه ، فقطعها فسأل عبد الله امرأته بعد ذلك ، بسيسة ابنة حمزة بن يشرح ، وكانت

٣١٣

مع عبد الله يومئذ ، وكان الناس يغزون بنسائهم في المراكب : من رأيت أشدّ قتالا؟ قالت علقمة: صاحب السلسلة ، وكان عبد الله قد خطب بسيسة إلى أبيها ، فقال له : إن علقمة قد خطبها ، وله عليّ فيها رأي ، فإن تركها أفعل ، فكلم عبد الله علقمة ، فتركها ، فتزوّجها عبد الله بن سعد ، ثم هلك عنها عبد الله ، فتزوّجها بعده علقمة بن زيد ، ثم هلك عنها علقمة ، فتزوّجها بعده كريب بن أبرهة ، وماتت تحته. وقيل : مشت الروم إلى قسطنطين ابن هرقل في سنة خمس وثلاثين ، فقالوا : أنترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى؟ فقال : ما أصنع بكم ما تقدرون أن تمالكوا ساعة إذا لقيتم العرب ، قالوا : اخرج على أنا نموت ، فتبايعوا على ذلك ، فخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية ، فسار في أيام غالبة الرياح ، فبعث الله عليهم ريحا فغرّقهم إلا قسطنطين فإنه نجا بمركبه ، فألقته الريح بصقلية ، فسألوه عن أمره فأخبرهم ، فقالوا : شتّت النصرانية ، وأفنيت رجالها لو دخلت العرب علينا لم نجد من يردّهم ، فقال : خرجنا مقتدرين فأصابنا هذا ، فصنعوا له الحمام ، ودخلوا عليه فقال : ويلكم يذهب رجالكم ، وتقتلون ملككم؟ قالوا : كأنه غرق معهم ، ثم قتلوه وخلوا من كان معه في المركب. قال أبو عمرو الكنديّ : وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب واجتماعها.

ذكر بحيرة الإسكندرية

قال ابن عبد الحكم : كانت بحيرة الإسكندرية كروما كلها لامرأة المقوقس ، فكانت تأخذ خراجها منهم الخمر بفريضة عليهم ، فكثر الخمر عليها ، حتى ضاقت به ذرعا ، فقالت : لا حاجة لي في الخمر ، أعطوني دنانير ، فقالوا : ليس عندنا ، فأرسلت إليهم الماء ، فغرّقتها فصارت بحيرة يصاد فيها الحيتان حتى استخرجها الخلفاء من بني العباس ، فسدّوا جسورها وزرعوها ، ثم صارت بحيرة طولها إقلاع يوم في عرض يوم ، ويصير إليها الماء من أشتوم في البحر الروميّ ، ويخرج منها إلى بحيرة دونها في خليج عليه مدينتان : إحداهما الحدبة ، والأخرى اتكو ، وهي كثيرة المقاثي والنخل ، وكلها في الرمل ويصب في هذه البحيرة خليج من النيل يسمى : الحافر ، طوله نصف يوم أقلاعا ، وهو كثير الطير والسمك والعشب ، وكان السمك بوجود هذه البحيرة في الإسكندرية غاية في الكثرة ، يباع بأقلّ القيم ، وأبخس الأثمان ، ثم انقطع الماء عن هذه البحيرة منذ.

ذكر خليج الإسكندرية

يقال : إن كلوباطرة الملكة ، هي التي ساقت خليج الإسكندرية حتى أدخلته إليها ، ولم يكن يبلغها الماء ، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية ، وبلطت قاعه بالرخام من أوّله إلى آخره ، ولم يزل يوجد ذلك فيه.

