كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

وكتب عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه إلى عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه : أن اسئل المقوقس عن مصر ، من أين تأتي عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو ، فقال له المقوقس : عمارتها وخرابها من وجوه خمسة : أن يستخرج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم ، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم ، ويحفر في كل سنة خلجانها ، وتسدّ ترعها وجسورها ، ولا يقبل مطل أهلها يريد البغي ، فإذا فعل هذا فيها عمرت وإن عمل فيها بخلافه خربت.

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : لما استبطأ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، في الخراج كتب إليه : أن ابعث إليّ رجلا من أهل مصر ، فبعث إليه رجلا قديما من القبطة فاستخبره عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه عن مصر وخراجها قبل الإسلام فقال : يا أمير المؤمنين مصر كان لا يؤخذ منها شيء إلا بعد عمارتها ، وعاملك لا ينظر إلى العمارة ، وإنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريدها إلا لعام واحد ، فعرف عمر رضي‌الله‌عنه ما قال ، وقبل من عمرو ما كان يعتذر به.

وقال عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه للمقوقس : أنت وليت مصر فبم تكون عمارتها؟ فقال : بخصال أن تحفروا خلجانها ، وتسدّ جسورها وترعها ، ولا يؤخذ خراجها إلا من غلتها ، ولا يقبل مطل أهله ، ويوفي لهم بالشروط ، ويدر الأرزاق على العمال لئلا يرتشوا ، ويرتفع عن أهله المعاون والهدايا ، ليكون قوّة لهم ، فبذلك تعمر ويرجى خراجها.

ويقال : إن ملوك مصر من القبط كانوا يقسمون الخراج أربعة أقسام : قسم لخاصة الملك ، وقسم لأرزاق الجند ، وقسم لمصالح الأرض ، وقسم يدخر لحادثة تحدث فينفق فيها.

ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب خراج مصر ، لهشام بن عبد الملك خرج بنفسه ، فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل ، فوجد فيها مائة ألف ألف فدّان ، والباقي استبحر وتلف ، واعتبر مدّة الحرث ، فوجدها ستين يوما ، والحرّاث يحرث خمسين فدّانا ، وكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث.

ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل

قال ابن وصيف شاه : وكان منقاوس (١) قسم خراج البلاد أرباعا ، فربع للملك خاصة يعمل فيه ما يريد ، وربع ينفق في مصالح الأرض وما تحتاج إليه من عمل الجسور وحفر

__________________

(١) منقاوس : ويقال : منقاوش بن شداق بن قفطريم من ملوك القبط أول من عمل له الحمّام بمصر. صبح الأعشى ٣ / ٤٧١.

١٤١

الخلج وتقوية أهلها على العمارة ، وربع يدفن لحادثة تحدث أو نازلة تنزل ، وربع للجند ، وكان خراج البلد ذلك الوقت مائة ألف ألف وثلاثة آلاف ألف دينار وقسمها على مائة وثلاث كور بعدّة الآلاف.

ويقال : إن كل دينار عشرة مثاقيل من مثاقيلنا الإسلامية وهي اليوم : خمس وثمانون كورة. أسفل الأرض : خمس وأربعون كورة ، والصعيد : أربعون كورة ، وفي كل كورة كاهن يدبرها ، وصاحب حرب وارتفع مال البلد على يد ندارس بن صا مائة ألف ألف دينار وخمسين ألف ألف دينار ، وفي أيام كلكن بن خربتا بن ماليق بن ندارس مائة ألف ألف دينار وبضعة عشر ألف ألف دينار ولما زالت دولة القبط الأولى من مصر وملكها العمالقة اختل أمرها ، وكان فرعون الأوّل يجبيها تسعين ألف ألف دينار يخرج من ذلك عشرة آلاف ألف دينار لأولياء الأمر والجند والكتّاب ، وعشرة آلاف ألف دينار لمصالح فرعون ، ويكنزون لفرعون خمسين ألف ألف دينار.

وبلغ خراج مصر في أيام الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف عليه‌السلام ، سبعة وتسعين ألف ألف دينار ، فأحب أن يتمه مائة ألف ألف دينار ، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح جسور البلد ، والزيادة في استنباط الأرض حتى بلغ ذلك وزاد عليه.

وقال ابن دحية : وجبيت مصر في أيام الفراعنة فبلغت تسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل في مثقالنا المعروف الآن بمصر الذي هو : أربعة وعشرون قيراطا ، كل قيراط : ثلاث حبات من قمح ، فيكون بحساب ذلك مائتي ألف ألف وسبعين ألف ألف دينار مصرية.

وذكر الشريف الجوّاني (١) : أنه وجد في بعض البرابي بالصعيد مكتوبا باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية مبلغ ما كان يستخرج لفرعون يوسف عليه‌السلام ، وهو الريان بن الوليد من أموال مصر بحق الخراج مما يوجبه الخراج ، وسائر وجوه الجبايات لسنة واحدة على العدل والإنصاف ، والرسوم الجارية من غير تأوّل ولا اضطهاد ولا مشاحة على عظيم فضل كان في يد المؤدي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان نظرا للعاملين وتقوية لحالهم من العين أربعة وعشرون ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ، وذكر ما فيه كما في خبر الحسن بن علي الأسدي.

وقال الحسن بن علي الأسدي : أخبرني أبي قال : وجدت في كتاب قبطي باللغة

__________________

(١) الشريف الجواني : محمد بن أسعد بن علي العبيدي العلوي شرف الدين الجواني المالكي عالم بالأنساب أصله من الموصل ومولده ووفاته بمصر ولي نقابة الأشراف. له كتاب (تاج الأنساب). ولد سنة ٥٢٥ ه‍ وتوفي سنة ٥٨٨ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٣١.

