كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ألف راجل ، وخمسون ألف فارس ، سوى من كان فيه من أصحابه المقدونيين ، ومن غيرهم من أجناس اليونانيين يريد غزو الفرس.

فبينما هو يجمع هذا الجمع نظر في تزويج ابنة له يقال لها : قلوبطرة من ختنه أخي امرأته ، وخال ولده الإسكندر ، وجلس قبل العرس بيومين يحدّث قوّاده ، إذ سئل عن أيّ الموتات أحق أن يتمناها الإنسان؟ فقال : الواجب على الرجل القويّ الظافر المجرّب يريد نفسه أن لا يتمنى الموت إلا بالسيف فجأة لئلا يعذبه المرض ، وتحل قوّته الأوجاع ، فعجل له ما تمنى في ذلك العرس ، وذلك أنه حضر لعبا كان على الخيل بين ولده الإسكندر ، وختنه الإسكندر ، فبينما هو في ذلك غافله أحد أحداث الروم بطعنة ، فقتله بها ثائرا بأبيه عندما تمكن منه منفردا ، فولي الإسكندر ، الملك بعد أبيه فيليبس ، وكان أوّل شيء أظهر فيه قوّته وعزمه في بلد الروم ، وكانوا قد خرجوا عن طاعة المقدونيين إلى طاعة الفرس ، فدرسهم واستأصلهم ، وخرّب مدنهم وجعلهم سبيا مبيعا ، وجعل سائر بلادهم وكورهم تؤدّي إليه الخراج ، ثم قتل جميع أختانه ، وأكثر أقاربه في وقت تعبيته لمحاربة الفرس ، وكان جميع عسكره اثنين وعشرين ألف فارس ، وستين ألف راجل ، وكانت مراكبه خمسمائة مركب وثمانين مركبا ، فحرّك بهذه العدّة كبار ملوك الدنيا ، وسار إلى الإسكندرية ودخل بيت المقدس ، وقرّب فيه لله تعالى قربانا وخرج يريد محاربة دارا ، وكان في عسكر دارا ملك الفرس في أوّل ملاقاته إياه ، ستمائة ألف مقاتل ، فغلبه الإسكندر ، وكانت إذ ذاك على الفرس وقعة شنعاء ونكبة دهياء قتل فيها منهم عدد لا يحصى ، ولم يقتل من عسكر الإسكندر إلا مائة وعشرون فارسا وتسعون راجلا.

ومضى الإسكندر ففتح مدائن وانتهب ما فيها فبلغه أنّ دارا قد عبّأ وأقبل نحوه بجمع عظيم ، فخاف أن يلحقه في ضيق الجبال التي كان فيها ، فقطع نحوا من مائة ميل في سرعة عجيبة ، حتى بلغ مدينة طرسوس ، وكاد يهلك لفرط البرد حتى انقبض عصبه ، فلاقاه دارا في ثلثمائة ألف راجل ، ومائة ألف فارس ، فلما التقى الجمعان كاد الإسكندر يفرّ لكثرة ما كان فيه دارا ، وقلة ما كان فيه ، ووقع القتال بينهما وباشر القوّاد الحرب بأنفسهم ، وتنازل الأبطال واختلف الطعن والضرب ، وضاق الفضاء بأهله ، فباشر كلا الملكين الحرب بأنفسهما ، دارا والإسكندر ، وكان الإسكندر أكمل أهل زمانه فروسية وأشجعهم وأقواهم جسما فباشرا حتى جرحا جميعا ، وتمادى الحرب بينهما حتى انهزم دارا ، ونزلت الوقيعة بالفرس ، فقتل من راجلهم نحو من ثمانين ألفا ، ومن فرسانهم نحو من عشرة آلاف ، وأسر منهم نحو من أربعين ألفا ، ولم يسقط من عسكر الإسكندر إلا مائتان وثلاثون راجلا ، ومائة وخمسون فارسا ، فانتهب الإسكندر جميع عسكر الفرس ، وأصاب فيه من الذهب والفضة والأمتعة الشريفة ما لا يحصى كثرة ، وأصيب من جملة الأسارى : أم دارا وزوجته وأخته وابنتاه ، فطلب دارا من الإسكندر فديتهنّ بنصف ملكه فلم يجبه إلى ذلك ، فعبى دارا مرّة ثالثة ،

٢٨١

وحشد الفرس عن آخرهم ، واستجاش بكل من قدر عليه من الأمم فبعث الإسكندر قائدا في أسطول للغارة على بلد الفرس ، ومضى الإسكندر إلى الشام ، فتلقاه هنالك ملوك الدنيا خاضعين له ، فعفا عن بعض ، ونفى بعضا ، وقتل بعضا ، ومضى إلى إحراز طرسوس ، وكانت مدينة زاهرة قديمة عظيمة الشأن ، وأهلها قد وثقوا بعون أهل إفريقية لهم لصهر كان بينهم ، فحاصرهم فيها حتى افتتحها ، ومضى منها إلى رودس وإلى مصر ، فانتهب الجميع ، وبنى مدينة الإسكندرية بأرض مصر ، وقال هروشيوش : وله في بنيانها أخبار طويلة وسياسات كرهنا تطويل كتابنا بها.

ثم إنّ دارا لمّا يئس من مصالحته أقبل في أربعمائة ألف راجل ومائة ألف فارس ، فتلقى الإسكندر مقبلا من ناحية مصر في أعمال مدينة طرسوس ، فكانت بينهما معركة عجيبة شنيعة اجتهادا من الروم على ما كانوا خبروه ، واعتادوا من الغلبة والظفر ، واجتهادا من الفرس بالتوطين على الهلاك وتفضيل الموت على الرق والعبودية ، فقلما يحكى عن معركة كان القتل فيها أكثر منه في تلك المعركة ، فلما نظر دارا إلى أصحابه يتغلب عليهم ويهزمون عزم على استعجال الموت في تلك الحرب بالمباشرة لها بنفسه ، والصبر حتى يقتل معترضا للقتل ، فلطف به بعض قوّاده حتى سلوه ، فانهزم وذهبت قوّة الفرس وعزهم ، وذل بعدها سلطانهم ، وصار بلد المشرق كله في طاعة الروم ، وانقطع ملك الفرس مدّة أربعمائة عام وخمسين عاما ، واشتغل الإسكندر بتحصيل ما أصاب في عسكر الفرس والنظر فيه وقسمته على عسكره ثلاثين يوما ، ثم مضى إلى مدينة الفرس التي كانت رأس مملكتهم ، والتي اجتمعت فيها أموال الدنيا ونعمها ، فهدمها ونهب ما فيها ، فبلغه عن دارا أنه صار عند قوم مكبلا في كبول من فضة ، فتهيأ وخرج في ستة آلاف ، فوجده بالطريق مجروحا جراحات كثيرة ، فلم يلبث أن هلك منها ، فأظهر الإسكندر الحزن عليه والمرثية له ، وأمر بدفنه في مقابر الملوك من أهل مملكته ، وكان في أمر هذه الثلاث معارك عبرة لمن اعتبر ، ووعظ لمن اتعظ ، إذ قتل فيها من أهل مملكة واحدة نحو من خمسة عشر ألف ألف بين راكب وراجل من أهل بلد آسيا ، وهي العراق ، وقد كان قتل من أهل تلك المملكة قبل ذلك بنحو من ستين سنة نحو تسعة عشر ألف ألف إلى ألف ألف ما بين راكب وراجل من أهل بلد العراق والشام وطرسوس ومصر وجزيرة رودس ، وجميع البلدان الذين درسهم الإسكندر أجمعين ، وكان سلطان الدنيا مقسوما بين قوّاده بعد ما زلزل بدواهيه العظيمة العالم كله ، وعمّ أهله بعضا بالمنايا الفظيعة ، وبعضا بالتوطين عليها ، والمباشرة لأهوالها ، وأوصى عند وفاته أن يلقب كل قائم في اليونانيين بعده: ببطليموس تهويلا للأعداء لأنّ معناه الحربيّ ، فهذا هو الصحيح من خبر الإسكندر فلا يلتفت إلى ما خالفه.

