كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

حضيضها في الجنوب ، عدمت العمارة هنالك.

وقد اختلف الناس في مسافة الأرض ، فقيل : مسافتها خمسمائة عام ثلث عمران ، وثلث خراب ، وثلث بحار ، وقيل : المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة : تسعون ليأجوج ومأجوج ، واثنا عشر : للسودان ، وثمانية للروم ، وثلاثة للعرب ، وسبعة لسائر الأمم.

وقيل : الدنيا سبعة أجزاء : ستة ليأجوج ومأجوج ، وواحد لسائر الناس ، وقيل : الأرض خمسمائة عام : البحار ثلثمائة ، ومائة خراب ، ومائة عمران ، وقيل : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ : للسودان اثنا عشر ألف ، وللروم ثمانية آلاف ، ولفارس ثلاثة آلاف ، وللعرب ألف.

وعن وهب بن منبه : ما العمارة من الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.

وقال أزدشير بن بابك : الأرض أربعة أجزاء : جزء منها للترك ، وجزء للعرب ، وجزء للفرس ، وجزء للسودان ، وقيل : الأقاليم سبعة : والأطراف أربعة ، والنواحي خمسة وأربعون ، والمدائن عشرة آلاف ، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا ، وقيل : المدن والحصون أحد وعشرون ألفا وستمائة مدينة وحصن ، ففي الإقليم الأوّل ثلاثة آلاف ومائة مدينة كبيرة ، وفي الثاني ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر مدينة وقرية كبيرة ، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون مدينة وقرية ، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون مدينة ، وفي الخامس ثلاثة آلاف مدينة وست مدائن ، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن ، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة في الجزائر.

وقال الخوارزميّ : قطر الأرض سبعة آلاف فرسخ ، وهو نصف سدس الأرض والجبال والمفاوز والبحار ، والباقي خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان ، وقيل : المعمور من الأرض مثل : طائر ، رأسه الصين ، والجناح الأيمن الهند والسند ، والجناح الأيسر الخزر ، وصدره مكة والعراق والشام ومصر ، وذنبه الغرب ، وقيل : قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا ودورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل ، وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر.

وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخيّ (١) : طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو أربعمائة مرحلة ، وعرضها من حيث العمران الذي من جهة الشمال ، وهو مساكن يأجوج ومأجوج إلى حيث العمران الذي من جهة الجنوب ، وهو مساكن السودان

__________________

(١) أحمد بن سهل أبو زيد البلخي : أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام جمع بين الشريعة والأدب والفلسفة والفنون ولد سنة ٢٣٥ ه‍ وتوفي سنة ٣٢٢ ه‍. له عدة مؤلفات منها : (الأسماء والكنى والألقاب). الأعلام ج ١ / ١٣٤.

٢١

مائتان وعشرون مرحلة وما بين براري يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط في الشمال ، وما بين براري السودان ، والبحر المحيط في الجنوب خراب ليس فيه عمارة ، ويقال : إن مسافة ذلك : خمسة آلاف فرسخ ، وهذه أقوال لا دليل على صدقها.

والطريق في معرفة مساحة الأرض أنّا لو سرنا على خط نصف النهار من الجنوب إلى الشمال بقدر ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوسنا إلى الجنوب درجة من درج الفلك التي هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا ، وارتفع القطب علينا درجة نظير تلك الدرجة فإنا نعلم أنا قد قطعنا من محيط جرم الأرض جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا ، وهو نظير ذلك الجزء من الفلك ، فلو قسنا من ابتداء مسيرنا إلى انتهاء مكاننا الذي وصلنا إليه حيث ارتفع القطب علينا درجة ، فإنا نجد حقيقة الدرجة الواحدة من الفلك قد قطعت من الأرض ستة وخمسين ميلا ، وثلثي ميل عنها خمسة وعشرون فرسخا فإذا ضربنا حصة الدرجة الواحدة ، وهو ما ذكر من الأميال في ثلاثمائة وستين خرج من الضرب عشرون ألفا ، وأربعمائة ميل ، وذلك مساحة دور الأرض فإذا قسمنا هذه الأميال التي هي مساحة دور الأرض على ثلاثة وسبع خرج من القسمة ستة آلاف وأربعمائة ، وأربعون ميلا ، وهي مساحة قطر الأرض ، فلو ضربنا هذا القطر في مبلغ دور الأرض ، لبلغت مساحة بسط الأرض بالتكسير مائة ألف ألف واثنين وثلاثين ألف ألف وستمائة ألف ميل بالتقريب. فعلى هذا مساحة ربع الأرض المسكون بالتكسير ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل ومائة وخمسون ألف ميل ، وعرض المسكون من هذا الربع بقدر بعد مدار السرطان عن القطب ، وهو خمسة وخمسون جزءا وسدس جزء ، وهذا هو سدس الأرض وانتهاؤه إلى جزيرة تولي في برطانية ، وهي آخر المعمور من الشمال ، وهو من الأميال ثلاثة آلاف وسبعمائة وأربعة وستون ميلا ، فإذا ضربنا هذا السدس الذي هو مساحة عرض الأرض في النصف ، وهو مقدار الطول ، كان المعمور من الشمال قدر نصف سدس الأرض. وأما الطول فإنه يقل لتضايق أقسام كرة الأرض ، ومقداره مثل خمس الدور ، وهو بالتقريب أربعة آلاف وثمانون ميلا ، وفي الربع المسكون من الأرض : سبعة أبحر كبار ، وفي كل بحر منها عدة جزائر ، وفيه خمسة عشر بحيرة منها ملح وعذب ، وفيه مائتا جبل طوال ، ومائتا نهر ، وأربعون نهرا طوالا ، ويشتمل على سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة.

وقال في كتاب هروشيوس : لما استقامت طاعة بوليس الملقب قيصر الملك في عامّة الدنيا ، تخير أربعة من الفلاسفة سماهم ، فأمرهم أن يأخذوا له وصف خدود الدنيا ، وعدّة بحارها ، وكورها أرباعا فولّى أحدهم أخذ وصف جزء المشرق ، وولى آخر أخذ وصف جزء المغرب ، وولى الثالث أخذ وصف جزء الشمال. وولى الرابع أخذ وصف جزء الجنوب ، فتمت كتابة الجميع على أيديهم في نحو من ثلاثين سنة ، فكانت جملة البحار المسماة في الدنيا تسعة وعشرين بحرا قد سمّوها : منها بجزء الشرق ثمانية ، وبجزء الغرب ثمانية ،

٢٢

وبجزء الشمال أحد عشر ، وبجزء الجنوب اثنان ، وعدّة الجزائر المعروفة الأمهات : إحدى وسبعون جزيرة منها : في الشرق ثمان ، وفي الغرب ست عشرة ، وفي جهة الشمال إحدى وثلاثون ، وفي جهة الجنوب ست عشرة. وعدّة الجبال الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وثلاثون وهي أمّهات الجبال وقد سموها فيما فسروه منها : في جهة الشرق سبعة ، وفي جهة المغرب خمسة عشر ، وفي الشمال اثنا عشر ، وفي الجنوب اثنان ، والبلدان الكبار ثلاثة وستون منها : في المشرق سبعة ، وفي المغرب خمسة وعشرون ، وفي الشمال تسعة عشر ، وفي الجنوب اثنا عشر. وقد سموها ، والكور الكبار المعروفة تسع ومائتان منها : في المشرق خمس وسبعون ، وفي المغرب ست وستون ، وفي الشمال ست ، وفي الجنوب اثنان وستون. والأنهار الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وخمسون منها : لجزء الشرق سبعة عشر ، ولجزء الغرب ثلاثة عشر ، ولجزء الشمال تسعة عشر ، ولجزء الجنوب سبعة.

