كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

تقي الدين احمد بن علي المقريزي

كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزيّة - ج ١

المؤلف:

تقي الدين احمد بن علي المقريزي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

البحر قال : وكثيرا ما يوجد في نهر النيل التماسيح ، وإقبال النيل من أرض الحبشة ليس يختلف فيه أحد ، وعدّة أمياله من مخرجه المعروف إلى موقفه مائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثون ميلا.

وماء النيل عكر مرمل عذب وفيّ ، انتهى. والنيل إذا وصل إلى الجنادل كان عند انتهاء مراكب النوبة انحدار أو مراكب الصعيد إقلاعا. وهناك حجارة مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل. ثم يأخذ على الشمال فيكون على شرقيه أسوان من الصعيد الأعلى ، ويمرّ بين جبلين يكتنفان أعمال مصر أحدهما شرقيّ والآخر غربي ، حتى يأتي مدينة فسطاط مصر ، فتكون في بره الشرقيّ. فإذا تجاوز فسطاط مصر بمسافة يوم صار فرقتين : فرقة تمرّ حتى تصب في بحر الروم عند دمياط ، وتسمى هذه الفرقة : بحر الشرق ، والفرقة الأخرى هي : عمود النيل ومعظمه يقال لها : بحر الغرب تمرّ حتى تصب في بحر الروم أيضا عند رشيد ، وكانت مدينة كبيرة في قديم الزمان.

ويقال : إن مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب في البحر عند رشيد سبعمائة وثمانية وأربعون فرسخا. وأنه يجري في الخراب أربعة أشهر ، وفي بلاد السودان شهرين ، وفي بلاد الإسلام مسافة شهر.

وذهب بعضهم إلى أن زيادة ماء النيل إنما تكون بسبب المدّ الذي يكون في البحر فإذا فاض ماؤه تراجع النيل ، وفاض على الأراضي ووضع في ذلك كتابا حاصله : إن حركة البحر التي يقال لها المدّ والجزر ، توجد في كل يوم وليلة مرّتين ، وفي كل شهر قمريّ مرّتين ، وفي كل سنة مرّتين. فالمدّ والجزر اليوميّ تابع لقرص القمر ، ويخرج الشعاع عنه من جنبتي جرم الماء.

فإذا كان القمر وسط السماء كان البحر في غاية المدّ ، وكذا إذا كان القمر في وتد الأرض فإذا بزغ القمر طالعا من الشرق أو غرب كان الجزر. والمدّ الشهري يكون عند استقبال القمر للشمس في نصف الشهر ، ويقال له : الامتلاء أيضا عند الاجتماع ، ويقال له : السرار. والجزر يكون أيضا في وقتين عند تربيع القمر للشمس في سابع الشهر ، وفي ثاني عشريه.

والمدّ السنوي يكون أيضا في وقتين : أحدهما عند حلول الشمس آخر برج السنبلة ، والآخر عند حلول الشمس بآخر برج الحوت ، فإن اتفق أن يكون ذلك في وقت الامتلاء أو الاجتماع ، فإنه حينئذ يجتمع الامتلاءان الشهريّ والسنويّ ، ويكون عند ذلك البحر في غاية الفيض لا سيما إن وقع الاجتماع أو الامتلاء في وسط السماء ، ووقع مع النيرين أو مع أحدهما أحد الكواكب السيارة فإنه يعظم الفيض. فإن وقع كوكب فصاعدا مع أحد النيرين ، تزايد عظم الفيض ، وكانت زيادة النيل تلك السنة عظيمة جدا ، وزاد أيضا نهر مهران. فإن كان الاجتماع أو الامتلاء زائلا عن وسط السماء ، وليس مع أحد النيرين كوكب فإن النيل ونهر مهران لا يبلغان غاية زيادتهما لعدم الأنوار التي تثير المياه.

١٠١

ويكون بمصر في السنة الغلاء والجزء السنوي يكون عند حلول الشمس برأسي الجدي والسرطان. فأما المدّ اليوميّ الدافع من البحر المحيط فإنه لا ينتهي في البحر الخارج من المحيط أكثر من درجة واحدة فلكية ، ومساحتها من الأرض نحو من ستين ميلا ثم ينصرف ، وانصرافه هو الجزر وكذلك الأودية إذا كانت الأرض وهدة ، والمدّ الشهري ينتهي إلى أقاصي البحار ، وهو يمسكها حتى لا تنصب في البحر المحيط ، وحيث ينتهي المدّ الشهريّ فهناك منتهى ذلك البحر وطرفه. وأما المدّ السنوي فإنه يزيد في البحار الخارجة عن البحر المحيط زيادة بينة ، ومن هذه الزيادة تكون زيادة النيل وامتلاؤه ، وامتلاء نهر مهران ، والديتلو الذي ببلاد السند. قال : ولما جاء أرسطو إلى مصر مع الإسكندر ورأى مصب النيل ، وعلم أن من المحال أن يكون النيل في أسوان واد من الأودية. وكلما استحل اتسع حتى أن عرضه في أسفل ديار مصر لينتهي إلى مائة ميل عند غاية الفيض ، وله أفواه كثيرة شارعه في البحر تسع كل ما يهبط من الميزان في ذلك الصنع ، فرأى محالا أن يكون الوادي بحيث يضيق أسفله عن حمل ما يأتي به أعلاه مع ضيق أعلاه وسعة أسفله.

فلما رأى ذلك قال : إن رياحا تستقبل جرية الماء وتردعه ، فيفيض لذلك. وقال الإسكندر : إن من المحال أن يكون الريح يردع الماء السائل في الوادي حتى يفيض أكثر من مائة ميل ، ولو كانت الريح تفعل ذلك لكان الماء السائل ينفلت من أسفل الوادي ، ويسيل إلى البحر ، لأن البحر لا يمسك إلا أعلاه ؛ ولكن الرياح تقذف الرمل في أفواه تلك الشوارع التي تفضي إلى البحر ، فيعثر بها شبه الردم فيفيض. قال : وأغفل أن الرمل جسم متخلخل ، فالماء يتخلله وينفذه سائلا إلى البحر ، مع أن الرمل لم يعتل اعتلاء يظهر للحسن ، والماء سائل في كل حين على حلق تنيس ودمياط وحلق رشيد وحلق الإسكندرية ، ففطنوا لاستحالة كونه سائلا عن سيل حامل ونسبوا توقفه إلى الريح والرمل. وهم استقصوا الهواء واستقصوا الأرض وأغفلوا الاستقصاء الثالث الذي هو الماء لأنهم لم يعرفوا حركة البحر السنوية لأنها لا تبلغ الغاية إلا في ثلاثة أشهر فلا يظهر مقدار صعودها في كل يوم للحس. ولذلك وضع أمير مصر المقياس بديار مصر.

