كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

ومن اصطلاح كتاب مصر القدماء ، أن تورد جزية أهل الذمة من اليهود والنصارى ، قلما واحدا مستقلا بذاته بعد الهلالي ، وقبل الخراجي ، وذلك أنها تستأدي مسانهة ، وكانوا يرون وجوبها مشاهرة وفائدته فيمن أسلم أو مات أثناء الحول ، فإنهم كانوا يلزمونه بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه ، أو وفاته فلذلك أوردت فيما بين الهلاليّ والخراجيّ.

وكانوا في الإقطاعات الجيشية يجرونها ، مجرى المال الهلاليّ عند خروج إقطاع من يقطع ، ودخول آخر على ذلك الإقطاع ، فإنها كانت تستخرج على حكم الشهور الهلالية لا الشمسية بحيث لو تعجلها مقطع في غرّة السنة على العادة في ذلك ، وخرج الإقطاع عنه في أثناء السنة بوفاة أو نقلة إلى غيره ، استحق منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقال الإقطاع عنه ، لا على حكم ما استحق من المغلّ ، ويستحق المتصل من استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود ، والمتخلل بينهما من المدّة مستحق ذلك الديوان ، فيردّ من جملة المحلولات من الإقطاعات وكان من أبواب الهلالي جهات تسمى المعاملات ، وهي : الزكاة والمواريث والثغور والمتجر والشب والنطرون والجبس الجيوشي ودار الضرب ودار العيار والجاموس وأبقار الجبس والأغنام والغروس والبساتين والأحكار والرباع والمراكب ، وما يستأدي من الذمة غير الجوالي ، وساحل السنط ، والخراج والقرظ ومقرّر الجسور وموظف الاتبان ومقرّر القصب ومقرّر البريد ومقرّر البسط وعشر العرق ، وغير ذلك من جهات المكوس.

فأما الجزية : وتعرف في زمننا بالجوالي فإنها تستخرج سلفا وتعجيلا في غرّة السنة ، وكان يتحصل منها مال كثير فيما مضى. قال القاضي الفاضل في متجدّدات الحوادث الذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة مائة ألف وثلاثون ألف دينار ، وأما في وقتنا هذا ، فإنّ الجوالي قلت جدّا لكثرة إظهار النصارى للإسلام في الحوادث التي مرّت بهم.

ولما استبدّ السلطان الملك المؤيد شيخ بملك مصر ، بعد الخليفة العباس بن محمد أمير المؤمنين المستعين بالله ، ولى رجلا جباية الجوالي فكثر الاستقصاء عن الذمة والكدّ في الاستخراج منهم ، فبلغت الجوالي في سنة ست عشرة وثمانمائة أحد عشر ألف دينار وأربعمائة دينار ، سوى ما غرم للأعوان وهو قدر كثير.

وأما المراعي وهو الكلأ المطلق المباح الذي أنبته الله تعالى لرعي دواب بني آدم فأوّل من أدخلها الديوان بمصر أحمد بن مدبر ، لما ولي الخراج ، وصير لذلك ديوانا وعاملا جلدا يحظر على الناس أن يتبايعوا المراعي ، أو يشتروها إلا من جهته ، وأدركنا المراعي ببلاد الصعيد مما يضاف إلى الإقطاعات ، فيأخذ الأمير ممن يرعى دوابه في أرض بلده الكتيح في كل سنة ، مالا عن كل رأس فيجبى من صاحب الماشية بعدد أنعامه ، فلما اختلّ أمر الصعيد

٢٠١

في الحوادث الكائنة منذ سنة ست وثمانمائة ، تلاشى الأمر في ذلك ، وكانت العادة القديمة أن يندب للمراعي مشدّ وشهود ، وكاتب ، فيعدّون المواشي ، ويستخرجون من أربابها عن كل رأس شيئا ، ولا يكون ذلك إلا بعد هبوط النيل ، ونبات الكلأ واستهلاكه للمرعى.

وأما المصايد فهي ما أطعم الله سبحانه وتعالى من صيد البحر ، وأوّل من أدخلها الديوان أيضا ابن مدبر ، وصير لها ديوانا واحتشم من ذكر المصايد ، وشناعة القول فيها ، فأمر أن يكتب في الديوان خراج مضارب الأوتار ومغارس الشباك ، فاستمرّ ذلك ، وكان يندب لمباشرتها مشدّ وشهود وكاتب إلى عدّة جهات ، مثل : خليج الإسكندرية ، وبحيرة الإسكندرية ، وبحيرة نسترو وثغر دمياط وجنادل ثغر أسوان ، وغير ذلك من البرك والبحيرات ، فيخرجون عند هبوط النيل ، ورجوع الماء من المزارع إلى بحر النيل بعد ما تكون أفواه الترع قد سكرت ، وأبواب القناطر قد سدّت عند انتهاء زيادة النيل كيما يتراجع الماء ، ويتكائف مما يلي المزارع ، ثم تنصب شباك ، وتصرف المياه ، فيأتي السمك وقد اندفع مع الماء الجاري ، فتصدّه الشباك عن الانحدار مع الماء ، ويجتمع فيها فيخرج إلى البر ، ويوضع على أنخاخ ويملح ، ويوضع في الأمطار فإذا استوى بيع ، وقيل له : الملوحة والصير ، ولا يكون ذلك إلا فيما كان من السمك في قدر الأصبع فما دونه ، ويسمون هذا الصنف إذا كان طريا ابسارية ، فتؤكل مشوية ومقلية ، ويصاد من بحيرة نسترو ، وبحيرة تنيس ، وبحيرة الإسكندرية ، أسماك تعرف : بالبوري ، وقيل لها ذلك لأنها كانت تصاد عند قرية من قرى تنيس يقال لها : بورة ، وقد خربت ، والنسبة إليها البوريّ ، ونسب إليها جماعة من الناس منهم بنو البوري.

وقيل لهذا السمك البوريّ إضافة إلى القرية المذكورة ، وقد بطل في زمننا اليوم أمر هذه المصايد إلا من بحيرة نسترو بالبرلس وبحيرة تنيس بدمياط فقط ، وهاتان البحيرتان تجريان في ديوان الخاص وهما مضمنتان ، وما يخرج منهما من البوريّ وغيره من أنواع السمك ، فللسلطان لا يقدر أحد أن يتعرّض لصيد شيء منه إلا أن يكون من صياديهما القائمين بالضمان ، وما عدا هاتين البحيرتين من البرك والأملاق والخلجان ، فليست للسلطان ، وأما بحيرة اسكندرية فقد جفت وثغر أسوان ، فقد خرج عن يد السلطنة وتغلب عليه أولاد الكفرة ، ثم برك بأيدي أقوام كبركة الفيل ، بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس ، وبركة الرطلي ، بيد أولاد الأمير بكتمر الحاجب ، وغير ذلك. فإنّ أسماكها مضمنة لهم يبيعونها ومع ذلك لا يمنع أحد الصيد منها.

وأما بحر النيل فما صيد منه يحمل إلى دار السمك بالقاهرة ، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان إلا أنّ الأمير جمال الدين يوسف الإستادار ، زاد فيما كان يؤخذ من الصيادين مكسا ، ومن حينئذ قلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.

٢٠٢

وقال أبو سعيد عبد الرحمن (١) بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر : إنّ صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل على حشفة من حشاف البحر مستقبلا بأصبع من كفة قسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبيّ ، أم عمله الإسكندر ، فكانت الحيتان تدور بالإسكندرية ، وتصاد عنده ، فيما زعموا.