ويقال : إنه كان أشقر أزرق ، وهو أوّل من سمر بالليل ، وكان له قوم يضحكونه ويحكون له الخرافات يريد بذلك حفظ ملكه ، وحراسة نفسه لا اللذة ، وبه اقتدى الملوك في

٢٨٢

السمر ، واتخاذ المضحكين والمخرّفين.

ذكر تاريخ الإسكندر

قال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني : تاريخ الإسكندر اليونانيّ ، الذي يلقبه بعضهم بذي القرنين على سني الروم ، وعليه عمل أكثر الأمم لما خرج من بلاد يونان ، وهو ابن ست وعشرين سنة لقتال دارا ملك الفرس.

ولما ورد بيت المقدس أمر اليهود ، بترك تاريخ داود وموسى عليهما‌السلام ، والتحوّل إلى تاريخه ، فأجابوه وانتقلوا إلى تاريخه ، واستعملوه فيما يحتاجون إليه بعد أن عملوه من السنة السادسة والعشرين لميلاده ، وهو أوّل وقت تحرّكه ، ليتموا ألف سنة من لدن ، موسى عليه‌السلام ، وبقوا معتصمين بهذا التاريخ ، ومستعملين له وعليه عمل اليونانيين ، وكانوا قبله يؤخرون بخروج يونان بن نورس عن بابل إلى المغرب.

وأوّل تاريخ الإسكندر يوم الاثنين أوّل تشرين الأوّل ، وموافقه اليوم الرابع من بابه ، ومبادي الأيام عندهم من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها ، وإلى أن يصبح الصباح وتطلع الشمس ، فقد كمل يوم بليلته ، ومبادي الشهور ترجع إلى عدد واحد له نظام يجري عليه دائما.

وعدد شهور سنتهم : اثنا عشر شهرا يخالف بعضها بعضا في العدد ، وهذه أسماؤها ، وعدد أيام كل شهر منها : (تشرين الأوّل) أحد وثلاثون يوما ، (تشرين الثاني) ثلاثون يوما ، (كانون الأول) أحد وثلاثون يوما ، (كانون الثاني) أحد وثلاثون يوما ، (شباط) ثمانية وعشرون يوما وربع ، (آذار) أحد وثلاثون يوما ، (نيسان) ثلاثون يوما ، (أيار) أحد وثلاثون يوما ، (حزيران) ثلاثون يوما ، (تموز) أحد وثلاثون يوما ، (آب) أحد وثلاثون يوما ، (أيلول) ثلاثون يوما. فسبعة أشهر كل شهر منها أحد وثلاثون يوما ، وأربعة أشهر كل شهر ثلاثون يوما ، وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما وربع يوم ، وذلك أنهم جعلوا شباط كل ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما ، وجعلوه في السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما.

فيكون عدد أيام سنتهم ، ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، ويجعلون السنة الرابعة ثلثمائة وستة وستين يوما ، ويسمونها السنة الكبيسة ، وإنما زادوا الربع في كل سنة ليقرب عدد أيام سنتهم من عدد أيام السنة الشمسية ، حتى تبقى أمورهم على نظام واحد ، فتكون شهور البرد ، وشهور الحرّ ، وأوان الزرع ولقاح الشجر وجني الثمر في وقت معلوم من السنة لا يتغير وقت شيء من ذلك البتة ، وكان ابتداء الكبيس في السنة الثالثة من ملك الإسكندر.

وبين يوم الاثنين أوّل يوم من تاريخ الإسكندر هذا ، وبين يوم الخميس أوّل شهر

٢٨٣

المحرّم من السنة التي هاجر نبينا ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة تسعمائة سنة وثلاث وثلاثون سنة ، ومائة وخمسة وخمسون يوما.

وبينه وبين يوم الجمعة أوّل يوم من الطوفان : ألفا سنة وسبعمائة سنة ، واثنتان وتسعون سنة ، ومائة وثلاثة وتسعون يوما.

وبين ابتداء ملك بخت نصر ، وبين أوّل تاريخ الإسكندر ، أربعمائة وخمس وثلاثون سنة شمسية ومائتا يوم وثمانية وثلاثون يوما.

وقال أبو بكر أحمد بن عليّ بن قيس بن وحشية (١) في كتاب الفلاحة النبطية الشهر المسمى تموز ، فيما ذكر القبط بحسب ما وجدت في كتبهم اسم رجل كانت له قصة عجيبة طويلة ، وهو أنه دعا ملكا إلى عبادة الكواكب السبعة ، والبروج الاثني عشر ، وأن الملك قتله وعاش بعد القتلة ، ثم قتله قتلات بعد ذلك قبيحة ، وفي كلها يعيش ، ثم مات في آخرها.

وإنّ شهورهم هذه ، كل واحد منها ، اسم رجل فاضل عالم كان في القديم من النبط الذين كانوا ، مكان إقليم بابل قبل الكسدانيين ، وذلك أن تموز هذا ليس من الكسدانيين ولا الكنعانيين ولا العبرانيين ولا الجرامقة ، وإنما هو من الحزناسيين الأوّلين ولذلك يقولون في كل شهورهم : إنها أسماء رجال مضوا ، وإنّ تشرين الأوّل ، وتشرين الثاني ، اسما أخوين كانا فاضلين في العلوم ، وكذلك كان كانون الأوّل وكانون الثاني ، وإنّ شباط اسم رجل نكح ألف امرأة أبكارا كلهنّ ، ولم ينسل نسلا ، ولا ولد ولدا ، فجعلوه في آخر الشهور لنقصانه عن النسل ، فصار النقصان من العدد فيه ، والصابئون من البابليين والحزناسيين جميعا إلى وقتنا هذا ينوحون ويبكون على تموز في الشهر المسمى تموز في عيد لهم فيه منسوب إلى تموز ، ويعدّدون تعديدا عظيما ، وخاصة النساء ، فإنهنّ يقمن ههنا جميعا ، وينحن ويبكين على تموز ، ويهذين في أمره هذيانا طويلا ، وليس عندهم علم من أمره أكثر من أن يقولوا ، هكذا وجدنا أسلافنا ينوّحون ويبكون على تموز في هذا العيد المنسوب إلى تموز ، والنصارى تذكر أنهم يعملونه لرجل يسمى جورجيس أحد حواريّ عيسى عليه‌السلام ، دعا ملكا من الملوك إلى دين النصرانية ، فعذبه الملك بتلك الفتلات ، فلا أدري وقع إلى النصارى قصة تموز ، فأبدلوا مكانها اسم جورجيس ، وخالفوا الصابئين في الوقت ، لأن الصابئين يعملون ذكران تموز ، أوّل يوم من شهر تموز ، والنصارى يعملون لجورجيس في آخر نيسان.

ويقال : إنّ بعض ملوك رومية زاد في شهور الروم ، كانون الثاني وشباط ، فإنّ شهورهم كانت إلى زمانه عشرة أشهر ، كل شهر ستة وثلاثون يوما.

__________________

(١) راجع ص ١٢٠ حاشية رقم (٢).

