كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

وقال ابن عفير عن أشياخه : أن جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، ملك الإسكندرية ، وكانت تسمى إرم ذات العماد ، فطال ملكه ، وبلغ ثلثمائة سنة.

وهو الذي سار وبنى الأهرام وزبر فيها : أنا جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد الشادّ بزراعة الواد المؤيد الأوتاد الجامع الصخر في البلاد المجند الأجناد الناصب العماد الكند الكناد تخرجه أمّة اسم نبيها حماد آية ذلك إذا غشي بلد البلاد سبعة ملوك أجناس السواد تاريخ هذا الزبر ألف سنة وأربعمائة سنة عداد.

وقال ابن عفير وابن عبد الحكم : وفي زمان شدّاد بن عاد بنيت الأهرام فيما ذكر بعض المحدّثين ، ولم نجد عند أحد من أهل العلم من أهل مصر معرفة في الأهرام ولا خبر ثبت.

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم : ما أحسب الأهرام بنيت إلا قبل الطوفان ، لأنها لو بنيت بعده لكان علمها عند الناس.

وقال عبد الله بن شبرمة الجرهميّ : لما نزلت العماليق أرض مصر حين أخرجها جرهم من مكة بنت الأهرام واتخذت لها المصانع ، وبنت فيها العجائب ، ولم تزل بمصر حتى أخرجها مالك بن ذعر الخزاعي.

وقال محمد بن عبد الحكم : كان من وراء الأهرام إلى المغرب أربعمائة مدينة سوى القرى من مصر إلى المغرب في غربيّ الأهرام.

وقال ابن عفير : ولم يزل مشايخنا من أهل مصر يقولون : الأهرام بناها شدّاد بن عاد وهو الذي بنى المغار ، وجنّد الأجناد ، فالمغار والأجناد هي : الدفائن ، وكانوا يقولون بالرجعة ، وإذا مات أحدهم دفن معه ماله كائنا ما كان ، وإن كان صانعا دفن معه آلة صنعته ، وكانت الصابئة تحج إلى الأهرام.

وقال أبو الريحان البيروتي في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية : والفرس والمجوس تنكر الطوفان ، وأقرّ به بعض الفرس لكنهم قالوا : كان بالشام والمغرب منه شيء في زمان طهمورث (١) ، ولكنه لم يعمّ العمران كله ، ولم يتجاوز عقبة حلوان ، ولم يبل ممالك الشرق ، وأن أهل المغرب لما أنذر به حكماؤهم بنوا أبنية كالهرمين بمصر ليدخلوها عند الآفة ، وإن آثار دماء الطوفان وتأثيرات الأمواج كانت بينة على أنصاف الهرمين لم تتجاوزهما ، انتهى.

ويقال : إن الطوفان لما نضب ماؤه لم يوجد تحت الماء قرية سوى : نهاوند ، وجدت

__________________

(١) طهمورث : أحد ملوك الفرس وهو الذي بنى مدينة مرو الشاهجان. الأعشى ٤ / ٣٩٤.

٢٢١

كما هي ، وأهرام مصر وبرابيها وهي التي بناها هرميس الأوّل الذي تسميه العرب : إدريس ، وكان قد ألهمه الله علم النجوم ، فدلته على أنه سينزل بالأرض آفة وأنه سيبقى بقية من العالم يحتاجون فيها إلى علم ، فبنى هو وأهل عصره الأهرام والبرابي وكتب علمه فيها.

وقال أبو الصلت الأندلسيّ في رسالته : وقد ذكر أخلاق أهل مصر ، إلا أنه يظهر من أمرهم أنه كان فيهم طائفة من ذوي المعارف والعلوم ، وخصوصا علم الهندسة والنجوم ، ويدل على ذلك ما خلفوه من الصنائع البديعة المعجزة كالأهرام والبرابي ، فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان الثاقبة ، واستعجزت الأفكار الراجحة ، وتركت لها شغلا بالتعجب منها والتفكر فيها ، وفي مثلها يقول أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري من قصيدته التي يرثي بها أباه :

تضلّ العقول الهبرزيات رشدها

ولا يسلم الرأي القويم من الأفن

وقد كان أرباب الفصاحة كلما

رأوا حسنا عدّوه من صنعة الجن

وأيّ شيء أعجب ، وأغرب بعد مقدورات الله عزوجل ، ومصنوعاته من القدرة على بناء جسم جسيم من أعظم الحجارة مربع القاعدة مخروط الشكل ، ارتفاع عموده ثلثمائة ذراع وتسعة عشر ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع طول كل ضلع منها : أربعمائة ذراع وستون ، وهو مع العظم من أحكام الصنعة وإتقان الهندام ، وحسن التقدير بحيث لم يتأثر إلى هلم جرّا بعصف الرياح وهطل السحاب ، وزعزعة الزلازل وهذه صفة كل واحد من الهرمين المحاذيين للفسطاط من الجانب الغربيّ على ما شاهدناه منهما.

وقد ذكرت عجائب مصر وإن ما على وجه الأرض بنية إلا وأنا أرثي لها من الليل والنهار إلّا الهرمان فأنا أرثي لليل والنهار منهما ، وهذان الهرمان لهما إشراف على أرض مصر وإطلال على بطائحها ، وإصعاد في جوفها وهما اللذان أراد أبو الطيب المتنبي بقوله شعر :

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن سكانها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

واتفق يوما إنا خرجنا إليهما فلما طفنا بهما واستدرنا حولهما ، كثر التعجب منهما فقال بعضنا :

بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا

على طول ما أبصرت من هرمي مصر

أنافا عنانا للسماء وأشرفا

على الجوّ إشراف السماك أو النسر

وقد وافينا نشزا من الأرض عاليا

كأنهما نهدان قاما على صدر

وزعم قوم : إنّ الأهرام قبور ملوك عظام آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد

٢٢٢

مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور.

ولما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر بنقبها ، فنقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل ، فوجدوا داخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها ، ووجدوا في أعلاها بيتا مكعبا طول كل ضلع من أضلاعه ، نحو من ثمانية أذرع ، وفي وسطه حوض رخام مطبق ، فلما كشف غطاؤه لم يجدوا فيه غير رمّة بالية قد أتت عليها العصور الخالية ، فعند ذلك أمر المأمون بالكف عن نقب ما سواه ، ويقال : إن النفقة على نقبة كانت عظيمة والمؤونة شديدة.

ومن الناس من زعم : أنّ هرمس الأوّل المدعوّ بالمثلث ، بالنبوّة والملك والحكمة ، وهو الذي تسميه العبرانيون : خنوخ بن يزد بن مهلايل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه‌السلام ، وهو إدريس عليه‌السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان يعمّ الأرض ، فأكثر من بنيان الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم ، وما يشفق عليه من الذهاب والدروس حفظا لها واحتياطا عليها.