قال زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أخبرني أبي عن أبيه : أنه انبطح على بطنه ومدّ يديه ورجليه فكان طوله طول قدم الصنم ، فكتب رجل يقال له : أسامة بن زيد كان عاملا على مصر للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين : إنّ عندنا بالإسكندرية صنما يقال له : شراحيل من نحاس ، وقد غلت علينا الفلوس فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزله ويضربه فلوسا فعل ، وإن رأى غير ذلك فليكتب إليّ من أمره ، فكتب إليه : لا تنزله حتى أبعث إليك ضمناء يحضرونه ، فبعث إليه رجالا أمناء حتى أنزل من الحشفة ، فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة فضربه فلوسا ، فانطلقت الحيتان فلم ترجع إلى ما هناك.

وأما الزكاة : فإنّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل من جباها بمصر.

قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ثالث عشر ربيع الآخر ، فرّقت الزكوات بعد ما جمعت على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين ، بعد أن رفع إلى بيت المال السهام الأربعة وهي : سهام العاملين ، والمؤلفة ، وفي سبيل الله ، وفي الرقاب ، وقرّرت لهم فريضة واستودى على الأموال والبضائع وعلى ما يتقرر عليه من المواشي ، والنخل والخضراوات.

قال : والذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلاثون ألف دينار ، والزائد في معاملة الزكاة ودار الضرب لسنتي ست وسبع وثمانين وخمسمائة أحد وعشرون ألف دينار وثمانمائة وأحد وستون دينارا.

وقال في سنة ثمان وثمانين واستخدم ابن أحمدان في ديوان الزكاة وكتب خطه بما مبلغه : اثنان وخمسون ألف دينار لسنة واحدة من مال الزكاة ، وجعل الطواشي قراغش الشادّ في هذا المال ، وأن لا يتصرّف فيه بل يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها.

ولما قدم ابن عنين الشاعر من عند الملك العزيز سيف الإسلام طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي ملك اليمن إلى مصر ، وقد أجزل صلته عند ما وفد عليه وفارقه ، وقد أثرى ثراء كثيرا ، قبض أرباب ديوان الزكاة بمصر على ما قدم به من المتجر وطالبوه بزكاة ما معه ، وكان ذلك في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فقال :

__________________

(١) هو مؤرخ محدث له تاريخان أحدهما كبير (أخبار مصر ورجالها) ، والثاني صغير (ذكر الغرباء الواردين إلى مصر) توفي سنة ٣٤٧ ه‍. الأعلام ج ٣ / ٢٩٤.

٢٠٣

ما كان من يتسمى بالعزيز لها

أهل ولا كل برق سحبه غدقه

بين العزيزين فرق في فعالهما

هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه

ثم إنّ العزيز كشف عما يستأدي من الزكاة فإنه انتهى إليه فيها أقوال شنيعة منها : أنه أخذ من رجل فقير يبيع الملح في قفة على رأسه ، زكاة عما في القفة ، وأنه بيع جمل بخمسة دنانير ذهب ، فأخذ زكاتها خمسة دراهم ، فأمر بتفويض أمرها إلى أرباب الأموال ومن وجب عليه حق.

ثم لما كانت سلطنة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب أخرج من زكاة الأموال التي كانت تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين ، وأمر بصرفهما في مصارفهما الشرعية ، ورتب من جملة هذين السهمين معاليم للفقهاء والصلحاء ، وأهل الخير تجري عليهم ، فاستحسن ذلك من فعله وحمله إلى ديوان الزكاة قبل منه ، ومن لم يحمل لا يتعرّض إليه فبخل الأغنياء بزكاة أموالهم حتى تضرّر الفقراء والمساكين ، وأخذ السعاة يبذلون في ضمانها الأموال لتعود إلى ما كانت عليه فولي النظر في ديوان الزكاة القاضي الأسعد شرف الدين أبو المكارم أسعد بن مهذب بن مماتي ، فاستخرج الزكاة من أربابها ثم ضمنت بمال كثير ، وعاد الأمر فيها إلى ما كان عليه من العسف والجور ، وكانت أعوان متولي الزكاة تخرج إلى منية ابن خصيب وأخميم وقوص لكشف أحوال المسافرين من التجار والحجاج وغيرهم ، فيبحثون عن جميع ما معهم ، ويدخلون أيديهم أوساط الرجال خشية أن يكون معهم مال ويحلفون الجميع بالإيمان الحرجة على ما بأيديهم وما عندهم غير ما وجدوه ، وتقوم طائفة من مردة هذه الأعوان وبأيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة ، فيصعدون إلى المراكب ويجسون بمسالهم جميع ما فيها من الأحمال والغرائر مخافة أن يكون فيها شيء من بضاعة أو مال فيبالغون في البحث والاستقصاء بحيث يقبح ، ويستشنع فعلهم ويقف الحجاج بين يدي هؤلاء الأعوان مواقف خزي ومهانة ، لما يصدر منهم عند تفتيش أوساطهم وغرائر أزوادهم ، ويحلّ بهم من العسف وسوء المعاملة ما لا يوصف ، وكذلك يفعل في جميع أرض مصر منذ عهد السلطان صلاح الدين بن أيوب.

وأما الثغور فهي : دمياط وتنيس ورشيد وعيذاب وأسوان والإسكندرية وهي أعظمها قدرا فإنه كان فيها عدّة جهات منها : الخمس والمتجر ، فالخمس : ما يستأدي من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع للمتجر بمقتضى ما صولحوا عليه ، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون دينارا ، وربما انحط عن عشرين دينارا. ويسمى كلاهما خمسا. ومن أجناس الروم من يؤخذ منهم العشر ولذلك ضرائب مقرّرة.

وقال القاضي الفاضل : والحاصل من خمس الإسكندرية في سنة سبع وثمانين

٢٠٤

وخمسمائة ثمانية وعشرون ألف دينار وستمائة وثلاثة عشر دينارا ، والمتجر عبارة عما يبتاع للديوان من بضائع تدعو إليها الحاجة ويقتضيه طلب الفائدة.

قال جامع سيرة الوزير اليازوري : وقصر النيل بمصر في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ، ولم يكن في مخازن الغلات شيء ، فاشتدّت المسغبة بمصر ، وكان لخلوّ المخازن سبب أوجب ذلك وهو أنّ الوزير ، الناصر للدين لما أضيف إليه القضاء في أيام أبي البركات الوزير كان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف درهم ، وتجعل متجرا فمثل القاضي بحضرة الخليفة المستعين بالله ، وعرّفه أنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أوفى مضرّة على المسلمين ، وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتعفن في المخازن وتتلف ، وأنه يقيم متجرا لا كلفة فيه على الناس ، ويفيد أضعاف فائدة الغلة ، ولا يخشى عليه من تغيره في المخازن ولا انحطاط سعره وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك ، فأمضى السلطان له ما رآه ، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس فوسعوا فيه مدّة سنين ثم عمل الملوك بعد ذلك ديوانا للمتجر وآخر من عمله الظاهر برقوق.

وأما الشب : فإنّ معادنه بالصعيد ، وكانت عادة الديوان الإنفاق ، في تحصيل القنطار ، منه بالليثيّ يبلغ ثلاثين درهما ، وكانت العربان تحضره من معادنه إلى ساحل أخميم وسيوط والبهنسا ليحمل إلى الإسكندرية أيام النيل في الخليج ويشترى بالقنطار الليثيّ ، ويباع بالقنطار الجرويّ ، فيباع منه على تجار الروم قدر اثني عشر ألف قنطاريا بالجروي بسعر أربعة دنانير كل قنطار إلى ستة دنانير ويباع منه بمصر على اللبوديين والصباغين نحو الثمانين قنطارا بالجرويّ سعر ستة دنانير ونصف القنطار ، ولا يقدر أحد على ابتياعه من العربان ولا غيرهم ، فإن عثر على أحد أنه اشترى منه شيئا أو باعه سوى الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه ، وقد بطل هذا.