قال : والمدّ كله واحد وهو أن القمر يقابل الماء كما تقابل الشمس الأرض ، فنور القمر إذا قابل كرة الأرض سخنها كما تسخن الشمس الهواء المحيط فيعتري الهواء المحيط بالماء بعض تسخين يذيب الماء ، فيفيض وينمى بخاصته كالمرآة المحرقة الملهبة للجوّ حتى تحرق القطنة الموضوعة بين المرآة والشمس. فهذا مثاله في المقابلة ومثاله في المسرار كون الزجاجة المملوءة ما يلقى الشعاع إلى حلقها ، فتحترق القطنة أيضا. فالقمر جسم نوريّ باكتسابه ذلك من الشمس. فإذا حال بين الشمس والأرض خرج عن جانبي الماء شعاع نافذ يمرّ مع جنبي الماء فيسخن ما قابله فينمو. والماء جسم شفاف عن جانبيه يخرج الشعاع كما

١٠٢

يخرج عن جانبي الزجاجة ، فيحدث لها نور يسخن الهواء الذي يحيط بالزجاجة أو بالأرض ، فيقترف الماء شبه تسخين ينمي به ويزيد وذلك قبالة القرص ، وقبالة مخرج الشعاع من قبالة وتد القمر ، فهذا هو المدّ دائما ، ويستدير باستدارة الفلك ، وتدويره لفلك القمر وتدوير فلك القمر للقمر.

والمدّ الشهريّ هو أن يقابل القمر الشمس أو يستتر تحتها. لأنه ليس إلا كون القمر قبالة الشمس لكونه في تربيع الشمس أضعف وفي المقابلة أقوى ، وكذلك إذا قابلها على وسط كرة الأرض بحيث تكون الحركة أشدّ ، والاكتناف للماء والأرض أعم فذلك هو المدّ السنوي.

فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

أما العامة فليس عندهم ما يجيء على وجه الأرض أنه سيل ، ومن تفطن إلى عظمه واتساعه في أسفله وضيقه في أعلاه ، ولم ينظر إلى ماء ولا أرض ، ولا هواء. نسب ذلك إلى الخيال المحض.

كما فعل صاحب كتاب المسالك والممالك : الذي زعم أن الماء يسافر من كل أرض ، وموطن إلى النيل تحت الأرض فيمدّه لأن النيل إنما يفيض في الخريف. والعيون والآبار في ذلك الوقت يقل ماؤها ، والنيل يكثر فرأوا كثرة وقلة فأضافوا أحدهما إلى الآخر بالخيال ، ومما يدلك على أنه ليس عن سيل يفيض أن السيل يكون في غير وقت فيض البحر ، ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر ، فيصل السيل ويمرّ نحو البحر ، فلا يردعه رادع ..

ومنها : أن فيض النيل على تدريج مدّة ثلاثة أشهر من حلول الشمس رأس السرطان إلى حلولها بآخر برج السنبلة ، والناس يحسبون به قبل فيضه بمدّة شهرين ولعامل مصر في وسط النيل مقياس موضوع ، وهو سارية فيها خطوط يسمونها أذرعا يعلم بها مقدار صعوده في كل يوم ..

ومنها : أن فيضه أبدا في وقت واحد ، فلو كان بالسيل لاختلف بعض الاختلاف.

ومنها : أنه قد يجيء السيل في غير هذا الوقت فلا يفيض.

ومنها : أن الحذاق بمصر إذا رأوا الحر يزيد علموا أن النيل سيزيد لأنّ شدّة الحرّ تذيب الهواء فيذوب الماء ، ولا يكون إلا عن زيادة كوكب ، ودنوّ نور.

ومنها : أن موضع مصبه من أسوان إنما هو واد من الأودية وما أسحل اتسع حتى يكون عرض اتساعه نحوا من مائة ميل وأسوان هو منتهى بلوغ الردع ، فما ظنك بسيل مسيره نصف شهر لا نسبة بين مصب أعلاه وأسفله ، كيف كان يكون أعلاه لو كان امتلاء أسفله عن

١٠٣

السيل! ومنها : أن أهل أسوان إنما يرقبون بلوغ الردع إليهم مراقبة ، ويحافظون عليه بالنهار محافظة ، فإذا جنّ الليل أخذوا حقة خزف ، فوضعوا فيها مصباحا ، ثم يضعونه على حجر معدّ عندهم لذلك. وجعلوا يرقبونه فإذا طفىء المصباح يطفو الماء عليه علموا أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم بأخذه في الجزر فيكتبوا بذلك إلى أمير مصر يعلموه أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم وأنهم قد أخذوا بقسطهم من الشرب. فحينئذ يأمر بكسر الأسداد التي على أفواه قرص المشارب ، فيفيض الماء على أرض مصر دفعة واحدة.

ومنها : أن جميع تلك المشارب تسدّ عند ابتداء النيل بالخشب ، والتراب ليجتمع ما يسيل من الماء العذب في النيل ، ويكثر ويعم جميع أرضهم ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه. فلو كان سيلا ما احتاج إلى ذلك ، ولفتحت له أفواه قرص المشارب عند ابتداء ظهوره.

ومنها : أن الخلجان إذا سدّت ولم يكن لها رادع من البحر كان السيل من جنبه إلى البحر إذ أسفل النيل أوسع وأخفض من أعلاه.

ومنها : أن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط ، كما يفعل في سائر الأودية التي تدخل المدّ والجزر ، فلو كان النيل خاليا من الماء العذب ، وصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع ، لأن الماء يطلب بطبعه ما انخفض من الأرض وأن يكون في صفحة كرة مستوية الخطوط الخارجة من النقطة إلى المحيط متساوية.

ومنها : أنها إذا فتحت تلك الأسداد ، وكسرت الخلج ، وفاض النيل على بطائح أرض مصر. شعر بذلك أهل أسوان للحين ، وقالوا في هذه الساعة كسرت الخلج ، وفاض ماء النيل على أرض مصر ، لأن ذلك يتبين لهم بتحوّل الماء دفعة ، فلو كان سيلا وهم على أعلى المصب لقالوا : قد ارتفع المطر عن الأرض التي يسيل منها السيل.

ومنها : أن قسميه الذي يمرّ ببلاد الحبشة المنبعث وإياه من جبل القمر لا يفيض كمدّة فيض النيل ثلاثة أشهر ، ولا يقيم على وجه الأرض مدّة مقامه. لكنه إذا كثر فيه السيل غمر جوانبه على قدر انبساطها ، وإذا نصبت مادّته أردع عليه ، فلو كان فيض النيل عن السيل وهما من شعب واحد لكان شأنهما واحدا ، ولا نقول : إن فيض النيل بسبب فيض البحر فقط إذ لولا كونه سيل ماء لما دخل ردع البحر إليه ولكان شاطىء ديار مصر كسائر السواحل المجاورة له. ولولا السيل السائل فيه لردمه البحر إذ عادة البحر ردم السواحل ، وإنما دخل الشك على أهل مصر في أيام النيل ، لأنهم لم يشاهدوا منشأه ، ولا عاينوا مبدأه من جبل القمر. لأنه في موضع لا ساكن عليه ، ولا تحققوا المدّ السنويّ الرادع له ، فلم يتحققوا شيئا من أمره ، لأنه بعيد من أذهان العامّة أن يعلموا : أن ماء البحر يعظم في أيام الصيف ، لأن المعهود عندهم في البحر أن يعظم في أيام الشتاء ، وطمو البحر في الشتاء إنما يكون عن

١٠٤

الرياح الهابة عليه من أحد جانبيه ، فيفيض ويخرج إلى الجانب الآخر ، إلا ما كان من البحر المحيط فإنه يتحرّك أبدا من داخل البحر إلى البر.

