تاريخ مدينة صنعاء

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي

تاريخ مدينة صنعاء

المؤلف:

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي


المحقق: الدكتور حسين بن عبد الله العمري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٢٤

بنو الحارث بن كعب. فلما وقفوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلموا عليه ، وقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله / وأني رسول الله» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا» فسكتوا ولم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبد المدان : نعم يا رسول الله ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا. قالها أربع مرات. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم». فقال يزيد بن عبد المدان : أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا. قال : «فمن حمدتم؟» قالوا : حمدنا الله تعالى الذي هدانا بك يا رسول الله. قال : «صدقتم». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟». قالوا : لم نكن نغلب أحدا. قال : «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم». قالوا : كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم. قال : «صدقتم».

وأمّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين. فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية شوال أو في صدر من ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

[بعث رسول الله عمرو بن حزم إلى بني الحارث](١)

وقد كان بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم بعد أن ولّى وفدهم عمر [و] بن حزم ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم / ، وكتب له كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره ، وهو :

__________________

(١) ابن هشام ٢ / ٩٦١ ـ ٩٦٣ ، والطبري ٣ / ١٢٨ ـ ١٢٩

٥٢١

«بسم الله الرحمن الرحيم

هذا إنذار من الله تعالى ورسوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١).

عهد (٢) من النبي محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر [و] بن حزم حين بعثه إلى اليمن.

أمره بتقوى الله العظيم في أمره كله ف (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(٣) وأمره أن يأخذ بالحق [كما أمر به الله](٤) ، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه ، وينهى الناس فلا يمسّ القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم وعليهم ، ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(٥). ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها. ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين. ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر الله ـ عزوجل ـ به [في](٦) الحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة. وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه. وينهى أن يحتبي أحد في ثوب واحد ويفضي فيه بفرجه إلى السماء. وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعاؤهم إلى الله تعالى وحده لا شريك له ، [فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١.

(٢) في الطبري : «عقد». وفي الأصل المخطوط : «عهدا».

(٣) النحل : ١٦ / ١٢٨

(٤) من ابن هشام والطبري ، وفي الأصل : «يأخذ الحق».

(٥) سورة هود : ١١ / ١٨

(٦) من الطبري ، وليست في ابن هشام ، وفي الأصل : «والحج الأكبر».

٥٢٢

بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له](١). ويأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله عزوجل. وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع ، والخشوع ، ويغلّس بالصبح ، ويهجّر بالهاجرة حتى تميل الشمس. / وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب [حين](٢) يقبل الليل ولا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل. وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي إليها. والغسل عند الرواح إليها وأمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله ـ عزوجل ـ وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين (٣) وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه. وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة. وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة ، فإنها فريضة الله التي فرض على عباده المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له. وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يردّ (٤) عنها ، وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا ، فمن أدّى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن منع ذلك فإنه عدوّ لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين جميعا.

صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته».

__________________

(١) ما بين المعقوفين من ابن هشام والطبري.

(١) ما بين المعقوفين من ابن هشام والطبري.

(٢) في الطبري : «البعل».

(٣) في الطبري : «لا يفتن».

٥٢٣

[قدوم رفاعة بن زيد الجذامي](١)

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضّبابي ، فأهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / كتابا إلى قومه ، في كتابه :

«بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب من محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لرفاعة بن زيد :

إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ وإلى رسوله ، فمن أقبل ففي حزب الله وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهر [ين](٢).

فلما قدم رفاعة إلى قومه أجابوا وأسلموا ، ثم ساروا إلى الحرة حرة الرجلا فنزلوها.

* * *

[قدوم وفد همدان]

قال ابن هشام : وقدم وفد همدان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما حدثني من يوثق به عن عمرو بن عبد الله بن أذينة العبدي عن إسحاق السبيعي قال : قدم وفد همدان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم مالك بن النمط أبو ثور وهو ذو المشعار ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك السلماني ، وعميرة بن مالك الخارفي. فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرجعه من تبوك وعليهم مقطّعات الحبرات والعمائم العدنية

__________________

(١) ابن هشام ٢ / ٩٦٣ ، الطبري ٣ / ١٤٠

(٢) ما بين المعقوفين بياض في الأصل أتممناه من ابن هشام والطبري.