وأما النطرون (١) : فيوجد في البرّ الغربيّ من أرض مصر بناحية الطرّانة ، وهو أحمر وأخضر ويوجد منه بالفاقوسية شيء دون ما يوجد في الطرّانة ، وهو أيضا مما خطر عليه ابن مدبر من الأشياء التي كانت مباحة ، وجعله في ديوان السلطان وكان من بعده على ذلك إلى اليوم ، وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه في كل سنة عشرة آلاف قنطار ، ويعطى الضمان منها في كل سنة قدر ثلاثين قنطارا يتسلمونها من الطرّانة ، فتباع في مصر بالقنطار المصري ، وفي بحر الشرق والصعيد بالجرويّ ، وفي دمياط بالليثي. قال القاضي الفاضل : وباب النطرون كان مضمونا إلى آخر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة عشر ألفا وخمسمائة دينار ، وحصل منه في سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار ،

__________________

(١) النطرون : من المعادن الموجودة بأرض مصر وكان يستخرج من الطرانة الواقعة غربي النيل خاصة من بركة النطرون. التعريف بمصطلحات الأعشى ص ٣٤٧.

٢٠٥

وأدركنا النطرون إقطاعا لعدّة أجناد.

فلما تولى الأمير محمود بن عليّ الإستادارية ، وصار مدبر الدولة في أيام الظاهر برقوق حاز النطرون ، وجعل له مكانا لا يباع في غيره ، وهو إلى الآن على ذلك. وأما الحبس (١) الجيوشي : فكان في البرّين الشرقيّ والغربيّ. ففي الشرقيّ : بهتين والأميرية والمنية ، وكانت تسجل هذه النواحي بعين ، وفي الغربيّ : سفط ونهيا ووسيم ، وهذه النواحي حبسها أمير الجيوش ، بدر الجمالي ، على عقبه هي والبساتين ظاهر باب الفتوح ، فلما مات وطال العهد استأجرها الوزراء بأجرة يسيرة طلبا للفائدة ، ثم أدخلت في الديوان.

قال ابن المأمون في تاريخه : وجميع البساتين المختصة بالورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم لم تزل في مدّة أيام الوزير المأمون البطائحيّ بأيديهم لم تخرج عنهم بضمان ولا بغيره.

فلما توفي الخليفة الآمر بأحكام الله ، وجلس أبو عليّ بن الأفضل بن أمير الجيوش ، في الوزارة ، أعاد الجميع إلى الملاك لكون نايبه في ذلك الأوفر.

فلما قتل ، واستبدّ الخليفة ، الحافظ لدين الله أمر بالقبض على جميع الأملاك ، وحلّ الأحباس المختصة بأمير الجيوش ، فلم يزل يأنس به ، لأنه غلام الأفضل والوزير في ذلك الوقت ، وعز الملك غلام الأوحد بن أمير الجيوش يتلطفان ويراجعان الخليفة مع الكتب التي أظهرها الورثة ، وعليها خطوط الخلفاء إلى أن أبقاها عليهم ، ولم يخرجها عنهم ، ثم ارتفعت الحوطة عنها في سنة سبع وعشرين وخمسمائة للديوان الحافظي.

ولما خدم الخطير والمرتضى في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في وزارة رضوان بن ولخشي ، أعاد البساتين خاصة دون البلاد على الورثة بحكم ما آل أمرها إليه من الاختلال ونقص الارتفاع.

ولما انقرض عقب أمير الجيوش ولم يبق منه سوى امرأة كبيرة ، أفتى فقهاء ذلك العصر ، ببطلان الحبس ، فقبضت النواحي وصارت من جملة الأموال السلطانية ، فمنها ما هو اليوم في الديوان السلطانيّ ، ومنها ما صار وقفا ورزقا أحباسية وغير ذلك.

وأما دار الضرب : فكان بالقاهرة دار الضرب ، وبالإسكندرية دار الضرب ، وبقوص دار الضرب ، ولا يتولى عيار دار الضرب ، إلّا قاضي القضاة أو من يستخلفه ، ثم رذلت في زمننا حتى صار يليها مسالمة فسقة اليهود ، المصرّين على الفسق ، مع ادّعائهم الإسلام ، وكان يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره ، إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير

__________________

(١) الحبس الجيوشي : الأوقاف التي يخصص ريعها للجيش (قرى وضياع وغير ذلك).

٢٠٦

الناصرية ، فجاءت غير خالصة ، وكانت بمصر المعاملة بالورق ، فأبطلها الملك الكامل ، محمد بن أبي بكر بن أيوب في سنة بضع وعشرين ، وضرب الدرهم المدوّر الذي يقال له : الكامليّ ، وجعل فيه من النحاس قدر الثلث ، ومن الفضة الثلثين ، ولم يزل يضرب بالقاهرة إلى أن أكثر الأمير ، محمود الإستادار من ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية ، فبطلت الدراهم من مصر ، وصارت معاملة أهلها إلى اليوم بالفلوس ، وبها يقوّم الذهب وسائر المبيعات ، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى ، عند ذكر أسباب خراب مصر.

وكانت دار الضرب يحصل منها للسلطان مال كثير ، فقلّ في زماننا لقلة الأموال ودار الضرب اليوم جارية في ديوان الخاص.

وأما دار العيار : فكانت مكانا يحتاط فيه للرعية وتصلح موازينهم ومكاييلهم به ويحصل منها للسلطان مال ، وجعلها السلطان صلاح الدين من جملة أوقاف سور القاهرة ، وقد ذكرت في خطط القاهرة من هذا الكتاب.

وأما الأحكار : فإنها أجر مقرّرة على ساحات بمصر ، والقاهرة ، فمنها ما صار دورا للسكنى ، ومنها ما أنشئ بساتين ، وكانت تلك الأجر من جملة الأموال السلطانية ، وقد بطل ذلك من ديوان السلطان ، وصارت أحكار مصر ، والقاهرة وما بينهما أوقافا على جهات متعدّدة.

وأما الغروس : فكانت في الغربية فقط عدّة أراض يؤخذ منها شبه الحكر عن كل فدّان مقرّر معلوم ، وقد بطل ذلك من الديوان.

وأما مقرّر الجسور : فكان على كل ناحية تقرير بعدّة قطع معلومة يجبي منها عن كل قطعة عشرة دنانير لتصرف في عمل الجسور ، فيفضل منها مال كثير يحمل إلى بيت المال ، وقد بطل هذا أيضا ، وجدّد الناصر فرج على الجسور حوادث قد ذكرت في أسباب الخراب.

وأما موظف الأتبان : فكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام : قسم للديوان ، وقسم للمقطع ، وقسم للفلاح ، فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم ، ويؤخذ في التبن عن كل مائة حمل أربعة دنانير وسدس دينار ، فيحصل من ذلك مال كثير ، وقد بطل هذا أيضا من الديوان.

وأما الخراج : فإنه كان في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية ، والأخميمية والقوصية : أشجار لا تحصى من سنط ، لها حرّاس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول ، فلا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه ، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار.

وكان يستخرج من هذه النواحي مال يقال له : رسم الخراج ، ويحتج في جبايته بأنه

٢٠٧

نظير ما تقطعه أهل النواحي ، وتنتفع به من أخشاب السنط في عمائرها ، ومقرّر آخر ، كان يجبي منهم يعرف بمقرّر السنط ، فيصرف من هذا المقرّر أجرة قطع الخشب وحزه بضريبة عن كل مائة حمل دينار ، وعلى المستخدمين في ذلك أن لا يقطعوا من السنط ما يصلح لعمل مراكب الأسطول ، لكنهم إنما يقطعون الأطراف التي ينتفع بها في الوقود فقط ، ويقال لهذا الذي يقطع حطب النار ، فيباع على التجار منه كل مائة حمل بأربعة دنانير ، ويكتب على أيديهم زنة ما بيع عليهم ، فإذا وردت المراكب بالحطب إلى ساحل مصر ، اعتبرت عليهم وقوبل ما فيها بما عين في الرسالة الواردة واستخرج الثمن على ما في الرسالة ، وكانت العادة أنه لا يباع مما في البهنسا إلا ما فضل عن احتياج المصالح السلطانية ، وقد بطل هذا جميعه ، واستولت الأيدي على تلك الأشجار ، فلم يبق منها شيء البتة ونسي هذا من الديوان.