٢٨٤

ويقال : إنّ فيوفيوس ، أوّل من ملك مدينة رومية ، وأنه أقام ملكا ثلاثا وأربعين سنة ، وزاد كانون الثاني وشباط في شهور الروم بحكم أنها كانت إلى ذلك الزمان عشرة أشهر ، كل شهر ستة وثلاثون يوما ، وكان سبب نقص شباط يومين ، وقوع غارة في أيام فيطن رئيس جيش الروم خلف ، وحروب بينه وبين فريوريوس آلت إلى نصرة فيطن ، وأخذه مملكة الروم ، وأمر بفريوريوس ، فنودي عليه (اعيا مرديا) وتفسيره : اخرج يا شباط ، ثم غرق في البحر وسموا شهر شباط فريوريوس ليكون تذكار سوء له ، فإنّ هذا الفعل كان في يومي التاسع والعشرين والثلاثين من شباط فنقصوهما من شباط ، وزادوهما في تموز وكانون الثاني ، فجعلوا كل شهر منهما أحدا وثلاثين يوما ، ثم بعد زمان جاء ملك آخر فقال : لا يحسن أن يكون شباط في وسط السنة ، فنقله إلى آخرها ، ولم يزل الروم من ذلك الوقت يتطيرون من شباط.

ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار ، أنّ ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [الكهف / ٨٣] الآيات ، عربيّ ، قد كثر ذكره في أشعار العرب ، وأنّ اسمه : الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عامر الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه‌السلام.

وأنه ملك من ملوك حمير ، وهم العرب العاربة ، ويقال لهم أيضا : العرب العرباء ، وكان ذو القرنين تبعا متوّجا ، ولما ولي الملك تجبر ، ثم تواضع لله ، واجتمع بالخضر.

وقد غلط من ظن أنّ الإسكندر بن فيليبس هو ذو القرنين الذي بنى السدّ ، فإنّ لفظة ذو عربية ، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن وذاك روميّ يونانيّ.

قال أبو جعفر الطبريّ : وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول ، وقبل موسى بن عمران عليه‌السلام ، وقيل : إنه كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وأنّ الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة ، فشرب من مائه ، وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه ، فخلد ، وهو حيّ عندهم إلى الآن ، وقال آخرون : إنّ ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام هو : أفريدون بن الضحاك ، وعلى مقدّمته كان الخضر.

وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان ، بعد ما

٢٨٥

ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه ، وكان تبعا متوّجا لما ولي الملك تجبر ، ثم تواضع ، واجتمع بالخضر ببيت المقدس ، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها ، وأوتي من كل شيء سببا ، كما أخبر الله تعالى وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق.

وأما الإسكندر فإنه يونانيّ ، ويعرف بالإسكندر المجدوني (ويقال : المقدوني).

سئل ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن ذي القرنين ممن كان؟ فقال : من حمير ، وهو الصعب بن ذي مراثد الذي مكنه الله تعالى في الأرض وأتاه من كل شيء سببا ، فبلغ قرني الشمس ، ورأس الأرض وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج ؛ قيل له : فالإسكندر؟ قال : كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا وأخذ أرض رومة وأتى بحر الغرب ، وأكثر عمل الآثار في الغرب من المصانع والمدن.

وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين؟ فقال : الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير ، وأنه الصعب بن ذي مراثد ، والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهما ، ورجال الإسكندر أدركوا المسيح ابن مريم منهم : جالينوس ، وأرسطاطاليس.

وقال الهمداني في كتاب الأنساب : وولد كهلان بن سبأ زيدا ، فولد زيد عربيا ومالكا وغالبا وعميكرب.

وقال الهيثم : عميكرب بن سبأ أخو حمير وكهلان ، فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب ، وولد غالب جنادة بن غالب ، وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبأ ، وولد عريب عمرا ، فولد عمر وزيدا ، والهميسع ويكنى أبا الصعب ، وهو ذو القرنين الأوّل ، وهو المساح والبناء ، وفيه يقول النعمان بن بشير :

فمن ذا يعاددنا من الناس معشرا

كراما فذو القرنين منا وحاتم

وفيه يقول الحارثي :

سمّوا لنا واحدا منكم فنعرفه

في الجاهلية لاسم الملك محتملا

كالتبعين وذي القرنين يقبله

أهل الحجى فأحق القول ما قبلا

وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزاعي :

ومنا الذي بالخافقين تغرّبا

وأصعد في كل البلاد وصوّبا

فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا

وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا

وذلك ذو القرنين تفخر حمير

بعسكر قيل ليس يحصى فيحسبا

قال الهمداني : وعلماء همدان تقول : ذو القرنين : الصعب بن مالك بن الحارث

٢٨٦

الأعلى بن ربيعة بن الجبار بن مالك.

وفي ذي القرنين أقاويل كثيرة ، وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب تفسير القرآن الكريم ، ومما يعترض به على من قال : إنّ الإسكندر هو ذو القرنين ، أن معلم الإسكندر كان أرسطاطاليس بأمره يأتمر ، وبنهيه ينتهي ، واعتقاد أرسطاطاليس مشهور ، وذو القرنين نبيّ ، فكيف يقتدى نبيّ بأمر كافر في هذا إشكال؟.

وقال الجاحظ في كتاب الحيوان : إنّ ذا القرنين كانت أمه آدمية ، وأبوه من الملائكة ، ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه رجلا ينادي رجلا يا ذا القرنين ، قال : أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟! وروى المختار ابن أبي عبيد : أنّ عليا رضي‌الله‌عنه كان إذا ذكر ذا القرنين قال : ذلك الملك الأمرط ، والله أعلم.

ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

قال في كتاب هروشيوش : إنّ الإسكندر ملك الدنيا اثنتي عشرة سنة ، فكانت الدنيا مأسورة بين يديه ، طول ولايته ، فلما مات ، تركها بين يدي قوّاده المستخلفين تحته ، فكان مثله معهم كمثل الأسد الذي ألقى صيده بين يدي أشباله ، فتقاتلت عليه تلك الأشبال بعده ، وذلك أنهم اقتسموا البلاد ، فصارت مصر وإفريقية كلها وبلاد الغرب إلى قائده ، وصاحب خيله الذي ولي مكانه ، وهو بطليموس بن لاوي ، ويقال : بطليموس بن ارنبا المنطقي ، وذكر بقية ممالك القوّاد من أقصى بلاد الهند إلى آخر بلاد المغرب ، ثم قال : فثارت بينهم حروب وسببها رسالة كانت خرجت من عند الإسكندر بأن يرجع جميع الغرباء المنفيين إلى بلادهم ، ويسقط عنهم الرق والعبودية ، فاستثقل ذلك ملك بلاد الروم إذ خاف أن يكون الغرباء والمنفيون إذا رجعوا إلى بلدانهم ومواطنهم يطلبون النقمة لأنفسهم ، فكان هذا الأمر ، سبب خروجهم عن طاعة سلطان المجدونيين.

وقال غيره : وبطليموس هذا سبى بني معدّ بعد ما غزا فلسطين ، ثم أطلقهم وحباهم بآنية جوهر وضعت في بيت المقدس ، وملك عشرين سنة ، وقال غيره : ولي أربعين سنة ، وقيل : ثمانيا وثلاثين سنة ، وقيل : إن اسمه فيلدلفوس ، وهو محب الأب وكان مجدونيا ، وهو الذي غنم اليهود ، ونقل كثيرا منهم إلى مصر ، وفي زمانه كان زينون الفيلسوف ، وكان هذا الملك فيلسوفا ، وأقبل برديقا أحد قوّاد الإسكندر إلى مصر ، بعسكر عظيم وجيش عرمرم ، فتفرّق سلطان مجدونية على قسمين ، ثم إنّ بطليموس جمع عساكر مصر وإفريقية ، ولاقى برديقا ، فهزمه وأصاب عسكره ، ثم قتله وأصاب ما كان معه ، وحارب عدّة من قوّاد الإسكندر.

وقال غيره : وكان بطليموس هذا حكيما عالما شابا مدبرا ، وهو أوّل من اقتنى البزاة ،

٢٨٧

ولعب بها وضراها ، وكان من قبله من الملوك لا يلعب بها.