وهو أن المحيط يطلب بطبعه أن يكون على وجه الأرض ، والأرض ليست بسيطة ، فهي تمانعه بما فيها من التركيب فهو يطلب أبدا أن يعلوها ويركبها ببردها. قال : والسبب في عظم المدّ والجزر كثرة الأشعة. فإذا زاحمت الشمس والقمر ، الكواكب السيارة عظم فيض البحر ، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار ، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السيارة ارتفع البخار ، وصعد إلى كورة الزمهرير ، ونزل المطر فإذا فارق القمر الكواكب ارتفع المطر لكثرة التحليل. كما يكون في نصف النهار عند توسط الشمس لرؤوس الخلق ، وكما يكون عند حلول الكواكب الكبيرة على وسط خط أرين ، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال مؤلفه رحمه‌الله تعالى : الذي تحصل من هذا القول إن النيل مخرجه من جبل القمر. وأن زيادته إنما هي من فيض البحر عند المدّ فأما كون مخرجه من جبل القمر فمسلم ، إذ لا نزاع في ذلك.

وأما كون زيادته لا تكون إلا من ردع البحر له بما حصل فيه من المدّ فليس كذلك. نعم توالى هبوب الرياح الشمالية على وفور الزيادة ، وردع البحر له إعانة على الزيادة ، ومن تأمل النيل علم أن سيلا سال فيه ، ولا بد فإنه لا يزال أيام الشتاء ، وأوائل فصل الربيع ماؤه صافيا من الكدرة فإذا فرغت أيام زيادته ، وكان في غاية نقصه تغير طعمه ، ومال لونه إلى الخضرة ، وصار بحيث إذا وضع في إناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك : أن البطيحة التي في أعالي الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتى يتغير ماؤها فإذا كثرت أمطار الجنوب في فصل الصيف ، وعظمت السيول الهابطة في هذه البطيحة ، فاض منها ما تغير من الماء وجرى إلى أرض مصر فيقال عند ذلك : توحم النيل ، ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغير ، ويزاد عكره بزيادة الماء ، فإذا وضع منه أيام الزيادة شيء في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيام الزيادة وهذا الطين هو الذي تحمله السيول التي تنصب في النيل حتى تكون زيادته منها وفيه يكون الزرع بعد هبوط النيل ، وإلا فأرض مصر سبخة لا تنبت ، ولا ينبت منها إلا ما مرّ عليه ماء النيل ، وركد منه هذا الطين وقوله : إن السيل يكون في غير وقت فيض البحر ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر فيصل السيل ، ويمرّ نحو البحر ، فلا يردعه رادع غير مسلم وإن العادة أن السيول التي عليها زيادة ماء النيل لا تكون إلا عن غزارة الأمطار ببلاد الجنوب وأمطار الجنوب لا تكون إلا في أيام الصيف ، ولم يعهد قط زيادة النيل في الشتاء. وأول دليل على أن كون زيادته عن سيل يسيل فيه إنما يزيد بتدريج على قدر ما يهبط فيه من السيول.

وأما استدلاله بصب النيل في أسوان واتساعه أسفل الأرض فإنما ذلك لأنه يصب من

١٠٥

علو في منخرق بين جبلين ، يقال لهما : الجنادل وينبطح في الأرض حتى يصب في البحر ، فاتساعه حيث لا يجد حاجزا يحجزه عن الانبساط. وأما قوله : إن الأسداد إذا كثرت فاض الماء على الأرض دفعة فليس كذلك؟ بل يصير الماء عند كسر كل سدّ من الأسداد في خليج ، ثم يفتح ترع من الخليج إلى الخليج إلى ما على جانبه من الأراضي حتى يروى. فمن تلك الأراضي ما يروى سريعا ، ومنها ما يروى بعد أيام ، ومنها ما لا يروى لعلوّه.

وأما قوله : إن جميع تلك المشارب تستدّ عند ابتداء صعود النيل ليجتمع ما يسيل من الماء في النيل ، ويكثر فيعم جميع أرضهم ، ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه ، فغير مسلّم أن تكون السداد كما ذكر. بل أراضي مصر أقسام كثيرة منها : عال لا يصل إليه الماء إلا من زيادة كثيرة ، ومنها : منخفض يروى من يسير الزيادة والأراضي متفاوتة في الارتفاع والانخفاض تفاوتا كثيرا. ولذلك احتيج في بلاد الصعيد إلى حفر الترع. وفي أسفل الأرض إلى عمل الجسور حتى يحبس الماء ليروي أهل النواحي على قدر حاجتهم إليه عند الاحتياج. وإلا فهو يزيد أولا في غير سقي الأراضي حتى إذا اجتمع من زيادته المقدار الذي هو كفاية الأراضي في وقت خلوّ الأراضي من الغلال. وذلك غالبا في أثناء شهر مسرى فتح سدّ الخليج حتى يجري فيه الماء إلى حدّ معلوم ، ووقف حتى يروي ما تحت ذلك الحدّ الذي وقف عنده الماء من الأرض.

ثم فتح ذلك الحدّ في يوم النيروز (١) حتى يجري إلى حدّ آخر ، ويقف عنده حتى يروي ما تحت هذا الحدّ الثاني من الأراضي ، ثم يفتح هذا الحدّ في يوم عيد (٢) الصليب بعد النوروز بسبعة عشر يوما حتى يجري الماء ، ويقف على حدّ ثالث حتى يروي ما تحت هذا الحدّ من الأراضي ، ثم يفتح هذا الحدّ فيجري الماء ، ويروي ما هنالك من الأراضي ، ويصب في البحر الملح.

هذا هو الحال في سدود أراضي مصر وقوله : إن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط فلو كان خاليا من الماء العذب لوصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع فنقول : هذا قول من لم يعرف أرض مصر ، فإن النيل عند مصبه بأعالي أسوان يكون أعلى منه عند كونه أسفل الأرض بقامات عديدة. فإذا فاض ماء البحر حبسه أن يتدافع هو وماء النيل ، وربما غلب ماء البحر ماء النيل في أيام نقصان النيل حتى يملح ماء النيل فيما بين دمياط وفارس كور.

وأما في أيام زيادة النيل ، فإني شاهدت مصب النيل في البحر من دمياط وكل منهما يدافع الآخر فلا يطيقه حتى صارا متمانعين عبرة لمن اعتبر. وقوله : إن الأسداد إذا فتحت

__________________

(١) النيروز : عند القبط هو أول شهر توت (أيلول).