٣١٤

وقال أبو الحسن المخزومي في كتاب المنهاج : أمّا خليج الإسكندرية فإنه من فوهة الخليج إلى ترعة بودرة ليس على شيء منها سدّ بمخرج محلة تبوك اسينة أورين محلة ، فرنو محلة ، حسن منية طراد ، وتعرف بالقاعة محلتا نصر ومسروق ، فأمّا ترعة لقانة فإنها تفتح بعد سبعة أيام من توت ، والترعة الجديدة تفتح في السادس عشر من توت ، وترعة بودرة تفتح بعد سبعة أيام من توت ، وترعة بو يحيى ، وترعة بو السحما ، وترعة القهوقية ليس على شيء من ذلك سدّ ، وترعة الشراك تفتح بعد سبعة أيام من توت ، وترعة بو خراشة ، وترعة البربيط يشرب منها ديسو وسمخراط ، وشيرنوبة ، ومنية حماد ، وسنادة ، وبعض محلة مارية ، وترعة فيشة بلخا تفتح في ثاني عشر توت ، وجرت العادة أن تفتح في النوروز ، ترعة بويط ، ومقطع سمديسة يفتح في الثاني والعشرين من توت ، ومقطع ياطس يفتح في تاسع عشر توت ، ولما سدّ المقطع المذكور عملت بعد ذلك ترعة تروي الصفقة القبلية منها ، فتفتح في يوم النوروز ، ولما استحدثت ترعة أفلاقة ، وخرجت في أرض ياطس جرت العادة إذا رويت الصفقة القبلية من أفلاقة ، تطلق الترعة المذكورة على القسم البحريّ من ياطس إلى أن يروي ، وترعة القارورة محدثة ، وترعة بفوها تفتح في ثاني عشر توت ، وترعة افلاقة تفتح في عاشر توت ، وترعة اسكنيدة تفتح في سادس توت.

تراع بحر دمنهور تفتح في العشرين من مسري إلى سادس توت ، ويروى منها بعض طاموس ، وبعض كنيسة الغيط ، وبعض قرطسا ودمنهور ، ترعة القواديس منها تشرب شبرا النخلة ، وكوم التلول ، وتراع شبرا النخلة تفتح على أعاليها من أوّل توت ، وترعة بسطري تفتح في خامس عشر مسري ، وترعة مسيد تفتح في ثامن توت ، وترعة سنتوية تفتح في ثامن عشر توت ، وبحر دمشوية يفتح في العشرين من مسري ، ومنه تشرب منية رزقون وسفط كرداسة ودمشوية ومحلة الشيخ ومصيل ، وترعة دمشوية تفتح في تاسع توت ويقيم الماء عليها سبعة عشر يوما ، وتفتح إلى محلة الشيخ ومصيل يقيم الماء عليها ثلاثين يوما ، ويسدّ بعد ذلك على دمشوية سبعة أيام ، وعلى سفط ومنية رزقون ، ترعة برسيق كانت تفتح في أوّل توت.

محلة برسيق : ليس عليها سدّ.

محلة الكروم تفتح في ثامن توت ومنها تشرب عدّة أماكن وهي محلة الكروم وكفورها ، وهي دنيسة ، وكوم الولائد وكوم الصخرة وديرامس والصفاصف ، وما يخرج عن كفورها ، وهي تلمسان والجلمون من حقوق محلة كيل ، ومنها تشرب الجهة الغربية.

شبرابار ليس عليها سدّ وترعة قافلة كانت تفتح في ثامن توت ، وليس عليها الآن سدّ ، وترعة بلقطر وكفورها كانت تفتح في تاسع توت ، وليس عليها الآن سدّ.

٣١٥

ترعة الراهب ليس عليها سدّ ، وترعة دسونس المقاريضي تسقي الحلفاية وتفتح في ثامن توت ، وكذلك ترعة مرحنا والملعقية ، وترعة نيلامة ، وبيشاي ، وآخر تراع الحجيجة ، وترعة الكريون تفتح في ثامن توت ، وترعة السلقون كانت تفتح في سادس توت ، وليس عليها الآن سدّ ، وترعة أرمياخ تفتح في ثاني عشر توت ، وترعة ابلوق تفتح في سادس توت ، وأمّا جون رمسيس ، فإنّ بحر رمسيس كان يضرب السدّ فيه على تراع رمسيس من أوّل النيل إلى سابع عشر توت ، والذي يشرب من السدّ المذكور من النواحي والكفور رمسيس ومحلة جعفر وفليشان ، وبعض أبنية البعيديّ ، وبعض خربتا وبعض البلكوس ، وبعض بولين وبعض محلة وافد والبيضاء ، وبعض طيلاس ، ثم يفتح سدّ دكدولة ، وهو محدث يقيم الماء عليه عشرة أيام ، وتشرب منه دكدولة ، ومحلة معن ومنية أسامي وبعض صيفية ، ثم يقطع سدّ الفطامي وهو محدث ، ومنه يشرب بعض جنبوية وبليانة البحرية والسرّة وأبو حمار والبهوط ، ثم يقطع سدّ رسونس ، وأبو دينار وترعة طبرينة ، فيشرب منه دنسال وطلموس يقيم الماء عليها ستة أيام ، ومنه تشرب منية عطية وسلطيس.