١٤٢

الصعيدية ، مما نقل إلى اللغة العربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون مصر بحق الخراج الذي يوجد وسائر وجوه الجبايات لسنة كاملة على العدل والإنصاف والرسوم الجارية من غير اضطهاد ولا مناقشة على عظيم فضل كان في يد المؤدّي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان رفقا بالمعاملين وتقوية لهم من العين أربعة وعشرين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار من جهات مصر ، وذلك ما يصرف في عمارة البلاد لحفر الخلج وإتقان الجسور ، وسدّ الترع وإصلاح السبل ، والساسة ثم في تقوية من يحتاج التقوية من غير رجوع عليه بها لإقامة العوامل والتوسعة في البدار وغير ذلك ، وثمن الآلات وأجرة من يستعان به من الأجراء لحمل الأصناف ، وسائر نفقات تطريق أراضيهم من العين ثمانمائة ألف دينار ، ولما يصرف في أرزاق الأولياء الموسومين بالسلاح وحملته والغلمان ، وأشياعهم مع ألف كاتب موسومين بالدواوين سوى أتباعهم من الخزان ، ومن يجري مجراهم وعدّتهم مائة ألف وأحد عشر ألف رجل من العين ثمانية آلاف ألف دينار ، ولما يصرف في الأرامل ، والأيتام فرضا لهم من بيت المال ، وإن كانوا غير محتاجين إليه حتى لا تخلو آمالهم من برّ يصل إليهم من العين أربعمائة ألف دينار ، ولما يصرف في كهنة برابيهم ، وأئمتهم وسائر بيوت صلواتهم من العين مائة ألف دينار ، ولما يصرف في الصدقات ، وينادى في الناس : برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة ، فليحضر فلا يرد عند ذلك أحد ، والأمناء جلوس فإذا رؤي رجل لم تجر عادته بذلك أفرد بعض قبض ما يقبضه ، حتى إذا فرّق المال ، واجتمع من هذه الطائفة عدّة دخل أمناء فرعون إليه وهنوه بتفرقة المال ، ودعوا له بالبقاء والسلامة وأنهوا حال الطائفة المذكورة ، فيأمر بتغيير شعثها بالحمام واللباس ، وبمدّ الأسمطة ، ويأكلون ويشربون ، ثم يستعلم من كلواحد سبب فاقته ، فإن كان من آفة الزمان ردّ عليه مثل ما كان وأكثر ، وإن كان عن سوء رأي وضعف تدبير ضمه إلى من يشرف عليه ، ويقوم بالأمر الذي يصلح له من العين مائتا ألف دينار.

فذلك جملة ما تبين ، وفصل في هذه الجهات المذكورة من العين تسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف دينار ، ويحصل بعد ذلك ما يتسلمه فرعون في بيوت أمواله عدّة لنوائب الدهر ، وحادثات الزمان من العين أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار.

وقيل لبعضهم : متى عقدت مصر تسعين ألف ألف دينار؟ قال : في الوقت الذي أرسل فرعون بويبة قمح إلى أسفل الأرض وإلى الصعيد فلم يجد لها موضعا تبذر فيه لشغل جميع البلاد بالعمارة.

ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج

وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

قال زهير بن معاوية : حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٤٣

«منعت العراق درهمها وقفيزها (١) ، ومنعت الشام مدّها (٢) ودينارها ، ومنعت مصر إردبها (٣) وعدتم من حيث بدأتم». قال أبو عبيد : قد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لم يكن ، وهو في علم الله كائن فخرّج لفظه على لفظ الماضي لأنه ماض في علم الله وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه ، ما دل على إثبات نبوّته ، ودل على رضاه من عمر رضي‌الله‌عنه ما وظفه على الكفرة من الخراج في الأمصار.

وفي تفسير المنع وجهان : أحدهما : أنه علم أنهم سيسلمون ويسقط عنهم ما وظف عليهم ، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم ، يدل عليه قوله : «وعدتهم من حيث بدأتم». وقيل معناه : أنهم يرجعون عن الطاعة ، والأوّل أحسن.

وقال ابن عبد الحكم عن عبيد الله لن لهيعة : لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبيّ ولا شيخ على دينارين دينارين ، فأحصوا ذلك ، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.

وعن هشام بن أبي رقية اللخميّ : أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر : إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته ، وإنّ قبطيا من أرض الصعيد يقال له : بطرس ، ذكر لعمرو : إن عنده كنزا فأرسل إليه فسأله ، فأنكر ، وجحد فحبسه في السجن ، وعمرو يسأل عنه : هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا : لا ، إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور ، فأرسل عمرو إلى بطرس ، فنزع خاتمه ، ثم كتب إلى ذلك الراهب : أن ابعث إليّ بما عندك ، وختمه بخاتمه ، فجاء الرسول بقلّة شامية مختومة بالرصاص ، ففتحها عمرو ، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها : (ما لكم تحت الفسقية (٤) الكبيرة) فأرسل عمرو إلى الفسقية ، فحبس عنها الماء ، ثم قلع البلاط الذي تحتها ، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مصريا مضروبة ، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد ، فأخرج القبط كنوزهم شفقا أن يبغي على أحد منهم ، فيقتل كما قتل بطرس.

وعن يزيد بن أبي حبيب : أن عمرو بن العاص ، استحل مال قبطيّ من قبط مصر لأنه

__________________

(١) القفيز : من المكاييل مقداره ثمانية مكاكيك. ومن الأرض قدر مائة وأربع وأربعون ذراعا. القاموس المحيط.

(٢) المدّ ، بالضم : مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدّ يديه بهما.

(٣) الإردب : مكيال يضم أربعة وعشرون صاعا أو ست ويبات والصاع يساوي ٧٥ ، ٢ لتر. صبح الأعشى ٣ / ٥١٢.

(٤) الفسقية : حوض من الرخام.

١٤٤

استقرّ عنده أنه يظهر الروم على عورات المسلمين ، ويكتب إليهم بذلك ، فاستخرج منه بضعا وخمسين أردبا دنانير.

قال ابن عبد الحكم : وكان عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه ، يبعث إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه ، وكانت فريضة مصر لحفر خلجها ، وإقامة جسورها ، وبناء قناطرها ، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا معهم الطور والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفا ولا شتاء ، ثم كتب إليه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : أن تختم في رقاب أهل الذمّة بالرصاص ، ويظهروا مناطقهم ، ويجزوا نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضا ، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرتعليه الموسى ، ولا يضربوا على النساء ، ولا على الولدان ، ولا تدعهم يتشبهون بالمسلمين في ملبوسهم.

وعن يزيد بن أسلم : أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كتب إلى أمراء الأجناد : أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ، وجزيتهم أربعون درهما على أهل الورق ، وأربعة دنانير على أهل الذهب ، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدّان من حنطة ، وثلاثة أقساط من زيت في كل شهر لكل إنسان من أهل الشام ، والجزيرة ، وودك (١) وعسل لا أدري كم هو ، ومن كان من أهل مصر ، فأردب في كل شهر لكل إنسان ، ولا أدري كم الودك والعسل ، وعليهم من البز الكسوة التي يكسوها أمير المؤمنين الناس ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا لكل إنسان ، ولا أدري كم لهم من الودك ، وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان ، وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية ، وكانت ويبة عمر في ولاية عمرو بن العاص : ستة أمداد.