ويقال : إن الذي بناها ملك اسمه : سوريد (١) بن سهلوق بن سرياق ، وقال آخرون : إن الذي بنى الهرمين المحاذيين للفسطاط شدّاد بن عاد ، لرؤيا رآها ، والقبط تنكر دخول العمالقة بلد مصر ، وتحقق أن بانيها سوريد لرؤيا رآها ، وهي أن آفة تنزل من السماء وهي الطوفان ، وقالوا : إنه بناهما في مدّة ستة أشهر ، وغشاهما بالديباج الملوّن ، وكتب عليهما : قد بنيناهما في ستة أشهر قل لمن يأتي من بعدنا يهدمهما في ستمائة سنة ، فالهدم أيسر من البنيان ، وكسوناهما الديباج الملوّن ، فليكسهما حصرا ، فالحصر أهون من الديباج ، ورأينا سطوح كل واحد من هذين الهرمين ، مخطوطة من أعلاها إلى أسفلها بسطور متضايقة متوازية من كتابة بانيها ، لا تعرف اليوم أحرفها ولا تفهم معانيها ، وبالجملة الأمر فيها عجيب ، حتى أن غاية الوصف لها والإغراق في العبارة عنها ، وعن حقيقة الموصوف منها بخلاف ما قاله عليّ بن العباس الروميّ ، وإن تباعد الموصوفان وتباين المقصودان إذ يقول :

إذا ما وصفت امرأ لامرىء

فلا تغل في وصفه واقصد

فإنّك إن تغل تبد الظنو

ن فيه إلى الغرض الأبعد

فيصغر من حيث عظمته

لفضل المغيب على المشهد

ويقال : إنّ المأمون أمر من صعد الهرم الكبير أن يدلي حبلا فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكيّ ، وهو ذراع وخمسان ، وتربيعه أربعمائة ذراع في مثلها ، وكان صعوده في

__________________

(١) سوريد بن سهلوق : أحد ملوك مصر قبل الطوفان.

٢٢٣

ثلاث ساعات من النهار ، وأنه وجد مقدار رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال.

ويقال : إنه وجد على المقبور في الهرم حلّة قد بليت ، ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب ، وأنّ ثخانة الطلاء الذي عليه قدر شبر من مرّ وصبر.

ويقال : إنه وجد في موضع من هذا الهرم إيوان في صدره ثلاثة أبواب على ثلاثة بيوت طول ، كل باب منها عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع من رخام منحوت محكم الهندام وعلى صفحاته خط أزرق لم يحسنوا قراءته ، وأنهم أقاموا ثلاثة أيام يعملون الحيلة في فتح هذه الأبواب إلى أن رأوا أمامها على عشرة أذرع منها ثلاثة أعمدة من مرمر ، وفي كل عمود خرق في طوله وفي وسط الخرق صورة طائر ، ففي الأوّل من هذه العمد صورة حمام من حجر أخضر ، وفي الأوسط صورة بازي من حجر أصفر ، وفي العمود الثالث صورة ديك من حجر أحمر ، فحرّكوا البازي ، فتحرّك الباب الأوّل الذي في مقابلته ، فرفعوا البازي قليلا فارتفع الباب ، وكان بحيث لا يرفعه مائة رجل من عظمه ، فرفعوا التمثالين الآخرين ، فارتفع البابان الآخران ، فدخلوا إلى البيت الأوسط فوجدوا فيه ثلاثة سرر من حجارة شفافة مضيئة ، وعليها ثلاثة من الأموات على كل ميت ثلاث حلل ، وعند رأسه مصحف بخط مجهول ، ووجدوا في البيت الآخر عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة ، فيها أوان من الذهب عجيبة الصنعة مرصعة بأنواع الجواهر ، ووجدوا في البيت الثالث عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة فيها آلات الحرب ، وعدد السلاح ، فقيس منها سيف فكان طوله سبعة أشبار ، وكل ذرع من تلك الدروع اثنا عشر شبرا ، فأمر المأمون بحمل ما وجد في البيوت ، وأمر فحطت العمد فانطبقت الأبواب كما كانت.

ويقال : كانت عدّة الأهرام ثمانية عشر هرما منها تجاه مدينة الفسطاط ثلاثة : أكبرها دوره ألفا ذراع وهو مربع في كل وجه من وجوهه الأربعة خمسمائة ذراع ، ويقال : إن المأمون لما فتحه وجد فيه حوضا من حجر مغطى بلوح من رخام ، وهو مملوء بالذهب وعلى اللوح مكتوب بقلم عرّب فكان : إنّا عمرنا هذا الهرم في ألف يوم وأبحنا لمن يهدمه في ألف سنة ، والهدم أسهل من العمارة ، وكسونا جميعه بالديباج وأبحنا لمن يكسوه الحصر ، والحصر أيسر من الديباج ، وجعلنا في كل جهة من جهاته ما لا يقدر ما يصرف على الوصول إليه ، فأمر المأمون أن يحسب ما صرف على النقب ، فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص.

ويقال : إنه وجد فيه صورة آدميّ من حجر أخضر كالدهنج فيها طبق كالدواة ففتح فإذا فيه جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر ، وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له ، وعند رأسه حجر من ياقوت أحمر في قدر بيضة الدجاجة ، فأخذه المأمون وقال : هذا خير من خراج الذهب.

٢٢٤

وذكر بعض مؤرخي مصر : أنّ هذا الصنم الأخضر الذي وجدت الرمّة فيه لم يزل معلقا عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة إحدى عشرة وستمائة من سني الهجرة.

وكان عند مدينة فرعون ، هرمان ، وعند ميدوم ، هرم ، وهذا آخرها.

وفي سنة تسع وسبعين وخمسمائة من سني الهجرة ظهر بتربة بوصير من ناحية الجيزة بيت هرميس ، ففتحه القاضي ابن الشهرزوري وأخذ منه أشياء من جملتها كباش ، وقرود وضفادع من حجر بازهر ، وقوارير من دهنج ، وأصنام من نحاس.

وقال ابن خرداذبه : من عجيب البنيان أن الهرمين بمصر ، سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع ، وكلما ارتفع دق ، وهما من رخام ومرمر ، والطول أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة ذراع مكتوب عليهما : باليد كل سحر وكل عجيب من الطب ، ومكتوب عليهما : إني بنيتهما فمن يدّعي قوّة في ملكه فليهدمهما فإنّ الهدم أيسر من البناء فاعتبر ذلك ، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما.