وأما بحر دمنهور فإنه يسدّ على سلطيس إلى سابع عشر توت ، ومنه تشرب سلطيس وزهرا وبعض طابوس وبعض قرطسا وبعض كنيسة الغيط ودمنهور ، ثم يقطع سدّ نديبة وهو محدث فيقيم ثمانية أيام ومنه تشرب نديبة ودقرس والعميرية والنسرين ، ثم يفتح ويسدّ على محلة خفض ، ومحلة كيل ومحلة نمير ، ثم يقطع سدّ سلطيس ، وهو محدث فيقيم عشرة أيام بعد اختلاط الماءين ببحر دمنهور ، ورمسيس ، ثم يقطع جسر ملولة ومنه تشرب تروجة وأرسيس والمراسي وغابة الأعساس وبعض سمرو ، ومحلة نمير ، ويبقى هناك إلى انقضاء النيل.

وأمّا ترعة طبرينة فهي محدثة وإذا رويت طبرينة تطلق على دسونس أمّ دينار ، ثم تقطع على طاموس بمقدار ريّها ثم تطلق في النيل العالي على أرض قراقس ويطلق الماء على قرطسا وكنيسة الغيط وخليج الطبرينة إذا خرج الماء منه يسقى منه في أوّل النيل إلى أن يضرب جسر شبراوسيم ، فيسقي منه شبراوسيم ، وبعض البلكوس ، وحفيرة الزعفراني ، وبعض بولين ، ومسجد غانم والصوّاف وكوم شريك ومنية مغيين ، وتل الفطامي ومحلة وافد ، ثم يقطع جسر دليجة ، ومنه يشرب بعض خربتا ، وبعض فليشان وبعض بولين والبيضاء ، ودنست وتلبانة الأبراج ، وتل بقا والحدّين واليهودية ، والنسوم ، وأبو صمادة والحصن وقلاوة بني عبيد وطوخ دخاية ودرشا وسقرا ودليجة ولمحة وطيبة ، ثم يقطع على منية وزراقة الحجر والمحزون وبعض حيارس وافزيم وأبو سمار وأمّ الضروع.

خليج ابن زلوم ويعرف بخليج ابن ظلوم ، وسدّ مخرج التعيدي لا يفتح إلى عشرة أيام من توت ، ومنه يشرب شابور وكنيسة مبارك وبعض سرسيقة وبعض دموشة ومنية يزيد

٣١٦

وحوض الماصلي وحصة سلمون وبعض سنيت وبعض التعيدي وبعض فليشان ، ثم يفتح فيشرب منه أمليط وبعض انباي وبعض كنيسة عبد الملك وبعض أرمنية وميسنا وبعض محلة عبيد وسفط خالد وبرنامة وشبرانوبة وكيمان شراس ، وبعض دمشوه وتقام الحرّاس على جسر سفط ، ويشرب من خليج الإسكندرية وما يفيض منه أهل الباطن ، وأهل البحيرة في فجاج وأودية ، فيكون ذلك الماء صلة وهم قبيل من دنانة والرمحانة وبني يزان ، وقبائل البربر ، ويزرعون عليه فيستوفي منهم الخراج وبين مشارق الفرما من ناحية جوجير وقاقوس وبين آخر ما يشرب من خليج الإسكندرية مسيرة شهر كان عامرا كله في محلول ومعقود إلى ما بعد الخمسين وثلثمائة من سني الهجرة ، وقد خرب معظم ذلك.

وقال أبو بكر الطرطوسي عمن حدّثه من مشايخ البحر أنه قال : شاهدت الإسكندرية والصيد في الخليج : مطلق للرعية والسمك فيه يطفو الماء به كثرة ، حتى تصيده الأطفال بالخرق ، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب حتى كاد لا يرى فيه إلا الواحدة بعد الواحدة إلى يومنا هذا.

وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن الحارث بن مسكين : أنه تقلد قضاء مصر من قبل أمير المؤمنين الواثق بالله في سنة تسع وثلاثين ومائتين ، فذكر سيرته وقال : وحفر خليج الإسكندرية ، وورد الكتاب بصرفه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.

وقال جامع السيرة الطولونية : وفي ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين ومائتين أمر أحمد بن طولون بحفر خليج الإسكندرية.