والأقاليم السبعة كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مدّ طوله من الشرق إلى الغرب ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب وهذه الأقاليم مختلفة الطول والعرض. فالإقليم الأوّل منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهار الأطول ثلاثة عشر ساعة والسابع منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ست عشر ساعة لأنّ ما حاذى حدّ الإقليم الأوّل إلى نحو الجنوب يشتمل عليه البحر ولا عمارة فيه وما حاذى الإقليم السابع إلى الشمال لا يعلم فيه عمارة فجعل طول الأقاليم السبعة من الشرق إلى الغرب مسافة اثنتي عشرة ساعة من دور الفلك وصارت عروضها تتفاضل نصف ساعة من ساعات النهار الأطول فأطولها وأعرضها الإقليم الأوّل وطوله من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة آلاف فرسخ ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب مائة وخمسون فرسخا.

وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع وطوله من الشرق إلى الغرب ألف وخمسمائة فرسخ ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو من سبعين فرسخا ، وبقية الأقاليم الخمسة فيما بين ذلك ، وهذه الأقاليم خطوط متوهمة لا وجود لها في الخارج وضعها القدماء الذين جالوا في الأرض ليقفوا على حقيقة حدودها ، ويتيقنوا مواضع البلدان منها ، ويعرفوا طرق مسالكها هذا حال الربع المسكون ، وأما الثلاثة الأرباع الباقية فإنها خراب ، فجهة الشمال واقعة تحت مدار الجدي قد أفرط هناك البرد ، وصارت ستة أشهر ليلا مستمرّا ، وهي مدّة الشتاء عندهم لا يعرف فيها نهار ، ويظلم الهواء ظلمة شديدة ، وتجمد المياه لقوّة البرد ، فلا يكون هناك نبات ولا حيوان ، ويقابل هذه الجهة الشمالية ناحية الجنوب حيث مدار سهيل ، فيكون النهار ستة أشهر بغير ليل ، وهي مدّة الصيف عندهم ، فيحمي الهواء ويصير سموما محرقا يهلك بشدّة حرّه الحيوان والنبات ، فلا يمكن سلوكه ولا السكنى فيه ، وأما ناحية الغرب ، فيمنع البحر المحيط من السلوك فيه لتلاطم أمواجه وشدّة ظلماته وناحية الشرق تمنع من سلوكها الجبال الشامخة ، وصار الناس أجمعهم قد انحصروا في الربع المسكون من

٢٣

الأرض ولا علم لأحد منهم بالأرض أي بالثلاثة الأرباع الباقية ، والأرض كلها بجميع ما عليها من الجبال ، والبحار نسبتها إلى الفلك كنقطة في دائرة ، وقد اعتبرت حدود الأقاليم السبعة بساعات النهار ، وذلك أن الشمس إذا حلت برأس الحمل ، تساوى طول النهار والليل في سائر الأقاليم كلها ، فإذا انتقلت في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم ، فإذا بلغت آخر الجوزاء وأوّل برج السرطان ، بلغ طول النهار في وسط الإقليم الأوّل ثلاث عشرة ساعة سواء ، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة ، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة ، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصف ساعة ، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة ساعة ، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ساعة ونصف ساعة ، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة ساعة سواء ، وما زاد على ذلك إلى عرض تسعين درجة يصير نهارا كلّه.

ومعنى طول البلد : هو بعدها من أقصى العمارة في الغرب ، وعرضها هو بعدها عن خط الاستواء ، وخط الاستواء كما تقدّم هو الموضع الذي يكون فيه الليل والنهار طول الزمان سواء ، فكل بلد على هذا الخط لا عرض له ، وكل بلد في أقصى الغرب لا طول له ، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، مائة وثمانون درجة ، وكل بلد يكون طوله تسعين درجة ، فإنه في وسط ما بين الشرق والغرب ، وكل بلد كان طوله أقل من تسعين درجة فإنه أقرب إلى الغرب وأبعد من الشرق ، وما كان طوله من البلاد أكثر من تسعين درجة ، فإنه أبعد عن الغرب ، وأقرب إلى الشرق.

وقد ذكر القدماء أن العالم السفليّ مقسوم سبعة أقسام ، كل قسم يقال له : إقليم ، فإقليم الهند لزحل ، وإقليم بابل للمشتري ، وإقليم الترك للمرّيخ ، وإقليم الروم للشمس ، وإقليم مصر لعطارد ، وإقليم الصين للقمر.

وقال قوم : الحمل والمشتري لبابل ، والجدي وعطارد للهند ، والأسد والمريخ للترك ، والميزان والشمس للروم ، ثم صارت القسمة على اثني عشر برجا ، فالحمل ومثلاه للمشرق ، والثور ومثلاه للجنوب ، والجوزاء ومثلاها للمغرب ، والسرطان ومثلاه للشمال ، قالوا وفي كل إقليم مدينتان عظيمتان بحسب بيتي كل كوكب إلا إقليم الشمس ، وإقليم القمر فإنه ليس في كل إقليم منهما سوى مدينة واحدة عظيمة. وجميع مدائن الأقاليم السبعة ، وحصونها أحد وعشرون ألف مدينة ، وستمائة مدينة وحصن بقدر دقائق درج الفلك.

وقال هرمس : إذا جعلت هذه الدقائق روابع كانت أناس هذه الأقاليم ، وإذا مات أحد ولد نظيره ويقال : إن عدد مدن الإقليم الأول من مطلع الشمس وقراها ثلاثة آلاف ومائة

٢٤

مدينة وقرية كبيرة ، وأنّ في الثاني ألفان وسبعمائة وثلاث عشرة مدينة وقرية كبيرة ، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون ، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون ، وفي الخامس ثلاثة آلاف وست مدن ، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن ، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة وقرية كبيرة في الجزائر.

فالإقليم الأوّل يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ثلاث عشرة ساعة ، ويرتفع القطب الشماليّ فيها عن الأفق ست عشرة درجة وثلثا درجة ، وهو العرض وانتهاء عرض هذا الإقليم من حيث يكون طول النهار الأطول فيه ثلاث عشرة ساعة وربع ساعة ، وارتفاع القطب الشماليّ ، وهو العرض عشرون درجة ونصف درجة ، وهو مسافة أربعمائة وأربعين ميلا ، وابتداؤه من أقصى بلاد الصين ، فيمرّ فيها إلى ما يلي الجنوب ، ويمرّ بسواحل الهند ، ثم ببلاد السند ، ويمرّ في البحر على جزيرة العرب وأرض اليمن ، ويقع بحر القلزم فيمرّ ببلاد الحبشة ، ويقطع نيل مصر إلى بلاد الحبشة ، ومدينة دنقلة من أرض النوبة ، ويمرّ في أرض المغرب على جنوب بلاد البربر إلى نحو البحر المحيط ، وفي هذا الإقليم عشرون جبلا فيها ما طوله من عشرين فرسخا إلى ألف فرسخ ، وفيه ثلاثون نهرا طويلا منها ما طوله ألف فرسخ إلى عشرين فرسخا ، وفيه خمسون مدينة كبيرة ، وعامّة أهل هذا الإقليم سود الألوان ، ولهذا الإقليم من البروج الحمل والقوس ، وله من الكواكب السيارة المشتري ، وهو مع فرط حرارته كثير المياه كثير المروج وزرع أهله الذرة والأرز إلّا أنّ الاعتدال عندهم معدوم ، فلا يثمر عندهم كرم ولا حنطة ، والبقر عندهم كثير لكثرة المروج ، وفي مشرقه البحر الخارج وراء خط الاستواء ، بثلاث عشرة درجة ، وفي مغربه النيل ، وبحر الغرب ومن هذا الإقليم يأتي نيل مصر ، وشرقهم معمور بالبحر الشرقيّ الذي هو بحر الهند واليمن.