وقال في كتاب عجائب البنيان عن الأهرام : قد انفردت مصر بهذه الأشكال ، فليس لها بغيرها تمثال يظنهما الناظر للديار المصرية نهدين ، ويحسبهما القابل أن مكارم أهلها قد أعدّتهما للتكرّم ابلوجين تراهما العين على بعد المسافة ، وإذا حدثت عن عجائبهما يظنّ أنه حديث خرافة ، وقد أكثر الناس في ذكر الأهرام ، ووصفها ومساحتها وهي كثيرة العدد جدّا ، وكلّها ببرّ الجيزة على سمت مصر القديمة تمتدّ نحوا من مسافة ثلاثة أيام ، وفي بوصير منها شيء كثير ، وبعضها كبار ، وبعضها صغار ، وبعضها طين ، وبعضها لبن ، وأكثرها حجر ، وبعضها مدرج وأكثرها مخروط أملس.

وقد كان منها بالجيزة : عدد كثير كلها صغار هدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد الطواشي : بهاء الدين قراقوش ، أخذ حجارتها وبنى بها القناطر في الجيزة ، وقد بقي من هذه الأهرام المهدومة تلّها.

وأمّا الأهرام المتحدّث عنها فهي : ثلاثة أهرام موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط ، وبينها مسافات كثيرة وزوايا متقابلة نحو الشرق ، واثنان عظيمان جدّا في قدر واحد ، وهما متقاربان ومبنيان بالحجارة البيض ، وأما الثالث : فصغير عنهما نحو الربع لكنه مبنيّ بحجارة الصوّان الأحمر المنقط الشديد القوّة والصلابة ، ولا يكاد يؤثر فيه الحديد إلا في الزمان الطويل ، وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينك فإذا أتيت إليه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحيّر النظر في تأمله!.

وقد سلك في بناء الأهرام ، طريق عجيب من الشكل والإتقان ، ولذلك صبرت على ممرّ الأيام لا بل على ممرّها صبر الزمان ، فإنك إذا تأملتها وجدت الأذهان الشريفة قد

٢٢٥

استهلكت فيها ، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها ، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثالا في غاية إمكانها ، حتى أنها تكاد تحدث عن قوّة قومها ، وتخبر عن سيرتهم ، وتنطق عن علومهم ، وأذهانهم وتترجم عن سيرهم ، وأخبارهم ، وذلك أن وضعها على شكل مخروط ويبتدئ من قاعدة مربعة ، وينتهي إلى نقطة. ومن خواص الشكل المخروط : أن مركز ثقله في وسطه يتساند على نفسه ، ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض ، وليس له جهة أخرى يتساقط عليها.

ومن عجيب وضعه ، أنه شكل مربع قد قوبل بزوايا مهاب الرياح الأربع ، فإن الريح تنكسر سورتها عند مسامتتها الزاوية ، وليست كذلك عندما تلقي السطح.

وذكر المساح : أنّ قاعدة كل من الهرمين العظيمين أربعمائة ذراع بالذراع السوداء ، وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشرة أذرع في مثلها ، وذكر أن بعض الرماة رمى سهما في قطر أحدهما ، وفي سمكة فسقط السهم دون نصف المسافة ، وذكر أنّ ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد ، وفي أحد هذين الهرمين ، مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيقة وأسراب متنافذة وآبار ومهالك ، وغير ذلك على ما يحكيه من يلجه ، وإنّ أناسا كثيرين لهم غرام به وتحيّل فيه فيتوغلون في أعماقه ، ولا بدّ أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه.

وأما المسلوك المطروق كثيرا ، فزلاقة تفضي إلى أعلاه ، فيوجد فيه بيت مربع فيه ناوس من حجر ، وهذا المدخل ليس هو الباب في أصل البناء ، وإنما هو منقوب نقبا صادف اتفاقا ، وذكر أنّ المأمون فتحه.

وحكى من دخله وصعد إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا حدّثوا بعظيم ما شاهدوه ، وإنه مملوء بالخفافيش وأبوالها وتعظم فيه حتى تكون قدر الحمام ، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه كأنها عملت مسالك للريح ومنافذ للضوء بحجارة جافية طول الحجر منها : من عشرة أذرع إلى عشرين ذراعا ، وسمكه من ذراعين إلى ثلاثة أذرع ، وعرضه نحو ذلك.

والعجب كل العجب من وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا نجد بينهما مدخل إبرة ولا خلل شعرة ، وبينهما طين لونه الزرقة لا يدرى ما هو؟ ولا صفته؟ وعلى تلك الحجارة كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم يوجد بديار مصر من يزعم أنه سمع من يعرفه ، وهذه الكتابات كثيرة جدّا حتى لو نقل ما عليها إلى صحف لكانت قدر عشرة آلاف صحيفة ، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة : أنّ أحد هذين الهرمين ، قبر أعاديمون ، والآخر قبر هرمس ، ويزعمون أنهما بيتان عظيمان ، وأنّ أعاديمون أقدم وأعظم وإنّه كان يحجج إليهما ويهدى إليهما من أقطار البلاد.

٢٢٦

وكان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما استقل بالملك بعد أبيه ، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر ، فأخرج إليه النقابين والحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته وأمرهم بهدمه ، فخيموا عنده وحشروا الرجال والصناع ، ووفروا عليهم النفقات وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد الجهد ، واستفراغ بذل الوسع الحجر والحجرين فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس (١) والأشطان (٢) ، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترجف الجبال ، وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه ، ويضربون فيه بالأسافين بعد ما ينقبون لها موضعا ، ويثبتونها فيه فيتقطع قطعا وتسحب كل قطعة على العجل حتى يلقي في ذيل الجبل ، وهي مسافة قريبة ، فلما طال ثواءهم ، ونفدت نفقاتهم ، وتضاعف نصبهم ، ووهت عزائمهم كفوا محسورين لم ينالوا بغية بل شوّهوا الهرم ، وأبانوا عن عجز وفشل ، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهرم يظنّ أنه قد استؤصل فإذا عاين الهرم ظنّ أنه لم يهدم منه شيء وإنما سقط بعض جانب منه ، وحين ما شوهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر ، سئل مقدّم الحجارين فقيل له : لو بذل لكم السلطان ألف دينار على أن تردّوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل كان يمكنكم؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عنه ولو بذل لهم أضعاف ذلك.

وبإزاء الأهرام مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكبرها وسعتها وبعدها ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام.