قال : وكان عمرو بن العاص ، لما استوثق له الأمر أقرّ قبطها على جباية الروم ، فكانت جبايتهم بالتعديل إذا عمرت القرية ، وكثر أهلها زيد عليهم ، وإن قل أهلها وخربت نقصوا ، فيجتمع عرّافوا كل قرية وأمراءها ورؤساء أهلها فيتناظرون في العمارة والخراب حتى إذا أقرّوا من القسم بالزيادة انصرفوا بتلك القسمة إلى الكور ، ثم اجتمعوا هم ورؤساء القرى ، فوزعوا ذلك على احتمال القرى وسعة المزارع ، ثم يجتمع كل قرية بقسمهم فيجمعون قسمهم وخراج كل قرية ، وما فيها من الأرض العامرة ، فيبتدئون ويخرجون من الأرض فدّادين لكنائسهم وحماياتهم ومعدياتهم من جملة الأرض ، ثم يخرج منها عدد الضيافة للمسلمين ، ونزول السلطان فإذا فرغوا نظروا لما في كل قرية من الصناع والأجراء فقسموا عليهم بقدر احتمالهم ، فإن كانت فيهم جالية قسموا عليها بقدر احتمالها ، وقلما كانت تكون إلا لرجل الشاب أو المتزوج ثم ينظرون ما بقي من الخراج ، فيقسمونه بينهم

__________________

(١) الودك : الدّسم.

١٤٥

على عدد الأرض ، ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع منهم على قدر طاقتهم ، فإنن عجز أحد منهم وشكا ضعفا عن زرع أرضه ، وزعوا ما عجز عنه على ذوي الاحتمال ، وإن كان منهم من يريد الزيادة أعطي ما عجز عنه أهل الضعف ، فإن تشاحوا قسموا ذلك على عدّتهم ، وكانت قسمتهم على قراريط الدنانير أربعة وعشرين قيراطا (١) يقسمون الأرض على ذلك.

ولذلك روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلها خيرا».

وجعل لكل فدان عليهم : نصف أردب قمح ، وويبتين من شعير إلا القرظ (٢) فلم يكن عليه ضريبة ، والويبة ستة أمداد ، وكان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يأخذ ممن صالحه من المعاهدين ما سمى على نفسه لا يضع من ذلك شيئا ، ولا يزيد عليه ، ومن نزل منهم على الجزية ولم يسم شيئا يؤدّيه نظر عمر في أمره فإذا احتاجوا خفف عنهم ، وإن استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم.

وقال هشام بن أبي رقية اللخمي : قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه فقال له : أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها؟ فقال عمرو ، وهو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم ، وإن خفف عنا خففنا عنكم ، ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة.

وعن يزيد بن أبي حبيب قال : قال عمر بن عبد : العزيز أيّما ذميّ أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله ، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين ، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم.

وقال الليث : كتب إليّ يحيى بن سعيد : أن ما باع القبط في جزيتهم ، وما يؤخذون به من الحق الذي عليهم من عبد أو وليدة أو بعير أو بقرة أو دابة فإن ذلك جائز عليهم ، فمن ابتاعه منهم فهو غير مردود عليهم أن أيسروا وما أكروا من أرضهم فجائز كراؤه إلا أن يكون يضر بالجزية التي عليهم فلعل الأرض إن ترد عليهم أن أضرت بجزيتهم وإن كان فضلا بعد الجزية ، فإنا نرى كراءها جائزا لمن يكراها منهم.

قال يحيى : فنحن نقول : الجزية جزيتان : جزية على رؤوس الرجال ، وجزية جملة

__________________

(١) القيراط : يختلف وزنه بحسب البلاد ، في مكة ربع سدس دينار ، في العراق نصف عشره ، يعادل وزنه ثلاث حبات من الذهب. القاموس المحيط.

(٢) القرظ : بالظاء ثمر السنط يعتصر منه الأقاقيا. والقرط بالطاء نوع من الكراث يعرف بكراث المائدة.

وبالضم نبات كالرطبة.

١٤٦

تكون على أهل القرية يؤخذ بها أهل القرية ، فمن هلك من أهل القرية التي عليهم جزية مسماة على القرية ليست على رؤوس الرجال ، فإنا نرى أنّ من هلك من أهل القرية ممن لا ولد له ولا وارث إن أرضه ترجع إلى قريته في جملة ما عليهم من الجزية ، ومن هلك ممن جزيته على رؤوس الرجال ، ولم يدع وارثا فإن أرضه للمسلمين.

وقال الليث عن عمر بن العزيز : الجزية على الرءوس وليست على الأرضين ، يريد أهل الذمّة.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح : أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم ، وهذا يدل على أنّ عمر كان يرى أنّ أرض مصر فتحت عنوة ، وأن الجزية إنما هي على القرى ، فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئا. قال : ويحتمل أن تكون مصر فتحت بصلح فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم ممن صالحوا عليه شيئا.

قال الليث : وضع عمر بن عبد العزيز الجزية على من أسلم من أهل الذمّة من أهل مصر ، وألحق في الديوان صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه ، وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم ، وأوّل من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمّة : الحجاج بن يوسف ، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان : أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة ، فكلمه ابن حجيرة في ذلك فقال : أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أوّل من سنّ ذلك بمصر ، فو الله إن أهل الذمّة ليتحملون جزية من ترهب منهم ، فكيف نضعها على من أسلم منهم فتركهم عند ذلك.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح : أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة ، فإن الله تبارك وتعالى قال : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة / ٥] ، وقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة / ٢٩].

وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد : فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينارا تمت بها عطاء أهل الديوان ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل ، فكتب إليه عمر : أما بعد : فقد بلغني كتابك ، وقد وليتك جند مصر ، وأنا عارف بضعفك ، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا ، فضع الجزية عن من أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا ، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.

١٤٧

قال : ولما استبطأ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه الخراج من قبل عمرو بن العاص كتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة ، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوّة في برّ وبحر ، وأنها قد عالجتها الفراعنة ، وعملوا فيها عملا محكما مع شدّة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك ، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدّي نصف ما كانت تؤدّيه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ، ولا جدب ، وقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج ، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ، ورجوت أن تفيق فترفع إليّ ذلك ، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك ، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي ، وقبضك ، فلئن كنت مجرّبا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة ، وإن كنت مضيعا نطعا إن الأمر لعلى غير ما تحدّث به نفسك ، وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق ، فترفع إليّ ذلك وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن أعمالك عمال السوء ، وما توالس عليك وتلفف اتخذوك كهفا ، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه ، فإن النهر يخرج الدرّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج ، فإنه قد برح الخفاء والسلام.