ولمّا مات ، ملك الإسكندرية بعده بطليموس الثاني ، واسمه : فيلوذوفوس ، ويقال له : محب الأخ ، وكانت مدّة ملكه ثمانيا وثلاثين سنة ، وهو الذي أطلق اليهود الذين كانوا مأسورين بأرض مصر ، وردّ الأواني المقدّسه على عزيز النبيّ ، وهو الذي تخير السبعين مترجما من علماء اليهود الذين ترجموا كتب التوراة والأنبياء من اللسان العبرانيّ إلى اللسان الروميّ اليونانيّ واللاطينيّ ، وكان فيلسوفا منجما ، ومات فولي بعده ابنه بطليموس أوراخيطس المعروف بمحب الأب ستا وعشرين سنة.

ثم ولي بعده أخوه بطليموس فيلوبطور سبع عشرة سنة ، وهو الذي قتل من اليهود نحوا من ستين ألفا ، وتغلب عليهم ، ويقال : إنه صاحب علم الفلك والنجوم وكتاب المجسطي.

ثم ملك بعده ابنه بطليموس أسفاميش ، محب الأم أربعا وعشرين سنة.

ثم ولي بعده ابنه بطليموس فلوناطرة ، وهو الصانع ، خمسا وثلاثين سنة ، وهو الذي غلب ملك الشام ، وحمل اليهود أنواع البلاء والعذاب.

ثم ملك الإسكندرية بعده ابنه بطليموس أبرياطيش ، وهو الإسكندرانيّ ، تسعا وعشرين سنة ، وفي زمانه غلب الرومانيون على الأندلس واحترقت مدينة قرطاجنة بالنار ، وأقامت النار فيها سبعة عشر يوما فهدمت ، وحوّلت أساساتها حتى صار رخام أسوارها غبارا ، وذلك إلى تسعمائة سنة من وقت بنيانها ، وبيع جميع أهلها رقيقا إلا قليلا من خيارهم وأشرافهم ، وكان المتولي لتخريبها قوّاد رومة.

ثم ولي بعده ابنه بطليموس شوطار الذي يقال له : الحديد ، سبع عشرة سنة ، وكان قبيح السيرة ، تزوّج بأخته ، ثم فارقها على أقبح حال مما تزوّجها عليه في خبر له ، ثم تزوّج ربيبته التي كانت بنت أخته ، ثم زوّجها من ابنه المولود من أخته ، وكثرت فواحشه حتى نفاه أهل الإسكندرية فمات منفيا.

وولي أخوه بطليموس الإسكندر ، وهو الجوّال ، عشر سنين.

ثم ولي بعده ابنه بطليموس ديوشيش ، ثمانيا وثلاثين سنة ، وفي زمانه غلب قائد الرومانيين على بيت المقدس ، وجعل اليهود يؤدّون إليه الجزية.

وظهرت في ذلك الزمان علامات في السماء مهولة ، منها : أنه ظهر في السماء بناحية مطلع الشمس من مدينة رومة مما يلي ناحية الجنوب ، نار ملتهبة عظيمة ، وكسر قوم خبزا في صنع لهم ، فانفجر من الخبز دم سائل ، ونزل بمدينة رومة مدّة سبعة أيام متوالية برد كان

٢٨٨

يوجد في داخله حجارة وشقاف ، وانفتحت الأرض ، فصار فيها غور عظيم ، وخرج منه لهب اشتعل حتى ظنوه بلغ السماء ، ونظر أهل رومة يومئذ إلى عمود من الأرض إلى السماء لونه لون الذهب ، وكان من عظمه تكاد الشمس أن تغيب منه.

ثم ولي الإسكندرية بعده كلوباطرة ، سنتين ، فدامت مملكة الإسكندرية ، وهي الدولة المجدونية إلى أوّل ملوك قيصر الذي هو أوّل ملوك الرومانيين ، مائتين وإحدى وثمانين سنة ، فبعث قيصر قائدين بعساكر كثيرة لفتح مصر ، فتزوّج أحدهما كلوباطرة ابنة ديوشيش الملقب بطليموس ، وقتل القائد الآخر ، وخالف قيصر ، فسار إليه قيصر بنفسه ، وجرت أمور آلت إلى فتح الإسكندرية بعد حروب ، واستولى قيصر على مملكة مصر ، وقتل كلوباطرة وولديها ، وقتل القائد الذي تزوّجها ، ويقال : بل سمت نفسها عندما تيقنت غلبة قيصر لها ، ويقال : إنها كانت ذات حزم ومعرفة وتدبير ، وإنها حفرت خليج الإسكندرية وأجرت فيه الماء من مصر ، وبنت بالإسكندرية أبنية عجيبة منها هيكل زحل ، وعملت فيه صنما من نحاس أسود ، وكان أهل مصر والإسكندرية يعملون له عيدا في اليوم الثاني والعشرين من هتور ، ويحتج إليه اليونانيون من سائر الأقطار ، ويذبحون له ذبائح لا تحصى كثرة ، فلما ظهرت ملة النصارى في الإسكندرية جعلوا هيكل زحل كنيسة ولم تزل إلى أن هدمها جيوش المعز لدين الله عند قدومهم من المغرب إلى أرض مصر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة من سني الهجرة النبوية.

ويقال : إن كلوباطرة هي التي بنت حائط العجوز بمصر ، ويشبه أن يكون هذا غير صحيح ، ويقال : إنها بنت مقياسا بمدينة إخميم ، ومقياسا آخر بأنصنا ، ويقال : كانت مدّة ملكها ثلاثين سنة ، وليس بصحيح ، وبموت كلوباطرة انقطعت مملكة مصر.

وصارت تحت يد ملوك الروم من أهل مدينة رومة ، ثم تحت يد ملوك الروم من أهل قسطنطينة ، فلم تزل تحت أيديهم يولون فيها من قبلهم من شاءوا ، فيصير إلى الإسكندرية ، ويقيم بها إلى أن قدم عمرو بن العاص بالمسلمين ، وفتح الله على يده الحصن والإسكندرية ، وجميع أرض مصر.

ويقال : معنى كلوباطرة : الباكية ، فكان جميع المدّة التي ما بين ذهاب دولة البطالسة من الإسكندرية ، وقدوم عمرو بن العاص إلى مصر ، وفتحها ستمائة سنة وبعضا وسبعين سنة ، وفي خلال هذه المدّة قوي جانب ملوك الفرس على القياصرة ، وملكوا منهم بلاد الشام ، واستولوا على أرض مصر والإسكندرية في أيام كسرى أبرويز بن هرمز ، فبعث قائدا إلى مصر ، وملك الإسكندرية ، وقتل الروم وأقاموا بالإسكندرية مدّة عشر سنين ، فلما استبدّ هرقل بمملكة الروم ، وخرج من القسطنطينية لجمع الأموال من سائر مملكته أخذ حماه ودمشق وسار إلى بيت المقدس ، وقد خرّبها الفرس ، فأمر ببنائها وسار منها إلى أرض مصر

٢٨٩

ودخل الإسكندرية ، وقتل من بها من الفرس ، وأقام بها بطريقا ، ثم عاد إلى قسطنطينية فاستمرّت مصر بعده تحت إبالة الروم حتى ملكها المسلمون.

ويقال : إن كل بناء بمصر من آجر فهو للفرس ، وما فيها من بناء حجر فهو للروم ، والله أعلم.