(٢) الصليب : عند القبط في السادس عشر من توت.

١٠٦

علم أهل أسوان بذلك في الحال غير مسلم ، بل لم نزل نشاهد النيل في الأعوام الكثيرة إذا فتح منه خليج أو انقطع مقطع فأغرق ماؤه أراضي كثيرة لا يظهر النقص فيه إلا فيما قرب من ذلك الموضع ، وما برح المفرد يخرج من قوص ببشارة وفاء النيل. وقد أوفى عندهم ستة عشر ذراعا ، فلا يوفي ذلك المقياس بمصر إلا بعد ثلاثة أيام ونحوها. وأما قوله : إن ما كان من النيل يمرّ ببلاد الحبشة يخالفه فليس كذلك ، بل الزيادة في النيل أيام زيادته تكون ببلاد النوبة ، وما وراءها في الجنوب كما تكون في أرض مصر ، ولا فرق بينهما إلا في شيئين : أحدهما : أنه في أرض مصر يجري في حدود وهناك يتبدّد على الأراضي ، والثاني : أن زيادته تعتبر بالقياس في أرض مصر ، وهناك لا يمكن قياسه لتبدّده ومن عرف أخبار مصر علم أن زيادة ماء النيل تكون عن أمطار الجنوب.

ويقال : إن النيل ينصب من عشرة أنهار من جبل القمر المتقدّم ذكره. كل خمسة أنهار من شعبة ، ثم تتبحر تلك الأنهار العشرة في بحرين ، كل خمسة أنهار تتبحر بحيرة بذاتها ، ثم يخرج من البحيرة الشرقية بحر لطيف يأخذ شرقا على جبل قاقولي ، ويمتدّ إلى مدن هناك ، ثم يصب في البحر الهندي.

ويخرج من البحيرتين ستة أنهار من كل بحيرة ثلاثة أنهار ، وتجتمع الأنهار الستة في بحيرة متسعة تسمى البطيحة ، وفيها جبل يفرّق الماء نصفين يخرج أحدهما من غرب البطيحة ، وهو نيل السودان ، ويصير نهرا يسمى بحر الدمادم ، ويأخذ مغربا ما بين سمغرة وغانة على جنوبيّ سمغرة وشماليّ غانة ، ثم ينعطف هناك. منه فرقة ترجع جنوبا إلى غانة ، ثم تمرّ على مدينة برنسة ، وتأخذ تحت جبل في جنوبها خارج خط الاستواء إلى زفيلة ، ثم تتبحر في بحيرة هناك وتستمرّ الفرقة الثانية مغرّبة إلى بلاد مالي والتكرور ، حتى تنصب في البحر المحيط شماليّ مدينة قلبتو ، ويخرج النصف الآخر متشاملا آخذا على الشمال إلى شرقيّ مدينة حيما ، ثم يتشعب منه هناك شعبة تأخذ شرقا إلى مدينة سحرت. ثم ترجع جنوبا ثم تعطف شرقا بجنوب إلى مدينة سحرتة ، ثم إلى مدينة مركة.

وينتهي إلى خط الاستواء حيث الطول خمس وستون درجة ، ويتبحر هناك بحيرة ويسمى : عمود النيل من قبالة تلك الشعبة شرقيّ مدينة شيمي متشاملا آخذا على أطراف بلاد الحبشة ، ثم يتشامل على بلاد السودان إلى مدينة دنفلة حتى يرمي على الجنادل إلى أسوان ، وينحدر وهو يشق بلاد الصعيد إلى مدينة فسطاط مصر ، ويمرّ حتى يصب في البحر الشاميّ ، وقد استفيض ببلاد السودان أن النيل ينحدر من جبال سود يبين على بعد كأن عليها الغمام ثم يتفرّق نهرين يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبيّ ، والآخر يتصل إلى مصر حتى يصب في البحر الشاميّ. ويقال : إنه في الجنوب يتفرّق سبعة أنهار تدخل في صحراء منقطعة ، ثم تجتمع الأنهار السبعة ، وتخرج من تلك الصحراء نهرا واحدا في بلاد السودان.

١٠٧

ذكر مقاييس النيل وزيادته

قال ابن عبد الحكم : أوّل من قاس النيل بمصر ، يوسف عليه‌السلام ، وضع مقياسا بمنف ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبا وهي صاحبة حائط العجوز مقياسا بأنصنا (١). وهو صغير الذرع ، ومقياسا بإخميم (٢) ، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان (٣) ، وهو صغير ووضع أسامة بن زيد التنوخيّ في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة (٤) ، وهو أكبرها. قال يحيى بن بكير : أدركت القياس يقيس في مقياس منف (٥) ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.

وقال القضاعيّ : كان أوّل من قاس النيل بمصر ، يوسف عليه‌السلام وبنى مقياسا بمنف وهو أوّل مقياس وضعه عليه‌السلام. وقيل : إن النيل كان يقاس بمصر بأرض علوة إلى أن بنى مقياس منف.

وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسا بانصنا ، وهو صغير الذرع وآخر بأخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر. وقيل : إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن ، والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة من دخل منه في داخل الزقاق أثره قائم إلى اليوم وقد بني عليه وحواليه.

ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسا بأسوان ثم بنى بموضع يقال له : دندرة ، ثم بنى في أيام معاوية مقياس بانصنا ، فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وكانت منزله ، وكان هذا المقياس صغير الذرع. فأمّا المقياس القديم الذي بنى في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد. وقيل : إنه كسر فيه ألفي أوقية ، وهو الذي بنى بيت المال بمصر. ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيّ ، عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه ، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسا في الجزيرة فبناه في سنة سبع

__________________

(١) مدينة أزلية من نواحي الصعيد بمصر شرقي النيل. معجم البلدان ج ١ / ٢٦٦.

(٢) بلد قديم على شاطىء النيل بالصعيد وفيها عجائب كثيرة منها البرابي. معجم البلدان ج ١ / ١٢٣.

(٣) حلوان بينها وبين الفسطاط نحو فرسخين من جهة الصعيد مشرفة على النيل وكان أول من اختطها عبد العزيز بن مروان. البلدان ج ١ / ٢٩٣.

(٤) الجزيرة : محلة من محال الفسطاط وإنما سميت جزيرة لأن النيل إذا فاض أحاط بها الماء وحال بينها وبين عظم الفسطاط واستقلت بنفسها. البلدان ج ٢ / ١٣٩.

(٥) منف : هي مدينة فرعون بمصر وفيها آثار الحكماء والأنبياء وبها كان منزل سيدنا يوسف عليه‌السلام وهي واقعة في منتهى جبل المقطم. البلدان ج ٥ / ٢١٤.