والإقليم الثاني : حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف ، ويرتفع القطب الشماليّ فيه قدر أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء ، وعرضه من حدّ الإقليم الأوّل إلى حيث يكون النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع ساعة ، وارتفاع القطب الشماليّ ، وهو العرض سبعة وعشرون درجة ونصف درجة ، ومساحة هذا الإقليم أربعمائة ميل ويبتدئ من بلاد الشرق مارّا ببلاد الصين إلى بلاد الهند والسند ، ثم بملتقى البحر الأخضر وبحر البصرة ، ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وتهامة ، فيدخل في هذا الإقليم اليمامة ، والبحران ، وهجر ، ومكة ، والمدينة ، والطائف ، وأرض الحجاز ، ويقطع بحر القلزم ، فيمرّ بصعيد مصر الأعلى ويقطع النيل ، فيصير فيه مدينة قوص ، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان ، ويمرّ في أرض المغرب على وسط بلاد إفريقية ، فيمرّ على بلاد البربر إلى البحر في المغرب ، وفي هذا الإقليم سبعة عشر جبلا ، وسبعة عشر نهرا طوالا وأربعمائة وخمسون مدينة كبيرة ، وألوان أهل هذا الإقليم ما بين السمرة والسواد ، وله من البروج الجدي ، ومن السيارة زحل ، ويسكن هذا الإقليم الرحالة ، ففي المغرب منهم حدا له وصنهاجة ولمتونة

٢٥

ومسوفة ، ويتصل بهم رحالة مصر من ألواح وفي هذا الإقليم يكون يحل ، وفيه مكة والمدينة ومنه السماوة من أهل العراق إلى رحالة الترك.

والإقليم الثالث : وسطه حيث يكون طول النهار الأطول أربع عشرة ساعة وارتفاع القطب ، وهو العرض ثلاثون درجة ونصف وخمس درجة ، وعرض هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثاني إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة وربع ساعة ، وارتفاع القطب وهو العرض ثلاث وثلاثون درجة ومسافته ثلاثمائة وخمسون ميلا ويبتدئ من الشرق ، فيمر بشمال الصين ، وبلاد الهند ، وفيه مدينة الهندهار ثم بشمال السند ، وبلاد كابل ، وكرمان ، وسجستان إلى سواحل بحر البصرة ، وفيه اصطخر وسابور ، وشيراز وسيراف ويمرّ بالأهواز والعراق ، والبصرة ، وواسط ، وبغداد ، والكوفة ، والأنبار وهيت ، ويمرّ ببلا الشام إلى سلمية وصور وعكا ، ودمشق وطبرية وقيسارية وبيت المقدس وعسقلان وغزة ومدين والقلزم ويقطع أسفل أرض مصر من شمال انصنا إلى فسطاط مصر ، وسواحل البحر ، وفيه الفيوم والإسكندرية والعرما وتنيس ودمياط ويمرّ ببلاد برقة إلى إفريقية فيدخل فيه القيروان وينتهي في البحر إلى الغرب وبهذا الإقليم ثلاث وثلاثون جبلا كبارا واثنان وعشرون نهرا طوالا ومائة وثمانية وعشرون مدينة وأهله سمر الألوان ومن له من البروج العقرب ، ومن السيارة الزهرة ، وفي هذا الإقليم العمائر المتواصلة من أوّله إلى آخره اه.

والإقليم الرابع : وسطه حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف ساعة ، وارتفاع القطب الشماليّ ، وهو العرض ست وثلاثون درجة وخمس درجة ، وحدّ هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثالث إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة ، والعرض تسعا وعشرين درجة وثلث درجة ، ومسافة هذا الإقليم : ثلاثمائة ميل ويبتدئ من الشرق فيمر ببلاد التبت ، وخراسان وخجندة وفرغانة وسمرقند وبخارى وهراة ومرو الروذ وسرخس وطوس ونيسابور وجرجان وقومس وطبرستان وقزوين والديلم والريّ وأصفهان وهمذان ونهاوند ودينور والموصل ونصيبين وآمد ورأس العين وشميساط والرقة ويمرّ ببلاد الشام فيدخل فيه بالس ، ومسح وملطية وحلب وأنطاكية وطرابلس والمصيصة وحماه وصيدا وطرسوس وعمورية واللاذقية ، ويقطع بحر الشام على جزيرة قبرس ورودس ، ويمرّ ببلاد طنجة ، فينتهي إلى بحر المغرب ، وفي هذا الإقليم : خمسة وعشرون جبلا كبارا وخمسة وعشرون نهرا طوالا ومائتا مدينة واثنتا عشرة مدينة ، وألوان أهله ما بين السمرة والبياض ، وله من البروج الجوزاء ، ومن السيارة عطارد ، وفيه البحر الرومي من مغربه إلى القسطنطينية ، ومن هذا الإقليم ظهرت الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين ، ومنه انتشر الحكماء والعلماء فإنه وسط الأقاليم ، ثلاثة جنوبية ، وثلاثة شمالية ، وهو في قسم الشمس ، وبعده في الفضيلة الإقليم الثالث والخامس فإنهما على جنبيه ، وبقية الأقاليم منحطة أهلوها ناقصون ومنحطون عن الفضيلة لسماجة صورهم وتوحش أخلاقهم كالزنج ،

٢٦

والحبشة وأكثر أمم الإقليم الأوّل والثاني والسادس والسابع يأجوج ومأجوج ، والتغرغر والصقالبة ونحوهم.

والإقليم الخامس : وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ، وارتفاع القطب الشمالي ، وهو العرض إحدى وأربعون درجة وثلث درجة ، وابتداؤه من نهاية عرض الإقليم الرابع إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة ، والعرض ثلاثا وأربعين درجة ، ومسافته خمسون ومائتا ميل ويبتدئ من المشرق إلى بلاد يأجوج ومأجوج ، ويمرّ بشمال خراسان ، وفيه خوارزم واسبيجاب وأذربيجان وبردعة وسجستان وأردن وخلاط ويمرّ على بلاد الروم إلى رومية الكبرى والأندلس ، حتى ينتهي إلى البحر الذي في المغرب وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال : ثلاثون جبلا ، ومن الأنهار الكبار خمسة عشر نهرا ، ومن المدائن الكبار مائتا مدينة ، وأكثر أهله بيض الألوان وله من البروج الدلو ، ومن السيارة القمر.

والإقليم السادس : وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة ، وارتفاع القطب الشماليّ ، وهو العرض خمسا وأربعين درجة وخمسي درجة ، وابتداؤه من حدّ نهاية عرض الإقليم الخامس إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة ، والعرض سبعا وأربعين درجة وربع درجة.

ومسافة هذا الإقليم مائتا ميل وعشرة أميال ، ويبتدي من المشرق ، فيمرّ بمساكن الترك من أبحر خير والتغرغر إلى بلاد الخزر من شمال نجومهم على اللان والشرير ، وأرض برحان والقسطنطينية ، وشمال الأندلس إلى البحر المحيط الغربي ، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال : اثنان وعشرون جبلا ، ومن الأنهار الطوال : اثنان وثلاثون نهرا ، ومن المدن الكبار تسعون مدينة وأكثر أهل هذا الإقليم ألوانهم ما بين الشقرة والبياض ، وله من البروج السرطان ، ومن السيارة المرّيخ.