وأما القرظ : فإنه ثمر شجر السنط ، وكان لا يتصرّف فيه إلا الديوان ، ومتى وجد منه مع أحد شيء اشتراه من غير الديوان ، نكل به واستهلك ما وجد معه منه ، فإذا اجتمع مال القرظ أقيم منه مراكب تباع ، ويؤخذ من ثمنها الربع عندما تصل إلى ساحل مصر بعد ما تقوّم ، أو ينادى عليها وكان فيها حيف كبير ، وقد بطل ذلك.

وأما ما يستأدى من أهل الذمّة : فإنه كان يأخذ منهم عما يرد ويصدر معهم من البضائع في مصر والإسكندرية وأخميم خاصة دون بقية البلاد ، ضرائب بتقرير في الديوان ، وقد بطل ذلك أيضا.

وأما مقرّر الجاموس ومقرّر بقر الخيس ومقرّر الأغنام : فإنه كان للسلطان من هذه الأصناف شيء كثير جدّا فيؤخذ من الجاموس للديوان على كل رأس من الراتب في نظير ما يتحصل منه في كل سنة ، من خمسة دنانير إلى ثلاثة دنانير ، ومن اللاحق بحق النصف من الراتب ، وأقل ما تنتج كل مائة خمسون إلى غير ذلك من ضرائب مقرّرة على الجاموس ، وعلى أبقار الخيس ، وعلى الغنم البيض ، والغنم الشعاري ، وعلى النحل ، وقد بطل ذلك جميعه لقلة مال السلطان ، وإعراضه عن العمارة وأسبابها ، وتعاطي أسباب الخراب.

وأما المواريث : فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم ، من أجل أنّ مذهبهم توريث ذوي الأرحام ، وأنّ البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه ، فلما انقضت أيامهم ، واستولت الأيوبية ، ثم الدولة التركية ، صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية ، وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم الوارث ، فتعدل فيه الوزارة مرّة وتظلم أخرى.

وأما المكوس : فقد تقدّم حدوثها ، وما كان من الملوك فيها ، والذي بقي منها إلى الآن بديار مصر يلي أمره الوزير ، وفي الحقيقة إنما هو نفع للأقباط يتخوّلون فيه بغير حق ، وقد تضاعفت المكوس في زمننا عما كنا نعهده ، منذ عهد تحدّث الأمير جمال الدين يوسف

٢٠٨

الإستادار في الأموال السلطانية ، كما ذكر في أسباب الخراب.

وأما البراطيل : وهي الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد ، ومحتسبيها وقضاتها وعمالها ، فأوّل من عمل ذلك بمصر : الصالح بن رزيك في ولاة النواحي فقط ، ثم بطل ، وعمل في أيام العزيز بن صلاح الدين أحيانا ، وعمله الأمير شيخون في الولاة فقط ، ثم أفحش فيه الظاهر برقوق كما يأتي في أسباب الخراب.

وأما الحمايات والمستأجرات : فشيء حدث في أيام الناصر فرج ، وصار لذلك ديوان ومباشرون ، وعمل مثل ذلك الأمراء ، وهو من أعظم أسباب الخراب كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.

٢٠٩

ذكر الأهرام

اعلم أنّ الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جدّا ، منها بناحية بوصير (١) شيء كثير ، بعضها كبار ، وبعضها صغار ، وبعضها طين ولبن ، وأكثرها حجر ، وبعضها مدرج ، وأكثرها مخروط أملس ، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر ، عدّة كثيرة كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد قراقوش ، وبنى بها قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة ، ومصر والقناطر التي بالجيزة.

وأعظم الأهرام الثلاثة التي هي اليوم قائمة تجاه مصر ، وقد اختلف الناس في وقت بنائها ، واسم بانيها والسبب في بنائها ، وقالوا في ذلك أقوالا متباينة ، أكثرها غير صحيح ، وسأقص عليك من نبأ ذلك ما يشفي ، ويكفي إن شاء الله تعالى.

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في أخبار مصر وعجائبها في أخبار سوريد بن سهلوق بن سرياق بن توميدون بن بدرسان بن هوصال أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون في مدينة أمسوس الآتي ذكرها عند ذكر مدائن مصر من هذا الكتاب ، وهو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد ، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم.

وسبب بناء الهرمين أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة ، قد رأى سوريد في منامه ، كأنّ الأرض انقلبت بأهلها ، وكأنّ الناس قد هربوا على وجوههم ، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة ، فغمه ذلك ، ولم يذكره لأحد ، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم ، ثم رأى بعد ذلك بأيام كأنّ الكواكب الثابتة ، نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض ، وكأنها تختطف الناس ، وتلقيهم بين جبلين عظيمين ، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم ، وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة ، فانتبه مرعوبا مذعورا ، ودخل إلى هيكل الشمس ، وتضرّع ومرّغ خدّيه على التراب وبكى ، فلما أصبح ، جمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر ، وكانوا مائة وثلاثين كاهنا ، فخلا بهم وحدّثهم ما رآه أوّلا وآخرا ، فأوّلوه بأمر عظيم يحدث في العالم.

__________________

(١) بوصير : كورة من عمل الغربية بمصر.

٢١٠

فقال عظيم الكهان ، ويقال له : إقليمون : إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم ، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة ، ولم أذكرها لأحد من الناس ، رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس ، وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا ، وكان علينا كالقبة المحيطة بنا ، وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء ، وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال ، وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك ، وهم يستغيثون به ، وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه ، وأمرني أن أفعل كما فعل ، ونحن على وجل شديد ، إذ رأينا منها موضعا قد انفتح ، وخرج منه نور مضيء ، وطلعت علينا منه الشمس ، وكأنا استغثنا بالشمس ، فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه ، فانتبهت مرعوبا ، ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها ، وكأن أناسا نزولا من السماء بأيديهم مقام من حديد يضربون الناس بها ، فقلت لهم : ولم تفعلون بالناس كذا؟ قالوا : لأنهم كفروا بإلههم! قلت : فما بقي لهم من خلاص؟ قالوا : نعم ، من أراد الخلاص ، فليلحق بصاحب السفينة ، فانتبهت مرعوبا فقال الملك : خذوا الارتفاع للكواكب ، وانظروا هل من حادث؟ فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك ، وأخبروا بأمر الطوفان ، وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم ، فقال الملك : انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا : نعم ، تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين. قال : فانظروا هل يعود عامرا كما كان؟ أو يبقى مغمورا بالماء دائما ؛ قالوا : بل تعود البلاد كما كانت وتعمر ، قال : ثم ما ذا؟ قالوا : يقصدها ملك يقتل أهلها ، ويغنم مالها ؛ قال : ثم ما ذا؟ قالوا : يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل ، ويملكون أكثرها ؛ قال : ثم ما ذا؟ قالوا : ينقطع نيلها وتخلو من أهلها ؛ فأمر عند ذلك : بعمل الأهرام ، وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه ، ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد ، وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وأصناما ، وأجساد ملوكهم ، وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء ، وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر ، وصوّر فيها صور الكواكب كلها ، وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة ، وجميع علومهم مفسرا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم.

ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل ، واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان ، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة ، الشرقيّ والغربيّ والملوّن ، وكانت لهم صحائف ، وعليها كتابة ، إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه ، فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم ، ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام ، وكانوا يمدّون البلاطة ، ويجعلون في ثقب بوسطها قطبا من حديد قائما ، ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط ، ويدخلون

٢١١

القطب فيها ، ثم يذاب الرصاص ويصب في القطب حول البلاطة بهندام وإتقان إلى أن كملت.

وجعل لها أبوابا تحت الأرض بأربعين ذراعا ، فأما باب الهرم الشرقيّ ، فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم ، وأما باب الهرم الغربيّ ، فإنه من الناحية الغربية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط ، وأما باب الهرم الملوّن فإنه من الناحية الجنوبية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط ، فإذا حفر بعد هذا القياس ، وصل إلى باب الأزج المبنيّ ، ويدخل إلى باب الهرم وجعل ارتفاع كل واحد من الأهرام في الهواء مائة ذراع ، بالذراع الملكيّ ، وهو بذراعهم خمسمائة ذراع بذراعنا الآن ، وجعل طول كل واحد من جميع جهاته ، مائة ذراع بذراعهم ، ثم هندسها من كل جانب حتى تحدّدت أعاليها من آخر طولها على ثمانية أذرع بذراعنا ، وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد اجتمعوا عليه وتخيروه ، فلما فرغت كساها ديباجا ملوّنا من فوقها إلى أسفلها ، وعمل لها عيدا حضره أهل مملكته بأجمعهم ثم عمل في الهرم الغربيّ ، ثلاثين مخزنا من حجارة صوّان ملوّن ، وملئت بالأموال الجمة ، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة ، وآلات الحديد الفاخر من السلاح الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي ، ولا ينكسر والطلسمات الغربية ، وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة ، والسموم القاتلة ، وعمل في الهرم الشرقيّ أصناف القباب الفلكية والكواكب ، وما عمله أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرّب بها إلى الكواكب ومصاحفها وكوّن الكواكب الثابتة ، وما يحدث في أدوارها وقتا وقتا وما عمل لها من التواريخ ، والحوادث التي مضت ، والأوقات التي ينتظر فيها ما يحدث ، وكل من يلي مصر إلى آخر الزمان.

وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرة وما أشبه ذلك ، وجعل في الهرم الملوّن أجساد الكهنة في توابيت من صوّان أسود ، ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صناعاته وأعماله وسيرته ، وما عمل في وقته ، وما كان ، وما يكون من أوّل الزمان إلى آخره ، وجعل في الحيطان من كل جانب أصناما تعمل بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها ، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها ، ولم يترك علما من العلوم حتى زبره ورسمه ، وجعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إلى الكواكب ، وأموال الكهنة ، وهو شيء عظيم لا يحصى.

وجعل لكل هرم منها خادما ، فخادم الهرم الغربيّ : صنم من حجارة صوّان مجزع ، وهو واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية قد تطوّق بها من قرب منه ، وثبت إليه وطوّقت على عنقه وقتلته ، ثم تعود إلى مكانها.

وجعل خادم الهرم الشرقيّ : صنما من جزع أسود مجزع بأسود وأبيض له عينان مفتوحتان برّاقتان ، وهو جالس على كرسيّ ، ومعه حربة إذا نظر أحد إليه سمع من جهته

٢١٢

صوتا يفزع منه ، فيخرّ على وجهه ، ولا يبرح حتى يموت.

وجعل خادم الهرم الملوّن : صنما من حجر البهت على قاعدة منه ، من نظر إليه جذبه حتى يلتصق به ، فلا يفارقه حتى يموت ، فلما فرغ من ذلك ، حصّن الأهرام بالأرواح الروحانية ، وذبح لها الذبائح لتمنع عن أنفسها من أرادها إلا من عمل لها أعمال الوصول إليها.

وذكر القبط في كتبهم : أنّ عليها منقوشا تفسيره بالعربية : أنا سوريد الملك ، بنيت هذه الأهرام في وقت كذا وكذا ، وأتممت بناءها في ست سنين ، فمن أتى بعدي ، وزعم أنه ملك مثلي ، فليهدمها في ستمائة سنة ، وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان ، وإني كسوتها عند فراغها بالديباج ، فليكسها بالحصر ، فنظروا فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان الطوال.

وحكى القبط في كتبهم : أنّ روحانية الهرم الشماليّ ، غلام أمرد أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار ، وروحانية الهرم الجنوبيّ : امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته ، وتضحك له حتى يدنو منها ، فتسلبه عقله ، وروحانية الهرم الملوّن : شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يبخر بها ، وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مرارا ، وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة ، وعند غروب الشمس.

قال : ولمّا مات سوريد ، دفن في الهرم ، ومعه أمواله وكنوزه. وقالت القبط : إن سوريد هو الذي بنى البرابي ، وأودع فيها كنوزا وزبر عليها علوما ووكل بها روحانيات تحفظها ممن يقصدها ، قال : وأما الأهرام الدهشورية ، فيقال : إن شدات بن عديم هو الذي بناها من الحجارة التي كانت قد قطعت في زمن أبيه ، وشدادت هذا يزعم بعض الناس أنه شدّاد بن عاد ، وقال : من أنكر أن يكون العادية دخلت مصر ، وإنما غلطوا باسم شدات بن عديم ، فقالوا : شدّاد بن عاد ، لكثرة ما يجري على ألسنتهم شدّاد بن عاد ، وقلة ما يجري على ألسنتهم شدات بن عديم ، وإلّا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر ، ولا قوي على أهلها غير بخت نصر ، والله أعلم.

وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان : ومن أباده الحدثان ، أن الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد ، لمّا قدم مصر وأتى على الأهرام ، أحب أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها ، فقيل له : إنك لا تقدر على ذلك؟ فقال : لا بدّ من فتح شيء منه ، ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلّ يرش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالا عظيمة ، فوجدوا عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا ، فلما انتهوا إلى آخر الحائط ، وجدوا خلف الثقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب ، وزن كل دينار أوقية ، وكان عددها ألف دينار ، فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته ، ثم أمر بجملة ما أنفق على

٢١٣

الثلمة فوجدوا الذهب الذي أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه ، ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما ينفق عليه ، ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجبا عظيما ، وقيل : إن المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد ، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته ، وكان آخر ما عمل من عجائب مصر.

وأقام الناس سنين يقصدونه ، وينزلون فيه الزلاقة التي فيه ، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك ، فاتفق عشرون من الأحداث على دخوله ، وأعدّوا لذلك ما يحتاجون من طعام وشراب ، وحبال وشمع ونحوه ، ونزلوا في الزلاقة ، فرأوا فيها من الخفاش ما يكون كالعقبان يضرب وجوههم ، ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال ، فانطبق عليه المكان ، وحاولوا جذبه حتى أعياهم فسمعوا صوتا أربعهم فغشي عليهم ، ثم قاموا وخرجوا من الهرم ، فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم ، إذ أخرجت الأرض صاحبهم حيا من بين أيديهم يتكلم بكلام لم يعرفوه ، ثم سقط ميتا ، فحملوه ومضوا به فأخذهم الخفراء وأتوا بهم إلى الوالي فحدّثوه خبرهم ، ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم قبل موته ، فقيل لهم : معناه : هذا جزاء من طلب ما ليس له ، وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد.