فكتب إليه عمرو بن العاص : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلام الله عليك ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فقد بلغني كتابك أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج والذي ذكر فيها من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام ، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر ، والأرض أعمر لأنهم كانوا على كفرهم ، وعتوّهم أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام ، وذكرت أن النهر يخرج الدر ، فحلبتها حلبا قطع درها ، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر ، فجئت لعمري بالمقطعات المقدّعات ، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق ، ولقد عملنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمن بعده ، فكنا نحمد الله مؤدّين لأماناتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحا ، والعمل به شينا ، فتعرف ذلك لنا وتصدّق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شرّ الشيم ، والاجتراء على كل مأثم ، فامض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية ، والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ، ولم تكرم فيه أخا ، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشدّ غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما ، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقا ، ولكني حفظت ما لم تحفظ ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت ، يغفر الله لك ولنا ، وسكتّ عن أشياء كنت بها عالما وكان اللسان

١٤٨

بها مني ذلولا ، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.

فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج ، وكتابك إلى بثنيات الطرق ، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين ، ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ، ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج ، وحسن سياستك ، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين ، وعندي من قد تعلم قوم محصورون ، والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص : بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب ، من عمرو بن العاص سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أحيد عن الحق ، وأنكث عن الطريق ، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ، ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم ، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن نخرق بهم ، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه ، والسلام.

وقال الليث بن سعد رضي‌الله‌عنه : جباها عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه اثني عشر ألف ألف دينار ، وجباها المقوقس قبله لسنة عشرين ألف ألف دينار ، فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بما كتب ، وجباها عبد الله بن سعد بن سرح حين استعمله عثمان رضي‌الله‌عنه على مصر أربعة عشر ألف ألف دينار ، فقال عثمان لعمرو بن العاص بعد ما عزله عن مصر : (يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل). قال : أضررتم بولدها ، فقال : ذلك أن لم يمت الفصيل.

وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان (١) ، وكان قد ولي خراج مصر : أن زد على كل رجل من القبط قيراطا ، فكتب إليه وردان : كيف نزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم شيء؟ فعزله معاوية وقيل في عزل وردان غير ذلك.

وقال ابن لهيعة : كان الديوان في زمان معاوية أربعين ألفا ، وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين ، فأعطى مسلمة (٢) بن مخلد أهل الديوان عطياتهم ، وعطيات عيالهم ، وأرزاقهم ونوائب البلاد من الجسور ، وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز ، ثم بعث إلى معاوية بستمائة ألف دينار فضل.

__________________

(١) وردان : مولى عمرو بن العاص كان ذا فطنة ورأي.

(٢) مسلمة بن مخلد : أنصاري خزرجي من كبار الأمراء في صدر الإسلام. ولّاه معاوية إمارة مصر سنة ٤٧ ه‍ وتوفي سنة ٦٢ ه‍. أعلام ج ٧ / ٢٢٤.

١٤٩

وقال ابن عفير : فلما نهضت الإبل لقيهم برح بن كسحل المهري فقال : ما هذا؟ ما بال مالنا يخرج من بلادنا؟ ردّوه ، فردّوه حتى وقف على باب المسجد ، فقال : أخذتم عطياتكم ، وأرزاقكم وعطاء عيالكم ونوائبكم ، قالوا : نعم ، قال : لا بارك الله لهم فيه خذوه فساروا به.

وقال بعضهم : جبى عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار فكتب إليه عمر بن الخطاب بعجزه ، ويقول له جباية الروم : عشرون ألف ألف دينار فلما كان العام المقبل جباه عمرو اثني عشر ألف ألف دينار ، وقال ابن لهيعة : جبى عمرو بن العاص الإسكندرية الجزية ستمائة ألف دينار ، لأنه وجد فيها ثلاثمائة ألف من أهل الذمّة فرض عليهم دينارين دينارين ، والله تعالى أعلم.

ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

خرّج الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارا ولا درهما؟ قالوا : وكيف نرى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال : إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق والمصدوق ، قالوا : عم ذلك؟ قال : تنتهك ذمّته وذمّة رسوله فيشدّ الله عزوجل قلوب أهل الذمّة فيمنعون ما في أيديهم.

قال أبو عمرو محمد بن يوسف (١) الكنديّ في كتاب أمراء مصر ، وأمرة الحرّ (٢) بن يوسف أمير مصر كتب عبد الله بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك ، بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة ، فزاد على كل دينار قيراطا ، فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية ، وعامة الحوف الشرقيّ ، فبعث إليهم الحر بأهل الديوان ، فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير ، وذلك أول انتقاض القبط بمصر ، وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة ، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ، ثم انتقض أهل الصعيد ، وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة ، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر ، أهل الديوان ، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا ، وظفر بهم وخرج ـ بخنس ـ رجل من القبط في سمنود ، فبعث إليه عبد الملك بن مروان : موسى بن نصير أمير مصر ، فقتل ـ بخنس ـ في كثير من أصحابه ، وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وخالفت القبط برشيد.

فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارا من بني العباس ، بعثمان بن

__________________

(١) راجع ص ١١ حاشية رقم (١).

(٢) هو الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم الأموي القرشي ولّاه هشام بن عبد الملك على مصر بعد عزل محمد بن عبد الملك سنة ١٠٦ ه‍ ، ثم ولي الموصل وتوفي سنة ١١٣ ه‍. النجوم الزاهرة ج ١ / ٣٢٩.

١٥٠

أبي قسعة ، فهزمهم ، وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ، ونابذوا العمال وأخرجوهم ، وذلك في سنة خمسين ومائة ، وصاروا إلى شبرا سنباط ، وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم ، فأتى الخبر يزيد بن حاتم ، فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ، ووجوه مصر ، فخرجوا إليهم فبتهم القبط ، وقتلوا من المسلمين. فألقى المسلمون النار في عسكر القبط ، وانصرف المسلمون إلى مصر منهزمين.

وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر خرج القبط ببلهيب في سنة ست وخمسين ومائة ، فخرج إليهم عسكر فهزمهم ، ثم انتقضوا مع من انتقض في سنة ست عشرة ومائتين ، فأوقع بهم الأفشين في ناحية اليشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين ، عبد الله المأمون ، فحكم فيهم بقتل الرجال ، وبيع النساء والأطفال. فبيعوا وسبى أكثرهم.

ومن حينئذ أذل الله القبط في جميع أرض مصر ، وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ، ولا القيام على السلطان ، وغلب المسلمون على القرى ، فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الإسلام وأهله بإعمال الحيلة ، واستعمال المكر ، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج ، وكان للمسلمين فيهم وقائع يأتي خبرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع

معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

قال الكندي : وفي ولاية الوليد بن رفاعة الفهميّ (١) على مصر ، نقلت قيس إلى مصر في سنة تسع ومائة ، ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان ، فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك ، فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتا ، فأذن له هشام في لحاق ثلاثة آلاف منهم ، وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط ، فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقيّ ، وفرّقهم فيه.