والإقليم السابع : وسطه حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة سواء ، وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض ثمانيا وأربعين درجة وثلثي درجة ، وابتداء هذا الإقليم من حدّ نهاية الإقليم السادس إلى حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة وربع ساعة ، والعرض خمسين درجة ونصف درجة ، ومسافته مائتا وخمسة وثمانون ميلا ، فتبين أن ما بين أوّل حدّ الإقليم الأوّل ، وآخر حدّ الإقليم السابع ثلاث ساعات ونصف ، وأن ارتفاع القطب الشماليّ ثمانية وثلاثون درجة تكون من الأميال ، ألفين ومائة وأربعين ميلا ، ويبتدي الإقليم السابع من المشرق على بلاد يأجوج ومأجوج ، ويمرّ ببلاد الترك على سواحل بحر جرجان مما يلي الشمال ، ويقطع بحر الروم على بلاد جرجان والصقالبة إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط في المغرب ، وبهذا الإقليم عشرة جبال طوال وأربعون نهرا طوالا ، واثنتان وعشرون مدينة

٢٧

كبيرة ، وأهله شقر الألوان ، وله من البروج الميزان ، ومن السيارة الشمس ، وفي كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة أمم مختلفة الألسن ، والألوان ، وغير ذلك من الطبائع والأخلاق والآراء والديانات والمذاهب ، والعقائد والأعمال والصنائع ، والعادات والعبادات لا يشبه بعضهم بعضا ، وكذلك الحيوانات والمعادن والنبات مختلفة في الشكل والطعم واللون والريح بحسب اختلاف أهوية البلدان ، وتربة البقاع ، وعذوبة المياه وملوحتها على ما اقتضته طوالع كل بلد من البروج على أفقه وممرّ الكواكب على مسامته البقاع من الأرض ، ومطارح شعاعاتها على المواضع كما هو مقرّر في مواضعه من كتب الحكمة ليتدبر أولو النهي ، ويعتبر ذوو الحجى بتدبير الله في خلقه ، وتقديره لما يشاء وفعله لما يريد لا إله إلّا هو ومع ذلك فإن الربع المسكون من الأرض على تفاوت أقطاره مقسوم بين سبع أمم كبار : وهم الصين ، والهند ، والسودان ، والبربر ، والروم ، والترك ، والفرس ، فجنوب مشرق الأرض في يد الصين وشماله في يد الترك ووسط جنوب الأرض في يد الهند وفي وسط شمال الأرض الروم وفي جنوب مغرب الأرض السودان وفي شمال مغرب الأرض البربر وكانت الفرس في وسط هذه الممالك قد أحاطت بهم الأمم الست.

ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

وإذ يسر الله سبحانه بذكر جمل أحوال الأرض ، ومعرفة ما في كل إقليم من أقاليم الأرض ، فلنذكر محل مصر من ذلك فنقول :

ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني ، وبعضها واقع في الإقليم الثالث ، فما كان منها في الصعيد الأعلى كقوص ، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان ، فإنّ ذلك واقع في أقسام الإقليم الثاني ، وما كان من ديار مصر في جهة الشمال من أنصنا ، وهو الصعيد الأدنى من أسيوط إلى فسطاط مصر ، والفيوم والقاهرة والإسكندرية والفرما وتنيس ودمياط فإن ذلك من أقسام الإقليم الثالث ، وطول مدينة مصر الفسطاط والقاهرة ، وهو بعدهما من أوّل العمارة في جهة المغرب : خمس وخمسون درجة ، والعرض وهو البعد من خط الاستواء ثلاثون درجة ، وطول النهار الأطول أربع عشرة ساعة ، وغاية ارتفاع الشمس في الفلك بها ثلاث وثمانون درجة وثلث وربع درجة ، وفسطاط مصر مع القاهرة من مكة شرّفها الله تعالى واقعان في الربع الجنوبيّ الشرقيّ ، والصعيد الأعلى أشدّ تشريقا لبعده عن مدينة الفسطاط بأيام عديدة في جهة الجنوب ، فيكون على ذلك مقابلا لمكة من غربيها ، ومصر لا يتوصل إليها إلا من مفازة ، ففي شرقيها بحر القلزم من وراء الجبل الشرقي ، وفي غربيها صحراء المغرب ، وفي جنوبها مفازة النوبة والحبشة ، وفي شمالها البحر الشامي ، والرمال التي فيها بين بحر الروم ، وبحر القلزم وبين مصر وبغداد على ما ذكره ابن خرداذبه (١) في كتاب

__________________

(١) ابن خرداذبه : عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة أبو القاسم مؤرخ جغرافي فارسي الأصل له كتاب ـ

٢٨

الممالك والمسالك : ألف وسبعمائة وعشرة أميال ، يكون خمسمائة وسبعين فرسخا ، ومائة وبعضا وأربعين بريدا ، وبين مصر والشام أعني دمشق : ثلاثمائة وخمسة وستون ميلا تكون من الفراسخ مائة وإحدى وعشرين فرسخا وثلثي فرسخ ، عنها ثلاثون بريدا وكسر.

وقال ابن خرداذبه : أرض الحبشة والسودان مسيرة سبع سنين ، وأرض مصر جزءا واحد من ستين جزءا من أرض السودان ، وأرض السودان جزء واحد من الأرض كلها.

وفي كتاب هردوشيش : بلد مصر الأدنى شرقه فلسطين ، وغربه أرض ليبية ، وأرض مصر الأعلى تمتدّ إلى ناحية الشرق ، وحدّه في الشمال خليج الغرب ، وفي الجنوب البحر المحيط ، وفي الغرب مصر الأدنى ، وفي الشرق بحر القلزم ، وفيه من الأجناس ثمانية وعشرون جنسا.

__________________

ـ (المسالك والممالك) و (الندماء والجلساء) توفي سنة ٢٨٠ ه‍. الأعلام ج ٤ / ١٩٠.

٢٩

ذكر حدود مصر وجهاتها

اعلم أن التحديد هو صفة المحدود على ما هو عليه ، والحدّ هو نهاية الشيء ، والحدود تكثر وتقل بحسب المحدود والجهات التي تحدّ بها المساكن.

والبقاع أربع جهات وهي : جهة الشمال : التي هي إشارة إلى موضع قطب الفلك الشماليّ المعروف من كواكبه الجدي ، والفرقدان ، ويقابل جهة الشمال الجهة الجنوبية ، والجنوب عبارة : عن موضع قطب الفلك الجنوبيّ الذي يقرب منه سهيل ، وما يتبعه من كواكب السفينة ، والجهة الثالثة : جهة المشرق وهو مشرق الشمس في الاعتدالين اللذين هما رأس الحمل أوّل فصل الربيع ، ورأس الميزان أوّل فصل الخريف ، والجهة الرابعة : جهة المغرب وهو مغرب الشمس في الاعتدالين المذكورين ، فهذه الجهات الأربع ثابتة بثبوت الفلك غير متغيرة بتغير الأوقات وبها تحدّ الأراضي ونحوها من المساكن ، وبها يهتدي الناس في أسفارهم وبها يستخرجون سمت محاريبهم.

فالمشرق والمغرب معروفان ، والشمال والجنوب جهتان مقاطعتان لجهتي المشرق والمغرب على تربيع الفلك ، فالخط المار بنقطتي الشمال والجنوب يسمى : خط نصف النهار ، وهو مقاطع للخط المار بنقطتي المشرق والمغرب المسمى : بخط الاستواء على زوايا قائمة ، وأبعاد ما بين هذين الخطين متساوية فالمستقبل للجنوب يكون أبدا مستدبرا للشمال ، ويصير المغرب عن يمينه ، والمشرق عن يساره ، وهذه الجهات الأربع هي التي ينسب إليها ما يحد من البلاد ، والأراضي والدور إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية ، فيقولون الحدّ القبليّ ينتهي إلى كذا ، ولا يقولون الحدّ الجنوبيّ ، وكذلك يقولون الحدّ البحريّ ينتهي إلى كذا ، ويريدون بالبحريّ الحدّ الشماليّ ، وقد يقع في هاتين الجهتين الغلط في بعض البلاد وذلك أن البلاد التي توافق عروضها عرض مكة إذا كانت أطوالها أقل من طول مكة ، فإن القبلة تكون في هذه البلاد نفس الشرق بخلاف التي توافق عروضها عرض مكة ، إلا أن أطوالها أطول من طول مكة ، فإنّ القبلة في هذه البلاد تكون نفس الغرب ، فمن حدّد في شيء من هذه البلاد أرضا أو مسكنا بحدود أربعة ، فإنه يصير حدّان منها حدّا واحدا ، وكذلك جهة البحر لما جعلوها قبالة جهة القبلة ، وحدّدوا ما بينهما من الأراضي ، والدور بما يسامتها منه ، فإنهم أيضا ربما غلطوا ، وذلك أن

٣٠

القبلة والبحر يكونان في بعض البلاد في جهة واحدة ، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن أرض مصر : لها حدّ يأخذ من بحر الروم ومن الإسكندرية ، وزعم قوم من برقة في البرّ حتى ينتهي إلى ظهر الواحات ، ويمتدّ إلى بلد النوبة ، ثم يعطف على حدود النوبة في حدّ أسوان على حدّ أرض السبخة في قبليّ أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم ، ثم يمتدّ على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا ، ويعطف على تيه بني إسرائيل مارا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح ، ويرجع إلى الساحل مارّا على بحر الروم إلى الإسكندرية ، ويتصل بالحدّ الذي قدمت ذكره من نوحي برقة.