وأما مقاطع حجارة الهرم الأحمر فيقال : إنها بالقلزم وبأسوان ، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبابرة ومغاير كثيرة منقبة ، وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول ، ولله در الفقيه عمارة اليمنيّ حيث يقول :

خليليّ ما تحت السماء بنية

تماثل في إتقانها هرمي مصر

بناء يخاف الدهر منه وكلّ ما

على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

تنزه طرفي في بديع بنائها

ولم يتنزه في المراد بها فكري

أخذ هذا من قول بعض الحكماء ، كل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الأهرام فإنه يخشى على الدهر منها ، وقال عبد الوهاب بن حسن بن جعفر بن الحاجب ، ومات في سنة

__________________

(١) القلوس : ج. قلس ، وهو الحبل الضخم من ليف أو خوص أو غيرهما تشد به السفن.

(٢) الأشطان : ج. شطن ، وهو الحبل الطويل.

٢٢٧

سبع وثمانين وثلثمائة :

انظر إلى الهرمين إذ برزا

للعين في علو وفي صعد

وكأنما الأرض العريضة قد

ظمئت لطول حرارة الكبد

حسرت عن الثديين بارزة

تدعو الإله لفرقة الولد

فأجابها بالنيل يشبعها

ريا وينقذها من الكمد

لكرامة المولى المقيم بها

خير الأنام مقوّم الأود

وقال سيف (١) الدين بن جبارة :

لله أيّ عجيبة وغريبة

في صنعة الأهرام للألباب

أخفت عن الأسماع قصة أهلها

ونضت عن الأبداع كل نقاب

فكأنما هي كالخيام مقامة

من غير ما عمد ولا أطناب

وقال آخر :

انظر إلى الهرمين واسمع منهما

ما يرويان عن الزمان الغابر

وانظر إلى سرّ الليالي فيهما

نظرا بعين القلب لا بالناظر

لو ينطقان لخبرانا بالذي

فعل الزمان بأوّل وبآخر

وإذا هما بديا لعيني ناظر

وصفا له أذني جواد عائر

وقال الإمام أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي :

ألست ترى الأهرام دام بناؤها

ويفني لدينا العالم الإنس والجنّ

كأن رحى الأفلاك أكوارها على

قواعدها الأهرام والعالم الطحن

وقال :

قد كان للماضين من

سكان مصرهم

فالفضل عنهم فضلة

والعلم فيهم علم

ثم انقضت أعلامهم

وعلمهم واحتطموا

وانظر تراها ظاهرا

باد عليها الهرم

وقال :

خليليّ لا باق على الحدثان

من الأوّل الباقي فيحدث ثاني

إلى هرمي مصر تناهت قوى الورى

وقد هرمت في دهرها الهرمان

فلا تعجبا أن قد هرمت فإنما

رماني بفقدان الشباب زماني

__________________

(١) في النجوم الزاهرة ج ١ / ٥٣ : سعد الدين بن جبارة.

٢٢٨

وعوجا بقرطاجنة فانظرا بها

جنايتي العادين تنتحبان

وإيوان كسرى فانظراه فإنه

يخبر كما بالصدق كل أوان

فلا تحسبا أن الفناء يخصني

ألا كل ما فوق البسيطة فاني

ووجدت بخط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني أنشدني القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصريّ لنفسه في الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد :

أمباني الأهرام كم من واعظ

صدع القلوب ولم يفه بلسانه

اذكرنني قولا تقادم عهده

أين الذي الهرمان من بنيانه

هنّ الجبال الشامخات تكاد أن

تمتدّ فوق الأرض عن كيوانه

لو أنّ كسرى جالس في سفحها

لأجلّ مجلسه على إيوانه

ثبتت على حرّ الزمان وبرده

مددا ولم تأسف على حدثانه

والشمس في إحراقها والريح عن

د هبوبها والسيل في جريانه

هل عابد قد خصها بعبادة

فمباني الأهرام من أوثانه

أو قائل يقضي برجعي نفسه

من بعد فرقته إلى جثمانه

فاختارها لكنوزه ولجسمه

قبرا ليأمن من أذى طوفانه

أو أنها للسائرات مراصد

يختار راصدها أعز مكانه

أو أنها وصفت شؤون كواكب

أحكام فرس الدهر أو يونانه

أو أنهم نقشوا على حيطانها

علما يحار الفكر في تبيانه

في قلب رائيها ليعلم نقشها

فكر يعض عليه طرف بنانه

ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

هذا الصنم بين الهرمين عرف أوّلا ببلهيب ، وتقول أهل مصر اليوم أبو الهول.

قال القضاعي : صنم الهرمين وهو بلهويه ، صنم كبير من حجارة فيما بين الهرمين لا يظهر منه سوى رأسه فقط تسميه العامة بأبي الهول ويقال : بلهيب ، ويقال : إنه طلسم للرمل ، لئلا يغلب على إبليز الجيزة.

وقال في كتاب عجائب البنيان : وعند الأهرام رأس وعنق بارزة من الأرض في غاية العظم تسميه الناس : أبا الهول ، ويزعمون أن جثته مدفونة تحت الأرض ، ويقتضي القياس بالنسبة إلى رأسه أن يكون طوله سبعين ذراعا فصاعدا ، وفي وجهه حمرة ودهان يلمع عليه رونق الطراوة ، وهو حسن الصورة مقبولها عليه مسحة بهاء وجمال كأنه يضحك تبسما.

وسئل بعض الفضلاء ، عن عجيب ما رأى فقال : تناسب وجه أبي الهول ، فإنّ أعضاء

٢٢٩

وجهه كالأنف والعين والأذن متناسبة كما تصنع الطبيعة الصور متناسبة ، فإنّ أنف الطفل مثلا مناسب له ، وهو حسن به حتى لو كان ذلك الأنف لرجل كان مشوّها ، وكذلك أنف الرجل لو كان لصبيّ لتشوّهت صورته ، وعلى هذا سائر الأعضاء فكل عضو ينبغي أن يكون على مقدار ماهيته بالقياس إلى الصورة وعلى نسبتها ، والعجب من مصوّره كيف قدر أن يحفظ التناسب للأعضاء مع عظمها ، وإنه ليس في أعمال الطبيعة ما يحاكيه.

ويقابله في برّ مصر قريبا من دار الملك : صنم عظيم الخلقة والهيئة متناسب الأعضاء كما وصف ، وفي حجره مولود وعلى رأسه مأجور ، الجميع صوّان ماتع يزعم الناس أنه امرأة وأنها سريّة أبي الهول المذكور ، وهي بدرب منسوب إليها ويقال : لو وضع على رأس أبي الهول خيط ومدّ إلى سريته لكان على رأسها مستقيما.

ويقال : إن أبا الهول ، طلسم الرمل يمنعه عن النيل ، وإنّ السرية طلسم الماء يمنعه عن مصر.