ويقال : إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال : ما أرى لقيس فيها حظا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان. فكتب إلى هشام : إنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد شرّف هذا الحيّ من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإني قدمت مصر ، ولم أر لهم حظا إلا أبياتا من فهم ، وفيها كور ليس فيها أحد ، وليس يضر بأهلها نزولهم

__________________

(١) ولّاه هشام بن عبد الملك إمرة مصر بعد وفاة أخيه سنة ١٠٩ وكانت وفاته سنة ١١٧ ه‍. النجوم الزاهرة ج ١ / ٣٥٤.

١٥١

معهم ، ولا يكسر ذلك خراجا وهي بلبيس. فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزلها هذا الحي من قيس ، فليفعل.

فكتب إليه هشام : أنت وذاك ، فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بني نضر ، ومائة أهل بيت من بني سليم ، فأنزلهم بلبيس ، وأمرهم بالزرع ، ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم ، فاشتروا إبلا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم ، وكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر ، ثم أمرهم باشتراء الخيول فجعل الرجل يشتري المهر ، فلا يمكث إلّا شهرا حتى يركب ، وليس عليهم مؤونة في علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم.

فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية ، فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة أهل بيت ، فصار ببلبيس : ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس ، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد ، وولى الحوثرة بن سهيل الباهلي مصر. مالت إليه قيس فمات مروان ، وبها ثلاث آلاف أهل بيت ، ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم.

وفي سنة ثمان وسبعين ومائة ، كشف إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس أمير مصر أمر الخراج ، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم ، فخرج عليهم أهل الحوف وعسكروا فبعث إليهم الجيوش ، وحاربهم فقتل من الجيش جماعة ، فكتب إلى أمير المؤمنين : هارون الرشيد يخبره بذلك ، فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم ، وبعث به إلى مصر ، فنزل الحوف وتلقاه أهله بالطاعة ، وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله ، ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودي أمير مصر ، وذلك أنه بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم ، فانتقصوا من القصبة (١) أصابع فتظلم الناس إلى الليث ، فلم يسمع منهم فعسكروا ، وساروا إلى الفسطاط ، فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ست وثمانين ومائة ، فالتقى معهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ثاني عشره وبقي في نحو المائتين ، فحمل بمن معه على أهل الحوف ، فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة ، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة ، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا من رؤوس القيسية ، ورجع إلى الفسطاط ، وعاد أهل الحوف إلى منازلهم ، ومنعوا الخراج.

فخرج ليث إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد في محرم سنة سبع وثمانين ومائة ، وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه ، وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد ، فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر

__________________

(١) القصبة : وحدة مساحة وهي خمسة أذرع بذراع النجار حوالي ٢٤ متر مربع.

١٥٢

عن آخره بلا سوط ولا عصا ، فولاه الخراج ، وصرف ليث بن الفضل عن صلاة مصر ، وخراجها ، وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج ، فبعث أمير المؤمنين هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم فنزل بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة ، وصرف الحسين بن جميل عن أمارة مصر في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة.

وولى مالك بن دلهم ، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف ، وقدم الفسطاط في جمادى الآخرة ، فورد عليه كتاب الرشيد ، يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف : أن اقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم ، وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم ، فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية ، وقد أعدّ لهم القيود فأمر بالأبواب ، فأخذت ثم دعا بالحديد ، فقيدهم وتوجه بهم للنصف من رجب منها.

وفي أمارة عيسى بن يزيد الجلوديّ على مصر ظلم ، صالح بن شيرزاد عامل الخراج الناس ، وزاد عليهم في خراجهم ، فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا ، فبعث عيسى بابنه محمد في جيش لقتالهم ، فنزل بلبيس ، وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه ، ولم ينج أحد من أصحابه وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين ، فعزل عيسى عن مصر.

وولى عمير بن الوليد التميميّ فاستعدّ لحرب أهل الحوف ، وسار في جيوشه في ربيع الآخر ، فزحفوا عليه واقتتلوا ، فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا ، فتبعهم عمير في طائفة من أصحابه ، فعطف عليه كمين لأهل الحوف ، فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر.

فولى عيسى الجلودي ثانيا ، وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر فكانت بينهم وقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط ، وأحرق ما ثقل عليه من رحله ، وخندق على الفسطاط وذلك في رجب ، وقدم أبو إسحاق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف ، وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته ، فقاتلهم في شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط في شوال ، ثم عاد إلى العراق في المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى. فلما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد ، وقبطها وأخرجوا العمال ، وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم ، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين ، فسخط على عيسى بن منصور الرافقي ، وكان على أمارة مصر وأمر بحل لوائه ، وأخذه بلباس البياض عقوبة له. وقال : لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك ، حملتم الناس ما لا يطيقون ، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد.

ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد ، وارتحل هو إلى سخا ، وبعث

١٥٣

بالأفشين (١) إلى القبط وقد خلعوا الطاعة ، فأوقع بهم في ناحية البشرود ، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين ، فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال ، وبيع النساء والأطفال ، فسبى أكثرهم ، وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف ، فقتل ناسا كثيرا ، ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان ، وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر ، وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار.

ويقال : إن المأمون ، لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله ، وكان يقيم في القرية يوما وليلة ، فمرّ بقرية يقال لها : طاء النمل ، فلم يدخلها لحقارتها ، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح ، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة ، فوقف لها وكان لا يمشي أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس ، فذكروا له إن القبطية قالت : يا أمير المؤمنين ، نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي ، والقبط تعيرني بذلك ، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ، ولعقبي ، ولا تشمت الأعداء بي ، وبكت بكاء كثيرا. فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ ، وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة ، وغير ذلك مما جرت به عادته ، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة.

وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس ، وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود ، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ، ولم تكل أحدا منهم ولا من القوّاد إلى غيره ، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئا كثيرا ، حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح ، وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد. قال لمن حضر : قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت : لا والله لا أفعل فتأمّل الذهب ، فإذا به ضرب عام واحد كله ، فقال : هذا والله أعجب ، ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت : يا أمير المؤمنين ، لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا ، فقال : إن في بعض ما صنعت لكفاية ، ولا نحب التثقيل عليك فردّي مالك بارك الله فيك ، فأخذت قطعة من الأرض وقالت : يا أمير المؤمنين ، هذا وأشارت إلى الذهب ، من هذا وأشارت إلى الطينة التي

__________________

(١) الأفشين : بالأصل لقب على الملك بأشروسنة. وقد لقب به المعتصم بالله حيدر بن كاووس لأنه أشروسني. صبح الأعشى ج ٥ / ٤١٥.