وقال المسعوديّ : وقد كان النيل انقطع عن بلاد الإسكندرية قبل سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، وقد كان الإسكندر ، بنى الإسكندرية على هذا الخليج من النيل وكان عليها معظم ماء النيل ، فكان يسقي الإسكندرية ، وبلاط مربوط ، وكانت بلاد مربوط ، في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة ، وكانت السفن تجري في النيل وتتصل بأسواق الإسكندرية ، وقد بلط أرض خليجها في المدينة بالأحجار والمرمر وانقطع الماء عنها لعوارض سدّت خليجها ، ومنعت الناس دخوله ، فصار شربهم من الآبار ، وصار النيل على يوم منهم.

وذكر المسبحيّ : أن الحاكم بأمر الله ، أبا منصور بن العزيز ، أطلق لحفر خليج الإسكندرية في سنة أربع وأربعمائة ، خمسة عشر ألف دينار ، فحفر كله ، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة ، بعث الملك الظاهر بيبرس ، الأمير عليا أمير جاندار لحفر خليج الإسكندرية ، وقد امتلأت فوهته بالطين ، وقلّ الماء في الإسكندرية فابتدأ بالحفر من التعيدي ، وأنشأ هناك مسجدا وتولى مباشرة هذا الحفر ، المعلم تعاسيف ، ناظر الدواوين ، ثم بعث السلطان في سنة أربع وستين وستمائة لحفر هذا الخليج ، الأمير علم الدين سنجر

٣١٧

المسروري ، ثم سار بعامّة الأمراء والأجناد وباشر الحفر بنفسه ، وعمل فيه الأمراء ، وجميع الناس إلى أن زالت الرمال التي كانت على الساحل بين التعيدي وفم الخليج ، ثم عدّى إلى بار نبار ، وغرّق مراكب هناك ، وبنى عليها بالحجارة ، فلما تم الغرض عاد إلى قلعة الجبل ، ثم تعطل استمرار جريان الماء فيه بطول السنة ، وصار يحفر سريعا بعد شهرين أو نحوهما من دخول الماء إليه ، واحتاج أهل الإسكندرية في طول السنة إلى الشرب من الصهاريج التي يخزن فيها الماء إلى أن كانت سنة عشر وسبعمائة ، فقدم الأمير بدر الدين بكتوت الخزنداري المعروف بأمير شكار ، متولي الإسكندرية إلى قلعة الجبل ، وحسّن للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون حفره ، وذكر له ما في ذلك من المنافع أوّلها حمل الغلال وأصناف المتجر إلى الإسكندرية في المركب ، وفي ذلك توفير للكلف وزيادة في مال الديوان ، وثانيها عمارة ما على حافتي الخليج من الأراضي بإنشاء الضياع والسواقي ، فينمو الخراج بهذا نموّا كثيرا ، وثالثها انتفاع الناس به في عمارة بساتينهم ، وشرب مائه دائما ، فأعجب السلطان ذلك ، وندب الأمير بدر الدين محمد بن كندعدي بن الوزيري مع بكتوت لعمله ، وتقدّم إلى جميع أمراء الدولة بإخراج مباشريهم لإحضار رجال النواحي الجارية في إقطاعاتهم العمل للحفير ، وكتب لولاة الأعمال بالوقوف في العمل ، فاجتمع من النواحي نحو الأربعين ألف رجل ، جمعت في نحو العشرين يوما ، ووقع العمل في شهر رجب من السنة المذكورة وأفرد لكل أهل ناحية قطعة يحفرونها حتى كمل ، فجاء قياس الحفر ، من فم بحر النيل إلى ناحية شنبار ، ثمانية آلاف قصبة حاكمية ، ومن شنبار إلى الإسكندرية مثلها ، وكان الخليج الأصليّ يدخل الماء إليه ، من حدّ شنبار ، فجعل فم هذا البحر يرمي عليه ، وعمل عمقه ، ست قصبات في عرض ، ثماني قصبات ، فلما انتهوا إلى حدّ الخليج الأوّل حفر أيضا على نظير الخليج المستجدّ ، فصارا بحرا واحدا ، وركبت عليه السدود ، والقناطر ، ووجد في الخليج الأوّل عند حفره من الرصاص المبنيّ تحت الصهاريج شيء كثير جدّا ، فلم يتعرّض السلطان لشيء منه ، وأنعم به على الأمير بكتوت ، وعظمت المشقة في حفر هذا الخليج ، فإنّ الذي تجاوز البحر منه غلب عليه الماء ، فصارت الرجال تغطس فيه وترفع الطين من أسفله ، ثم كثر الماء فركبت السواقي حتى نزحته ، إلا أنّ عظيم النفع به سهل جميع ذلك ، فإنّ السفن جرت فيه طول السنة ، واستغنى أهل الإسكندرية عن شرب ماء الصهاريج ، وبادر الناس للعمارة على جانبي الخليج ، فلم يمض غير قليل حتى استجدّ عليه ما يزيد على مائة ألف فدّان زرعت بعد ما كانت سباخا ، وما ينيف على ستمائة ساقية برسم القلقاس والنيلة والسمسم ، وفوق الأربعين ضيعة ، وأزيد من ألف غيط بالإسكندرية ، وعمرت منه عدّة بلاد كثيرة ، وتحوّل عالم عظيم إلى سكنى ما استجدّ عليه.