٥٢٤

برحال الميس المهريّة والأرحبيّة ، وكان لهم بذلك أشعار اختصرناها (١). فقام مالك بن نمط بين يديه ثم قال :

«يا رسول الله ، نصيّة من همدان من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواج ، متصلة بحبال الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف ويام وشاكر ، أهل السؤدد والقود ، أجابوا دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفارقوا إلاهات الأنصاب ، عهدهم لا ينقض ما أقامت هضبات لعلع وما جرى اليعفور يضلع».

/ فكتب لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا فيه ما لفظه :

«بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه ، على أن لهم فراعها ورهاطها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون علافها ويرعون عافيها ، لهم بذلك عهد الله وذمام رسول الله ، وشاهدهم المهاجرون والأنصار» (٢).

__________________

(١) ما أسقطه المؤلف من ابن هشام مختصرا هو : «... ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم ، ويقول أحدهما :

همدان خير سوقة وأقيال

ليس لها في العالمين أمثال

محلها الهضب ومنها الأبطال

لها إطابات بها وآكال

وقال الآخر :

إليك جاوزن سواد الريف

في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال الليف»

ابن هشام ٢ / ٩٦٣

(٢) في ابن هشام أبيات لمالك بن نمط أسقطها المؤلف وهي :

«فقال في ذلك مالك بن نمط :

ذكرت رسول الله في فحمة الدجى

ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

٥٢٥

[ذكر الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي

قال ابن إسحاق](١) :

وقد كان تكلم في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكذابان مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء. قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار أو أخيه (٢) سليمان بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب الناس على المنبر وهو يقول : «أيها الناس ، إني قد رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين ، صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة».

قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا كلهم يدّعي النبوة».

__________________

وهنّ بنا خوص طلائح تغتلي

بركبانها في لاحب متمدّد

على كل فتلاء الذراعين جسرة

تمر بنا مر الهجفّ الخفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى

صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول الله فينا مصدق

رسول أتى من عند ذي العرش مهتدي

فما حملت من ناقة فوق رحلها

أشد على أعدائها من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه

وأمضى بحد المشرفيّ المهنّد»

(١) ما بين المعقوفين من ابن هشام ٢ / ٩٦٤. وما أورده المؤلف من خبر مسيلمة والعنسي أخذه عن ابن هشام ، وانظر الخبر والرؤيا فيما تقدم من تاريخ صنعاء ص ١٢٤

(٢) الأصل : «وأخيه».

٥٢٦

[خروج الأمراء والعمال على الصدقات](١)

/ قال ابن إسحاق : وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل من أوطان الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسي وهو بها. وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضر موت على صدقاتها ، وبعث عدي بن حاتم على طيء وصدقاتها وعلى بني أسد. وبعث مالك بن نويرة ـ قال ابن هشام : اليربوعي ـ على صدقات بني حنظلة. وفرق صدقات بني سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها ، وقيس بن عاصم على ناحية. وكان قد بعث العلاء [بن] الحضرمي على البحرين. وبعث علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.

* * *

[كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه](٢)

وكان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله : سلام عليك. أما بعد : فإني قد أشركت بالأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون».

فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب ، قال ابن إسحاق : فحدثني شيخ من أشجع

__________________

(١) العنوان من ابن هشام ٢ / ٩٦٠ ، والطبري ٣ / ١٤٧ وفيهما الخبر. وفي الأصل عبارة مكررة نصها : «قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه قال : لما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول».

(٢) من ابن هشام والطبري. المصدر السابق.

٥٢٧

عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه : «فما تقولان أنتما؟» قالا : نقول كما يقول (١). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لو لا أن الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما». ثم كتب إلى مسيلمة :

«بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / إلى مسيلمة الكذاب :

السلام على من اتبع الهدى. أما بعد :

فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين».

وذلك في آخر سنة عشر.

* * *

باب

ويرجع الحديث إلى فروة بن مسيك (٢)

ومراد : قبيلة من قبائل مذحج ـ وهو مراد بن مذحج [بن] مالك بن أدد بن زيد بن غريب بن سدد بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه‌السلام.

ثم إنه لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فروة بن مسيك المرادي إلى اليمن بعثه على مراد ومذحج كلها وحضر موت يقبض منهم الزكاة.