وقال ابن المتوّج (١) : زقاق الصنم ، هو الزقاق الشارع ، أوّله بأوّل السوق الكبير بجوار درب عمار ، ويعرف الصنم بسرية فرعون ، وذكر أنه طلسم النيل لئلا يغلب على البلد.

وقيل : إن بلهيب الذي عند الأهرام يقابله ، وإنّ ظهر بلهيب إلى الرمل ، وظهر هذا إلى النيل ، وكل منهما مستقبل الشرق ، وقد نزل في سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، أمير يعرف ببلاط في نفر من الحجارين والقطاعين وكسروا الصنم المعروف بالسرية ، وقطعوه أعتابا وقواعد ظنا أن يكون تحته مال ، فلم يوجد سوى أعتاب من حجر عظيمة ، فحفر تحتها إلى الماء فلم يوجد شيء ، وجعل من حجرة قواعد تحتانية للعمد الصوّان التي بالجامع المستجد بظاهر مصر المعروف : بالجامع الجديد الناصريّ ، وأزيل عين هذا الصنم من مكانه ، والله أعلم.

وفي زمننا ، كان شخص يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر من جملة صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء ، قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة لتغيير أشياء من المنكرات ، وسار إلى الأهرام وشوّه وجه أبي الهول وشعثه ، فهو على ذلك إلى اليوم ، ومن حينئذ غلب الرمل على أراض كثيرة من الجيزة ، وأهل تلك النواحي يرون أن سبب غلبة الرمل على الأراضي فساد وجه أبي الهول ولله عاقبة الأمور ، وما أحسن قول ظافر الحدّاد :

تأمّل هيئة الهرمين واعجب

وبينهما أبو الهول العجيب

كعمار يبتن على رحيل

بمحبوبين بينهما رقيب

__________________

(١) ابن المتوج : تاج الدين ، محمد بن عبد الوهاب الزبيري مؤرخ مصري. له : (إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمل) في أحوال مصر وخططها. ولد سنة ٦٣٩ وتوفي سنة ٧٣٠ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٢٥٦.

٢٣٠

وماء النيل تحتهما دموع

وصوت الريح عندهما نحيب

وظاهر سجن يوسف مثل صب

تخلف فهو محزون كئيب

ويقال : إن أتريب (١) بن قبط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح أوصى أخاه صا (٢) ، عند موته ، أن يحمله في سفينة ويدفنه بجزيرة في وسط البحر ، فلما مات ، فعل ذلك من غير أن يعلم به أهل مصر فاتهمه الناس بقتل أتريب ، وحاربوه تسع سنين ، فلما مضى من حربهم خمس سنين مضى بهم حتى أوقفهم على قبر أتريب ، فحفروه فلم يجدوا به شيئا ، وقد نقلته الشياطين إلى موضع أبي الهول ، ودفنته هناك بجانب قبر أبيه وجدّه بيصر ، فازدادوا له تهمة وعادوا إلى مدينة منف وتحاربوا فأتاهم إبليس ، فدلهم على قبر أتريب حيث نقله ، فأخرجوه من قبره ، ووضعوه على سرير ، فتكلم لهم الشيطان على لسانه حتى افتتنوا به وسجدوا له وعبدوه ، فيما عبدوا من الأصنام ، وقتلوا صا ، ودفنوه على شاطىء النيل فكان النيل إذا زاد لا يعلو قبره ، فافتتن به طائفة ، وقال : قتل ظلما وصاروا يسجدون لقبره كما يسجد أولئك لأتريب ، فعمد آخرون إلى حجر فنحتوه على صورة أشموم ، وكان يقال له : أبو الهول ، ونصبوه بين الهرمين ، وجعلوا يسجدون له ، فصار أهل مصر ثلاث فرق ولم تزل الصابئة تعظم أبا الهول وتقرّب إليه الديكة البيض وتبخره بالصندروس.

__________________

(١) أتريب بن قبط : إليه تنسب مدينة أتريب وهي كورة في شرقي مصر قصبتها عين شمس. معجم البلدان.

(٢) صا : وهو ابن قبط أخو أتريب وإليه تنسب مدينة صا وهي من كورة الحوف الغربي. معجم البلدان.

٢٣١

ذكر الجبال

اعلم أنّ أرض مصر بأسرها محصورة بين جبلين آخذين من الجنوب إلى الشمال قليلي الارتفاع ، وأحدهما أعظم من الآخر ، والأعظم منهما هو الجبل الشرقيّ المعروف بجبل لوقا ، والغربيّ جبل صغير ، وبعضه غير متصل ببعض والمسافة بينهما تضيق في بعض المواضع وتتسع في بعضها ، وأوسع ما يكون بأسفل أرض مصر ، وهذان الجبلان أقرعان لا يثبت فيهما نبات ، كما يكون في جبال البلدان الأخر ، وعلة ذلك : أنهما بورقيان مالحان لأنّ قوّة طين مصر تجذب منهما الرطوبات الموافقة في التكوين ، ولأنّ قوّة الحرارة تحلل منهما الجوهر اللطيف العذب ، وكذلك مياه الآبار منهما مالحة ، وهذان الجبلان يجففان ما يدفن فيهما ، فإنّ أرض مصر بالطبع قليلة الأمطار.

وجبل لوقا في مشرق أرض مصر يعوق عنها ريح الصبا ، فعدمت مصر هذا الريح ، ويعوق أيضا إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق وتتعدّد أسماء هذين الجبلين بحسب مواضعهما من الإقليم ، فيطلّ على الفسطاط ، وعلى القاهرة الجبل المقطم.

ذكر الجبل المقطم

اعلم أنّ الجبل المقطم أوّله من الشرق من الصين حيث البحر المحيط ، ويمرّ على بلاد الططر حتى يأتي فرغانة إلى جبال اليتم الممتدّ بها نهر السغد إلى أن يصل الجبل إلى جيحون فيقطعه ، ويمضي في وسطه بين شعبتين منه وكأنه قطع ، ثم في وسطه ويستمرّ الجبل إلى الجورجان ، ويأخذ على الطالقان إلى أعمال مروالرود إلى طوس ، فيكون جميع مدن طوس فيه ، ويتصل به جبال أصبهان وشيراز إلى أن يصل إلى البحر الهندي ، وينعطف هذا الجبل ويمتدّ إلى شهر زور فيمرّ على الدجلة ، ويتصل بجبل الجوديّ موقف سفينة نوح عليه‌السلام في الطوفان ولا يزال هذا الجبل مستمرّا من أعمال آمد وميافارقين ، حتى يمرّ بثغور حلب فيسمى هناك جبل اللكام (١) ، إلى أن يعدّي الثغور فيسمى نهرا حتى يجاوز حمص فيسمى لبنان ، ثم يمتدّ على الشام حتى ينتهي إلى بحر القلزم من جهة ، ويتصل من الجهة الأخرى ، ويسمى المقطم ، ثم يتشعب ويتصل أواخر شعبه بنهاية الغرب.