١٥٤

تناولتها من الأرض ، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها ، وأقطعها عدّة ضياع ، وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج ، وانصرف متعجبا من كبر مروءتها وسعة حالها.

ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط

ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك

إلى الروك الأخير الناصري

وكان من خبر أراضي مصر بعد نزول العرب بأريافها واستيطانهم وأهاليهم فيها واتخاذهم الزرع معاشا وكسبا وانقياد جمهور القبط إلى إظهار الإسلام واختلاط أنسابهم بأنساب المسلمين لنكاحهم المسلمات ، أنّ متولي خراج مصر كان يجلس في جامع عمرو بن العاص من الفسطاط في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي ، وقد اجتمع الناس من القرى والمدن فيقوم رجل ينادي على البلاد صفقات صفقات ، وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما ينتهي إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس ، وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين لأجل الظمأ والاستبحار ، وغير ذلك فإذا انقضى هذا الأمر ، خرج كل من كان تقبل أرضا وضمنها إلى ناحيته فيتولى زراعتها ، وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله ، ومن ينتدبه لذلك ، ويحمل ما عليه من الخراج في إبائه على أقساط ويحسب له من مبلغ قبالته ، وضمانه لتلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها وسدّ تراعها وحفر خلجها بضرائب مقدّرة في ديوان الخراج ، ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جهات الضمان والمتقبلين.

يقال : لما تأخر من مال الخراج البواقي وكانت الولاة تشدّد في طلب ذلك مرّة وتسامح به مرّة ، فإذا مضى من الزمان ثلاثون سنة حوّلوا السنة ، وراكوا البلاد كلها ، وعدّلوها تعديلا جديدا ، فزيد فيما يحتمل الزيادة من غير ضمان البلاد ، ونقص فيما يحتاج إلى التنقيص منها ، ولم يزل ذلك يعمل في جامع عمرو بن العاص إلى أن عمّر أحمد بن طولون جامعه وصار العسكر منزلا لأمراء مصر. فنقل الديوان إلى جامع أحمد بن طولون ، ثم نقل أيام العزيز بالله نزار إلى دار الوزير يعقوب بن كلس ، فلما مات الوزير نقل الديوان إلى القصر بالقاهرة ، واستمرّ به مدّة الدولة الفاطمية ، ثم نقل منه بعدها وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما يتضح به ما ذكرت.

قال ابن ذولاق في كتاب أخبار الماردانيين كتاب مصر : وحضر أبو الحسن وهب بن إسماعيل ، مجلس أبي بكر بن عليّ المارداني في المسجد الجامع ، وهو يعقد الضياع ، فقال له أبو بكر : الساعة آمر بالنداء على صفقة فخذها شركة بيني وبينك ، فنودي على صفقة ، فقال أبو بكر : اعقدوها على أبي الحسن ، فعقدت عليه ، وتحملها فأفضلت له

١٥٥

أربعين ألف دينار فاستنض عشرين ألف دينار ، ولم يدر ما يعمل فيها إلى أن اجتمع مع أبي يعقوب ـ كاتب أبي بكر ـ ليتحدثا ، فقال أبو يعقوب : رأيت الشيخ ـ يعني أبا بكر الماردانيّ ـ في اليوم مشغول القلب أراد جمع مال ، وقد عجز عنه ، فقال له أبو الحسن : عندي نحو عشرين ألف دينار ، فقال : جئني بها فأنفذها إليه ، وجاءه خطه بالمبلغ فاتفق أن مضى أبو الحسن إلى أبي بكر الماردانيّ ، فقال له : تلك الصفقة قد غلقت ما عليها وفضل أربعون ألف دينار ، وقد حصل عندي عشرون ألف دينار حملتها إلى أبي يعقوب ، وأرسلت في استخراج الباقي فأحمله ، فقال الماردانيّ : ما هذا العجز؟ إنما قلت لك : تكون بيني وبينك خوفا من تفريطك ، وإنما أردت حفظ المال عليك ثم أمر أبا يعقوب أن يردّ عليه ما دفعه إليه ، وقال لأبي الحسن : ردّ عليه خطه فقبض ما دفعه إلى أبي يعقوب.

وبلغ خراج مصر في السنة التي دخل فيها جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفا. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله : معدّ ولست عشرة بقيت من المحرّم سنة ثلاث وستين وثلثمائة ، قلد المعز لدين الله الخراج ، ووجوه الأموال ، وغير ذلك : يعقوب بن كلس ، وعسلوج بن الحسن ، وجلسا في هذا اليوم في دار الإمارة في جامع ابن طولون للنداء على الضياع ، وسائر وجوه الأموال ، وحضر الناس للقبالات ، وطلبوا البقايا من الأموال مما على المالكين والمتقبلين والعمال.

وقال جامع سيرة الوزير الناصر للدين الحسن بن عليّ اليازوري (١) : وأراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما ، فتقدّم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه ، وما عليه من النفقات ، فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس ، وهو زمام الدواوين فنظم عليه عملا جامعا وأحضره إياه ، فرأى ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار ، منها الشام ألف ألف دينار ونفقاته بإزاء ارتفاعه ، ومنها الريف وباقي الدولة ألف ألف دينار يقف منها عن معلول ومنكسر على موتى وهرّاب ومفقود مائتا ألف دينار ويبقى ثمانمائة ألف دينار يصرف منها للرجال عن واجباتهم وكساويهم ثلثمائة ألف دينار ، وعن ثمن غلة للقصور مائة ألف دينار ، وعن نفقات القصور مائتا ألف دينار ، وعن عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم مائة ألف دينار ، ويبقى بعد ذلك مائة ألف دينار حاصله يحملها كل سنة إلى بيت المال المصون ، فحظي بذلك عند سلطانه وخف على قلبه. قال : وانتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأوّل ، يعني بعد موت البازوري وحدوث الفتن ، وهو قبل سني هذه الفتن يعني في أيام البازوري ستمائة ألف دينار كانت تحمل في دفعتين في السنة في مستهل رجب ثلاثمائة ألف دينار ،

__________________

(١) ولد في فلسطين واتصل بالمستنصر الفاطمي صاحب مصر فاستوزره سنة ٤٤٢ ه‍ وجعله قاضي القضاة ولقبه سيد الوزراء ، وكان من الدهاة. قتله المستنصر سنة ٤٥٠ ه‍. الأعلام ج ٢ / ٢٠٢.

