تاريخ مدينة صنعاء

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي

تاريخ مدينة صنعاء

المؤلف:

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي


المحقق: الدكتور حسين بن عبد الله العمري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٢٤

عن ساكني صنعاء

حديثك هات وا فوج النّسيم

وخفّف المسعى

وقف كي يفهم القلب الكليم

هل عهدنا يرعى

وهل يرعى العهود إلّا الكريم

(عبد الرحمن الآنسي)

١
٢

مقدمة الطبعة الثالثة

صنعآء تراث قومي وعالمي

مضى أربعة عشر عاما على صدور الطّبعة الأولى من (كتاب تاريخ مدينة صنعآء) ، أصدرنا بعد سبعة أعوام منها ـ الطبّعة الثانية ـ التي ذكرنا في مقدمتها : «أربعة أسباب حفّزتنا على إصدار تلك الطبعة» (راجع ص : ٧). وإذ وجدنا اليوم نفس تلك الأسباب دافعة ومشجّعة لإعادة الطبّع ، فقد جدّ في السّنوات الأخيرة سبب أو عامل هام آخر له علاقة بمدينة (صنعاء) نفسها ، وما زال ينمو ويتطور حتى يؤتى أكله وثماره المأمولة بإذن الله : ذلك هو الاهتمام ـ الوطني والعربي والدولي بهذه المدينة التليدة بصفتها إحدى أقدم مدن العالم القديم ، تميزت من بينها بالعراقة والفرادة والشموخ ، رغم عوادي الزمن ، والحروب وما كان يصاحبها من حصار وخراب ودمار عبر القرون.

وبداية فقد كان للجهود التي بذلت من قبل المختصين والمهتمين بصنعاء اختيارها مع مدينة (فاس) المغربية كنموذجين يمثلان الحضارة العربية الإسلامية في معرض (البداوة والحضرNomad G City) الذي افتتحته الملكة (اليزابث) في الأسبوع الأول من أبريل عام ١٩٧٦ م (١٣٩٦ ه‍) في إطار المهرجان الإسلامي الكبير في العاصمة البريطانية (لندن) (١). وقد كان لذلك المعرض أثر كبير في

__________________

(١) مثّل اليمن فيه (المحقق) مع أستاذه العالم المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع رئيس الهيئة العامة للآثار ودور الكتب ، الذي حضر معه أيضا وآخرين بمعية الأخ الدكتور عبد الكريم الإرياني نائب رئيس الوزراء ، وزير الخارجية بعد ذلك بعشر سنوات الافتتاح الرسمي لمعرض ميونيخ (اليمن : ثلاثة آلاف عام من الحضارة والفن) كما سيأتي الحديث عنه.

٣

لفت النظر العالمي إلى مدينة صنعاء ، خاصة بعد إصدار المستشرق المعروف (آر. ب. سرجنت) وزميله الدكتور (آر. لوكوك) كتابهما الضخم (مدينة صنعاء العربية الإسلامية) (١) الذي ساهم فيه عدد كبير من المختصين اليمنيين والأجانب.

ومن مطلع هذا العقد الثامن ، كانت الجهود اليمنية الرسمية واهتمام كثير من المختصين العرب والأوروبيين ، قد أقنعت المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بأهمية القيام بحملة دولية لإنقاذ المدينة ، فوافق عليها (المجلس التنفيذي) في مؤتمر اليونسكو العام الذي انعقد في (بلغراد) عام ١٩٨١ م ومن ثمة تم وصول بعثات مختصة لوضع الدراسات العلمية والبحوث الميدانية المتعلقة بمختلف أوجه الحضارة والتراث الفني والمعماري للمدينة. وهكذا توجت تلك الجهود وغيرها بصدور النداء العالمي (للحملة الوطنية والدولية للمحافظة على مدينة صنعآء التاريخية) الذي أعلنه مدير عام المنظمة الأسبق (السيد أحمد مختار أمبو) في ١٩ ديسمبر ١٩٨٥ م ، في مؤتمر كبير ، على هامش مؤتمر وزراء الخارجية للدول الإسلامية المنعقد وقتها في العاصمة صنعاء. وقبيل ذلك كان قد صدر القرار الجمهوري رقم (٧٦) لسنة ١٩٨٥ القاضي بتشكيل (مجلس أمناء الحملة) برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية عدد كبير من الوزراء والمعنيين وغيرهم من مختصين أحدهم كاتب هذه المقدمة ، ومكتب (فني مختص) عين لإدارته ممثل اليمن السابق في اليونسكو الأخ الدكتور عبد الرحمن بن يحيى الحدّاد الذي كان ـ وما زال ـ أحد العاملين المخلصين لإنجاح هذا المشروع الحضاري الوطني والإنساني الكبير ، الذي دخل بذلك أولى مراحله التنفيذية ، خاصة بعد أن تم تسجيل (صنعاء) في (سجل التراث العالمي) في المؤتمر السادس والأربعين للمنظمة