وفيه : ولما فرغ العمل في الخليج شرع الأمير بكتوت في عمل جسر من ماله ، فإنّ الناس كانوا في وقت هيجان البحر يجدون مشقة عظيمة لغلبة الماء على أراضي السباخ ،

٣١٨

فأقام ثلاثة أشهر حتى بنى رصيفا دك أساسه بالحجر والرصاص ، وأعلاه بالحجر والكلس ، وعمل فيه ثلاثين قنطرة ، وأنشأ خانا ينزله الناس ، ورتب فيه الخفراء ووقف على مصالحه رزقة ، فبلغ مصروفه نحو الستين ألف دينار مصرية سوى ما أخذ من الحجارة التي بعضها من قصر قديم كان خارج الإسكندرية ، وسوى ما وجده من الرصاص في سرب بأسفل هذا القصر ينتهي بمن يمشي فيه إلى قريب البحر ، وسوى ما أنعم به عليه من الرصاص الموجود بالخليج ، ولم يزل الخليج فيه الماء طول السنة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة ، فانقطع الماء منه وصار الماء لا يدخل إليه إلا في أيام زيادة ماء النيل فقط ثم يجف عند نقصه فتلف من أجل هذا أكثر بساتين الإسكندرية وخربت وتلاشى كثير من القرى التي كانت على هذا الخليج.

وسبب انقطاع الماء عنه غلبة الروم على الأشتوم الذي كان يعبر منه ماء بحر الملح إلى بحيرة الإسكندرية حتى جفت ، وصار الرمل تلقيه الرياح في الخليج فانطمّ منه وعلا قاعه ، وقصد من أدركناه من ملوك مصر حفر هذا الخليج غير مرّة ، فلم يتهيأ ذلك إلى أن كانت سلطنة الملك الأشرف ، برسباي ، فندب لحفره الأمير جرباش الكريمي المعروف بعاشق ، فتوجه إليه وجمع له من قدر عليه من رجال النواحي فبلغت عدّتهم ثمانمائة وخمسة وسبعين رجلا ابتدؤوا في حفره من حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى حادي عشر شعبان لتمام تسعين يوما ، فانتهى عملهم ، ومشى الماء في الخليج ، حتى انتهى إلى حدّه من مدينة الإسكندرية ، وجرت فيه السفن ، فسرّ الناس به سرورا كبيرا وجبى ما أنفق على العمال في الحفر من أرباب النواحي التي على الخليج ، ومن أرباب البساتين بالإسكندرية ، ولم يكن في حفره كبير شناعة مما جرت به عادة الولاة في مثل ذلك ، ولله الحمد ، وعند ما انتهى قدم الأمير جرباش إلى قلعة الجبل ، فخلع السلطان عليه وشكره ، ثم عمله حاجب الحجاب ، فلم يستمرّ ذلك إلا قليلا حتى انطمّ بالرمل وتعذر سلوك الخليج بالمراكب إلا في أيام النيل فقط.

ذكر جمل حوادث الإسكندريّة

وفي سنة تسع وتسعين ومائة ، عظمت الحروب بديار مصر بين المطلب بن عبد الله الخزاعيّ (١) أمير مصر ، وبين عبد العزيز بن الوزير الجرويّ ، الثائر بتنيس ، فعقد المطلب على الإسكندرية ، لمحمد بن هبيرة بن هاشم بن خديج ، فاستخلف محمد خاله ، عمر بن عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج ، الذي يقال له : عمر بن ملاك ،

__________________

(١) المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي : وال كان في مكة ، وولي إمرة مصر للمأمون سنة ١٩٨ ه‍ ، وكانت فيها اضطرابات وثورات كثيرة لم يفلح في ضبطها. توفي بعد سنة ٢٠٠ ه‍. الأعلام ج ٧ / ٢٥٢.