__________________

(١) جبل اللكام : في غربي بلاد الشام من الناحية الشمالية ويسمى اليوم جبال الأمانوس. الأعشى ٤ / ٨٠.

٢٣٢

ويقال : إنه عرف بمقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام.

وجبل المقطم : يمرّ على جانبي النيل إلى النوبة ويعبر من فوق الفيوم فيتصل بالغرب إلى أرض مقراوة ويمضي مغربا إلى سجلماسة ، ومنها إلى البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر.

وقال إبراهيم بن وصيف شاه : وذكر مجيء مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح إلى أرض مصر ، وكشف أصحاب إقليمون الكاهن عن كنوز مصر ، وعلومهم التي هي بخط البرابي وآثارهم والمعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج ، وغير ذلك. ووصفوا لهم عمل الصنعة يعني الكيمياء ، فجعل مصرايم أهلها إلى رجل من أهل بيعة يقال له : مقيطام الحكيم ، فكان يعمل الكيمياء في الجبل الشرقي ، فسمي به : المقطم ، من أجل أنّ مقيطام الحكيم كان يعمل فيه الكيمياء ، واختصر من اسمه وبقي ما يدل عليه ، فقيل له : جبل المقطم ، يعني جبل مقيطام الحكيم.

وقال البكري رحمه‌الله تعالى عليه : المقطم ، بضم أوّله وفتح ثانيه ، وتشديد الطاء المهملة وفتحها : جبل متصل بمصر يوارون فيه موتاهم.

وقال القضاعي : المقطم ، ذكر أبو عبد الله اليمنيّ ، أنّ هذا الجبل باسمه ، وليس هذا بصحيح لأنه لا يعرف لمصر ولد اسمه المقطم.

والذي ذكره العلماء : أنّ المقطم مأخوذ من القطم ، وهو القطع فكأنه لما كان منقطع الشجر والنبات سمي : مقطما ، ذكر ذلك عليّ بن الحسن الهناءي الدوسي المنبوذ بكراع وغيره.

وروى عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم عن الليث بن سعد رضي‌الله‌عنه ، قال : سأل المقوقس عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، أن يبيعه سفح الجبل المقطم بسبعين ألف دينار ، وفي نسخة : بعشرين ألف دينار ، فعجب عمرو من ذلك ، وقال : اكتب بذلك إلى أمير المؤمنين ، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر : سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ، ولا يستنبط بها ماء؟ فسأله ، فقال : إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فكتب إليه : إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين فاقبر فيها ، من مات قبلك من المؤمنين ، ولا تبعه بشيء ، فكان أوّل من قبر فيها رجلا من المعافر ، يقال له : عامر ، فقيل : عمرت ، فقال المقوقس لعمرو : وما ذلك وما على هذا عاهدتنا ، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم.

وذكر عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر : أن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، سار في سفح الجبل المقطم ، ومعه المقوقس ، فقال له : ما لجبلكم هذا أقرع؟ أليس به نبات

٢٣٣

كجبال الشام فلو شققنا في أسفله نهرا من النيل وغرسناه نخلا؟ فقال المقوقس : وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجارا ونباتا وفاكهة ، وكان منزل المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه‌السلام ، فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسى عليه‌السلام ، أوحى الله إلى الجبال إني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم فسمت الجبال كلها ، وتشامخت إلّا جبل بيت المقدس ، فإنه هبط وتصاغر ، فأوحى الله إليه لم فعلت ذلك؟ وهو به أخبر! فقال : إعظاما وإجلالا لك يا رب ، قال : فأمر الله سبحانه الجبال أن يحبوه كل جبل بما عليه من النبت ، فجادله المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقي كما ترى ، فأوحى الله إليه : إني معوّضك على فعلك بشجر الجنة ، أو غراس الجنة ، فكتب بذلك عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : إني لا أعلم شجر الجنة غير المؤمنين فاجعله لهم مقبرة ففعل ، فغضب المقوقس من ذلك ، وقال لعمرو : ما على هذا صالحتني ، فقطع له عمر قطيعا نحو الحبش تدفن فيه النصارى.

قال : وروي أن موسى عليه‌السلام سجد ، فسجد معه كل شجرة من المقطم إلى طرا.

وروي أنه مكتوب ، وإذا فتح مقدّسي يريد وادي مسجد موسى عليه‌السلام بالمقطم عند مقطع الحجارة ، فإنّ موسى عليه‌السلام كان يناجي ربه بذلك الوادي.

وروى أسد بن موسى قال : شهدت جنازة مع موسى بن لهيعة ، فجلسنا حوله فرفع رأسه ، فنظر إلى الجبل فقال : إنّ عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، مرّ بسفح هذا الجبل ، وعليه جبة صوف وقدّ شد وسطه بشريط وأمّه إلى جانبه ، فالتفت إليها وقال : يا أمّه هذه مقبرة أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى عبد الله بن لهيعة ، عن عياش بن عباس : أن كعب الأحبار رضي‌الله‌عنه ، سأل رجلا يريد مصر ، فقال له : اهدني تربة من سفح مقطمها فأتاه منه بجراب ، فلما حضرت كعبا الوفاة أمر به ، فجعل في لحده تحت جثته.

وروي عن كعب أنه سئل عن جبل مصر ، فقال : إنه لمقدّس ما بين القصير إلى اليحموم ، قال ابن لهيعة : والمقطّم : ما بين القصير إلى مقطع الحجارة ، وما بعد ذلك ، فمن اليحموم وفي هذا الجبل حجر الجوهر ، وشيء من الفولاذ ، وهو يمتدّ إلى أقاصي بلاد السودان.

الجبل الأحمر

هذا الجبل مطلّ على القاهرة من شرقيها الشماليّ ، ويعرف : باليحموم. قال القضاعيّ : اليحاميم هي : الجبال المتفرّقة المطلة على القاهرة من جانبها الشرقيّ وجبابها ، وتنتهي هذه الجبال إلى بعض طرق الجب ، وقيل لها : اليحاميم لاختلاف ألوانها ، واليحموم في كلام العرب الأسود المظلم.

٢٣٤

وقال ابن عبد الحكم عن سعي بن عبيد أنه لما قدم مصر ، وأهل مصر ، قد اتخذوا مصلى بحذاء ساقية أبي عون التي في العسكر فقال : ما لهم وضعوا مصلاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس ، يعني المقطّم؟.