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالته المصرية : أرض مصر بأسرها واقعة في المعمورة في قسمي الإقليم الثاني ، والإقليم الثالث ، ومعظمها في الثالث ، وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أنّ حدّها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الروميّ إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزيج والهند والصين ، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوما ، وحدّها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتآخم لأرض النوبة إلى رشيد ، وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الروميّ ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما ، ويكتنفها في العرض إلى منتهاها جبلان أحدهما في الضفة الشرقية من النيل ، وهو المقطم ، والآخر في الضفة الغربية منه ، والنيل متسرب فيما بينهما ، وهما جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدّا في وضعهما من لدن أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط ، ثم يتسع ما بينهما ، وينفرج قليلا ، ويأخذ المقطم منهما مشرّقا والآخر مغرّبا على وراب في مأخذيهما ، وتفريج في مسلكيهما ، فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والإسكندرية ، فهناك تتقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها في الجنوب ، وأوغلها في الشمال ، وإذا نظرنا بالطريق البرهانية في مقدار هذه المسافة من الأميال لم تبلغ ثلاثين ميلا ، بل تنقص عنها نقصانا ما له قدر ، وذلك لأن فضل ما بين عرض مدينة أسوان التي هي أوغلها في الجنوب ، وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال تسعة أجزاء ونحو سدس جزء وليس بين طوليها فضل له قدر يعتدّ به ، وينوب ذلك نحو خمسمائة وعشرين ميلا بالتقريب ، وذلك مسافة عشرين يوما أو قريب منها وفي هذه المدّة من الزمان تقطع السفار ما بين البلدين بالسير المعتدل أو أكثر من ذلك لما في الطريق من التعويج وعدم الاستقامة.

وقال القضاعي : الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى آخر لوبية ومراقيه وفي آخر أرض مراقيه تلقى أرض انطابلس وهي برقة ، ومن العريش فصاعدا يكون ذلك مسيرة أربعين ليلة ، وهو ساحل كله على البحر الرومي ، وهو بحريّ أرض مصر ، وهو مهب الشمال منها إلى القبلة شيئا ما فإذا بلغت آخر أرض مراقيه عدّت ذات الشمال ، واستقبلت الجنوب ، وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقة وعن

٣١

يسارك من أرض مصر إلى أرض الفيوم منها وأرض الواحات الأربعة فذلك غربيّ مصر ، وهو ما استقبلته منه ثم تعوج من آخر أرض الواحات ، وتستقبل المشرق سائرا إلى النيل تسير ثماني مراحل إلى النيل ، ثم على النيل فصاعدا وهي آخر أرض الإسلام هناك ، ويليها بلاد النوبة ثم ينقطع النيل فتأخذ من أسوان في المشرق منكبا عن بلد أسوان إلى عيداب ساحل البحر الحجازيّ ، فمن أسوان إلى عيداب خمس عشرة مرحلة ، وذلك كله قبليّ أرض مصر ومهب الجنوب منها ثم ينقطع البحر الملح من عيداب إلى أرض الحجاز فينزل الحوراء أوّل أرض مصر وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا البحر المحدود : هو بحر القلزم ، وهو داخل في أرض مصر بشرقيه وغربيه وبحريه فالشرقيّ منه أرض الحوراء وطنسه والنبك وأرض مدين وأرض أيلة فصاعدا إلى المقطم بمصر ، والغربيّ منه ساحل عيداب إلى بحر النعام إلى المقطم ، والبحريّ منه مدينة القلزم وجبل الطور ومن القلزم إلى الفرماء مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز فيما بين البحرين طحر الحجاز وبحر الروم وهذا كله شرقيّ أرض مصر من الحوراء إلى العريش ، وهو مهب الصبا منها فهذا المحدود من أرض مصر ، وما كان بعد هذا من الحدّ الغربيّ ، فمن فتوح أهل مصر ، وثغورهم من البرقة إلى الأندلس.

ذكر بحر القلزم (١)

القلازم : الدواهي والمضايقة ومنه بحر القلزم لأنه مضيق بين جبال ، ولما كانت أرض مصر منحصرة بين بحرين هما بحر القلزم من شرقيها وبحر الروم من شماليها ، وكان بحر القلزم داخلا في أرض مصر كما تقدّم صار من شرط هذا الكتاب التعريف به.

فنقول : هذا البحر إنما عرف في ناحية ديار مصر : بالقلزم لأنه كان بساحله الغربيّ في شرقيّ أرض مصر مدينة تسمى : القلزم وقد خربت كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب عند ذكرى قرى مصر ومدنها فسمّى هذا البحر باسم تلك المدينة ، وقيل له : بحر القلزم على الإضافة ، ويقال له بالعبرانية : (ثم تسوب) وهذا البحر إنما هو خليج يخرج من البحر الكبير المحيط بالأرض الذي يقال له : بحر اقيانس ويعرف أيضا : ببحر الظلمات لتكاثف البخار المتصاعد منه ، وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتدّ الظلمة ، ويعظم موج هذا البحر ، وتكثر أهواله ، ولم يوقف من خبره إلّا على ما عرف من بعض سواحله ، وما قرب من جزائره ، وفي جانب هذا البحر الغربيّ الذي يخرج منه البحر الرومي الآتي ذكره إن شاء الله.

الجزائر الخالدات وهي فيما يقال : ست جزائر يسكنها قوم متوحشون ، وفي جانب

__________________

(١) بحر القلزم : المقصود به هو البحر الأحمر.

٣٢

هذا البحر الشرقيّ مما يلي الصين ست جزائر أيضا تعرف : بجزائر السبلي نزلها بعض العلويين في أوّل الإسلام خوفا على أنفسهم من القتل ، ويخرج من هذا المحيط ستة أبحر أعظمها اثنان : وهما اللذان عناهما الله تعالى بقوله : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) [الرحمن / ١٩] ، وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) [النمل / ٦١] ، فأحدهما : من جهة الشرق ، والآخر : من جهة الغرب. فالخارج من جهة الشرق يقال له : البحر الصينيّ ، والبحر الهنديّ ، والبحر الفارسيّ ، والبحر اليمنيّ ، والبحر الحبشيّ ، بحسب ما يمرّ عليه من البلدان. وأما الخارج من الغرب فيقال له : البحر الروميّ. فأما البحر الهنديّ الخارج من جهة الشرق فإن مبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاثة عشر درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمرّ على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كنبانة وإلى التبير من بلاد كمران فإذا صار إلى بلاد كمران ينقسم هناك قسمين : أحدهما يسمى : بحر فارس ، والآخر يسمى : بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن جبل خارج في البر يسمى هذا الركن : رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار ويسير إلى المسجر وساحل بلاد حضرموت إلى عدن وإلى باب المندب ، وطول هذا البحر الهنديّ ثمانية آلاف ميل في عرض ألف وسبعمائة ميل عند بعض المواضع وربما ضاق عن هذا القدر من العرض فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج إلى بحر القلزم ، والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل الآخر من البرّ تجاهه فإذا فارق باب المندب مرّ في جهة الشمال بساحلي زبيد والحرون إلى عثر وكانت عثر مقر الملك في القديم ويمرّ من هناك على حلى إلى عسفان وأنمار وهي فرضة المدينة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، ومنها على ما يقابل الجحفة حيث يسمى اليوم رابغ إلى الحوراء ومدين وأيلة والطور وفاران ومدينة القلزم ، فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومرّ إلى القصير وهي فرضة قوص ومن القصير إلى عيداب وهي فرضة البجه (١) ، ويمتدّ من عيداب إلى بلد الزيلع ، وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل ببربر وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وفي هذا البحر مصب دجلة والفرات وعلى أطرافه بلاد السند ، وبلاد اليمن كأنها جزائر أحاط بها الماء من جهاتها الثلاث وهو : يردع نهر مهران كردع البحر الرومي لنيل مصر. وفيه فيما بين مدينة القلزم ، ومدينة أيلة مكان يعرف : بمدينة قاران وعندها جبل لا يكاد ينجو منه مركب لشدّة اختلاف الريح وقوّة ممرّها من بين شعبتي جبلين وهي بركة سعتها ستة أميال تعرف : ببركة الغرندل ، يقال : إن فرعون غرق فيها فإذا هبت ريح الجنوب لا يمكن سلوك هذه البركة ، ويقال : إن الغرندل اسم صنم كان في القديم هناك قد وضع ليحبس من خرج من أرض مصر مغاضبا للملك أو فارا منه ، وأنّ موسى عليه‌السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر وسار بهم مشرقا أمره الله سبحانه وتعالى : أن

__________________

(١) الفرضة من البحر : هي محط السفن. ابن الأثير ج ١ / ٤٨.