__________________

(١). ١٩٨٣ ، R. B. Searjeant G R, Sanaa Arabian Islamic City, London.

٤

العالمية الذي انعقد في (صوفيا) في خريف ١٩٨٥ م ، حيث وافقت (اللجنة الدولية لحماية التراث العالمي) بكامل أعضائها التي تزيد عن تسعين دولة ، على ذلك التسجيل (باعتبار صنعاء تراثا عالميا يستحق تضافر الجهود الدولية على حمايته وصيانته) ، وكان لي يومها شرف رئاسة وفد الجمهورية العربية اليمنية إلى ذلك المؤتمر المميّز حين كنت وزيرا للتربية والتعليم.

وأخيرا جاء معرض (ميونيخ) البديع عن اليمن بعنوان (ثلاثة آلاف عام من الحضارة والفن) في أبريل ١٩٨٧ م ، فكان إبرازا لصنعاء وتتويجا للجهد الكبير الذي بذل عبر سنوات لإنجاز المعرض وكان من ثماره أيضا صدور مجلد كبير عن اليمن يحمل نفس عنوان المعرض تضافرت في كتابة فصوله السبعة والأربعين نخبة من المختصين والباحثين يمنيين ومستشرقين وصدر بالألمانية والإنجليزية (وتحت الطبع بالعربية) بتحرير الدكتور و. دوم Werner Daum الذي رأس فريق إعداد المعرض الناجح وجمع نفائسه من اليمن وعدة متاحف عالمية بالتعاون مع الحكومتين اليمنية والألمانية. وبعد أن حقق المعرض نتائج باهرة حيث زاره آلاف الزوار جرى نقله إلى (أمستردام) وافتتح رسميا في أوآخر ديسمبر / كانون الأول ١٩٨٨ م ، وما زال ـ حتى كتابة هذا ـ يحقق نجاحا كبيرا ..

* * *

وبالعودة إلى كتابنا (تاريخ مدينة صنعاء) ، نستطيع الزعم ، أن دوره في كل ذلك كان كبيرا ، فهو لم يلفت النظر إلى تاريخ المدينة القديم المنسوخ من الأساطير والحقائق من قبل الإسلام إلى القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر للميلاد ، فحسب ، بل أصبح أول المصادر فيما كتب ويكتب من الدراسات والبحوث عن صنعاء وتاريخ اليمن منذ صدور طبعته الأولى. وحين انعقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية المشار إليه كان هدية وزارة الثقافة والإعلام

٥

لرؤساء وأعضاء أكثر من ثمانين وفدا من الدول والمنظمات المشاركة ، وبصعوبة وجدنا نسخة من طبعته الثانية أجرينا عليها ما وجدناه من أخطاء أو تطبيعات فاتتنا فيها لنقدمه اليوم في طبعة نرجو أن تحقق الغاية للباحثين وكل المهتمين.

والله من وراء القصد

صنعاء ٩ / ٧ / ١٤٠٩ ه‍

الموافق ١٥ / ٢ / ١٩٨٩ م

د. حسين عبد الله العمري

٦

مقدمة الطبعة الثانية

هذه هي الطبعة الثانية لتاريخ مدينة صنعاء ، نصدرها بعد أن مضى سبعة أعوام على طبعته الأولى التي أخرجناها محققة مع زميل الدراسة الأستاذ عبد الجبار زكار ، وقدم لها صديقي وأستاذي الدكتور نبيه عاقل عميد كلية الآداب بجامعة دمشق.

وثمة أسباب هامة حفزتنا على إصدار هذه الطبعة.