وقال علي بن رضوان الطبيب : فكرت في بناء الأهرام ، فأوجب علم الهندسة العلمية ورفع الثقيل إلى فوق أن يكون القوم هندسوا سطحا مربعا ، ونحتوا الحجارة ذكرا وأنثى ، ورصوها بالجبس البحريّ إلى أن ارتفع البناء مقدار ما يمكن رفع الثقيل ، وكانوا كلما صعدوا ضموا البناء حتى يكون السطح الموازي للمربع الأسفل مربعا أصغر من المربع السفلانيّ ، ثم عملوا في السطح المربع الفوقانيّ مربعا أصغر بمقدار ما بقي في الحاشية ما يمكن رفع الثقيل إليه ، وكلما رفعوا حجرا مهندما رصوه إليه ذكرا وأنثى ، إلى أن ارتفع مقدار مثل المقدار الأوّل ، ولم يزالوا يفعلون ذلك إلى أن بلغوا غاية لا يمكنهم بعدها أن يفعلوا ذلك فقطعوا الارتفاع ، ونحتوا الجوانب البارزة التي فرضوها لرفع الثقيل ، ونزلوا في النحت من فوق إلى أسفل ، وصار الجميع هرما واحدا.

وقياس الهرم الأوّل : بالذراع التي تقاس بها اليوم الأبنية بمصر ، كل حاشية منه أربعمائة ذراع ، يكون بالذراع السوداء التي طول كل ذراع منها أربعة وعشرون أصبعا خمسمائة ذراع ، وذلك أن قاعدته مربع متساوي الأضلاع ، والزوايا ضلعان منهما ، على خط نصف النهار ، وضلعان على خط المشرق والمغرب ، وكل ضلع بالذراع السوداء خمسمائة ذراع ، والخط المنحدر على استقامة من رأس الهرم إلى نصف ضلع المربع أربعمائة وسبعون ذراعا ، يكون إذا تمم أيضا ، خمسمائة ذراع.

وأحيط بالهرم ، أربع مثلثات ومربع ، وكل مثلث منها متساوي الساقين ، كل ساق منه إذا تمم خمسمائة وستون ذراعا ، والمثلثات الأربعة تجتمع رؤوسها عند نقطة واحدة ، وهي

٢١٤

رأس الهرم إذا تمم فيلزم أن يكون عموده أربعمائة وثلاثين ذراعا ، وعلى هذا العمود مراكز أثقاله ، ويكون تكسير كل مثلث من مثلثاته : مائة وخمسة وعشرين ألف ذراع ، إذا اجتمع تكاسيرها كان مبلغ تكسير سطح هذا الهرم : خمسمائة ألف ذراع بالسوداء ، وما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا أطول ، والله أعلم.

وقد فتح المأمون نقبا من هذا الهرم ، فوجد فيه زلاقة تصعد إلى بيت مربع مكعب ، ووجد في سطحه قبر رخام وهو باق فيه إلى اليوم ، ولم يقدر أحد يحطه ، وبذلك أخبر جالينوس ، أنها قبور. فقال في آخر الخامسة من تدبير الصحة بهذا اللفظ ، وهم يسمون ، من كان في هذا السن : الهرم ، وهو اسم مشتق من الأهرام التي هم إليها صائرون عن قريب.

وقال الحوقليّ في صفة مصر : وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في ملك مسلم ولا كافر ولا عمل ولا يعمل لهما ، وقرأ بعض بني العباس على أحدهما : إني قد بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في ملكه فليهدمها ، فالهدم أيسر من البنيان ، فهمّ بذلك وأظنه المأمون أو المعتصم ، فإذا خراج مصر لا يقوم به يومئذ ، وكان خراجها على عهده بالإنصاف في الجباية وتوخي الرفق بالرعية والمعدلة إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع ، أربعة آلاف ألف ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار ، والمقبوض على الفدّان ، دينارين ، فأعرض عن ذلك ولم يعد فيه شيئا.

وفي حدّ الفسطاط في غربيّ النيل أبنية عظام يكثر عددها مفترشة في سائر الصعيد تدعى : الأهرام ، وليست كالهرمين اللذين تجاه الفسطاط ، وعلى فرسخين منها ارتفاع كل واحد منهما : أربعمائة ذراع ، وعرضه كارتفاعه ، مبنيّ بحجارة الكدّان التي سمك الحجر ، وطوله وعرضه من العشر أذرع إلى الثمان بحسب ما دعت الحاجة إلى وضعه في زيادته ونقصه ، وأوجبته الهندسة عندهم لأنهما كلما ارتفعا في البناء ضاقا حتى يصير أعلاهما من كل واحد منهما مثل مبرك جمل ، وقد ملئت حيطانهما بالكتابة اليونانية ، وقد ذكر قوم أنهما قبران وليس كذلك ، وإنما حمل صاحبهما على عملهما أنه قضى بالطوفان أنه يهلك جميع ما على وجه الأرض إلا ما حصن في مثلهما ، فخزن ذخائره وأمواله فيهما ، وأتى الطوفان ، ثم نضب فصار ما كان فيهما إلى بيصر بن مصرايم بن حام بن نوح ، وقد خزن فيهما بعض الملوك المتأخرين وجعلهما هراءه ، والله أعلم.

وقال أبو يعقوب محمد بن إسحاق النديم (١) الوراق في كتاب الفهرست : وقد ذكر هرمس البابليّ قد اختلف في أمره فقيل : إنه كان أحد السدنة السبعة الذين رتبوا لحفظ البيوت السبعة ، وإنه كان لترتيب عطارد وباسمه سمي ، فإن عطارد باللغة الكلدانية : هرمس ،

__________________

(١) صاحب كتاب الفهرست من أقدم كتب التراجم وأفضلها ، وله كتاب آخر سمّاه : (التشبيهات) توفي سنة ٤٣٨ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٢٩.

٢١٥

وقيل : إنه انتقل إلى أرض مصر بأسباب ، وإنه ملكها وكان له أولاد منهم : طا ، وصا ، وأشمن ، وأتريب ، وقفط ، وإنه كان حكيم زمانه ، وإنه لما توفي دفن في البناء الذي يعرف بمدينة مصر : بأبي هرمس ، ويعرفه العامة بالهرمين ، فإن أحدهما قبره والآخر قبر زوجته ، وقيل : قبر ابنه الذي خلفه بعد موته ، وهذه البنية يعني الأهرام : طولها بالذراع الهاشمي ، أربعمائة ذراع وثمانون ذراعا على مساحة أربعمائة وثمانين ذراعا ، ثم ينخرط البناء فإذا حصل الإنسان في رأسه كان مقدار سطحه أربعين ذراعا ، هذا بالهندسة وفي وسط هذا السطح ، قبة لطيفة في وسطها شبيهة بالمقبرة ، وعند رأس ذلك القبر صخرتان في نهاية النظافة والحسن وكثرة التلوّن ، وعلى كل واحدة منهما شخصان من حجارة ، صورة ذكر وأنثى ، وقد تلاقيا بوجهيهما ، وبيد الذكر لوح من حجارة فيه كتابة ، وبيد الأنثى مرآة ، والرف ذهّب نقشه نقاش ، وبين الصخرتين برنية من حجارة على رأسها غطاء ذهب ، فلما قلع فإذا فيها شبيه بالنار بغير رائحة قد يبس ، وفيها حقة ذهب فنزع رأسها ، فإذا فيها دم عبيط ساعة قرعه الهواء جمد ، كما يجمد الدم وجف ، وعلى القبور أغطية حجارة ، فلما قلعت إذا رجل نائم على قفاه على نهاية الصحة والجفاف بين الخلقة ظاهر الشعور ، وإلى جنبه امرأة على هيئته ، قال : وذلك السطح منقر نحو قامة كما يدور مثل المسمار ذات آزاج من حجارة فيها صور وتماثيل مطروحة وقائمة ، وغير ذلك من الآلة التي لا تعرف أشكالها.