__________________

(١) في ابن هشام والطبري : «كما قال» ، ابن هشام ٢ / ٩٦٠ ، والطبري ٣ / ١٤٦

(٢) انظر الخبر وتعليقاتنا عليه فيما سبق من تاريخ صنعاء ص ١٩١ ـ ١٩٢

٥٢٨

وروي أن فروة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني امرؤ شريف وإني في بيت قومي وعددهم ، أفأقاتل من أدبر عني؟ قال له : «نعم». وخرج فروة من المدينة يريد اليمن ، حتى إذا سار يوما وليلة نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره ونهاه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما فعل المرادي؟». قالوا : همس يومه وليلته. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب في طلبه ، فأدركه فقال له : إني رسول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليك. فقال فروة : «أنا عائذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ورجع مع عمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنه لا سخط عليك ، إنك أتيتني وزعمت أنك شريف قومك ، وأنك في بيت قومك وعددهم ، وسألتني أن تقاتل بإجابة من معك من أدبر عنك ، فأتاني جبريل فأمرني ونهاني ، فكان فيما أمرني بالرأفة بأولاد سبأ واللطف بهم والتّحنّن عليهم ، وأعلمني أنه يحسن إسلامهم ، وأن تدعو قومك إلى الإسلام ، فمن أسلم قبل منه ومن كفر فقاتله». وقيل : قال له : «من أسلم منهم / فاقبل منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك».

قال : وأنزل الله في سبأ ما أنزل ، فقال رجل : [يا رسول الله] وما سبأ ، أرض أو امرأة؟. فقال : ليس بأرض ولا امرأة ، لكنه رجل ولد عشرة من العرب ، فتيامن منهم ستة وتشأم أربعة. فأما الذين تشأموا : فلخم ، وجذام ، وغسان (١) ، وعاملة. وأما الذين تيامنوا : فالأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين منهم خثعم. قال : فقال فروة بن مسيك المرادي : «يا رسول الله ، إن أرضا عندنا يقال لها : أبين ، هي أرض ميرتنا وريفنا ، وهي وبيّة شديدة الوباء» فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعها ، فإن من القرف التلف» (٢).

__________________

(١) في الأصل زيادة : وهمدان.

(٢) تاريخ صنعاء ص ١٩٣. والقرف : ملابسة الداء ومعاناة المرض. ابن الأثير : التهذيب في غريب الحديث (قرف).

٥٢٩

فصل

واختلفت الرواية فيمن أسّ بناء مسجد صنعاء الجامع ، فقيل : هو أبان بن سعيد بن العاص القرشي. وقيل : وبر بن يحنّس الأنصاري. وقيل : هو فروة بن مسيك المرادي ، وهو الأغلب في الرواية ، لأنه هو الذي بنى الجبّانة التي في مقدّم صنعاء لعيد المسلمين ، والمسجد الذي عندها المعروف اليوم بمسجد فروة بن مسيك. ولم يختلف أحد من الرواة في أن فروة هو الذي أسّ ووضع الجبانة والمسجد الذي يليها.

* * *

فصل

ثم لما توجه فروة بن مسيك المرادي إلى صنعاء ومخاليفها وحضر موت بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يبني مسجد صنعاء ما بين الصخرة الململمة الخضراء وبين قلعة غمدان ، ويجعل قبلته جبل ضين ؛ فبناه. أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبني المسجد في بستان باذان في ما بين غمدان إلى الحجر الململمة ، والحجر الململمة في شارع بني ثمامة. فقيل : إنه أفضل من مسجد الجند ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّه ووصفه / بهذه الصفة وهذه الحدود ، ومسجد الجند إنما قال فيه حيث بركت الناقة.

هذه الرواية عن الكشوري قال : حدثه به أبو عبد الله ، وكان من العلماء رواة مالك.

ومسجد صنعاء أقدم من مسجد الجند. قيل : إنه بني قبل الفتح ، وقيل : بعد الفتح ، إلا أنه قبل مسجد الجند ؛ قيل : بستة أشهر ، وقيل : بسنتين ، قيل : إنه بني مسجد صنعاء في سنة ست من الهجرة النبوية ، صلوات الله على

٥٣٠

صاحبها وسلامه. قيل : إن الله تعالى أوحى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث معاذ بن جبل إلى اليمن في بنيان المسجد ، مسجد الجند ، ثم ذكر مسجد صنعاء ، قال معاذ : «يا رسول الله! ما فيهما من الفضل؟». قال : «أما مسجد صنعاء فإنه اعتكف فيه نبي مرسل أربعين شهرا ليس فيها يوم ولا ليلة إلّا ينزل إليه جبريل والملائكة ، فقاتله قومه أهل حضور فقتلوه ، فبعث الله تعالى عليهم سبعين ألف ملك حتى جعلهم حصيدا خامدين. فمن اعتكف في مسجد صنعاء في مؤخره فكأنما اعتكف في ملكوت السماوات السابعة (١). ومن صلّى فيه ركعتين خاض في الرحمة إلى يوم البعث المعلوم ، وعدلت له بخمسين صلاة ، ثم يضعفها الله حتى لا تحصيها الملائكة إلى يوم القيامة. ومن صلى في مسجد الجند فكأنما أناخ على كرسي الجنة».