١٥٦

وفي مستهل المحرّم بثلاثمائة ألف دينار ، فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات.

وقال ابن ميسرة : وأمر الأفضل بن أمير الجيوش بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر ، فجاء خمسة آلاف دينار وكان متحصل الأهراء ألف ألف أردب ، وقال الأمير جمال الدين والملك موسى بن المأمون البطائحيّ في تاريخه من حوادث سنة إحدى وخمسمائة ثم رأى القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحي من اختلال أحوال الرجال العسكرية والمقطعين ، وتضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها ، وساءت أحوالهم لقلة المتحصل منها وإن إقطاعات الأمراء قد تضاعف ارتفاعها ، وازدادت عن غيرها ، وإن في كل ناحية من الفواضل للديوان جملة تجيء بالعسف ، وبتردّد الرسل من الديوان الشريف بسببها ، فخاطب الأفضل ابن أمير الجيوش : في أن يحل الإقطاعات جميعها ويروكها وعرّفه أن المصلحة في ذلك تعود على المقطعين والديوان لأنّ الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد مقورة ، فأجاب إلى ذلك ، وحلّ جميع الإقطاعات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون ، ويذكرون أن لهم بساتين وأملاكا ومعاصر في نواحيهم فقال له : من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء باعه ، وإن شاء آجره.

فلما حلت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم ، وكتبت السجلات بأنها باقية في أيديهم إلى مدّة ثلاثين سنة لا يقبل عليهم فيها زائد وأحضر الأقوياء وقال لهم : ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد؟ قالوا : كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها ، وقلة الساكن بها. فقال لهم : ابذلوا في كل ناحية ما تحمله ، وتقوى رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى ، فعند ذلك طابت نفوسهم ، وتزايدوا فيها إلى أن بلغت إلى الحدّ الذي رغب كل منهم فيه ، فأقطعوا به وكتب لهم السجلات على الحكم المتقدّم ، فشملت المصلحة الفريقين ، وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد مقورة بما كان مفرّقا في الإقطاعات بما مبلغه خمسون ألف دينار.

وقال في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة ، وكان قد تقدّم أمر الأجلّ المأمون بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجيّ ، وجعل نظمه على جملتين : إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة الهلالية الخراجية ، والجملة الثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة هلالية ، وما يوافقها من الخراجية فعقدت على جملة كثيرة من العين والأصناف ، وشرحت بأسماء أربابها ، وتعيين بلادها. فلما أحضرت أمر بكتب سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى آخر سنة عشر وخمسمائة ، ونسخته بعد التصدير.

ولما انتهى إلينا حال المعاملين ، والضمناء والمتصرفين وما في جهاتهم من بقايا معاملاتهم أنعمنا بما تضمنه هذا السجل من المسامحة قصدا في استخلاص ضامن طالت

١٥٧

غفلته ، وخربت ذمّته ، وإنقاذ عامل أجحف به من الديوان طلبته وتوفير الرغبة على عمارتها ، وجريها فيها على قديم عادتها ، ولما كان ذلك من جميل الأحدوثة التي لم نسبق إليها ولا شاركنا ملك فيها اقتضت الحال إيرادها في هذا الكتاب ، وإيداعها هذا الباب لما اطلعنا عليه مما انتهت إليه أحوال الضمناء والمعاملين بالمملكة من الاختلال وتجمد البقايا في جهاتهم ، والأموال عطفنا عليهم برأفة ورحمة وطالعنا المقام الأشرف النبويّ بالتفصيل من أمورهم والجملة واستخرجنا الأمر العالي بوضع ذلك في الحال وأنشأ السجلات الكريمة مقصورة على ذكر هذا الإحسان وتنفيذها إلى جميع البلدان ليقرأ على رؤوس الأشهاد بسائر البلاد ، ومبلغ ما انتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم هذا السجل من العين ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا ونصف وثلث وثلثان وربع قيراط ، ومن الفضة النقرة أربعة دراهم ، ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم ونصف وسدس درهم ، ومن الغلة ثلاثة آلاف ألف وثمان مائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون أردبا وثمن ونصف سدس وثلثي قيراط ، ومن العناب ربع أردب ، ومن ورق الصباغ ألفان وأربعمائة وثلاثة أرادب ونصف ، ومن زريعة الوسمة عشرة أرادب وربع ، ومن الصباغ ألف وأربعمائة وثمانون قنطارا ورطل ونصف ، ومن الفوّة أربعمائة وسبعون رطلا ، ومن الشب تسعمائة وثلاثة عشر قنطارا ونصف ، ومن الحديد خمسمائة رطل واحد وثلاثون رطلا ، ومن الزفت ألف وثلثمائة وثلاثة أرطال وربع وسدس ، ومن القطران تسعة عشر رطلا وثلث ، ومن الثياب الحلبيّ ثلاثة أثواب ، ومن المآزر مائة مئز صوف ، ومن الغرابيل مائة وسبعون غربالا ، ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة أرؤس ، ومن البسر ثلثمائة وثلاثة عشر قنطارا وثمانية وثلاثون رطلا ، ومن السحيل ثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفا وخمسمائة وخمسون باعا ، ومن الجريد أربعمائة ألف وثمانية وثلاثون ألفا وسبعمائة وثلاثة وخمسون جريدة ، ومن السلب ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون سلبة ، ومن الأطراف ستة آلاف وسبعمائة وثلاثة أطراف ، ومن الملح ألفان وسبعمائة وثلاثة وتسعون أردبا وثلث ، ومن الأشنان أحد عشر أردبا ، ومن الرمان ألفا حبة ، ومن العسل النحل خمسمائة واحد وأربعون قنطارا أو سدس ، ومن الشهد اثنان وثلاثون زيرا وقادوسا واحدا ، ومن الشمع أربعمائة وأربعون رطلا ، ومن الخلايا ثلاثة آلاف وأربعمائة وخليتان ، ومن عسل القصب مائة وثمانية وثلاثون قنطارا ، ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا ، ومن الدواب أربعة وسبعون رأسا ، ومن السمن ألفان وتسعمائة وستة وتسعون مطر أو سدس وثمن ، ومن الجبن ثلثمائة وعشرون رطلا ، ومن الصوف أربعة آلاف ومائة وثلاثة وعشرون جزة ، ومن الشعر ستة آلاف وخمسون رطلا وربع ، ومن بيوت الشعر بيتان ، وفصل ذلك بجهاته ومعاملاته. قال : ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة ، والتعب وتسليمها إلى

١٥٨

باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك ، ومنع من ارتكابه ونهى عن الولوج في بابه ، وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والمعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ، ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين ، وتضمن ذلك منشور قرىء في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر ، وديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين ونسخته بعد التصدير.