١٠٨

وتسعين ، ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أوّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركيّ على مصر. وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه ، فجعل يزيد بن عبد الله التركيّ على المقياس أبا الردّاد المعلم واسمه : عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذن. كان يقول القميّ : أصله بالبصرة قدم مصر وحدث بها وجعل على قياس النيل ، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذ سبعة دنانير في كل شهر فلم يزل المقياس من ذلك الوقت في يد أبي الردّاد وولده إلى اليوم ، وتوفي أبو الردّاد سنة ست وستين ومائتين.

ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين ، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه ، وبكار بن قتيبة القاضي فنظر إلى المقياس ، وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار فعمرو بني الحارث في الصناعة مقياسا وأثره باق لا يعتمد عليه.

وقال ابن عبد الحكم : ولما فتح عمرو بن العاص مصر ، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل بؤنة من أشهر العجم ، فقالوا له : أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم : وما ذاك؟ قالوا : إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمر : وإن هذا لا يكون في الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى ، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء ، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بذلك فكتب إليه عمر : أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وقد بعثت إليك ببطاقة ، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها : من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أما بعد : فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك ، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم ، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ، وأصبحوا يوم الصليب ، وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليله ، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.

وذكر بعضهم : أن جاحلا الصدفيّ هو الذي جاء ببطاقة عمر رضي‌الله‌عنه إلى النيل حين توقف ، فجرى بإذن الله تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب : أن موسى عليه‌السلام دعا على آل فرعون ، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء ، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله ، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا ، وذلك ليلة الصليب ، فأصبحوا ، وقد أجراه الله في تلك الساعة ستة عشر ذراعا ، فاستجاب الله بطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه‌السلام. قال القضاعي : ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم ، قال : لما

١٠٩

فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره ، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار ، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط ، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال ، فأجابه : إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا ، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم ، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا ، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة هذا ، والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلموه من القبط ، وخميرة العمارة فيه.

فاستشار أمير المؤمنين عمر رضي‌الله‌عنه ، عليا رضي‌الله‌عنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعا ، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل ، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين ، ففعل ذلك ، وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف ، وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الاثني عشر ذراعا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعا ، فجعلها ثمانيا وعشرين من أوّلها إلى الاثني عشر ذراعا يكون مبلغ الزيادة على الاثني عشر ثمانيا وأربعين إصبعا وهي الذراعان ، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين.

قال القضاعيّ : وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك : أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعا ، كل ذراع ، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة ، وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة ، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره.

قال ابن عفير (١) عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء. وإلا فالماء ناقص ، وإذا تمّ ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك. وقال أبو الصلت : وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر ، فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب ، والمصريون يقولون : إذا دخل أبيب كان للماء دبيب ، وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته ، ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج ، ولكسره يوم معدود ، ومقام مشهود ، ومجتمع خاص يحضره العام والخاص ، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات

__________________

(١) ابن عفير : هو سعيد بن كثير وهو راوية ومؤرخ أخذ عنه محمد بن يوسف الكندي. توفي سنة ٢٢٦ ه‍.

صبح الأعشى ٢ / ٦٦.

١١٠

الخلجان ففاض الماء ، وساح وغمر القيعان والبطاح ، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها ، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامرا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عزوجل له ، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا ، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه ، فينضب أوّلا عما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطامنا ، فيترك كل قرارة كالدرهم ، ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم.

وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماورديّ (١) في كتاب الأحكام السلطانية : وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع ، وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما ، وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية ، وقياس نيل مصر.

وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع ، وأكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا ، وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعا وتسع عشرة أصبعا ، وهي أيام كافور الإخشيدي.

والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه ، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا ، كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية تعرف بالأصابع ما عدا الاثني عشر ذراعا الأولى ، فإنها مفصلة على ثمان وعشرين أصبعا كل ذراع.

وقال المسعوديّ : قالت الهند : زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار.

وقالت الروم : لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته ، ونقصانه من عيون كثرت واتصلت.

وقالت القبط : زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه. وقيل : لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت ، واتصلت تحبسه ، فيفيض على وجه الأرض.

وقال قوم : سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن ، وذلك أنها تحمل السحاب

__________________

(١) من العلماء الباحثين أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة ، أقضى قضاة عصره. ولي القضاء في بلدان عديدة. ولد سنة ٣٦٤ ه‍ وتوفي سنة ٤٥٠ ه‍. الأعلام ج ٤ / ٣٢٧.

١١١

الماطر من خلف خط الاستواء فيمطر ببلاد السودان ، والحبشة ، والنوبة فيأتي مدده إلى أرض مصر بزيادة النيل ، ومع ذلك فإن البحر الملح يقف ماؤه على وجه النيل ، فيتوقف حتى يروي البلاد وفي ذلك يقول (١) :

فاسمع فللسامع أعلى يدا

عندي وأسمى من يد المحسن

فالنيل ذو فضل ولكنه

الشكر في ذلك للملتن

ويبتدئ النيل بالتنفس ، والزيادة بقية بؤنة وهو حزيران ، وأبيب وهو تموز ، ومسرى وهو آب ، فإذا كان الماء زائدا زاد شهر توت كله ، وهو أيلول إلى انقضائه. فإذا انتهت الزيادة إلى الذراع الثامن عشر ؛ ففيه تمام الخراج وخصب الأرض وهو ضارّ بالبهائم لعدم الرعي والكلا.

وأتمّ الزيادات كلها العامّة النفع للبلد كله سبعة عشر ذراعا وفي ذلك كفايتها وريّ جميع أرضها ، وإذا زاد على ذلك ، وبلغ ثمانية عشر ذراعا ، وغلقها استبحر من أرض مصر الربع. وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرنا من الاستبحار ، وإذا كانت الزيادة على ثمانية عشر ذراعا كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعا.

وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز اثني عشر ذراعا ، ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعا ، ثمان وعشرون أصبعا ، ومن اثنتي عشرة ذراعا إلى ما فوق ذلك يكون الذراع أربعا وعشرين أصبعا ، وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع ، وفي تلك السنة يكون الماء قليلا ، والأذرع التي يستسقى عليها بمصر هي ذراعان تسميان منكرا ونكيرا ، وهي الذراع الثالث عشر ، والذراع الرابع عشر ، فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة استستقى الناس بمصر. فكان الضرر الشامل لكل البلدان ، وإذا تمّ خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعا كان فيه صلاح لبعض الناس ، ولا يستسقى فيه وكان ذلك نقصا من خراج السلطان ، والنبيذ يتخذ بمصر من ماء طوبة ، وهو كانون الثاني بعد الغطاس ، وهو لعشرة تمضي من طوبة ، وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت ، وأهل مصر يفتخرون بصفاء ماء النيل في هذا الوقت ، وفيه يخزن الماء أهل تنيس ودمياط وتونة وسائر قرى البحيرة.

وقد كانت مصر كلها تروي من ست عشرة ذراعا ، غامرها وعامرها لما أحكموا من جسورها وبناء قناطرها ، وتنقية خلجانها ، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع ، دخل خليج المنهي ، وخليج الفيوم ، وخليج سردوس ، وخليج سخا.