قال معاذ : «أوصني يا رسول الله» قال : «نعم أوصيك ، والذي نفسي بيده ما توزن الأعمال يوم القيامة حتى ينتصر كل مظلوم».

وروي عن فروة أنه قال : «من صلى في مسجد صنعاء عشرين جمعة دخل الجنة ، أو قال : برىء من النار».

/ وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر فروة بن مسيك المرادي أن يبني مسجد صنعاء في بستان باذان ما بين الأكمة أكمة غمدان والصخرة والململمة ، وأمره أن يضع جبانتها في مقدّمها في الحديبية منها (٢).

__________________

(١) كذا الأصل ، وقد أقحمت كلمة أخرى هي «الرابعة» فوق كلمة «السابعة».

(٢) تاريخ صنعاء ص ١٢٩ ـ ١٣٠. وعن الجبانة انظر ص ١٤٠ و ٢٥٩ ـ ٢٦٠ و ٢٦٥ منه.

٥٣١

فصل

ثم إنه لما فرغ فروة بن مسيك المرادي من بناء المسجد الجامع خرج يرتاد لهم مصلّى لعيدهم ، فصعد فوق الجبوب المطلّ. وقيل : صعد على غمدان ، فسأل عن موضع الجبانة فقيل : إنه كان موضع معسكر الحبشة ، وأنه الآن جربة حرث ملك لأبي حمّال الأبناوي ولأخيه. فسرّح لهما رسولا ، فأتياه فقال : «إني أريد أن أتخذ هذا الموضع مصلّى لعيد المسلمين فبيعانيه». فباعه أحدهما ، فقال أبو حمال : «هي لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقيل : هي لأبي حمال ، هذا الرجل من الأبناء ، وحده. فسأله فروة أن يهبها له ، فوهبه إياها ، وهي لله ولرسوله ، قيل : فخرج فروة بن مسيك ليصلي بالناس بالجربة ، وهي يومئذ حرث ، فصلّى بهم فيها ثم أسّها مصلّى. وقال : أما إن هذه أول جبّانة وضعت في اليمن لعيد المسلمين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم كان في خلال ما هو يبنيها وضع أحجارا خلف المصلّى / أسّ فيه موضع المسجد المعروف الآن ب [مسجد] فروة بن مسيك وصلّى فيه. ولم يختلف فيه أحد من الرواة في أن فروة بن مسيك هو الذي بنى الجبانة مصلى العيدين ، وأن المسجد الذي خلف المصلى مسجد فروة بن مسيك جلس فيه حين اتّهب الجبانة من أبي حمال الأبناوي ، وقيل : صلى فيه وأسّه كما قد ذكرت.

وأما ما ذكر من فضائل الجبانة ومسجد فروة بن مسيك فقد ذكره أحمد بن عبد الله الرازي فأغناني عن ذكره هاهنا (١).

ثم إن هذه الجبانة هي التي يصلي فيها أهل صنعاء أبدا ، وقد تجدد عمارتها في بعض الأزمان تجديدا قليلا ، وإن أيسر الجبانة أفضل من أيمنها.

__________________

(١) انظر تاريخ مدينة صنعاء ص ١٢٩ ـ ١٣٠. وعن الجبانة انظر الصفحات : ١٤٠ و ٢٥٩ ـ ٢٦٠ و ٢٦٥

٥٣٢

وقيل : إن جبانة صنعاء هذه كانت بباب واحد ، والدور شارعة عن يمين وشمال باسقة في الهواء ، فإذا كان يوم العيد أمر أهلها خدمهم رشوها بالماء وفرشوها حصر السامان ، ويطرح فيها الأطياب من العود الرطب وغيره ، وتبرد فيها كيزان الماء من الفجر إلى انصراف الإمام من الصلاة.

وكانت ظلا ممدودا ، والدور حواليها لبني جريش ، وكان قد اتخذوا حلقا من الصّفر مجوّفة على صورة الثور ، وهم آخر من يقفل الأبواب ، فإذا أقفلوا أبوابهم صوّت / كل واحد منهم بابه بالحلقة ، فيسمع صوته في البلد كلها ، فيعلم أنهم قد أقفلوا أبوابهم.