٣١٩

ثم عزله المطلب بعد ثلاثة أشهر ، بأخيه الفضل بن عبد الله بن مالك ، وكانت بالإسكندرية مراكب الأندلسيين قد قفلوا من غزوهم ، وكان سبب قدوم هذه المراكب ما جرى لأهل قرطبة بوقعة الربض مع الحكم بن هشام في سنة اثنتين وثمانين ومائة ، فأخرج جماعة منهم ، فوصلوا إلى صغر الإسكندرية ، زيادة على عشرة آلاف ، وكان سبب ثورتهم أنّ قصابا من الإسكندرية ، رمى وجه رجل منهم بكرش ، فأنفوا من ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه ، وذلك لما نزلوا رمل الإسكندرية ليبتاعوا ما يصلحهم ، وكذلك كانوا على الزمان ، وكانت الأمراء لا تبيحهم دخول الإسكندرية إنما كان الناس يخرجون إليهم ، فيبايعونهم ، فلما عزل عمر بن ملاك كتب إليه عبد العزيز الجرويّ يأمره بالوثوب على الإسكندرية ، والدعاء له بها ، فبعث عمر بن ملاك إلى الأندلسيين ، فدعاهم إلى القيام معه في إخراج الفضل عنها ، فساروا معه ، وأخرج الفضل ، ودعا للجروي ، فوثب أهل الإسكندرية على الأندلسيين وأخرجوهم وردّوا الفضل ، وقتل من الأندلسيين نفر ، وانهزم الباقون إلى مراكبهم ، فعزل المطلب أخاه ، وولى عليها إسحاق بن أبرهة بن الصباح ، في شهر رمضان سنة تسع وتسعين ، ثم عزله بأبي ذكر بن جنادة المعافري.

فلما اقتتل السري بن الحكم هو والمطلب بن عبد الله ، وغلب السري على مصر ، وثب عمر بن ملاك ، على أبي بكر ، وأخرجه من الإسكندرية ، ودعا للجرويّ ، وأقبل الأندلسيون إليه فأفسدوا ، فأمرهم بالخروج إلى مراكبهم ، فشق ذلك عليهم ، وظهرت بالإسكندرية طائفة يسمون بالصوفية ، يأمرون بالمعروف ، ويعارضون السلطان في أموره ، فترأس عليهم رجل منهم يقال له : أبو عبد الرحمن الصوفيّ ، فصاروا مع الأندلسيين يدا واحدة ، واعتضدوا بلخم ، وكانت لخم أعز من في ناحية الإسكندرية ، فخوصم أبو عبد الرحمن الصوفيّ إلى عمر بن ملاك في امرأة ، فقضى على أبي عبد الرحمن ، فوجد في نفسه من ذلك ، وخرج إلى الأندلسيين فألّف بينهم وبين لخم ، ورجا أهل الأندلس أن يدركوا ثارا من عمر بن ملاك ، فساروا إلى عمر بن ملاك ، وهم زهاء عشرة آلاف ، فحصروه في قصره ، وخشي أنّ القصر لا يمنعه منهم ، وخاف أن يدخلوا عليه عنوة ، فيفضح في حرمه ، فاغتسل ، وتحنط ، وتكفن ، وأمر أهله أن يدلوه إليهم ، فدلي فأخذته السيوف ، فقتل.

ثم ولي أخوه محمد بن عبد الله الذي يلقب : جيوس ، فقتل ، ثم ولي عليهم عبد الله البطال بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج ، فقتل ، ثم ولي عليهم أخوه أبو هبيرة الحارث ، فقتل ، ثم ولي عليهم خديج بن عبد الواحد ، فقتل ، وانصرف القوم ، وذلك في ذي القعدة ، ثم فسد ما بين لخم والأندلسيين عند مقتل ابن ملاك واقتتلوا ، فانهزمت لخم.

فظفر الأندلسيون بالإسكندرية في ذي الحجة ، فولوها أبا عبد الرحمن الصوفيّ ، فبلغ

٣٢٠