وقال العلامة موفق الدين عبد اللطيف بن أبي العز يوسف بن أبي البركات محمد بن عليّ بن سعد البغدادي المعروف بابن المطحن في سيرته ، وجاء رجل جاهل عجميّ ، فخيّل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف أن الهرم الصغير تحته مطلب ، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه ، وأقاموا على ذلك شهورا ، ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل ، ومن يرى حجارة الهرم يقول : إنه قد استوصل الهرم ، ومن يرى الهرم لا يجد به إلا تشعيثا يسيرا ، وقد أشرفت على الحجارين فقلت لمقدّمهم : هل تقدرون على إعادته؟ فقال : لو بذل لنا السلطان عن كل حجر ألف دينار لم يمكنا ذلك.

وقال أبو الحسن المسعودي في مروج الذهب : وأما الأهرام فطولها عظيم وبنيانها عجيب عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة ، والممالك الدائرة لا يدرى ما تلك الكتابة ولا المراد بها ، وقد قال من عني بتقدير ذرعها : أن مقدار ارتفاع الهرم الكبير ذهابا في الجوّ نحو أربعمائة ذراع أو أكثر ، وكلما صعد دق ذلك ، والعرض نحو ما وصفنا ، وعليها من الرسوم علوم وخواص وسحر وأسرار الطبيعة ، وإن من تلك الكتابة مكتوبا ، إنا بنيناها فمن يدّعي موازاتنا في الملك ، وبلوغ القدرة وانتهاء أمر السلطان فليهدمها وليزع رسمها فإن الهدم أيسر من البناء والتفريق أسهل من التأليف.

وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها ،

٢١٦

وهي من الحجر والرخام ، وأنها قبور لملوك ، وكان الملك منهم إذا مات ، وضع في حوض من حجارة ، ويسمى بمصر والشام : الجرون ، وأطبق عليه ، ثم بني من الهرم على مقدار ما يريدون من ارتفاع الأساس ، ثم يحمل الحوض ، ويوضع وسط الهرم ، ثم يقنطر عليه البنيان ، ثم يرفعون البناء على المقدار الذي يرونه ، ويجعل باب الهرم تحت الهرم ، ثم يحفر له طريق في الأرض ، ويعقد أزج طوله تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر ، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت ، قال : وكان القوم يبنون الهرم من هذه الأهرام مدرجا ذا مراق كالدرج ، فإذا فرغوا نحتوه من فوق إلى أسفل ، فهذه كانت جبلتهم ، وكانوا مع ذلك لهم قوّة وصبر وطاعة.

وقال في كتاب البنية والإشراف : والهرمان اللذان في الجانب الغربيّ من فسطاط مصر هما من عجائب بنيان العالم ، كل واحد منهما أربعمائة ذراع في سمك مثل ذلك ، مبنيان بالحجر العظيم على الرياح الأربع كل ركن من أركانهما يقابل ريحا منها فأعظمهما فيهما تأثيرا ريح الجنوب وهي : المريسي وأحد هذين الهرمين ، قبر أعاديمون ، والآخر قبر هرمس ، وبينهما نحو ألف سنة وأعاديمون المتقدّم ، وكان سكان مصر وهم الأقباط يعتقدون نبوّتهما قبل ظهور النصرانية فيهم على ما يوجبه رأي الصابئين في النبوّات لا على طريق الوحي ، بل هم عندهم نفوس طاهرة صفت وتهذبت من أدناس هذا العالم ، فاتحدت بهم موادّ علوية ، فأخبروا عن الكائنات قبل كونها ، وعن سرائر العالم وغير ذلك ، وفي العرب : من اليمانية من يرى أنهما قبر شدّاد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر ، وهم العرب العارية من العماليق وغيرهم وهي عند من ذكرنا من الصابئين قبور أجساد طاهرة.

وذكر أبو زيد البلخيّ : أنه وجد مكتوبا على الأهرام بكتابتهم خط فعرّب ، فإذا هو : بني هذان الهرمان والنسر الوقع في السرطان ، فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية ، فإذا هو : ست وثلاثون ألف سنة شمسية مرتين ، يكون اثنتين وسبعين ألف سنة شمسية.

وقال الهمداني في كتاب الإكليل : لم يوجد مما كان تحت الماء وقت الغرق من القرى ، قرية فيها بقية ، سوى نهاوند وجدت كما هي اليوم لم تتغير ، وأهرام الصعيد من أرض مصر.

وذكر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحيم القيسي في كتاب تحفة الألباب : أن الأهرام مربعة الجملة مثلثة الوجوه ، وعددها ثمانية عشر هرما ، في مقابلة مصر الفسطاط ثلاثة أهرام ، أكبرها دورة ألفا ذراع في كل وجه خمسمائة ذراع ، وعلوه خمسمائة ذراع ، وكل حجر من حجارتهما ثلاثون ذراعا في غلظ عشرة أذرع قد أحكم إلصاقه ونحته.

ومنها عند مدينة فرعون يوسف ، هرم أعظم ، وأكبر دوره ثلاثة آلاف ذراع ، وعلوه

٢١٧

سبعمائة من حجارة ، كل حجر خمسون ذراعا ، وعند مدينة فرعون موسى أهرام أكبر وأعظم ، وهرم آخر يعرف بهرم ، مدون كأنه جبل ، وهو خمس طبقات ، وفتح المأمون الهرم الكبير الذي تجاه الفسطاط ، قال : وقد دخلت في داخله ، فرأيت قبة مربعة الأسفل مدوّرة الأعلى كبيرة في وسطها بئر عمقها ، عشرة أذرع ، وهي مربعة ينزل الإنسان فيها ، فيجد في كل وجه من تربيع البئر بابا يفضي إلى دار كبيرة فيها موتى من بني آدم عليهم أكفان كثيرة أكثر من مائة ثوب على كل واحد ، قد بليت بطول الزمان واسودّت وأجسامهم مثلنا ليسوا طوالا ، ولم يسقط من أجسامهم ، ولا من شعورهم شيء ، وليس فيهم شيخ ، ولا من شعره أبيض ، وأجسادهم قوية لا يقدر الإنسان أن يزيل عضوا من أعضائهم البتة ، ولكنهم خفوا حتى صاروا كالغثا لطول الزمان ، وفي تلك البئر أربعة من الدور مملوءة بأجساد الموتى ، وفيها خفاش كثير ، وكانوا يدفنون أيضا جميع الحيوان في الرمال ، ولقد وجدت ثيابا ملفوفة كثيرا مقدار جرمها ، أكثر من ذراع ، وقد احترقت تلك الثياب من القدم ، فأزلت الثياب إلى أن ظهرت خرق صحاح قوية بيض من كتان أمثال العصائب فيها أعلام من الحرير الأحمر ، وفي داخلها هدهد ميت لم يتناثر من ريشه ، ولا من جسده شيء كأنه قد مات الآن.

وفي القبة التي في الهرم ، باب يفضي إلى علو الهرم ، وليس فيه درج عرضه نحو خمسة أشبار ، يقال : إنه صعد فيها في زمان المأمون فأفضوا إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج ، فأخرجت إلى المأمون ، فإذا هي مطبقة ، فلما فتحت وجد فيها جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له ، وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون.

وقد رأيت الصنم الذي أخرج منه ذلك الميت ملقى عند باب دار الملك بمصر في سنة إحدى عشرة وخمسمائة.