أولها : ما وفقنا إلى العثور عليه من نسخ خطية للكتاب غير التي اعتمدناها في تحقيقه ، بعد أن كان الحصول عليها خلال العمل في التحقيق أمرا متعذرا ، فوقفنا على نسختين ، إحداهما : نسخة المتحف البريطاني. والثانية : نسخة علي أميري في استنبول. فكان لا بد من مضاهاة ما أنجزناه تحقيقا بما وقفنا عليه من النسخ ، فقمنا بذلك ، فلم نعثر أثناء المقابلة على أمور ذات بال ، خلا بعض ما التبست علينا قراءته من تصحيفات نساخ النسخ المعتمدة في تحقيقنا الأول ، فتهدينا بهاتين النسختين إلى كشف ما التبس وتقويمه.

ثانيها : بعد نشرتنا الأولى للكتاب تناهى إلينا أن ثمة ذيلا له صنعه ابن فضيل العرشاني المتوفى سنة ٦٢٦ ه‍ ١٢٢٦ م ، فلم آل جهدا في البحث عنه حتى عثرت عليه ، فإذا به صغير وجيز ، فنهدت إلى تحقيقه وأنجزته وجعلته ذيلا للكتاب الأصل في هذه الطبعة الجديدة إتماما للفائدة.

ثالثها : ما لمسناه من سرعة في نفاد الطبعة الأولى ، ولا شك أن مردّ ذلك يعود إلى أهمية الكتاب مصدرا هاما من مصادر تاريخ اليمن ، فكان لا بد من

٧

إعادة نشره في طبعة ثانية حاولنا فيها أن نستوفي جوانب الإفادة منه وتوفيره للقراء والباحثين ، ولعلنا بذلك نسهم إسهاما متواضعا في خدمة تراث أمتنا وتاريخها.

رابعها : أثناء الطبعة الأولى وقعت أخطاء مطبعية كثيرة ، وفاتنا أثناء التحقيق أشياء ، فأحصينا الأخطاء ، وصححناها ، وتتبعنا ما فات فاستدركناه ، وأثبتنا كل ذلك في ذيل الطبعة السابقة ، فكان لا بد من إصدار طبعة خلوة من التطبيعات والفوات ، وهذا ما سنجده في هذه الطبعة إن شاء الله تعالى.

والله وحده العاصم من الخطأ والزلل ، ومنه يستمد العون وحسن الرشاد.

دمشق ١٤٠١ ه‍ الموافق ١٩٨١ م

حسين بن عبد الله العمري

٨

تقديم

بقلم : الدكتور نبيه عاقل

عميد كلية الآداب

رئيس قسم التاريخ

هذا كتاب جديد آخر ، يخرج من ظلمة القرون إلى نور الحياة ، يبعثها فيه محققان شابان يدخلان ميدان خدمة التراث مدخلا يبشر بالأمل ويبعث على الاعتزاز.

فكتاب (تاريخ مدينة صنعاء اليمن) ، الذي يسعدني أن أقدمه إلى قراء العربية والعاملين في خدمة تاريخها وما سلف من مجدها وفكرها ، كتاب عاش مؤلفه الشيخ الإمام ، الحافظ ، المحدث أحمد بن عبد الله بن محمد الرازي في القرن الخامس للهجرة ، هذا القرن الذي اشتهر أهله بتوق شديد إلى الماضي ، وما كان فيه من رجال وأعمال لعل باعثه ما كانوا يكابدونه من تخلف وقهر في ميدان الحكم والسياسة ؛ فعوضوا ما افتقدوه في ذلك الميدان بالانقطاع إلى البحث والدرس والتأليف وإعمال النظر فيما سلف من مجد أمتهم وأبناء جلدتهم.

وتاريخ مدينة صنعاء اليمن ، كما يتبين مما يذكره صاحبه في مقدمته ، من كتب تواريخ البلدان التي قصد لها أن تكون موسوعة تتناول بالبحث كل ما يخص بلدان وطننا العربي الإسلامي ، ولا تقصر همها على ذاك البلد فحسب ، بل تتناول بالحديث غيره حين تدعو الضرورة أو سياق الخبر والحادث ذلك.

ويحدد المؤلف في مقدمة كتابه الجوانب التي سيتناولها بالبحث ويقول : «.... وفيه ذكر قدم صنعاء وفضلها ، وذكر بنائها وعمارتها وأساسها وطيبها ،

٩

وطيب عيشها ، ونسيمها ، وما قيل فيها من الأشعار ، وما جاء فيها من الأخبار والآثار ، وما ذكرها الله تعالى به في القرآن الكريم ، وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، وأمره ببناء مسجدها وجبّانتها ، وما جاء في ذلك من الفضل ، وذكر من عمل ذلك وبدء ذلك ، وقدوم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إلى صنعاء ، ومصلّاه بها ، وذكر من قدمها من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر ولاتها وفضل أهلها الذين كانوا فيها من رواة العلم وأهل الدين والحلم والزهد والورع من المحدثين والأئمة الفضلاء ، وذكر مسجد صنعاء ومسجد الجند ... وذكر فضل اليمن ....».