وقال ابن عبد الظاهر : الجبل الأحمر ، ذكر القضاعيّ : أن اليحموم هو : الجبل المطلّ على القاهرة ، ولا أرى جبلا يطلّ على القاهرة غيره.

وقال البكري : اليحموم ، بفتح أوّله وإسكان ثانيه. قال الحربي : اليحموم : جبل بمصر.

وروي من طريق أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو : أنه سأل كعبا عن المقطم : أملعون؟ قال : ليس بملعون ، ولكنه مقدّس من القصير إلى اليحموم.

وذكر البكريّ أيضا : أنّ عابدا ، بالباء الموحدة والدال المهملة ، على وزن فاعل : جبل بمصر قبل المقطم.

جبل يشكر (١)

هذا الجبل فيما بين القاهرة ومصر عليه الجامع الطولوني. قال القضاعيّ : جبل يشكر : هو يشكر بن جديلة من لخم ، وهو الذي عليه جامع ابن طولون ، ويشكر بن جديلة : قبيلة من قبائل العرب احتطت عند الفتح بهذا الجبل ، فعرف بجبل يشكر لذلك.

قال ابن عبد الظاهر : وجامع ابن طولون على جبل يشكر ، وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء ، ومكان مبارك ، وقيل : إن موسى عليه‌السلام ناجى ربه عليه بكلمات ، وكان هذا الجبل يشرف على النيل ، وليس بينه وبين النيل شيء ، وكان يشرف على البركتين ، أعني بركة الفيل ، والبركة التي تعرف اليوم : ببركة قارون ، وعلى هذا الجبل كانت تنصب المجانيق التي تجرّب قبل إرسالها إلى الثغور.

الكبش : هو جبل ، بجوار يشكر كان قديما يشرف على النيل من غربيه ، ثم لما اختط المسلمون مدينة الفسطاط بعد فتح أرض مصر ، صار الكبش من جملة خطة الحمراء القصوى وسمي : الكبش.

الشرف : اسم لثلاثة مواضع ، فاثنان منها : فيما بين القاهرة ومصر ، وواحد فيما بين بركة الحبش وفسطاط مصر ، فأما الذي بظاهر القاهرة ، فأحدهما عليه الآن قلعة الجبل ، وهو

__________________

(١) جبل يشكر : نسبة إلى خطّة (يشكر بن جزيلة) وهو الذي بني عليه جامع أحمد بن طولون قرب الفسطاط. الأعشى ٣ / ٣٧٢.

٢٣٥

من جملة الجبل المقطم ، والآخر : فيما بين الجامع الطولونيّ ومصر ، فيشرف غربيه على جهة الخليج الكبير ، ويصير فيما بين كوم الجارح ، وخط الجامع الطولونيّ ، وكان من خطة تجيب ، ثم صار من جملة العسكر ، وأما الشرف الثالث فيعرف اليوم : بالرصد ، وهو يشرف على راشدة ، وكان يقال للشرف : سند ، والسند : ما قابلك من الجبل ، وعلا من السفح ويقال : فلان سند ، أي : معتمد.

ذكر الرّصد

هذا المكان شرف يطلّ من غربيّة على راشدة ، ومن قبلّيه على بركة الحبش ، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود ، وهو محاذ للشرف الذي كان من جملة العسكر ، والشرف الذي يعرف اليوم بالكبش ، وكان يقال له قديما : الجرف ، ثم عرف بالرصد من أجل أنّ الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ ، أقام فوقه كرة لرصد الكواكب ، فعرف من حينئذ بالرصد. قال في كتاب عمل الرصد : وحمل إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر من الشام تقاويم لما يستأنف من السنين لاستقبال سنة خمسمائة من سني الهجرة ، قيل : مائة تقويم ، أو نحوها ، وكان منجمو الحضرة يومئذ ابن الحلبيّ وابن الهيثمي وسهلون وغيرهم ، يطلق لهم الجاري في كل شهر ، والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة ، وكان كل منهم يجتهد في حسابه وما تصل قدرته إليه ، فإذا كان في غرّة السنة حمل كلّ منهم تقويمه ، فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام ، فيوجد بينها اختلاف كثير ، فأنكر ذلك ، فلما كان غرّة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحصاء التقاويم على العادة ، جمع المنجمين والحساب ، وأهل العلم وسألهم عن السبب في الخلف بين التقاويم؟ فقالوا : الشاميّ يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأمونيّ ، ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكميّ لقرب عهده ، وبين المتقدّم والمتأخر تفاوت وخلف ، وقد أجمع القدماء أن القريب العهد أصح من المتقدّم لتنقل الكواكب ، وتغير الحساب ، وتحدّثوا في معنى ذلك بما هو مذكور في موضعه ، وأشاروا عليه بعمل رصد مستجدّ يصحح به الحساب ، ويخرج به المعور والتفاوت ، وتحصل به المنفعة العظيمة والفائدة الجليلة والسمعة الشريفة والذكر الباقي ، فقال : من يتولى ذلك؟ فقال صاحب دسته (١) ومشيره الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة : هذا القاضي ابن أبي العيش الطرابلسيّ المهندس العالم الفاضل ، وكان ابن أبي العيش صهره زوج ابنته ، وهو شيخ كبير السنّ والقدر كثير المال ، وساعده على ذلك القائد أبو عبد الله الذي تقلد الوزارة بعد الأفضل ، ودعي بالمأمون بن البطائحيّ ، فاستصوب الأفضل ذلك ، وقال : مروه يهتم بذلك ، ويستدعي ما يحتاج إليه ، فكان أوّل ما بدأ به لما

__________________

(١) الدست : في الأصل : صدر المجلس ودست الوزارة منصبها والمراد المقام. الأعشى ٧ / ١٤٥.

٢٣٦

حصل ذلك أن مدح نفسه ، وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشدّ ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابا مذكورة ، ثم قال : هذه الآلات عظيمة ، وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها ، ولا يحسنها ، وأكثر الكلام والتوسعة ، وقال : يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره ، ويقدح خاطره لما يعمل في حقه ، فضجر الأفضل من ذلك ، وقال : لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد ، لا حاجة إلى معاملته ، فأشار القائد بن البطائحيّ ، وقال : هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ ، وأقرب وقت وأسرعه ، وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك ، فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل ، وما سبب عمل الآلات ، ومن ابتدأها من الأول.