وقال القاضي الجليل أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي : روي عليّ بن الحسن بن خلف بن قديد عن يحيى بن عثمان بن صالح عن محمد بن عليّ بن صخر التميميّ قال : حدّثني رجل من عجم مصر من قرية من قراها تدعى قفط ، وكان عالما بأمور مصر وأحوالها وطالبا لكتبها القديمة ومعادنها ، قال : وجدنا في كتبنا القديمة ، قال : وأما الأهرام فإن قوما احتفروا قبرا في دير أبي هرميس ، فوجدوا فيه ميتا في أكفانه ، وعلى صدره قرطاس ملفوف في خرق فاستخرجوه من الخرق ، فرأوا كتابا لا يعرفونه ، وكان الكتاب بالقبطية الأولى ، فطلبوا من يقرأه لهم ، فلم يقدروا عليه ، فقيل لهم : إنّ بدير القلمون من أرض الفيوم راهبا يقرأه ، فخرجوا إليه ، وقد ظنوا أنه في الضيعة ، فقرأه لهم ، وكان فيه : كتب هذا الكتاب في أوّل سنة من ملك ديقلطيانس الملك ، وإنّا استنسخناه من كتاب نسخ : في أوّل سنة من ملك فيلبش الملك ، وإنّ فيلبش استنسخه من صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا ، وكان من

٢١٨

الكتاب الأوّل ، ترجمه له أخوان من القبط يقال لأحدهما : ايلو ، والآخر : يرثا ، وإن الملك فيلبس سألهما عن سبب معرفتهما بما جهله الناس من قراءته ، فذكرا أنهما من ولد رجل من أهل مصر الأوائل لم ينج من الطوفان من أهل مصر أحد غيره ، وكان سبب نجاته أنه أتى نوحا عليه‌السلام فآمن به ، ولم يأته من أهل مصر غيره ، فحمله معه في السفينة ، فلما نضب ماء الطوفان أتى مصر ، ومعه نفر من ولد حام بن نوح ، وكان بها حتى هلك ، فورث ولده علم كتاب أهل مصر الأوّل ، فورثناه عنه كابرا عن كابر.

وكان تاريخه الذي مضى إلى أن استنسخه فيلبش ، ألفا وثلثمائة واثنتين وسبعين سنة ، وإنّ الذي استنسخه في صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا على ما وجده فيلبش ، وإن تاريخه إلى أن استنسخه ألف وسبعمائة سنة وخمس وثمانون سنة.

وكان الكتاب المنسوخ : إنا نظرنا فيما تدل عليه النجوم ، فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض ، فلما بان لنا الكون نظرنا ما هو فوجدناه ماء مفسدا للأرض وحيوانها ونباتها ، فلما تمّ اليقين من ذلك عندنا قلنا لملكنا سوريد بن سهلوق : مر ببناء أفروشات وقبر لك وقبر لأهل بيتك ، فبنى لهم الهرم الشرقيّ ، وبنى لأخيه هو حيث الهرم الغربيّ ، وبنى لابن هو حيث الهرم الملوّن ، وبنيت أفروشات في أسفل مصر ، وأعلاها فكتبنا في حيطانها علم غامض أمر النجوم وعللها والصنعة والهندسة والطلب ، وغير ذلك مما ينفع ويضرّ ملخصا مفسرا لمن عرف كلامنا وكتابتنا ، وإن هذه الآفة نازلة بأقطار العالم ، وذلك عند نزول قلب الأسد في أوّل دقيقة من رأس السرطان ، ويكون الكوكب عند نزوله إياها في هذه المواضع من الفلك الشمس والقمر في أوّل دقيقة من رأس الحمل ، وقوريس في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل ، وراويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثمان وعشرين دقيقة ، وآويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق ، وأفرد وبطر في الحوت في ثمان وعشرين درجة ودقائق ، وهرمس في الحوت في سبع وعشرين ودقائق ، والجوزهر في الميزان وأوج القمر في الأسد في خمس درجات ودقائق.

ثم نظرنا هل يكون بعد هذه الآفة كون مضرّ بالعالم؟ فأصبنا الكواكب تدل على أن آفة نازلة من السماء إلى الأرض وإنها ضدّ الآفة الأولى وهي نار محرقة أقطار العالم ، ثم نظرنا متى يكون هذا الكون المضر؟ فرأيناه يكون ، عند حلول قلب الأسد في آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشر من الأسد ، ويكون إبليس معه في دقيقة واحدة متصلة بقوريس من تثليث الرامي ، ويكون راويس مشتري في أوّل الأسد في آخر احتراقه ، ومعه آويس في دقيقة ، ويكون سليس في الدلو مقابلا لإيليس الشمس ، ومعه الذنب في اثنتين وعشرين ، ويكون كسوف شديد له مكث يوازي القمر ، ويكون هرمس عطارد في بعده الأبعد أمامها مقبلين ، أما إفرد وبطن فللاستقامة ، وأما هرمس فللرجعة.

٢١٩

قال الملك : فهل عندكم من خبر توقفونا عليه غير هاتين الآفتين؟ قالوا : إذا قطع قلب الأسد ثلثي سدس أدواره لم يبق من حيوان الأرض متحرّك إلا تلف ، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك ، وسقط على الأرض ، قال لهم : وأيّ يوم فيه انحلال الفلك؟ قالوا : اليوم الثاني من بدو حركة الفلك ، فهذا ما كان في القرطاس.

فلما مات الملك سوريد بن سهلوق دفن في الهرم الشرقيّ ، ودفن هو حيث في الهرم الغربيّ ، ودفن كرورس في الهرم الذي أسفله من حجارة أسوان وأعلاه كدان.

ولهذه الأهرام أبواب في أزج تحت الأرض طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا.

فأما باب الهرم الشرقيّ فمن الناحية البحرية ، وأما باب أزج الهرم الموزر فمن الناحية القبلية.

وفي الأهرام من الذهب وحجارة الزمرد ما لا يحتمله الوصف.

وإنّ مترجم هذا الكتاب من القبطيّ إلى العربيّ أجمل التاريخين إلى أوّل يوم من توت ، وهو يوم الأحد طلوع شمسه سنة خمس وعشرين ومائتين من سني العرب ، فبلغت أربعة آلاف وثلثمائة وإحدى وعشرين سنة لسني الشمس ، ثم نظر كم مضى للطوفان إلى يومه هذا فوجده ألفا وسبعمائة وإحدى وأربعين سنة وتسعة وخمسين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربعة أخماس ساعة وتسعة وخمسين جزءا من أربعمائة جزء من ساعة ، فألقاها من الجملة فبقي معه ثلثمائة وتسع وتسعون سنة ومائتان وخمسة أيام وعشر ساعات وأحد وعشرون جزءا من أربعمائة جزء من ساعة ، فعلم أن هذا الكتاب المؤرخ كتب قبل الطوفان بهذه السنين والأيام والساعات والكسر من الساعة.

وأما الهرم الذي بدير أبي هرميس ، فإنه قبر قرياس ، وكان فارس أهل مصر ، وكان يعدّ بألف فارس ، فإذا لقيهم لم يقوموا به وانهزموا ، وإنه مات فجزع الملك عليه جزعا بلغ منه ، واكتأبت لموته الرعية ، فدفنوه بدير هرميس وبنوا عليه الهرم مدرجا ، وكان طينه الذي بني به مع الحجارة من الفيوم ، وهذا معروف إذا نظر إلى طينه لم يعرف له معدن إلا بالفيوم وليس بمنف ووسيم له شبه من الطين.

وأما قبر الملك صاحب قرياس هذا ، فإنه الهرم الكبير من الأهرام التي في بحري دير أبي هرميس ، وعلى بابه لوح كدان مكتوب فيه باللازورد طول اللوح : ذراعان في ذراع وكله مملوء كتبا مثل كتب البرابي يصعد إلى باب الهرم بدرج بعضها صحيح لم ينخرم ، وفي هذا الهرم ذخائر صاحبه من الذهب وحجارة الزمرد ، وإنما سدّ بابه حجارة سقطت من أعاليه ومن وقف عليه رآه بيتا.

٢٢٠