ذكر منارة الإسكندرية

قال المسعوديّ : فأما منارة الإسكندرية ، فذهب الأكثرون من المصريين والإسكندرانيين ممن عنى بأخبار بلدهم أن الإسكندر بن فيليبس المقدوني هو الذي بناها ومنهم من رأى أن دلوكة الملكة ابنتها وجعلتها مرقبا لمن يرد من العدوّ إلى بلدهم ، ومن الناس من رأى ، أن العاشر من فراعنة مصر ، هو الذي بناها ، ومنهم من رأى أن الذي بنى مدينة رومة هو الذي بنى مدينة الإسكندرية ومنارتها ، والأهرام بمصر ، وإنما أضيفت الإسكندرية إلى الإسكندر لشهرته باستيلائه على الأكثر من ممالك العالم فشهرت به ، وذكروا في ذلك أخبارا كثيرة يستدلون بها على ما قالوا ، والإسكندر لم يطرقه في هذا البحر عدوّ ولا هاب ملكا يرد إليه في بلده ، ويغزوه في داره فيكون هو الذي جعلها مرقبا وإنّ الذي بناها جعلها على كرسيّ من الزجاج على هيئة السرطان في جوف البحر ، وعلى طرف اللسان الذي هو داخل في البحر من البرّ ، وجعل على أعلاها تماثيل من النحاس وغيره ، منها : تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس ، أينما كانت من الفلك ، وإذا علت في الفلك فأصبعه يشير بها نحوها ، فإذا انخفضت صارت يده سفلا ، تدور معها حيث دارت ، ومنها : تمثال يشير بيده إلى البحر ، إذا صار العدوّ منه على نحو من ليلة فإذا دنا وجاوز أن يرى بالبصر لقرب المسافة ، سمع لذلك التمثال صوت هائل يسمع من مسيرة ميلين أو ثلاثة ، فيعلم أهل المدينة أن العدوّ قد دنا منهم فيرمقونه بأبصارهم ، ومنها تمثال كلما مضى من الليل أو النهار ساعة سمعوا له صوتا بخلاف ما صوّت في الساعة التي قبلها وصوته مطرب.

وقد كان ملك الروم ، في ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان ، أنفذ خادما من خواص خدمه ، ذا رأي ودهاء ، فجاء مستأمنا إلى بعض الثغور ، فورد بآلة حسنة ومعه جماعة ، فجاء إلى الوليد ، فأخبره : أنه من خواص الملك ، وأنه أراد قتله لموجدة وحال بلغته عنه لم يكن لها أصل ، وأنه استوحش ، ورغب في الإسلام ، فأسلم على يد الوليد وتقرّب من قلبه ، وتنصح إليه في دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت معه ، فيها صفات تلك الدفائن ، فلما صارت إلى الوليد تلك الأموال والجواهر ، شرهت نفسه واستحكم طمعه.

فقال له الخادم : يا أمير المؤمنين! إنّ ها هنا أموالا وجواهر ودفائن للملوك ، فسأله

٢٩٠

الوليد عن الخبر؟ فقال : تحت منارة الإسكندرية أموال ملوك الأرض ، وذلك أن الإسكندر احتوى على الأموال والجواهر التي كانت لشدّاد بن عاد وملوك مصر ، فبنى لها أزجا تحت الأرض، وقنطر لها الأقباء والقناطر والسراديب ، وأودعها تلك الذخائر من العين والورق والجوهر ، وبنى فوق ذلك هذه المنارة ، وكان طولها في الهواء ألف ذراع ، والمرآة في علوه ، والدبادبة جلوس حوله ، فإذا نظروا إلى العدوّ في البحر في ضوء تلك المرآة صوّتوا لمن قرب منهم ، ونشروا أعلاما فيراها من بعد منهم ، فتحذر الناس وتنذر البلد ، فلا يكون للعدوّ عليهم سبيل.

فبعث الوليد مع الخادم ، بجيش وأناس من ثقاته وخواصه ، فهدم نصف المنارة من أعلاها ، وأزيلت المرآة فضج الناس من هذا! وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها ، فلما علم الخادم استفاضة ذلك وأنه سينم إلى الوليد وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعدّه ، وواطأ على ذلك ، فتمت حيلته وبقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.

وكان حوالي منارة الإسكندرية في البحر مغاص يخرج منه قطع من الجوهر يتخذ منه فصوص للخواتم أنواعا من الجواهر ، يقال : إنّ ذلك من آلات اتخذها الإسكندر للشراب ، فلما مات كسرتها أمه ، ورمت بها في تلك المواضع من البحر ، ومنهم من رأى أن الإسكندر اتخذ ذلك النوع من الجواهر ، وغرّقه حول المنارة لكيلا تخلو من الناس حولها ، لأنّ من شأن الجوهر أن يكون مطلوبا أبدا في كل عصر ، ويقال : إنّ هذه المنارة إنما جعلت المرآة في أعلاها ، لأنّ ملوك الروم بعد الإسكندر كانت تحارب ملوك مصر والإسكندرية ، فجعل من كان بالإسكندرية من الملوك تلك المرآة تري من يرد في البحر من عدوّهم ، وكان من يدخلها يتيه فيها إلا أن يكون عارفا بالدخول والخروج فيها لكثرة بيوتها وطبقاتها وممرّاتها.

وقد ذكر : أن المغاربة حين وافوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولهم إلى المنارة ، فتاهوا فيها ، وفي طرق تؤول إلى مهاو تهوي إلى السرطان الزجاج ، وفيه مخارق إلى البحر ، فتهوّرت دوابهم ، وفقد منهم عدد كثير وعلم بهم بعد ذلك ، وقيل : إن تهوّرهم كان على كرسيّ لها قدّامها ، وفي المنارة مسجد في هذا الوقت يرابط فيه مطوّعة المصريين وغيرهم. وفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، سقط رأس المنارة من زلزلة ، ويقال : إنّ منارة الإسكندرية ، كانت مبنية بحجارة مهندمة مضببة برصاص على قناطر من الزجاج ، وتلك القناطر على ظهر سرطان ، وكان في المنارة ، ثلثمائة بيت بعضها فوق بعض ، وكانت الدابة تصعد بحملها إلى سائر البيوت من داخل المنارة ، ولهذه البيوتات طاقات تشرف على البحر ، وكانت على الجانب الشرقيّ من المنارة كتابة عرّبت ، فإذا هي : بنت هذه المنظرة قريبا بنت مرينوس اليونانية لرصد الكواكب.

٢٩١

وقال ابن وصيف شاه : وقد ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وبنوا على البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية ، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب والقبة مذهبة ، ونصبوا فوقها منارة عليها مرآة من أخلاط شتى ، قطرها خمسة أشبار ، وكان ارتفاع القبة مائة ذراع ، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم ، فإن كان مما يهمهم أو من البحر عملوا لتلك المرآة عملا ، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته ، فلم تزل على حالها إلى أن غلب عليها البحر فنسفها.

ويقال : إنّ الإسكندر إنما عمل المنار الذي كان شبيها بها وقد كان أيضا عليه مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم ، فاحتال بعض ملوك الروم ، فوجه من أزالها ، وكانت من زجاج مدبر.

وقال المسعوديّ في كتاب التنبيه والأشراف : وقد كان وزير المتوكل ، عبيد الله بن يحيى بن خاقان لمّا أمر المستعين بنفيه إلى برقة في سنة ثمان وأربعين ومائتين ، صار إلى الإسكندرية من بلاد مصر ، فرأى حمرة الشمس على علو المنارة التي بها وقت المغيب ، فقدّر أنه يلزمه أن لا يفطر إذا كان صائما أو تغرب الشمس من جميع أقطار الأرض ، فأمر إنسانا أن يصعد إلى أعلى منارة الإسكندرية ومعه حجر ، وأن يتأمّل موضع سقوط الشمس ، فإذا أسقطت رمي بالحجر ، ففعل الرجل ذلك ، فوصل الحجر إلى قرار الأرض بعد صلاة العشاء الآخرة ، فجعل إفطاره بعد صلاة العشاء الآخرة ، فيما بعد إذا صام في مثل ذلك الوقت ، وكان عند رجوعه إلى سرّ من رأى لا يفطر إلا بعد عشاء الآخرة ، وعنده أنّ هذا فرضه ، وأنّ الوقتين متساويان ، وهذا غاية ما يكون من قلة العلم بالفرض ومجاري الشرق والغرب.