قال : والمعمول عليه في وقتنا هذا ، وهو سنة خمس وأربعين وثلثمائة إنه إن زاد على

__________________

(١) فراغ بالأصل.

١١٢

الستة عشر ذراعا أو نقص عنها نقص من خراج السلطان ، وقد تغير في زماننا هذا عامة ما تقدّم ذكره لفساد حال الجسور والترع والخلجان وقانون اليوم : أنه يزيد في القيظ إذا حلت الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة حين تنقص عامة الأنهار التي في المعمور ، ولذلك قيل : إن الأنهار تمدّه بمائها عند غيضها ، فتكون زيادته وتبتدىء الزيادة من خامس بؤنة (١) ، وتظهر في ثاني عشره ، وأول دفعه في الثاني من أبيب (٢) وتنتهي زيادته في ثامن بابه (٣) ، ويؤخذ في النقصان من العشرين منه. فتكون مدّة زيادته من ابتدائها إلى أن ينقص ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وهي : أبيب ومسرى (٤) وتوت (٥) وعشرون يوما من بابه ، ومدّة مكثه بعد انتهاء زيادته اثنا عشر يوما ثم يأخذ في النقصان.

ومن العادة أن ينادى عليه دائما في اليوم السابع والعشرين من بؤنة بعد ما يؤخذ قاعه ، وهو ما بقي من الماء القديم في ثالث عشر بؤنة ، وبفتح الخليج الكبير إذا أكمل الماء ستة عشر ذراعا وأدركت الناس يقولون : نعوذ بالله من أصبع من عشرين وكنا نعهد الماء إذا بلغ أصابع من عشرين ذراعا فاض ماء النيل ، وغرّق الضياع والبساتين وفارت البلاليع ، وها نحن في زمن منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة إذا بلغ الماء في سنة أصبعا من عشرين لا يعم الأرض كلها لما قد فسد من الجسور ، وكان إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة قانون النيل ستة عشر ذراعا في مقياس الجزيرة ، وهي في الحقيقة ثمانية عشر ذراعا ؛ وكانوا يقولون : إذا زاد على ذلك ذراعا واحدة ؛ زاد خراج مصر مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية ؛ فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا كانت الغاية القصوى ، فإن الثمانية عشر ذراعا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعا في الصعيد الأعلى ؛ فإن زاد على الثمانية عشر ذراعا واحدا نقص من الخراج مائة ألف دينار لما يستبحر من الأرض المنخفضة.

قال ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع ، وبلغ الماء الباب الجديد أوّل الشارع خارج القاهرة ، وكان الناس يتوجهون إلى القاهرة من مصر من ناحية المقابر ، فلما بلغ الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن محمد أن الماء وصل إلى الباب الجديد أظهر الحزن ، والانقطاع فدخل إليه بعض خواصه ، وسأله عن السبب ، فأخرج له كتابا فإذا فيه : إذا وصل الماء بالباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد ، ثم قال : هذا الكتاب الذي تعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا ،

__________________

(١) بؤنة هو شهر حزيران عند القبط.

(٢) أبيب هو شهر تموز.

(٣) بابه هو شهر تشرين الأول.

(٤) مسرى هو شهر آب.

(٥) توت هو أيلول.

١١٣

وما يأتي بعدها فمرض الحافظ في آخر هذه السنة ، ومات في أوّل سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وقال القاضي الفاضل : في متجدّدات سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر ربيع الأوّل ، وهو السادس عشر من مسرى. وفي النيل على ستة عشر ذراعا ، وهو الوفاء ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدّم ، وهذا أيضا مما تغير فيه قانون النيل في زماننا فإنه صار يوفي في أوائل مسرى ولقد كان الوفاء في سنة اثنتي عشرة ، وثمانمائة في اليوم التاسع والعشرين من أبيب قبل مسرى بيوم ، وهذا من أعجب ما يؤرخ في زيادات النيل ، واتفق أن في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة ، وفي النيل وكان ذلك اليوم التاسع عشر من بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يوما.

قال : وفي تاسع عشرة يعني شوّال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كسر بحر أبي المنجى وباشر الملك العزيز عثمان كسره وزاد النيل فيه أصبعا وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثمان عشرة ذراعا ، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. فانظر كيف يسمي القاضي الفاضل هذا القدر اللجة الكبرى؟! وإنه والعياذ بالله لو بلغ ماء النيل في سنة هذا القدر فقط لحل بالبلاد غلاء يخاف منه أن يهلك فيه الناس ، وما ذاك إلا لما أهمل من عمل الجسور ؛ ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعا فرح عظيم ، فإن ذلك كان قانون الري في القديم واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. ويتخذ ذلك اليوم عيدا يركب فيه السلطان بعساكره ، وينزل في المراكب لتخليق المقياس.

وقد ذكرنا ما كان في الدولة الفاطمية من الاهتمام بفتح الخليج عند ذكر مناظر اللؤلؤة. وقال بعض المفسرين رحمهم‌الله تعالى : إن يوم الوفا هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه‌السلام بالاجتماع في قوله تعالى : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه / ٥٩].

وقد جرت العادة أن اجتماع الناس للتخليق يكون في هذا الوقت.

ومن أحسن السياسات في أمر النداء على النيل ما حكاه الفقيه ابن زولاق (١) في سيرة المعز (٢) لدين الله قال : وفي هذا الشهر ، يعني شوّال ، سنة اثنتين وستين وثلثمائة منع المعز لدين الله من النداء بزيادة النيل ، وأن لا يكتب بذلك إلا إليه ، وإلى القائد جوهر ، فلما تم

__________________

(١) هو الحسن بن إبراهيم ، مؤرخ مصري اتصل بالفاطميين. له كتاب (خطط مصر) و (أخبار قضاة مصر).

ولد سنة ٣٠٩ ه‍ وتوفي سنة ٣٨٧ ه‍. الأعلام ج ٢ / ١٧٨.

(٢) المعز لدين الله : هو معد بن إسماعيل العبيدي الفاطمي أبو تميم صاحب مصر وإفريقية وهو أول الخلفاء الفاطميين بمصر وقدم من المغرب بعد أن مهد له القائد جوهر الصقلي. ولد سنة ٣١٩ ه‍ وتوفي سنة ٣٦٥ ه‍. الأعلام ج ٧ / ٢٦٤.

١١٤

أباح النداء ، يعني لما تم ست عشرة ذراعا ، وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة ؛ فإنّ الناس دائما إذا توقف النيل في أيام زيادته ، أو زاد قليلا يقلقون ، ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل ، فيقبضون أيديهم على الغلال ، ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر ، ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة ؛ إما لطلب السعر ، أو لطلب ادّخار قوت عياله ، فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي كتمان الزيادة عن العامّة أعظم فائدة ، وأجلّ عائدة.