٣٣

ينزل تجاه هذا الصنم فلما بلغ ذلك فرعون ظنّ أنّ الصنم قد حبس موسى ومن معه ومنعهم من المسير كما يعهدونه منه فخرج بجنوده في طلب موسى وقومه ليأخذهم بزعمه فكان من غرقه ما قصه الله تعالى وسيرد خبر موسى عليه‌السلام عند ذكر كنيسة دموة من هذا الكتاب في ذكر كنائس اليهود.

وفي بحر القلزم هذا خمس عشرة جزيرة منها : أربع عامرات وهي : جزيرة دهلك ، وجزيرة سواكن ، وجزيرة النعمان ، وجزيرة السامريّ ويخرج من هذا البحر خلجان : خليج لطيف ببلاد الهند المتصلة بالبحر الأعظم ، وخليج يحول بين بلاد السودان ، وبلاد اليمن عرض دقاقه نحو من فرسخين ، ويقرب هذا البحر من البحر الرومي في أعمال بلاد الشام وديار مصر حتى يكون بينهما نحو يوم.

ذكر البحر الرومي (١)

ولما كانت عدّة بلاد من أرض مصر مطلة على البحر الرومي كمدينة الإسكندرية ، ودمياط وتنيس ، والفرماء ، والعريش وغير ذلك ، وكان حدّ أرض مصر ينتهي في الجهة الشمالية إلى هذا البحر وهو نهاية مصب النيل حسن التعريف بشيء من أخباره ، وقد تقدّم أن مخرج البحر الرومي هذا من جهة الغرب وهو يخرج في الإقليم الرابع بين الأندلس ، والغرب سائرا إلى القسطنطينية ، ويقال : إن إسكندر الجبار حفره وأجراه من البحر المحيط الغربيّ وأن جزيرة الأندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها البربر والأشبان فكان بعضهم يغير على بعض إلى أن ملك إسكندر الجبار بن سلقوس بن اعريقس بن دوبان فرغب إليه الأشبان في أن يجعل بينهم وبين البربر خليجا من البحر يمكن به احتراز كل طائفة عن الأخرى فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا في عرض اثني عشر ميلا ، وبنى بجانبيه سكرين وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها وجعل عندها حرسا يمنعون البربر من الجواز عليها إلا بإذن وكان قاموس البحر أعلى من أرض هذا الزقاق فطما الماء حتى غطى السكرين مع القنطرة وساق بين يديه بلادا كثيرة وطغى على عدّة بلاد ويقال : إن المسافرين في هذا الزقاق بالبحر يخبرون أن المراكب في بعض الأوقات يتوقف سيرها مع وجود الريح فيجدون المانع لها كونها قد سلكت بين شرافات السور وبين حائطين ثم عظم هذا الزقاق في الطول والعرض حتى صار بحرا عرضه ثمانية عشر ميلا ويذكرون أن البحر إذا جزر ترى القنطرة حينئذ وهذا الخبر أظنه غير صحيح فإن أخبار هذا البحر وكونه بسواحل مصر لم يزل ذكره في الدهر الأوّل قبل إسكندر بزمان طويل ، فإما أن يكون ذلك قد كان في أوّل الدهر مما عمله بعض الأوائل ، وإما أن يكون

__________________

(١) البحر الرومي : هو البحر الأبيض المتوسط.

٣٤

خبرا واهيا وإلا فزمان إسكندر حادث بعد كون هذا البحر ، والله أعلم.

وهذا الزقاق صعب السلوك شديد الهول متلاطم الأمواج ، وإذا خرج البحر من هذا الزقاق مرّ مشرقا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين ، والسواحل من بلاد الشام ، ثم يعطف من هناك إلى العلايا وأنطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حتى ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل ، وقيل : ستة آلاف ميل ، وعرضه من سبعمائة ميل إلى ثلاثمائة ميل ، وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب منها صقلية وصورقة وأقريطش وقبالة البحر الهنديّ من جهة المغرب بحر خارج من المحيط في مغرب بلاد الزنج ينتهي إلى قريب من جبل القمر وفيه مصب النيل المار على بلاد الحبشة وفي أسفله جزائر الخالدات التي هي منتهى الطول في المغرب ، ويقابل البحر الشاميّ من نحية المشرق بحر جرجان وقيل : إنه يتصل بالبحر المحيط من بين جبال شامخة وبحر الصقلب بحر يخرج من جهة المغرب بين الإقليم السادس ، والإقليم السابع ، وهو متسع وفيه جزائر كثيرة ، ومنها جزيرة الأندلس إلا أنها تتصل بالبرّ الكبير وهو جبل كالذراع يتصل بهذا البرّ عند برشلونة ولهم بحر يعرف يأجوج ومأجوج غزير وفيه عجائب إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب ذكرها ويقال : إن مسافة هذا البحر الروميّ نحو أربعة أشهر.

وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ (١) ، في كتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن : وقد كان حرّض بعض ملوك الفرس في بعض استيلائهم على مصر على أن يحفروا ما بين البحرين القلزم والروميّ ويرفعوا من بينهما البرزخ وكان أوّلهم شاسيس بن طراطس الملك ثم من بعده دارنوش الملك فلم يتمكن لهم ذلك لارتفاع ماء القلزم على أرض مصر.

فلما كانت دولة اليونانيين : جاء بطليموس الثالث ففعل ذلك على يد أرسمدس بحيث يحصل الغرض بلا ضرر. فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعا لمن يصل إليهم من أعدائهم وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبلادها وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضا تنبت الجميز وكانت مسكونة وخمة وكان أهلها من اليونانية ، وأن الإسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان بها فيما يزعمون : الطائر الذي يقال له قفنس ، وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسن صوته قبل

__________________

(١) فيلسوف رياضي مؤرخ اطلع على فلسفة اليونانيين والهند. له مؤلفات عديدة منها : (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و (تاريخ الأمم) وغير ذلك. ولد سنة ٣٦٢ ه‍. وتوفي سنة ٤٤٠ ه‍. الأعلام ج ٥ / ٣١٤.

٣٥

ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحد يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح ، وزعموا أن عامل الموسيقى من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت قفنس في تلك الحال فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسدّ أذنيه سدّا محكما ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئا بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة فلا يبغته حسنه في أوّل مرّة فيأتي عليه ، وزعموا : أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء بسبب هجوم ماء البحر عليه ، وعلى رهطه بالليل في الأوكار فلم يبق له بقية ، ويقال : إن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فأعطاه قدحا فيه سمّ ليشربه فأعلمه بذلك فظهر منه مسرّة وفرح فقال له : ما هذا أيها الحكيم؟ فقال : هل أعجز أن أكون مثل قفنس.

ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

ويقال : كان اسمها في الدهر الأوّل قبل الطوفان جزلة ، ثم سميت مصر ، وقد اختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله سميت هذه الأرض بمصر فقال قوم : سميت بمصر ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم وهو مصر الأوّل. وقيل : بل سميت بمصر الثاني وهو مصرام بن يعراوش الجبار بن مصريم الأوّل وبه سمي مصر بن بنصر بن حام بعد الطوفان ، وقيل : بل سميت بمصر الثالث وهو مصر بن بنصر بن حام بن نوح وهو اسم أعجميّ لا ينصرف. وقال آخرون : هي اسم عربيّ مشتق فأمّا من ذهب إلى أنّ مصر اسم أعجميّ فإنه استدل بما رواه أهل العلم بالأخبار من نزول مصر بن بنصر بهذه الأرض وقسمها بين أولاده فعرفت به اه.

وذكر الحسن بن أحمد الهمداني (١) : أنّ مصر بن حام وهو مصريم ، وقيل : أنّ بنصر بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر قال : ونكح لوما بن حام بنت شاويل بن يافث بن نوح فولدت له بوقير وقبط أبا القبط قبط مصر ، ومن ههنا أن مصر بن حام وإنما هو مصر بن هرمس بن هردش بن بيطون بن روي بن ليطي بن يونان وبه سميت مصر فهي مقدونية.

وذكر أبو الحسن المسعوديّ (٢) في كتاب أخبار الزمان : أنّ بني آدم لما تحاسدوا وبغى عليهم بنو أقابيل بن آدم ركب نقراوس الجبار ابن مصريم ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم عليه‌السلام في نيف وسبعين راكبا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعا من

__________________

(١) أبو العلاء الحسن بن أحمد شيخ همدان. له باع في التفسير والحديث والأنساب والتاريخ. له مؤلفات غزيرة مولده سنة ٤٨٨ ه‍ ووفاته سنة ٥٦٩ ه‍. الأعلام ج ١ / ١٨١.

(٢) علي بن الحسين بن علي من ذريّة عبد الله بن مسعود. مؤرخ رحالة بحاثة من أهل بغداد. له عدة مؤلفات منها : (مروج الذهب) أقام بمصر وتوفي فيها سنة ٣٤٦ ه‍. الأعلام ج ٤ / ٢٧٧.

٣٦

الأرض يقطنون فيه فرارا من بني أبيهم فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل ، فأطالوا المشي عليه فلما رأوا سعة البلد فيه وحسنه أعجبهم وقالوا : هذه بلد زرع ، وعمارة فأقطنوا فيه ، واستوطنوا وبنوا فيه الأبنية المحكمة ، والصنائع العجيبة.

وبنى نقراوس مصر وسماها باسم أبيه مصريم وكان نقراوس جبارا له قوّة ، وكان مع ذلك عالما وله ائتمر الجنّ في هلاك بني أبيه ولم يزل مطاعا وقد كان وقع إليه من العلوم التي كان زواميل علمها لآدم عليه‌السلام ما قهر به الجبابرة الذين كانوا قبله وملوكهم ، ثم أمر حين ملك ببناء مدينة في موضع خيمته فقطعوا له الصخور من الجبال ، وأثاروا معادن الرصاص وبنوا مدينة سماها : أمسوس وأقاموا فيها أعلاما طول كل لم منها : مائة ذراع وزرعوا وعمروا الأرض ، ثم أمرهم ببناء المدائن ، والقرى وأسكن كل ناحية من الأرض من رأى ثم حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري إنما كان ينبطح ويتفرّق في الأرض حتى يتوجه إلى النوبة فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها ، وساقوا منه نهرا إلى مدينتهم أمسوس يجري في وسطها ، ثم سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بنصر بن حام بن نوح وذلك أن قليمون الكاهن خرج من مصر ولحق بنوح عليه‌السلام وآمن به هو وأهله وولده وتلامذته وركب معه في السفينة ، وزوّج ابنته من بنصر بن حام بن نوح فلما خرج نوح من السفينة وقسم الأرض بين أولاده ، وكانت ابنة قليمون قد ولدت لبنصر ولد أسماه مصرايم ، فقال قليمون لنوح : ابعث معي يا نبيّ الله ابني حتى أمضي به بلدي ، وأظهره على كنوزي وأوقفه على علومه ورموزه فأنفذه معه في جماعة من أهل بيته وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر ، وستره بحشيش الأرض ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسماها : درسان أي باب الجنة ، فزرعوا وغرسوا الأشجار والأجنة من درسان إلى البحر فصارت هناك زروع وأجنة وعمارة وكان الذي مع مصرايم جبابرة فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع وأقاموا في أرغد عيش ويقال : إن أهل مصر أقاموا عليهم مصرايم بن بنصر ملكا في أيام تالغ بن عابر بن شامخ بن أرفخشد بن سام بن نوح فملك مصر وهي مدينة منيعة على النيل وسماها باسمه ويقال : إن مصرايم غرس الأشجار بيده وكانت ثمارها عظيمة بحيث يشق الأترجة نصفين فيحمل على البعير نصفها وكان القثاء في طول أربعة عشر شبرا ويقال : إنه أوّل من صنع السفن بالنيل وإنّ أوّل سفينة كانت ثلثمائة ذراع طولا في عرض مائة ذراع.

ويقال : إن مصرايم نكح امرأة من بني الكهنة فولدت له ولدا فسماه قبطيم ، ونكح قبطيم بعد سبعين سنة من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر : قبطيم ، وأشمون ، وأتريب ، وصا ، فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها وقيل : إنه كان عدد من وصل معهم ثلاثين رجلا فبنوا مدينة سموها نافة ومعنى نافة ثلاثون بلغتهم وهي (منف) وكشف أصحاب قليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم وأثاروا المعادن ، وعلومهم علم الطلسمات

٣٧

ووضعوا لهم علم الصنعة ، وبنوا على غير البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية ولما حضر مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه قبطيم ، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه فجعل لقبطيم من قفط إلى أسوان ولأشمون من أشمون إلى منف ولأتريب الحوف كله ولصا من ناحية صا البحرية إلى قرب برقة وقال لأخيه : فارق لك من برقة إلى الغرب فهو صاحب إفريقة ووالد الأفارقة وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا له في الأرض سربا وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض ، ويجعلوا فيه جسده ، ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب ، والجوهر ، ويزبروا عليه أسماء الله تعالى المانعة من أخذه فحفروا له سربا طوله مائة وخمسون ذراعا وجعلوا في وسطه مجلسا مصفحا بصفائح الذهب ، وجعلوا أربعة أبواب على كل باب منها تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر وهو جالس على كرسيّ من ذهب قوائمه من زبرجد وزبروا في صدر كل تمثال آيات مانعة وجعلوا جسده في جمد مرمر مصفح بالذهب وزبروا على مجلسه مات مصرايم بن بنصر بن حام بن نوح بعد سبعمائة عام مضت من أيام الطوفان ولم يعبد الأصنام إذ لا هرم ، ولا سقام ، ولا حزن ، ولا اهتمام وحصنه بأسماء الله العظام ، ولا يصل إليه إلا ملك ولدته سبعة ملوك تدين بدين الملك الديان ويؤمن بالمبعوث بالفرقان الداعي إلى الإيمان آخر الزمان ، وجعلوا معه في ذلك المجلس : ألف قطعة من الزبرجد المخروط ، وألف تمثال من الجوهر النفيس ، وألف برنية مملوءة من الدرّ الفاخر والصنعة الإلهية والعقاقر ، والطلسمات العجيبة ، وسبائك الذهب وسقفوا ذلك بالصخور ، وهالوا فوقها الرمال بين جبلين وولي ابنه قبطيم الملك.