وواضح من هذا العرض الذي يقدمه المؤلف لمحتويات كتابه أنه أراده أن يكون سجلا وافيا بكل ما يتعلق بصنعاء بشكل خاص وباليمن عموما.

وأود أن أسجل بعض الملاحظات التي بدت لي من خلال قراءتي لملازم هذا الكتاب حين كان يزودني بها صديقاي المحققان أثناء طباعتها :

أولا : في الكتاب أخبار لا بد للباحث أن يتوقف عندها وأن يضع حولها بعض علامات الاستفهام ؛ فمن ذلك مثلا حديثه في الصفحة (٩٠) عن دخول عيسى بن مريم إلى صنعاء وصلاته في موضع الكنيسة واتخاذ النصارى الكنيسة بصنعاء على أثر مصلاه ، وقوله : «إن هذه الكنيسة في وقتنا هذا خربة» ويحدد بعد ذلك موقعها وأنه أدرك «عقودا كثيرة كانت باقية إلى سنة تسعين وثلاث مئة».

إن وجود آثار كنيسة خربة في صنعاء ليس من الأمور المستغربة ، ولكن أمر دخول عيسى إلى صنعاء وصلاته فيها واتخاذ النصارى الكنيسة على أثر مصلاه من الأمور التي تحتاج إلى تدقيق وتمحيص ليس فيما نملك من معلومات ما يساعد على قبوله ، وكل ما هو معروف حتى الآن أن المسيحية دخلت إلى اليمن زمن

١٠

الأمبراطور (كونستانتيوس) الذي أوفد عام ٣٥٦ م أول سفارة مسيحية إلى جنوب الجزيرة برئاسة (تيوفيلوس) وقد نجح هذا المبشر في إنشاء ثلاث كنائس في اليمن ؛ واحدة في ظفار ، والثانية في عدن ، والثالثة في نجران. وليس هناك خبر عن كنيسة أنشئت في صنعاء. وكانت نجران أهم مراكز المسيحية في الجنوب وقد نقل إليها هذه الديانة على مذهب (الطبيعة الواحدة) رجل ورع من سورية اسمه (قيميون) ، وذلك حوالي سنة ٥٠٠ م ، وفي نجران بنيت كعبة (القليس) لتصرف الحبشة أذهان العرب عن الحج إلى الكعبة في مكة.

ويذكرني حديث الرازي عن دخول عيسى بن مريم إلى صنعاء بما يذكره الأزرقي صاحب (أخبار مكة) في صدد حديثه عن تماثيل الكعبة يوم دخلها الرسول بعد الفتح ، ومن وجود تمثال لمريم وعيسى فيها ، وأن التمثال كان يمثل مريم جالسة وفي حجرها عيسى وأنه كان موضوعا عند العمود الذي يلي باب الكعبة. ولا أريد في هذه العجالة أن أناقش الأمر مجددا فقد ناقشته في مناسبة سابقة (انظر كتابي : تاريخ العرب القديم ، وعصر الرسول ص ٢٨٦ ـ ٢٨٨) ، ولكني أود هنا أن أنتهي إلى ما انتهيت إليه في المناسبة السابقة من أن هذا النوع من الأخبار مضعف ، ويفتقر إلى ما يؤيد صدقه ، وقد ينفرد به مؤلف أو راوية واحد ، ولا تجد له ما يماثله عند غيره ، مما يجعل قبوله أمرا بالغ العسر.

ويدخل ضمن هذا النوع من الأخبار عند (الرازي) ما يذكره عن سفينة نوح (ص ٢٩٠) وقصة صالح في قومه (ص ٣١١) وقصة قوم لوط (ص ٣١٢) وما بعدها ، وكلها من الأمور التي تحتاج إلى دقة وتقصّ للحقيقة تبعدها عن الخرافة وتضعها في موضعها اللائق من المنظومة التاريخية المحققة.