وقال المسبحي (١) في تاريخ مصر : وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل ، فقال : نعم لا تحصى من خزائن الله لا تفنى زاد الله في النيل المبارك كذا ، ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه ، فتقول عامّة أهل مصر : قد توحم النيل ، ويرون أن الشرب منه حينئذ مضر. ويقال في سبب اخضراره : إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل ، وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك ، فيتغير ماء تلك البطيحات ، فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات ، فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير ، ومرّ إلى مصر ، وجاء عقيبه الماء الجديد ، وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر ، فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي ، وقد أحاط بها الماء ، فلا يتوصل إليها إلا في المراكب ، أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه ، فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد ، ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم ، ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي ، فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص ؛ ولو لا إتقان ما هنالك من الجسور ، وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد ، وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء ، ومن بعدهم في ذلك ، وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارا في كل سنة تطلق لابن أبي الردّاد.

__________________

(١) المسبحي : محمد بن عبيد الله بن أحمد المسبحي : أمير مؤرخ عالم بالأدب أصله من حران. مولده بمصر سنة ٣٦١ ه‍ ووفاته بها سنة ٤٢٠ ه‍. الأعلام ج ٦ / ٢٥٩.

١١٥

ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

اعلم أنه كان في النيل جسر من سفن فيما بين الفسطاط والجزيرة التي تعرف اليوم : بالروضة ، وكان فيما بين الجزيرة ، والجيزة أيضا جسر في كل جسر منهما ثلاثون سفينة.

ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم

قال الرئيس أبو عليّ ابن سينا عفا الله عنه ، وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطا شديدا ، ويجمعون محامده في أربعة : بعد منبعه ، وطيب مسلكه ، وغمورته ، وأخذه إلى الشمال عن الجنوب. فأخذه إلى الشمال عن الجنوب : ملطف لما يجري فيه من المياه ، وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. قال : فأفضل المياه مياه العيون ، ولا كل العيون ولكن مياه العيون الحرّة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية لكن التي هي من طينة حرّة خير من الحجرية ، ولا كل عين حرّة ، بل التي هي مع ذلك جارية ، ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس ، والرياح وإنّ هذا مما يكسب الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسب بالكشف رداءة لا تكسبها بالغور والستر.

واعلم أنّ المياه التي تكون طيبة المسيل خير من التي تجري على الأحجار ، فإنّ الطين ينقي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروّقه ، والحجارة لا تفعل ذلك. لكنه يجب أن يكون طين مسيله حرّا لا حمأة ، ولا سبخة ، ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمرا شديد الجرية يحيل بكثرة ما يخالطه إلى طبيعته. فإن كان يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق ، وخصوصا إلى الصيفيّ منه ، فهو أفضل لا سيّما إذا بعد جدّا من ميدانه ، ثم ما يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب رديء خصوصا عند هبوب ريح الجنوب ، والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضل أفضل ، وما كان بهذه الصفة كان عذبا يخيل ، إنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلا ، وكان خفيف الوزن سريع البرد ، والتسخين لتخلخله باردا في الشتاء حارا في الصيف لا يغلب عليه طعم البتة ، ولا رائحة ويكون سريع الانحدار من الشراسيف سريعا لهري ما يهري فيه وطبخ ما يطبخ فيه.

قال الرئيس علاء الدين عليّ بن أبي الحرم بن نفيس في شرح القانون : هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد بل هي من الأشياء الموجبة لكونه محمودا وأحد هذه الأربعة بعد منبعه ، وقد بينا أنّ ذلك يوجب لطافة الماء بسبب كثرة حركته ، واعلم أن منبع النيل من جبل يقال له جبل القمر ، وهذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة ، فماؤه أعظم دائرة في الأرض بثلاثمائة درجة وستين ، وابتداء هذا الجبل من السادسة والأربعين درجة وثلاثين دقيقة من أوّل العمارة من جهة المغرب ، وآخره عند آخر

١١٦

إحدى وستين درجة وخمسين دقيقة ، فيكون امتداد هذا الجبل مقدار خمس عشرة درجة وعشرين دقيقة ، مما به أعظم دائرة في الأرض ثلثمائة وستون درجة ، ويخرج من هذا الجبل عشرة أنهار من أعين فيه ترمي كل خمسة منها إلى بحيرة عظيمة مدوّرة ، وإحدى هاتين البحيرتين مركزها حيث البعد من ابتداء العمارة بالمغرب خمسون درجة ، والبعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة ، ومركز الثانية حيث البعد عن أوّل العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة ، وحيث البعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة ، وهاتان البحيرتان متساويتان وقطر كل واحدة منهما مقدار خمس درج ، ويخرج من كل واحدة من البحيرتين أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغيرة مدوّرة في الإقليم الأوّل بعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة ، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأوّل ، ومقدار قطرها درجتان ويصب كل واحد من الأنهار الثمانية في بحيرة وفي هذه البحيرة نهر واحد وهو : نيل مصر ، ويمرّ ببلاد النوبة (١) نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء كبيرة مستديرة مقدار قطرها ثلاث درج وبعد مركزها من أوّل العمارة بالمغرب : ثلاث وأربعون درجة ، ويلقي نهر هذه العين لنهر النيل حيث البعد من أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وأربعون دقيقة ، وإذا تعدّى النيل مدينة مصر إلى بلد يقال له : شطنوف (٢) يفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد ، ومنه يكون خليج الإسكندرية ، وثانيهما يعرف ببحر دمياط ، وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرّع منه نهر يعرف ببحر أشمون يرمي إلى بحيرة هناك. وباقية يرمي إلى البحر المالح عند دمياط ، وزيادة النيل هي من أمطار كثيرة ببلاد الحبشة ، والله أعلم.

واعلم أن الوزن من الدستورات المنتخبة من حال الماء فإنّ الأخف في أكثر الأحوال أفضل فهذا ما ذكره الرئيس ابن سيناء من صفات المياه الفاضلة ، واعتبر ما قاله تجد ذلك قد اجتمع في ماء النيل.

فأوّله أن ماء النيل عين تمرّ على أراضي حرّة ، ولا يغلب على تربه ما يمرّ به شيء من الأحوال والكيفيات الردية كمعادن النفط ، والشب والأملاح والكباريت ، ونحوها بل يمرّ على الأراضي التي تنبت الذهب بدليل ما يظهر في الشطوط من قراضات الذهب ، وقد عانى جماعة تصويل الذهب من الرمل المأخوذ من شطوط النيل فربحوا منه مالا وفضيلة كون الذهب في المال لا تنكر.

الثاني : أن النيل في جريانه أبدا مكشوف للشمس والرياح.

__________________

(١) بلاد النوبة : هي مما يلي مصر في نهاية جنوبيها مما يلي المغرب على ضفتي النيل الجاري إلى مصر.

صبح الأعشى ج ٥ / ٢٦٤.