قال أبو محمد عبد الملك بن هشام (١) في كتاب التحائف : أنّ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود أخي عاد ابن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه‌السلام واسم عبد شمس هذا : عامر ، وعرف بعبد شمس لأنه أوّل من عبد الشمس وقيل له أيضا : (سبأ) لأنه أوّل من سبأ وهو سبأ الأكبر أبو حمير وكهلان ملك بعد أبيه يشجب بأرض اليمن جميع بني قحطان وبني هود عليه‌السلام ، وحثهم على الغزو ثم سار بهم إلى أرض بابل ففتحها وقتل من كان بها من الثوار حتى بلغ أرض أرمينية ، وملك أرض بني يافث بن نوح وأراد أن يعبر من هناك إلى الشام ، وأرض الجزيرة فقيل له : ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة على البحر وجاز عليها إلى الشام فأخذ تلك الأراضي إلى الدرب ، ولم يكن خلف الدرب إذ ذاك أحد ثم نهض يريد بلاد العرب فنزل على النيل ، وجمع أهل مشورته وقال لهم : إني رأيت أن أبني مصرا إلى حدّ بين هذين البحرين يعني بحر الروم ، وبحر القلزم. فيكون فاصلا بين الشرق والغرب فقالوا : نعم الرأي أيها الملك ، فبنى مدينة سماها مصر ، وولى عليها ابنه بابليون ومضى إلى بني حام بن نوح

__________________

(١) مؤرخ عالم بالأنساب واللغة وأخبار العرب أشهر كتبه : (السيرة النبوية). ولد بالبصرة وتوفي في مصر سنة ٢١٣ ه‍. الأعلام ج ٤ / ١٦٦.

٣٨

وهم نزول في البراري إلى قمونية ويعمونية القبط فأوقع بجميع تلك الطوائف وسبى ذراريهم كما فعل ببلاد الشرق فقيل له : من أجل ذلك سبأ ثم عاد إلى مصر ومضى فيها إلى الشام يريد الحجاز وأوصى ابنه بابليون عند رحيله اه :

ألا قل لبابليون والقول حكمة

ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل

وخذ لبني حام من الأمر وسطه

فإن صدفوا يوما عن الحق فأقبل

وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة

يريدون وجه الحق والعدل فأعدل

ولا تظهرنّ الرأي في الناس يجتروا

عليك به واجعله ضربة فيصل

ولا تأخذن المال في غير حقه

وإن جاء لا تدينه نحوك وابذل

وداوي ذوي الأحقاد بالسيف إنه

متى يلق منك العزم ذو الحقد يجمل

وجد لذوي الأحساب لينا وشدّة

ولا تك جبارا عليهم وأجمل

وكن لسؤال الناس غوثا ورحمة

ومن يك ذا عرف من الناس يسأل

وإياك والسفر القريب فإنه

سيغني بما يوليه في كل منهل

ثم عاد إلى اليمن ، وبنى سد مأرب وهو سدّ فيه سبعون نهرا ، ويصل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها ، ثم مات عن خمسمائة سنة ، وقام من بعده ابنه حمير بن سبا فعتا بنو حام على بابليون وأرادوا تخريب مصر فاستدعى أخاه حمير لينجده عليهم فقدم عليه مصر ، ومضى إلى بلاد المغرب فأقام بها مائة عام يبني المدائن ، ويتخذ المصانع فمات بابليون بن سبأ بمصر. وولى بعده ابنه امرئ القيس بابليون ثم مات حمير بن سبأ عن أربعمائة سنة وخمس وأربعين سنة منها في الملك أربعمائة سنة ، وأقام من بعده وائل بن حمير. ثم مات فقام من بعده ابنه السكسك بن وائل الذي يقال له : مقعقع الحمد وقد افترق ملك حمير ، فحارب الثوار ، وسار إلى الشام فلقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ بالرملة وقد ملك بعد أبيه وقدّم له هدية فأقرّه على مصر حتى قدم عليه إبراهيم الخليل عليه‌السلام ووهبه هاجر.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم (١) في كتاب فتوح مصر وأخبارها عن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان لنوح عليه‌السلام أربعة من الولد : سام ، وحام ، ويافث ، ويخطون ، وأنّ نوحا رغب إلى الله عزوجل وسأله أن يرزقه الإجابة في ولده وذريته حين تكاملوا بالنماء والبركة فوعده ذلك فنادى نوح ولده وهم نيام عند السحر فنادى ساما فأجابه يسعى وصاح سام في ولده فلم يجبه أحد منهم إلا ابنه أرفخشد فانطلق به معه حتى أتياه فوضع نوح يمينه على سام وشماله على أرفخشد بن سام وسأل الله

__________________

(١) مؤرخ مصري صاحب كتاب (فتوح مصر والمغرب والأندلس) ولد سنة ١٨٧ ه‍ وتوفي سنة ٢٥٧ ه‍.

النجوم الزاهرة ج ١ / ٧.

٣٩

عزوجل أن يبارك في سام أفضل البركة وأن يجعل الملك والنبوّة في ولد أرفخشد ، ثم نادى حاما وتلفت يمينا وشمالا فلم يجبه ولم يقم إليه هو ولا أحد من ولده فدعا الله عزوجل نوح أن يجعل ولده أذلاء وأن يجعلهم عبيدا لولد سام ، وكان مصر بن بنصر بن حام نائما إلى جنب جدّه فلما سمع دعاء نوح على جدّه وولده قام يسعى إلى نوح وقال : يا جدّي قد أجبتك إذ لم يجبك جدّي ولا أحد من ولده فاجعل لي دعوة من دعائك ففرح نوح ووضع يده على رأسه وقال : اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أمّ البلاد ، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا وأجعل فيها أفضل البركات ، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم وقوّهم عليها ، ثم دعا ابنه يافث فلم يجبه ولا أحد من ولده ، فدعا الله عليهم أن يجعلهم شرار الخلق ، وعاش سام مباركا إلى أن مات وعاش ابنه أرفخشد بن سام مباركا حتى مات وكان الملك الذي يحبه الله والنبوّة والبركة في ولد أرفخشد بن سام وكان أكبر ولد حام : كنعان بن حام ، وهو الذي حمل به في الرجز في الفلك فدعا عليه نوح فخرج أسود وكان في ولده الملك والجبروت والجفاء وهو : أبو السودان والحبش كلهم وابنه الثاني : كوش بن حام ، وهو أبو السند والهند وابنه الثالث : قوط بن حام وهو : أبو البربر وابنه الأصغر الرابع : بنصر بن حام ، وهو أبو القبط كلهم فولد بنصر بن حام أربعة : مصر بن بنصر وهو أكبرهم والذي دعا له نوح بما دعا له. وفارق بن بنصر ، وماح بن بنصر ، وقيل : ولد مصر أربعة : قفط بن مصر ، وأشمن بن مصر ، وأتريب بن مصر ، وصا بن مصر ؛ وعن ابن لهيعة وعبد الله بن خالد أوّل من سكن مصر بنصر بن حام بن نوح عليه‌السلام بعد أن أغرق الله تعالى قومه وأوّل مدينة عمرت بمصر منف فسكنها بنصر بولده وهم : ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد له قد بلغوا وتزوجوا وهم : مصر ، وفارق ، وياح ، وماح ، وكان مصر أكبرهم فبنوا مصر ، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم ، ونقروا هناك منازل كثيرة ، وكان نوح عليه‌السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أمّ البلاد ، وغوث العباد ، ونهرها أفضل الأنهار ، ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده ويذللها لهم ويقوّيهم عليها ، فسأله عنها فوصفها له وأخبره بها قالوا : وكان مصر بن بنصر مع نوح في السفينة لما دعا له وكان بنصر بن حام قد كبر وضعف فساق ولده مصر ، وجميع إخوته إلى مصر فنزلوها وبذلك سميت مصر فلما قرّ قرار بنصر وبنيه بمصر قال لمصر إخوته فارق وماح وياح وبنوا بنصر قد علمنا أنك أكبرنا وأفضلنا وأن هذه الأرض التي أسكنك إياها جدّك نوح ، ونحن نضيق عليك أرضك ، وذلك حين كثر ولده وأولادهم ، ونحن نطلب إليك البركة التي جعلها فيك جدّنا نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها وتكون لنا ولأولادنا ، فقال : نعم عليكم بأقرب البلاد إليّ ولا تباعدوا مني فإنّ لي في بلادي مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي فتكون لي ولولدي ولأولادهم ، فحاز مصر بن بنصر لنفسه ما بين الشجرتين التي بالعريش

٤٠