ثانيا : رغم أن المؤلف قصد أن يكون كتابه سجلا لتاريخ وجغرافية ورجالات صنعاء واليمن ففيه ثروة من المعلومات التي تفيد الباحث في تاريخ العرب والإسلام عموما. فتراه يتحدث عن الفتوحات العربية وما قام به الخليفة

١١

عمر بن الخطاب من تنظيمات في ميدان الإدارة وتقسيم الغنائم وفرض العطاء ، وما نال الناس على طبقاتهم من وارداتهم من بيت المال (ص ١٠٦ ـ ١١١) ، كما يولي فترة عصر الرسول الكريم ، وأخبار صحابته شيئا كثيرا من العناية (ص ١٩٤ وما بعدها) وهو فيما يورد من أخبار تتعلق بهذه الفترة ينقل عمن سبقه في هذا الميدان ، وقد قمت ببعض المقارنات بين ما وجدته عنده من أخبار وبين ما يرد حول هذه الموضوعات في الأمهات المعتمدة فوجدته أمينا فيما ينقل ، وقد تقع له إضافة فيوردها على ذمة راويها.

ثالثا : وإذا جئنا إلى ما ينفرد به عمن سواه من المؤلفين ، وهو تاريخ صنعاء واليمن عموما لوجدناه يهتم بالتاريخ السياسي والإداري والحضاري والعمراني لليمن منذ عصر الرسول وحتى خلافة بني العباس ، ورغم أنه في هذا الباب لا يدخل في التفاصيل ، بل يلتزم جانب العموميات فإنه يولي اهتماما خاصا ببعض الأمور اليمنية الصرفة كأخبار الأبناء الذين هم بضاعة يمنية خالصة ؛ انظر (ص ١٢٨).

ونراه يتتبع أخبار صنعاء منذ عهد الرسول ، ويبحث أمر بناء مسجدها الأول وبعث أبان بن سعيد ، وما بني فيها بعد ذلك من مساجد حتى يصل إلى ذكر المساجد التي عمرها الأصفهاني بصنعاء عام ٤٠٧ ه‍. ويذكر سدود اليمن وأنهارها وجبالها ، وما يكاد يخلص من المسح الجغرافي والعمراني لليمن منذ القديم وحتى عصره حتى ينتقل للحديث عن الوجه الفكري والثقافي لليمن فيذكر أئمة أهل صنعاء في القراءة والصلاة في أول الإسلام (ص ٣٣٣ وما بعدها) ، ثم يذكر الطبقة الأولى من العلماء والزهاد وعلماء أهل صنعاء واليمن ومن كان بها منهم ويخص طاوس بن كيسان الفقيه اليماني الشهير المتوفى زمن خلافة هشام بن عبد الملك بحديث مطول جدا ، فيه شرح مفصل لأخباره وأمثلة على علوّ كعبه في العلم والفقه والحديث.

١٢

كما يخص عطاء بن أبي رباح الفقيه والمحدث المشهور بحديث مماثل ، وهنا لا بد من ملاحظة حول حديثه عن عطاء ؛ فقد كانت وفاة عطاء كما تجمع المصادر بين عامي ١١٤ و ١١٧ ه‍ والعجيب في الرازي أنه يذكر أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور كان يأمر ألا يفتي بمكة إلا عطاء بن أبي رباح ، وأن أبا جعفر كان يقول : «عطاء أعلم الناس بالمناسك» وفي هذا وهم غريب ، إذ كيف تكون وفاة عطاء عام ١١٧ ه‍ على أبعد التقديرات ويأمر المنصور بألا يفتي بمكة غيره ، وخلافة المنصور تجيء بعد وفاته بما لا يقل عن عشرين عاما ، وقد تنبه المحققان الكريمان إلى هذا وأثبتاه في هامش الصفحة (٣٩٨).

ومن الشخصيات ذات الأصل اليماني التي يوليها صاحبنا الرازي أهمية (وهب بن منبه) وينسب إلى الرسول الكريم أكثر من حديث حول فضل وهب (الذي يؤتيه الله تعالى ثلث حكمة لقمان) ولعل سبب هذا الاهتمام بوهب أنه يخرج من صنعاء التي «لا تذهب الدنيا حتى تصير صنعاء أعظم مدينة في العرب ، يخرج منها وهب ، يهب الله له الحكمة» فاهتمامه بوهب جزء من اهتمامه بصنعاء وإجلاله لها ، والملاحظة الهامة في حديثه عن وهب أن ينسب إلى الرسول الكريم أحاديث شتى في فضل وهب لا نجد لها سندا في كتب الصحاح ، وهذا يجعل المرء يشعر بشدة تعصبه لصنعاء إن لم يشك في ضبطه ودقته.