(٢) شطنّوف : بلد بمصر من نواحي كورة الغربية عنده النيل يفترق النيل فرقتين : فرقة تمضي شرقا إلى تنيس ، وفرقة تمضي غربا إلى رشيد على بعد فرسخين من القاهرة. البلدان ج ٣ / ٣٤٤.

١١٧

الثالث : أنّ طينه من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراضي حرّة ، ويظهر لك ذلك من عطرية روائح الطين إذا نديته بماء.

الرابع : غمورة ماء النيل ، وشدّة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها ، وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها.

الخامس : بعد مبدأ خروجه من مصبه في البحر المالح ، وقد تقدّم من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور.

السادس : انحداره من علوّ فإن الجنوب مرتفع عن الشمال لا سيما إذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر.

وذكر ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث من حديث جرير بن عبد الله البجليّ حين سأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إلى أن قال : وماؤنا يمتنع أن يجري من علوّ ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الماء السنم» أي ما كان ظاهرا على وجه الأرض والسنم : الماء على وجه الأرض ، وكل شيء علا شيئا فقد تسنمه مأخوذ من سنام البعير لعلوّه.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) [المطففين / ٢٧] أي يمزج بما ينزل من علوّ.

السابع : أنه يمرّ من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما.

الثامن : من خفته في الوزن ، وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخف عنها في الوزن.

التاسع : عذوبة طعمه وحسن أثره في هضم الغذاء وأحداره عن المعدة بحيث إنه يحدث بعد شربه جشاء ، وهذه صفات إن كنت ممن مارس العلم الطبيعيّ ، وعرف الطب فإنه يعظم عندك قدر ماء النيل ، وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه.

ويقال : إنّ ذا القرنين كتب كتابا فيه ما شاهده من عجائب الدنيا فضمنه كل أعجوبة ، ثم قال في آخره : وليس ذلك بعجب بل العجب نيل مصر ، وقال بعض الحكماء : لو لا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل ريّ البلاد ، وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة لفسد إقليم مصر ، وتعذر سكناه لأنه ليس فيه أمطار كافية ، ولا عيون جارية تعم أرضه إلا بعض إقليم الفيوم ، ولله در القائل :

واها لهذا النيل أيّ عجيبة

بكر بمثل حديثها لا يسمع

يلقي الثرى في العام وهو مسلم

حتى إذا ما ملّ عاد يودّع

مستقبل مثل الهلال فدهره

أبدا يزيد كما يريد ويرجع

١١٨

وقال آخر :

كأنّ النيل ذو فهم ولب

لما يبدو لعين الناس منه

فيأتي حين حاجتهم إليه

ويمضي حين يستغنون عنه

وقال تميم بن المعتمر :

يوم لنا بالنيل مختصر

ولكل يوم مسرّة قصر

والسفن تجري كالخيول بنا

صعدا وجيش الماء منحدر

وكأنما أمواجه عكن

وكأنما داراته سرر

وقال أيضا :

أما ترى الرعد بكى واشتكى

والبرق قد أومض واستضحكا

فاشرب على غيم بصنع الدجى

يضحك وجه الأرض لما بكى

وانظر لماء النيل في مدّه

كأنما صندل أو مصطكا (١)

وقال آخر :

والله مجرى النيل منه إذا الصبا

أرينا به من برها عسكرا بحرا

بشط بنهر السمهرية دبلا

وموج بنهر البيض هندية بترا

إذا مرّ حاكى الورد غضا وإن صفا

حكى ماءه لونا ولو بعده مرّا

وقال أبو الحسن محمد بن الوزير في تدريج زيادة النيل وعظم منفعته :

أرى أبدا كثيرا من قليل

وبدرا في الحقيقة من هلال

فلا تعجب فكل خليج ماء

بمصر مسيب بخليج مال

زيادة أصبع في كل يوم

زيادة أذرع في حسن حال

وقال الشهاب أحمد بن فضل الله العمري :

بمصر فضل باهر

لعيشها الرغد النضر

في سفح روض يلتقي

ماء الحياة والخضر

وقال ابن قلاقس :

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة

وانظر لما بعدها من حمرة الشفق

غابت وألقت شعاعا منه يخلفها

كأنما احترقت بالماء في الغرق

وللهلال فها وافى لينفدها

في إثرها زورق قد صيغ من ورق

__________________

(١) المصطكا : شجر كالبطم له رائحة زكية يستخرج منه صمغ يعلك.

١١٩

وقال بشر الملك ابن المنجم :

يا رب سامية في الجو قمت بها

أمدّ طرفي في أرض من الأفق

حيث العشية في التمثيل معترك

إذا رآها جبان مات للفرق

للشمس غاربة للغرب ذاهبة

بالنيل مصفرّة من هجمة الغسق

وللهلال انعطاف كالسنان بدا

من سورة الطعن ملقى في دم الشفق

وقال القاضي الفاضل رحمه‌الله تعالى عليه : وأما النيل ، فقد ملأ البقاع ، وانتقل من الأصبع إلى الذراع ، فكأنما غار على الأرض ، فغطاها وأغار عليها فاستقعدها ، وما تخطاها فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه ، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه.

ونيل مصر : مخالف في جريه لغالب الأنهار ، فإنه يجري من الجنوب إلى الشمال وغيره ، ليس كذلك إلا نهران فإنهما يجريان كما يجري النيل ، وهما نهر مكران بالسند ونهر الأريط (١) ، وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي في حماه إحدى مدائن الشام. وقد عاب ماء النيل قوم.

قال أبو بكر ابن وحشية (٢) في كتاب الفلاحة النبطية : وأما ماء النيل فمخرجه من جبال وراء بلاد السودان يقال لها جبال القمر ، وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس أنها أحرقته لا كل الإحراق ، بل أسخنته إسخانا طويلا لينا لا تزعجه الحرارة ، ولا تقوى عليه بحيث تبدّد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة ، بل يعتدل عليه فصار ماؤه لذلك حلوا جدّا ، وصار كثرة شربه يعفن البدن ، ويحدث البثور ، والدماميل والقروح ، وصار أهل مصر ـ الشاربون منه ـ دمويين محتاجين إلى استفراغ الدم عن أبدانهم في كل مدّة قصيرة ، فمن كان عالما منهم بالطبيعة ، فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل ، وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدماميل.

وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه قد صير له الطبخ قواما هو أثخن من قوام الماء ؛ فصار إذا خالط الطعام في الأبدان كثر فيها الفضول الردية العفنة ، فيحدث من ذلك ما ذكرناه. ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النيل ، إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة ، وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل ، وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلا وقت

__________________

(١) نهر الأريط : ويسمى أيضا بالنهر المقلوب وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي ينبع من شرق لبنان ويتجه شمالا في سورية ويصب في البحر المتوسط في خليج اسكندرونة.

(٢) هو : أحمد بن علي بن قيس ، عالم بالكيمياء ، ينسب إليه بالاشتغال بالسحر والشعوذة. له مؤلفات عديدة. توفي بعد سنة ٢٩١ ه‍. أعلام ج ١ / ١٧٠.

١٢٠