وقد ذكر أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية : أن بناحية المشرق الصيفيّ جبلا شامخا جدّا ، وأنّ من علامة ارتفاعه أن الشمس لا تغيب عنه إلى ثلاث ساعات من الليل ، وتشرق عليه قبل الصبح بثلاث ساعات.

ومنارة الإسكندرية أحد بنيان العالم العجيب ، بناها بعض البطالسة ملوك اليونانيين بعد وفاة الإسكندر بن فيليبس الملك ، لما كان بينهم وبين ملوك رومة من الحروب في البرّ والبحر ، فجعلوا هذه المنارة مرقبا في أعاليها مرآة عظيمة من نوع الأحجار المشفة ليشاهد منها مراكب البحر إذا أقبلت من رومة على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها ، فكانوا يراعون ذلك في تلك المرآة فيستعدّون لهم قبل ورودهم ، وطول المنارة في هذا الوقت على التقريب ، مائتان وثلاثون ذراعا ، وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع ، فهدمت على طول الأزمان وترادف الزلازل والأمطار ، لأنّ بلد الإسكندرية تمطر وليس سبيلها سبيل فسطاط مصر إذ كان الأغلب عليها أن لا تمطر إلا اليسير ، وبناؤها ثلاثة أشكال ، فقريب من

٢٩٢

النصف ، وأكثر من الثلث مربع الشكل ، بناؤه بأحجار بيض يكون نحوا من مائة ذراع وعشرة أذرع على التقريب ، ثم من بعد ذلك مثمن الشكل ، مبني بالحجر والجص نحو من نيف وستين ذراعا وحواليه فضاء يدور فيه الإنسان وأعلاها مدوّر.

وكان أحمد بن طولون رمّ شيئا منها ، وجعل في أعلاه قبة من الخشب ليصعد إليها من داخلها وهي مبسوطة موربة بغير درج ، وفي الجهة الشمالية من المنارة ، كتابة برصاص مدفون بقلم يونانيّ طول كلّ حرف ذراع في عرض شبر ، ومقدارها على جهة الأرض نحو من مائة ذراع ، وماء البحر قد بلغ أصلها ، وقد كان تهدّم أحد أركانها الغربية مما يلي البحر.

فبناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون ، وبينها وبين مدينة الإسكندرية في هذا الوقت نحو من ميل ، وهي على طرف لسان من الأرض قد ركب البحر جنبتيه ، وهي مبنية على فم ميناء الإسكندرية وليس بالميناء القديم ، لأنّ القديم في المدينة العتيقة لا ترسي فيه المراكب لبعده عن العمران ، والميناء هو الموضع الذي ترسي فيه مراكب البحر.

وأهل الإسكندرية يخبرون عن أسلافهم أنهم شاهدوا بين المنارة وبين البحر نحوا مما بين المدينة والمنارة في هذا الوقت ، فغلب عليه ماء البحر في المدّة اليسيرة وأنّ ذلك في زيادة ، قال : وتهدّم في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلثمائة ، نحو من ثلاثين ذراعا من أعاليها بالزلزلة التي كانت ببلاد مصر ، وكثير من بلاد الشام والمغرب في ساعة واحدة على ما وردت به علينا الأخبار المتواترة ، ونحن بفسطاط مصر ، وكانت عظيمة جدّا مهولة فظيعة أقامت نحو نصف ساعة زمانية ، وذلك لنصف يوم السبت لثمان عشرة خلت من هذا الشهر وهو الخامس من كانون الآخر ، والتاسع من طوبة ، وكان لهذه المنارة مجمع في يوم خميس العدس يخرج سائر أهل الإسكندرية إلى المنارة من مساكنهم بمآكلهم ولا بد أن يكون فيها عدس ، فيفتح باب المنار ، ويدخله الناس ، فمنهم من يذكر الله ، ومنهم من يصلي ، ومنهم من يلهو ولا يزالون إلى نصف النهار ، ثم ينصرفون ومن ذلك اليوم يحترس على البحر من هجوم العدوّ.

وكان في المنارة قوم مرتبون لوقود النار طول الليل ، فيقصد ركاب السفن تلك النار على بعد ، فإذا رأى أهل المنار ما يريبهم أشعلوا النار من جهة المدينة ، فإذا رآها الحرس ضربوا الأبواق والأجراس ، فيتحرّك عند ذلك الناس لمحاربة العدوّ.

ويقال : إنّ المنار كان بعيدا عن البحر ، فلما كان في أيام قسطنطين بن قسطنطين هاج البحر وغرّق مواضع كثيرة وكنائس عديدة بمدينة الإسكندرية ، ولم يزل يغلب عليها بعد ذلك ويأخذ منها شيئا بعد شيء.

وذكر بعضهم : أنه قاسه فكان مائتي ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعا وهي ثلاث طبقات ،

٢٩٣

الطبقة الأولى : مربعة وهي مائة وإحدى وعشرون ذراعا ونصف ذراع ، والطبقة الثانية : مثمنة وهي : إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع ، والطبقة الثالثة : مدوّرة وهي إحدى وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.

وذكر ابن جبير في رحلته : أن منار الإسكندرية يظهر على أزيد من سبعين ميلا ، وأنه ذرع أحد جوانبه الأربعة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، فأناف على خمسين ذراعا ، وأنّ طول المنار أزيد من مائة وخمسين قامة ، وفي أعلاه مسجد يتبرّك الناس بالصلاة فيه.

وقال ابن عبد الحكم : ويقال : إنّ الذي بنى منار الإسكندرية كلوباطرة الملكة وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية ، ولم يكن يبلغها إنما كان يعدل من قرية يقال لها : كسا قبالة الكريون ، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعه.

ولما استولى أحمد بن طولون على الإسكندرية بنى في أعلى المنار قبة من خشب فأخذتها الرياح ، وفي أيام الظاهر بيبرس تداعى بعض أركان المنار ، وسقط فأمر ببناء ما انهدم منه ، في سنة ثلاث وسبعين وستمائة ، وبنى مكان هذه القبة مسجد أو هدم في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند حدوث الزلزلة ، ثم بنى في شهور سنة ثلاث وسبعمائة على يد الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، وهو باق إلى يومنا هذا ، ولله در الوجيه الدرويّ ، حيث يقول في منار الإسكندرية :

وسامية الأرجاء تهدي أخا السرى

ضياء إذا ما حندس الليل أظلما

لبست بها بردا من الإنس صافيا

فكان بتذكار الأحبة معلما

وقد ظللتني من ذراها بقبة

ألاحظ فيها من صحابي أنجما

فخيّل أنّ البحر تحتي غمامة

وأني قد خيمت في كبد السما

وقال ابن قلاقس من أبيات :

ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا

كأنما فيه للنسرين أوكار

راسي القرارة سامي الفرع في يده

للنون والنور أخبار وأخبار

أطلقت فيه عنان النظم فاطردت

خيل لها في بديع الشعر مضمار

وقال الوزير أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد ربه :

لله در منار إسكندرية كم

يسمو إليه على بعد من الحدق

من شامخ الأنف في عرنينه شمم

كأنه باهت في دارة الأفق

للمنشآت الجواري عند رؤيته

كموقع النوم في أجفان ذي أرق

وقال عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر : ذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندرية ، حتى غلب عليها البحر ، فصارت في جوفه ، ألا ترى

٢٩٤

الأبنية والأساسات في البحر إلى الآن عيانا.

وقال عبد الله بن عمر : وعجائب الدنيا أربعة : مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية ، فكان يجلس الجالس تحتها ، فيرى من بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر ، وذكر الثلاثة؟!.

ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

قال القضاعيّ : ومن عجائب مصر : الإسكندرية وما بها من العجائب ، فمن عجائبها :

المنارة ، والسواري ، والملعب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة ، ثم يرمون بأكرة ، فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر ، وحضر عيدا من أعيادهم ، عمرو بن العاص ، فوقعت الأكرة في حجره ، فملك البلد بعد ذلك في الإسلام ، ثم حضر هذا الملعب ألف ألف من الناس ، فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه ، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا ، أو لعب لون من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسفلية.

وقال ابن عبد الحكم : فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة ، وقدم عمر بن الخطاب،رضي‌الله‌عنه ، الجابية ، خلا به عمرو بن العاص ، واستأذنه في المسير إلى مصر ، وكان عمرو قد دخل في الجاهلية مصر ، وعرف طرقها ، ورأى كثرة ما فيها ، وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش ، فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية ، قدم للصلاة في بيت المقدس ، فخرج في بعض جبالها يسيح ، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه ، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم ، فبينا عمرو يرعى إبله ، إذ مرّ به ذلك الشماس ، وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحرّ ، فوقف على عمرو ، فاستسقاه ، فسقاه عمرو من قربة له ، فشرب حتى روي ، ونام الشماس مكانه ، وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة ، فخرجت منها حية عظيمة ، فبصر بها عمرو ، فنزع لها بسهم فقتلها ، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها ، فقال لعمرو : ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها ، فقتلها ، فأقبل إلى عمرو ، فقبّل رأسه ، وقال : قد أحياني الله بك مرّتين : مرّة من شدّة العطش ، ومرّة من هذه الحية ، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال : قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا ، فقال له الشماس : وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟ قال : رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا ، فإني لا أملك إلا بعيرين ، فآمل أن أصيب بعيرا آخر فتكون ثلاثة أبعرة ، فقال له الشماس : أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟ قال : مائة من الإبل ، فقال له الشماس : لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير ، قال : تكون ألف دينار ، فقال له الشماس : إني رجل غريب في هذه البلاد ، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس ، وأسيح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسي ، وقد قضيت ذلك ، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي ، فهل لك أن تتبعني إلى بلادي،

٢٩٥

ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين ، لأنّ الله عزوجل أحياني بك مرّتين ، فقال له عمرو : أين بلادك؟ قال : مصر في مدينة يقال لها : الإسكندرية ، فقال له عمرو : لا أعرفها ، ولم أدخلها قط ، فقال له الشماس : لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها! فقال له عمرو : تفي لي بما تقول ، ولي عليك بذلك العهد والميثاق ، فقال له الشماس : نعم لك والله عليّ العهد والميثاق أن أفي لك ، وأن أردّك إلى أصحابك ، فقال له عمرو : كم يكون مكثي في ذلك؟ قال : شهرا تنطلق معي ذاهبا عشرا ، وتقيم عندنا عشرا ، وترجع في عشر ، ولك عليّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا ، فقال له عمرو : انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك ، فانطلق عمرو إلى أصحابه ، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس ، وقال لهم : تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به ، فقالوا : نعم ، وبعثوا معه رجلا منهم ، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس ، حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها ، وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه! فقال عمرو للشماس : ما رأيت مثل ذلك ، ومضى إلى الإسكندرية ، فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة ، وجودة بنائها ، وكثرة أهلها ، فازداد عجبا ، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ، ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم ، وهم يتلقونها بأكمامهم ، وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم ، أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم.

فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله ، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه ، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس ، حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم ، فرمى بها رجل منهم ، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو ، فعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة! أترى هذا الأعرابيّ يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا ، وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية ، وأعلمهم أنّ عمرا أحياه مرّتين ، وأنه قد ضمن له ألفي دينار ، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ، ففعلوا ، ودفعوها إلى عمرو ، فانطلق عمرو وصاحبه ، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا ، وزوّدهما وأكرمهما ، حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما ، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد ، وأكثرها أموالا ، فلما رجع عمرو إلى أصحابه ، دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار ، وأمسك لنفسه ألفا ، قال عمرو : وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته.

ذكر عمود السواري

هذا العمود حجر أحمر منقط ، وهو من الصوّان الماتع كان حوله ، نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ،

٢٩٦

ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدوّ سلوكه إذا قدموا ، ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة ، وأنه كان دار علم ، وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ويقال : إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعا وقطره خمسة أذرع ، وذكر بعضهم : أنّ طوله بقاعدتيه : اثنان وستون ذراعا وسدس ذراع ، وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع ، فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع ، وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعا ، وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف.

قال المسعوديّ : وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر ، جبل رخام عظيم ، كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها ، وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر ، فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ، ومنها حجارة الطواحين ، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ، ومنها العمد التي بالإسكندرية ، والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله ، وقد رأيت في جبل أسوان ، أخا هذا العمود ، وقد هندس ونقر ولم يصل من الجبل ، ولم يحمل ما ظهر منه ، وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل ، ثم يحمل إلى حيث يريد القوم ، انتهى.

وكان بالإسكندرية من العمد العظام ، وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تقلّ القطعة منه ، إلا بألوف من الناس ، وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع ، وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعا إلى العشرين ذراعا ، والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع ، في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان.

وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة ، بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع ، وعرضه على النصف من ذلك ، وبابه من أعظم بناء وأتقنه ، كل عضادة منه حجر واحد ، وعتبته حجر واحد ، وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها ، غلظها ستة وثلاثون شبرا ، وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر ، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء ، وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة ، عرض كل ضلع منه عشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار ، والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض ، فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك ، وربما وضع تحتها الحجارة ، فطحنتها لشدّة حركتها ، وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا ، وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهما‌السلام ، كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ ، وليس كذلك ، بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر.

وكان في وسطه ، قبة ومن حولها أساطين ، وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام

٢٩٧

أبيض كأحسن ما أنت راء من الصنائع.

ويقال : إن بعض ملوك مصر دخل الإسكندرية ، فأعجبه هذا القصر ، وأراد أن يبني مثله ، فجمع الصناع والمهندسين ليقيموا له قصرا عظيما على هيئته ، فما منهم إلا من اعترف بعجزه عن مثله ، إلّا شيخا منهم ، فإنه التزم أن يصنع مثله ، فسرّ الملك ذلك ، وأذن له في طلب ما يحتاج إليه من المؤن والآلات والرجال ، فقال : ائتوني بثورين مطيقين وعجلة كبيرة ، فللحال أتي بذلك فمضى إلى المقابر القديمة ، وحفر منها قبرا أخرج منه : جمجمة عظيمة ، رفعها عدّة من الرجال على العجلة ، فما جرّها الثوران مع قوّتهما إلّا بعد جهد وعناء ، فلما وقف بها بين يدي الملك ، قال : أصلح الله سيدنا! إن أتيتني بقوم رؤوسهم مثل هذا الرأس عملت لك مثل هذا القصر؟ فتيقن الملك عند ذلك عجز أهل زمانه عن إقامة مثل ذلك القصر.

وقد ذكر : أنه كان بالإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب ، يزن به اللحم ، زنته ثمانية أرطال.