رابعا : في حديثه عن وهب بن منبه يتطرق إلى أمور هامة تتعلق بقضية القدر والجبر وبعض القضايا الأخرى التي شكلت نواة حركة الاعتزال فيما بعد مما يلقي الضوء على الخلفية الفكرية التي واكبت نشأة هذه الحركة.

خامسا : يمكن اعتبار الكتاب بسبب اهتمامه بمن نبه ذكره من رجالات اليمن ، من كتب السير والرجال ، وهو في ذكره لهؤلاء الرجال اليمانيين يتعرض بالحديث لكثير من أخبار الصحابة وأبنائهم التابعين ويشرح بعضا من جوانب

١٣

حياتهم ، ومواقفهم وأخبارهم ، فهو من هذا يخرج عن نطاق اليمن إلى عالم الإسلام الرحب.

ولا بد في نهاية الحديث من التنويه بالجهد الكبير الذي بذله المحققان الكريمان في ضبط النص ومقابلة نسخ المخطوط المتعددة ومعارضتها مع كتب الأصول المختلفة ، والاستعانة بالعديد من المصادر لتقويم ما غمض أو سدّ ما وقع من نقص ، وطبيعي ألا يخلو عمل ضخم كهذا من بعض الهنات فهي من طبيعة الأمور ومألوفها مما لا ينتقص من جهدهما.

وعندي أن إلحاقهما كشّافين بالكتاب ؛ أحدهما لتراجم الرجال وثانيهما للتعريف بالأماكن الواردة فيه قد يسّر للقارئ استعمال الكتاب ، وجنبه العودة إلى الحواشي التي قد تثقلها تلك التراجم والتعريفات.

بارك الله للمحققين الكريمين جهدهما ، ونفع به كل من بنفسه توق إلى المعرفة والحقيقة.

إن تاريخ اليمن يستحق من الدارسين والباحثين كل عناية ، فما نعرفه غيض من فيض ، وهذا الكتاب خطوة موفقة أخرى على درب معرفة أفضل لتاريخ هذا الجزء من وطننا العربي.

الدكتور نبيه عاقل

١٤

مقدّمة التحقيق

تمهيد

اليمنيون والتراث

المؤلف وعصره

صنعاء زمن المؤلف

شيوخ المؤلف ومن لقيهم

مصادر ثقافته وكتابه

الكتاب

منهج المؤلف

مخطوطات الكتاب ومنهج التحقيق

١٥
١٦

تمهيد

اليمنيّون والتراث :

في عام ١٣٥٦ ه‍ ـ ١٩٣٥ م أيام الإمام يحيى حميد الدين أسست في صنعاء لجنة للتاريخ لأول مرة في تاريخ اليمن الحديث وأتبعت بوزارة المعارف ضمت نخبة من العلماء كان من أبرزهم الأديب الكاتب أحمد بن أحمد المطاع (١٩٠٤ ـ ١٩٤٨ م) والسيد المؤرخ محمد بن محمد زبارة المتوفى سنة ١٩٦٠ م ١٣٨٠ ه‍ ، والسيد الأديب أحمد بن عبد الوهاب الوريث (١٩١٠ ـ ١٩٤٠ م) والقاضي العلامة عبد الله بن عبد الكريم الجرافي ؛ كانت مهمة هذه اللجنة وضع تاريخ عام لليمن ، ويبدو أن هؤلاء الأعضاء قد اتفقوا على أن ينهض كل منهم بالتاريخ لفترة معينة كأن يضطلع أحدهم بتدوين تاريخ صدر الإسلام والعصر الأموي وآخر يتوفر على كتابة تاريخ العصر العباسي وهكذا حتى يستوفى وضع تاريخ لليمن حتى العصر الحديث.

ولم يظهر عمل هذه اللجنة إلى النور ومكث مخطوطا حتى اليوم (١) ، اللهمّ إلّا بعض الأعمال الفردية ـ المتواضعة ـ التي قام بها بعضهم ولم يكن في نطاق ما ألفت من أجله اللجنة المذكورة.