وذكر القدماء في العلم : ومن رصد منهم واحدا واحدا إلى آخرهم شرحا مستوفيا كأنه يحفظه ظاهرا ، أو يقرأه من كتاب ، فأعجب الأفضل والحاضرين ، وقال : أيّ شيء تحتاج؟ فقال : ما أحتاج كبير أمر ، والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه ، النحاس والرصاص والآلات ، وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلا أوّلا ، إلّا لنفقات وأجرة الصناع ، فيتولاها غيري ، فأعجب به. وقال : يطلق له جار لنفسه ، فقال : أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني ، فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار ، وإذا بلغت الغرض ، وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل ، هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة ، فقال : كم تقول يحتاج إليه؟ فقال : ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق عليه مسجد ، أو مستنظر ، فرجع يكرّر عليه القول ، فقال : هاتوا ورقة ، فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسيّ ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار ، ومن الحطب ، ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه ، ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه ، فإذا فرغت أستدعي غيرها ، وأختار موضعا يصلح الرصد فيه ، ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه ، فاستصوب الأفضل جميع ذلك ، وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد : هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله ، فخدم من أوّل الحال إلى آخرها ، ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب ، وهو مستخدم عندهم ، وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء ، فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال ، ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم ، فوجدوه بعيدا عن الحوائج ، فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف : بالفيلة الكبير.

وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار ، فحفروا في مسجد الفيلة نفرا في الجبل مكان الصهريج الآن ، فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها

٢٣٧

ثلاثون ذراعا وهندموه وحرّروه أياما ، وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان ، وفي كل هرجة : أحد عشر قنطارا نحاسا ، وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر ، قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر ، ونفخوا إلى الثانية من النهار ، وحضر الأفضل بكرة ، وجلس على كرسيّ ، فلما تهيأت الهرج ، ودارت أمر الأفضل بفتحها ، وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة ، ففتحت ، وسال النحاس كالماء إلى القالب ، وكان قد بقي فيه بعض النداوة ، فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي ، فلم تتمّ الحلقة ، ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ ، فضجر الأفضل وضاق صدره ، ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم ، وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة ، وقال : مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرا ، فقال له الأفضل : اهتم في إعادتها فسبكت وصحت ، ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية ، ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة ، وأحضر لها جميع صناع النحاس ، وعمل لها بركار خشب من السنديان ، وهو بركار عجيب ، وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار ، وهو قائم مثل عروس الطاحون ، وفيه ساعد مثل ناف الطاحون ، وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد ، وطرف الساعد مهيأ لعدّة فنون ، تارة لتصحيح وجه الحلقة ، وتارة لتعديل الأجناب ، وتارة للخطوط والحزوز ، وأقام في التصحيح فيها ، وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة ، وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون ، واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع ، وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة ، وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة ، فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودا ، فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضا بالرصد ، وكان الأفضل ، بناه ألطف من جامع الفيلة ، ولم يكمل.

فلما صار برسم الرصد كمل ، فحضر الأفضل ، في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشيّ ، وقد أحضرت الصواري الطوال العظام ، والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها ، وجمعت الأسطولية ورجال السودان ، وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ ، وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه ، وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما ، حتى لا يرتخي ثقل النحاس ، وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة ، وعملت من نحاس ، فما تمارست ، ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران ، ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة ، وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل.

فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها ، وغلبوا بعد ذلك فكانت

٢٣٨

تختلف لشدّة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب ، وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه ، وهو يرتعش ، والقائد يحمله إلى فوق ، ويقعد زمانا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش ، فرصدوا قدّامه ، وفي خلال ذلك قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة ، وقيل للأفضل عن ابن قرقة : إنه أسرف في كبر الحلقة ، وعظم مقدارها ، فقال له الأفضل : لو اختصرت منها كان أهون ، فقال : وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام ، والأخرى على التنور فعلت ، فكلما كبرت الآلة صح التحرير ، وأين هذا في العالم العلويّ ، ثم أكثروا عليه ، فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي ، كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعا.

فلما كملت ، قتل الأفضل ، ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن ، وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارا ، فلما تمت الوزارة للمأمون البطائحيّ ، أحب أن يكملها ، ويقال له : الرصد المأموني المصحح ، كما قيل للأوّل : الرصد المأموني الممتحن ، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة ، فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال ، وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم ، فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة ، وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبا عظيما لخوفهم أن يصدم فيتغير ، فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب ، وتكاثر الرجال في جذب المياحين من أسفل ، ومن فوق حتى وصل إلى السطح الكبير.

ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ ، وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره ، ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف ، فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط ، ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع ، وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة ، وكان الأمر فيها سهلا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة ، والحلقة الوسطى ، وتجرّد المأمون لعملها ، والحثّ فيها ، وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين ، ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل ، والعقد فقال له المأمون : اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة ، وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال : الرصد المأمونيّ المصحح ، فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلا كان كمل جميع رصد الكواكب ، لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة ، وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور ، والاجتهاد فيه ، وقيل : أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ ، ونسبه إلى نفسه ، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله.

٢٣٩

وأما العامة والغوغاء ، فكانوا يقولون : أرادوا أن يخاطبوا زحل ، وأرادوا أن يعلموا الغيب ، وقال آخرون منهم : عمل هذا للسحر ، ونحو ذلك من الشناعات ، فلما قبض على المأمون ، بطل وأنكر الخليفة على عمله ، فلم يجسر أحد أن يذكره ، وأمر فكسر ، وحمل إلى المناخات ، وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص ، وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد (الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش ، والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب ، والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس ، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس ، وغيرهم من الحساب والمنجمين ، كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ ، وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار) ، فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث ، وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيما صاحب كبرياء وهيبة ، وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة ، ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها ، وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام ، ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة ، ومن يتحدّث.

وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم : بالرصد ، حيث جامع الفيلة عامرا فيه عدّة مساكن ومساجد ، وبه أناس مقيمون دائما ، وقد خرب ما هناك ، وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر : محمد بن قلاون ، قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر ، بجوار رباط الآثار النبوية ، فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواق هناك ، قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة ، فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك ، كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب ، وما زال موضع هذا الرصد منتزها لأهل مصر.

ويقال : إنّ المعز لدين الله معدّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها؟ وقال للقائد جوهر : فاتك بناء القاهرة على النيل ، فهلا كنت بنيتها على الجرف؟

يعني هذا المكان ، ويقال : إن اللحم علق بالقاهرة ، فتغير بعد يوم وليلة ، وعلق بقلعة الجبل ، فتغير بعد يومين وليلتين ، وعلق في موضع الرصد ، فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه ، ولله در القائل :

يا ليلة عاش سروري بها

ومات من يحسدنا بالكمد

وبت بالمعشوق في المشتهي

وبات من يرقبنا بالرصد

٢٤٠