ولما انتهى إلى حضرتنا ما يعتمد في الدواوين ويقصده جماعة من المتصرفين والمستخدمين من تضمين الأبواب والرباع والبساتين والحمامات والقياسر والمساكن ، وغير ذلك من الضمانات للرّاغبين فيها ممن تستمرّ معاملته ، ولا تنكر طريقته فما هو إلا أن يحضر من يزيد عليه في ضمانه حتى قد نقض عليه حكم الضمان ، وقبل ما يبذل من الزيادة كائنا من كان وقبضت يد الضامن الأوّل عن التصرّف ، ومكن الضامن الثاني من التصرف من غير رعاية للعقد على الضامن الأول ، ولا تحرّز في فسخه الذي لا يبيحه الشرع ، ولا يتأوّل أنكرنا ذلك على معتمديه ، وذممنا من قصدنا عليه ومرتكبيه إذ كان للحق مجانبا وعن مذهب الصواب ذاهبا ، وعرضنا ذلك بالمواقف المقدّسة المطهرة ضاعف الله أنوارها وأعلى أبدا منارها واستخرجنا الأوامر المطاعة في كتب هذا المنشور إلى سائر الأعمال بأنه أيّ أحد من الناس ضمن ضمانا من باب ، أو ربع أو بستان أو ناحية أو كفر ، وكان لأقساط ضمانه مؤدّيا ، ولما يلزمه من ذلك مبديا ، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مؤدّيا ، ولما يلزمه من ذلك مبديا ، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مدّة ضمانه على العقد المعقود عملا بالواجب ، والنظام المحمود وإتباعا لما أمر الله تعالى به في كتابه المجيد إذ يقول جلّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة / ١] إلى أن تنقضي مدّة الضمان ، ويزول حكمها ويذهب وضعها ورسمها حملا على قضية الواجب وسننها ، واعتمادا على حكم الشريعة التي ما ضل من اهتدى بفرائضها وسننها.

فأما من ضمن ضمانا ولم يقم بما يجب عليه فيه وأصرّ على المدافعة والمغالطة التي لا يعتمدها إلا كل ذميم الطباع سفيه ، فذلك الذي فسخ حكم ضمانه بنقصه الشروط المشروطة عليه ، وحكمه حكم من إذا زيد عليه في ضمانه نقل عنه ، وأخرج من يديه لأنه الذي بدأ بالفسخ ، وأوجد السبيل إليه ، فليعتمد كافة أرباب الدواوين وجميع المتصرفين والمستخدمين العمل بما تضمنه هذا المشهور ، وامتثال المأمور وحمل هؤلاء الضمناء والمعاملين على ما نص فيه ، والحذر من تجاوزه وتعدّيه بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين ، وبحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى.

قال : ووصلته المكاتبة من الوالي والمشارف ، ومن كان ندب صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهره الكشف ، وأوضحته المساحة على من بيده السواقي ، وهم عدّة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها : ثلثمائة وستون فدّانا تشتمل على النخل والكرم

١٥٩

وقصب السكر بمدينة إسنا ، خراجها في السنة عشرة دنانير ، وما يجري في الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان على جميعها ، وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل على ما بأيديهم ، فذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها ، وقد سيروا أملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أمرهم ، وعند وصولهم أوقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن الأملاك بجملتها لا تقوم بما يجب عليها ، فوقف المذكورون للمأمون في يوم جلوسه للمظالم ، فأمر بحضورهم بين يديه ، وتقدّم إلى القاضي ، جلال الملك أبو الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربيّ وهو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى له معهم مفاوضة أوجبت الحق عليهم ، وألزمهم بالقيام بما يستغرق أموالهم وأملاكهم ، فحصل من تضرّرهم ما أوجب العاطفة عليهم ، وأخذهم بالخراج من بعد ، وأن يضرب عما تقدّم صفحا.

وكتب منشور نسخته : قد علم الكافة ما تراه من إفاضة سحب العدل عليهم ، والإحسان والنظر في مصالح كل قاص منهم ودان. وإنا لا ندع ضررا يتوجه إلى أحد من الرعية إلا حسمناه ، ولا نعلم صلاحا يعود نفعه عليه إلا قوينا سببه ، ووصلناه حسب ما يتعين على رعاة الأمم ، وعملا بالواجب في البعيد والأمم وسلوكا لمحجة الدولة الفاطمية خلد الله ملكها القويمة ، واستمرارا على قضاياها وسجاياها الكريمة ، ولما كنا نرى النظر في مصالح الرعايا أمرا واجبا ونصرف إلى سياستهم عزما ماضيا ، ورأيا ثاقبا. كذلك نرى النظر في أمور الدواوين واستيفاء حقوقها المصروفة إلى حماية البيضة ، والمحاماة عن الدين وجهاد الكفرة والملحدين ليكون ما نراعيه ، وننظر فيه جاريا على سنن الواجب محروسا من الخلل بإذن الله من جميع الجوانب ، ومن الله نستمدّ مواد التوفيق في الحل والعقد ، ونسأله الإرشاد إلى سواء السبيل والقصد ، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وكان القاضي الرشيد بن الزبير أيام مشارفته الصعيد الأعلى قد طالع المجلس الأفضليّ بحال أرباب الأملاك هناك ، وأنهم قد استضافوا إلى أماكنهم من أملاك الدواوين أراضي اغتصبوها ، ومواضع مجاورة لأملاكهم تعدّوا عليها ، وخلطوها بها وحازوها ، ورسم له كشفها ونظم المشاريج بها ، وارتجاعها للديوان. وأن يعتمد في ذلك ما يوجبه حكم العدل المثبت في كل قطر ومكان ، وبآخر ذلك سيرنا من الباب من يكشف ذلك على حقيقته ، وإنهائه على طيته فاعتمدوا ما أمروا به من الكشف في هذه الأملاك ، ووردت المطالعة منهم بأنهم التمسوا ممن بيده ملك أو ساقية ما يشهد بصحة ملكه ومبلغ فدنه ، وذكر حدوده ، فلم يحضر أحد منهم كتابا ولا أوضح جوابا ، وأصدروا إلى الديوان المشاريج بما كشفوه ، وأوضحوه فوجدوا التعدّي فيه ظاهرا وباب الحيف والظلم غير متقاصر ، والشرع يوجب وضع اليد على ما هذه حاله ومطالبة صاحبه بريعه ، واستغلاله ، لا سيما وليس بيده كتاب

١٦٠