__________________

(١) يشير الأستاذ عبد الله الحبشي في (مراجع تاريخ اليمن) ص ٨٦ إلى وجود نسخة مخطوطة من عمل هذه اللجنة تبتدئ من القسم الثاني (دولة بني زياد) في القرن الثالث الهجري إلى العصر الحديث في ٣٣٨ ورقة مفقود منها بعض الأوراق ضمن الكتب المصادرة بعد ثورة ٢٦ سبتمبر (أيلول) ١٩٦٢ م محفوظة في جامع صنعاء.

١٧

تلك كانت المحاولة الأولى لليمن في العصر الحديث لوضع تاريخ لليمن بأقلام يمنية.

ولقد كان مفترضا أن تهتم تلك اللجنة بكنوز التراث من كتب التاريخ اليمني التي تعتبر المادة والمدخل الأساسي لتدوين التاريخ ، إلّا أنها ولأسباب كثيرة ـ بعضها خارج عن إرادتها ـ لم تتمكن من تحقيق أي مخطوط من هذه الكنوز ونشره رغم أن أعضاءها ونفرا من معاصريهم المهتمين بالتاريخ اليمني هم ممن تأثر بالسلفية الجديدة التي حمل لواءها في العالم الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٩ ـ ١٩٠٢ م) والشيخ محمد عبده (١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ م) وصاحب المنار السيد رشيد رضا (١٨٦٥ ـ ١٩٣٥ م) الذين كان من أهم أهدافهم إحياء التراث العربي الإسلامي واعتباره أساسا للقيام بحركة إصلاحية جديدة شاملة.

وبعد مضي ربع قرن أو أكثر على تاريخ تأسيس تلك اللجنة يظهر اسم القاضي العالم محمد بن علي الأكوع محققا ومؤرخا يمنيا عندما يقوم بنشر أعماله الخاصة في كتب التاريخ اليمني في مطلع الستينات (١).

لقد بقيت كتب اليمن وكنوز التراث العربي الإسلامي حبيسة الخزائن والصناديق مدفونة في كوات الحيطان وتحت أنقاض الخرائب ، كما تسرب بعضها ليحفظ في مكتبات أوربا وتركيا والهند وأنحاء أخرى متفرقة في العالم ، ولقد كان أولى بتلك اللجنة ، كما كان حقيقا بالمهتمين بالتراث العربي والتاريخ من

__________________

(١) يعتبر القاضي محمد بن علي بن حسين الأكوع الحوالي المرجع اليمني المعاصر في الجغرافيا والأنساب والتاريخ اليمني وهو الوحيد من جيله الذي تمكن من نشر بعض الأعمال الهامة ، فقد نشر عام ١٩٦٣ م الجزء الأول من الإكليل للهمداني ، كما نشر عام ١٩٦٧ م الجزء الثاني منه ، كما أعاد تحقيق (المفيد في أخبار صنعاء وزبيد) لنجم الدين عمارة بن علي الحكمي الشاعر اليمني المعروف المتوفى سنة ٥٦٩ ه‍ وقد نشره عام ١٩٦٧ م باسم (تاريخ اليمن) ، وصدر له الآن في بيروت (صفة جزيرة العرب) للهمداني ، ويطبع له في القاهرة (قرة العيون) لابن الديبع المتوفى سنة ٩٤٤ ه‍ ؛ وهما من تحقيقه.

١٨

متنوري اليمن المبادرة إلى تجميع ما نجا من الحوادث والكوارث من كتب التراث بعامة وتراث المعتزلة بخاصة ، فتراث المعتزلة هذا حفظ اليمن منه الكثير بفضل جهود الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان (٥٨٣ ـ ٦١٤ ه‍) أحد الأئمة الزيود المجتهدين فقد واصل جمعه واهتم بنسخ كتب المعتزلة ومصنفاتهم بعد أن بدأ ذلك الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (٥٣٢ ـ ٥٦٦ ه‍) الذي كان في عصره اجتلاب كتب المعتزلة من العراق إلى اليمن على يد أحد أعوانه الأفذاذ من العلماء العاملين وهو القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام شيخ الزيدية ومتكلمهم ومحدثهم في عصره (المتوفى سنة ٥٧٣ ه‍) (١). ولقد كان هذا القاضي عاملا مباشرا عرفناه في نقل هذه الكتب وحفظها في اليمن ، وثمة عامل هام آخر ذلك هو العلاقة والتقارب في الفكر المعتزلي بين المعتزلة والزيدية في اليمن ، تلك العلاقة وذلك التقارب اللذان كانا مبعثا لطمأنينة أصحاب التراث المعتزلي في أن يجدوا من قمم اليمن وسهوله الشمالية ملاذا أمينا لتراثهم الفكري من أن تعبث به سطوة مناوئيهم من أصحاب المذاهب الأخرى في مختلف الأقطار الإسلامية.