ويقال : إنّ عمود السواري الموجود الآن خارج مدينة الإسكندرية ، أحد سبعة أعمدة ، أتي بأحدها ، البتون بن مرّة العادي ، وهو يحمله تحت إبطه من جبل بريم الأحمر قبليّ أسوان إلى الإسكندرية ، فانكسر ضلعه ، لأنه كان ضعيف القوى في قومه ، فشق ذلك على يعمر بن شدّاد بن عاد ، وقال : ليتني فديته بنصف ملكي ، وجاء بعمود آخر ، جحدر بن سنان الثموديّ ، وكان قويا ، فحمله من أسوان تحت إبطه ، وجاء بقية رجالهم كل رجل بعمود ، فأقام العمد السبعة ، الجارود بن قطن المؤتفكي ، وكان بناءها بعد أن اختاروا لها طالعا سعيدا ، كما هي عادتهم في عامّة أعمالهم ، وقد ذكر غير واحد ، أن الصخور في القديم من الدهر كانت تلين ، فعمل منها أعمدة ، ناعط ومارب وبينون وماثر اليمن ، وأعمدة دمشق ومصر ومدين وتدمر ، وإنّ كل شيء كان يتكلم ، قال أمية بن أبي الصلت :

وإذ هم لا لبوس لهم عراة

وإذ صخر السلام لهم رطاب

وقال قوم : عمود السواري من جملة أعمدة كانت تحمل رواقا ، يقال له : بيت الحكمة ، وذلك حيث انتهت علوم أهل الغرب إلى خمس فرق ، وهم : أصحاب الرواق هذا ، وأصحاب الأسطوانة وكانوا ببعلبك ، وأصحاب المظال وهم بأنطاكية ، وأصحاب البرابي وكانوا بصعيد مصر ، والمشاؤون وكانوا بمقدونية ، وكأني بمن قلّ علمه ينكر عليّ إيراد هذا الفصل ، ويراه من قبيل المحال ، ومما وضعه القصاص ، ويجزم بكذبه ، فلا يوحشنك حكايتي له ، واسمع قول الله تعالى عن عاد قوم هود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف / ٦٩] أي طولا وعظم جسم.

قال عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان أطولهم مائة ذراع ، وأقصرهم ستين

٢٩٨

ذراعا ، وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم ، وقيل : على خلق قوم نوح ، وقال وهب بن منبه : كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة ، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع ، وكذلك مناخرهم.

وروى شهر بن حوشب (١) عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه : إنه قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليحمل المصراعين لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يطيقوه ، وإن كان أحدهم ليغمز بقدمه الأرض فيدخل فيها.

وروى عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد بن عمرو المعافريّ ، عن ابن بجرة ، قال : استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه‌السلام ، في قحف رجل من العماليق. وعن زيد بن أسلم : بلغني أنّ الضبعة وأولادها ربين في حجاج عين رجل من العماليق ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر / ٨].

قال المبرّد : وقولها يعني الخنساء : رفيع العماد إنما تريد الطول ، يقال : رجل معمد : يريد طولا ومنه قوله تعالى : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أي : الطوال.

وقال البغويّ : سموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمدة سيارة ، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبيّ ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، وقال بعضهم : سموا ذات العماد لطول قاماتهم ، قال ابن عباس : يعني طولهم مثل العماد ، قال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا.

وفي كشاف الزمخشريّ : لم يخلق مثلها ، مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها ، فيلقيها على الحيّ فيهلكهم ، وقد ذكر غير واحد أنه وجد في خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد ، كنز بمصر فيه ضلم إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض ثلاثة أشبار.

واعلم أن أعين بني آدم ضيقة وقد نشأت نفوسهم في محل صغير ، فإذا حدّث القوم بما يتجاوز مقدار عقولهم أو مبلغ أجسامهم مما ليس له عندهم أصل يقيسونه على إلا ما يشاهدونه ، أو يألفونه عجلوا إلى الارتياب فيه ، وسارعوا إلى الشك في الخبر عنه ، إلّا من كان معه علم وفهم ، فإنه يفحص عما يبلغه من ذلك حتى يجد دليلا على قبوله ، أو ردّه ، وكيف يردّ مثل هذه الأخبار. وفي الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حلق الله آدم طوله ستون ذراعا في السماء» ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.

وذكر محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع القيسيّ الغرناطيّ في كتاب تحفة

__________________

(١) شهر بن حوشب الأشعري : فقيه قارىء من رجال الحديث ، شامي وسكن العراق وهو متروك الحديث ، ولد سنة ٢٠ ه‍ وتوفي سنة ١٠٠ ه‍. الأعلام ج ٣ / ١٧٨.

٢٩٩

الألباب قال : نقل الشعبيّ في كتاب سير الملوك : أن الضحاك بن علوان ، لما هرب منه لام بن عاد إلى ناحية الشمال أرسل في طلبه أميرين مع كل أمير طائفة من الجبارين خرج أحدهما قاصدا إلى بلغار ، والآخر إلى باشقرد ، فأقام أولئك الجبارون في أرض بلغار ، وفي باشقرد. قال الإقليشيّ : وقد رأيت صورهم في باشقرد ، ورأيت قبورهم بها ، فكان مما رأيته ، ثنية أحدهم طولها : أربعة أشبار ، وعرضها شبران ، وقد كان عندي في باشقرد نصف أصل الثنية أخرجت لي من فكه الأسفل ، فكان عرضها شبرا ، ووزنها ألف مثقال ، ومائتا مثقال ، أنا وزنتها بيدي ، وهي الآن في داري في باشقرد ، وكان دور فلك ذلك العاديّ سبعة عشر ذراعا ، وفي بيت بعض أصحابي في باشقرد ، عضد أحدهم طوله ثمانية وعشرون ذراعا ، وأضلاعه كل ضلع عرضه ثلاثة أشبار ، وأكثر كاللوح الرخام ، وأخرج إليّ نصف رسغ يد أحدهم ، فكنت لا أقدر أن أرفعه بيد واحدة حتى أرفعه بيديّ جميعا ، قال : ولقد رأيت في بلد بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل العاديين رجلا طوالا كان طوله أكثر من سبعة أذرع ، وكان يسمى : دنقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الإنسان الطفل الصغير ، وكان إذا وقع القتال بتلك الناحية ، يقاتل بشجرة من شجر البلوط ، يمسكها كالعصا في يده لو ضرب بها الفيل قتله ، وكان خيّرا متواضعا ، كلما التقاني سلم عليّ ، ورحب بي وأكرمني ، وكان رأسي لا يصل إلى حقوه ، وكان له أخت على طوله رأيتها في بلغار مرارا عدّة.

قال لي القاضي يعقوب بن النعمان ، يعني قاضي بلغار : إن هذه المرأة الطويلة العادية قتلت زوجها ، وكان اسمه آدم ، وكان من أقوى أهل بلغار ضمته إلى صدرها ، فكسرت أضلاعه ، فمات من ساعته. قال : ولم يكن في بلغار حمّام تسعهم ، إلا حمّام واحدة واسعة الأبواب ، انتهى.

وقد حدّثني الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفريابي عن أبيه : أنه شاهد قبرا احتفر بمدينة قرطاجنة من إفريقية ، فإذا جثة رجل قدر عظيم رأسه كثورين عظيمين ، ووجد معه لوح مكتوب بالقلم المسند ، وهو قلم عاد ، وحروفه مقطعة ، ما نصه : أنا كوش بن كنعان ابن الملوك من آل عاد ، ملكت بهذه الأرض ألف مدينة ، وبنيت بها على ألف بكر ، وركبت من الخيل العتاق سبعة آلاف ، حمر وصفر وشهب وبيض ودهم ، ثم لم يغن عني ذلك شيئا ، أو جاءني صائح ، فصاح بي صيحة أخرجتني من الدنيا ، فمن كان عاقلا ممن جاء بعده فليعتبر بي وأنشد :

يا واقفا يرعى السهى

برسم ربع قد وهى

قف واستمع ثم اعتبر

إن كنت من أهل النهي

بالأمس كنا فوقها

واليوم صرنا تحتها

لكل حدّ غاية

لكل أمر منتهى

٣٠٠