وغير كتب المعتزلة كثير وكثير جدا من مصنفات التفسير ، والفقه ، والحديث ، واللغة ، والتاريخ ، والرجال ، والآداب ، وغير ذلك من مختلف

__________________

(١) كشفت البعثة المصرية التابعة لوزارة المعارف عن مجموعة نادرة من تراث المعتزلة وذلك في زيارتها لليمن (١٩٥١ ـ ١٩٥٢ م) كما قام المرحوم الأستاذ فؤاد سيد بجهود مشكورة في هذا السبيل ، وزار اليمن أكثر من مرة وأخرج سنة ١٩٥٧ م طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة الجعدي (ت ٥٨٦ ه‍) ووعد صديقه المرحوم القاضي محمد بن عبد الله العمري في إخراج طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين (ت ١١١٠ ه‍) وطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار بن أحمد (ت ٤١٥ ه‍) ، وقد عاجلته المنية قبل أن يرى الكتاب القيم الذي اكتشف وحقق مخطوطته اليمنية الوحيدة وصدر عن الدار التونسية للنشر باسم (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ـ تونس ١٩٧٢ م ، بعد أن أعدها وقدم لها ابنا المرحوم أيمن وأحمد فؤاد سيد.

١٩

الفنون ؛ لا يزال كثير منها في طيات الغيب ولا يستبعد أن بعضها تحفظه ـ حتى الآن ـ الخزائن الخاصة في بيوتات اليمنيين وغيرها ، متوارثا عن الأجداد الذين لم يألوا جهدا في الجمع والتصنيف مما جعل اليمن غاصّا بما جمع وصنف بحيث أصبح مظنة المعرفة والعلم ، يحج إليه رجال العلم والفكر من مختلف الأقطار الإسلامية للإفادة من هذا المعين الثر في المعارف الإنسانية ، ينهلون منه ويتفيؤون الأمن والعافية في ربوع اليمن بعيدين عمّا كانوا يلاقونه من عنت الاضطهاد الفكري والمذهبي من حكام أوطانهم التي كانوا بها.

هكذا كان شأن اليمن الذي ازدهر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة ، ولا يعني هذا أنه لم يكن يعاني من شيء قليل أو كثير من الاضطراب السياسي من تعاور الحكام المختلفي النزعات على حكمه ، إلا أن هذا الاضطراب لم تكن تنعكس آثاره على أوساط الذين انصرفوا يشتغلون بالعلم ويشغلون فيه ، وإن انعكست عليهم فإنما تمسهم مسا قد يضر ببعضهم ولكنه لا يوقف مسيرتهم في هذه الميادين ، ولم تلبث بذور هذه الاضطرابات أو هذه الفتن أن تنمو ومن ثم تستشري في عصور لاحقة فتصبح آفة تهدد الاستقرار والعافية في كل شيء ، فلم يسلم منها من انصرفوا للعلم ، فعصفت بكثير منهم وبما أنتجوا أو صنفوا ، وتتوالى هذه الفتن عصرا بعد عصر ، وتضيع كتب وتحرق أخرى ، وتندثر مؤلفات تحت أنقاض الخرائب حتى يطل القرن الرابع عشر الهجري (العشرون للميلاد) وفيه ينحسر ظل الحكم العثماني ويتوسد الأمر (أسرة بيت حميد الدين) ويقوم بالحكم الإمام يحيى بن محمد حميد الدين (١٩١٨ ـ ١٩٤٨ م) فيفرض على اليمن العزلة ويتأخر سيره عن ركب الحضارة في العالم ، فأصاب اليمن من جرّاء ذلك تخلف عن الركب فلم يعد يتأثر بما يجري في العوالم الأخرى إلا تأثرا هينا خفيفا وذلك عن طريق ما قد يصل إليه من أنباء عن حركات إصلاحية في العالم العربي والإسلامي مع قوافل الحجاج ـ على هزله وقلته ـ ومع بعض من كان يتاح لهم السفر ـ على

٢٠