وروي أن بعض ولاة صنعاء كانت له جارية حظيت عنده وكانت من القيان (١) وأن بعض ولاة زبيد سأله إياها ، وأكثر عليه السؤال ، فوجه بها إليه وأكرمت عنده ، فلما كان يوم عيد ، إما أضحى وإما فطر ، ذكرت ما كانت فيه تشاهده في جبانة صنعاء واستنقصت حال زبيد ، قالت في ذلك أبياتا منها (٢) :

سقى جبّانة لبني جريش

وخندقها أجشّ من الغمام

لعمرك للسّقاية والمصلّى

وغزلان بها يوم التّمام

أحبّ إليّ من شطّي زبيد

ومن رمع ومن وادي سهام

لأن الجبانة قريبة من خندق صنعاء الأول ، وقد رأيته ، ومسجد فروة على شفير الخندق ، وهذا كان في وقت عمارة صنعاء ، فخربت الدور واندرس ذكر الجبانة وانطمس ذكر فضلها في مدة لأحوال عرضت من ظهور المبتدعين

__________________

(١) في الأصل العبارة قلقة صورتها : «كانت له جارية حظيت عنده ويخرج العاس وعرفت خروجه إغلاقهم أبوابهم من القيان» فقومناها من تاريخ صنعاء ص ١٤٢

(٢) سترد هذه الأبيات ضمن قصيدة عزاها المؤلف إلى يحيى بن محمد الحميري ، في حين أنها هنا منسوبة إلى الجارية ، وكذلك فعل الرازي في تاريخ صنعاء ص ١٤٣. ولعل الحميري قد ضمنها قصيدته كما هو واضح من تضمينه؟؟؟

٥٣٣

الرافضين لأصحاب سيد المرسلين محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغرّ المنتجبين.

ثم إنه اعتمد بعض ولاة البلد هجرها وطمسها وإيثار الصلاة في غيرها / مدة يسيرة لغرض له ، ولا أدري ما غرضه ، مع كونه متهما في دينه بميله مع أهل الرفض. وقبل هذا ما زالت الصلاة فيها إلا في هذه المدة اليسيرة.

فلما أن أراد الله تعالى إظهار آيات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت فضلها لهذا الأمير الأجل ملك الأكراد (١) علم الدين وردسار بن بيامي بن أسوسي بن باذبان بن موفر الشانكاني ، وشانكان : قبيلة من الأكراد من أكراد العرب ، قيل : من نزار بن معد بن عدنان ، وحققت له قضيتها وفضل المسجد عندها ، وفضل المسجد الجامع ، فحينئذ شمّر لعمارتها ، وسارع ببنائها (٢) ، ونشط إلى إحيائها ، التماسا منه لطلب الثواب من الله تعالى ، كما قال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(٣) فصلينا فيها العيد ـ عيد الفطر ـ سنة اثنتين وست مئة وفيه بعض عمارة ، وأمر هذا الأمير ـ أجزل الله ثوابه وجعل الجنة مآبه ـ بنقض المصلّى في اليوم الثاني من شهر شوال من السنة المذكورة لتعهده ، وأمر بالإنفاق على عمارته نقدا ، فنقض إلى أساسه ، وكان قد دور / من جهة يمانيّه بحجارة جدارا يكون طوله ذراعا ، فنقض الجميع منبره وغيره ، وزيد في طوله

__________________

(١) سبقت الإشارة إلى أنه كان نائبا على صنعاء بعد مقتل المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب في زبيد عام ٥٩٨ ه‍ ١٢٠٢ م ، وتعد فترة حكمه من أسوأ فترات الحكم الأيوبي باليمن ، فقد خرج عن مذهب أهل السنة واتبع مذهب الإسماعيلية ، ولعل هذا ما قصده المؤلف من إشارته إلى أهل الرفض.

(٢) الأصل : «بنيانها».

(٣) التوبة : ٩ / ١٨

٥٣٤

من شرقيّه عشرون ذراعا ، وأحدث الجدار (١) اليماني كله من أساسه واشتغلت عمارته أياما متوالية لا يفتر فيها ، وإنفاق الأموال الكثيرة من جهة حلّ أنفقه (٢) من يده نقدا ، وغير ذلك مما يوجب الثواب.

واستقل هذا الأمير الركوب إلى المصلّى في كل يوم لا ينقطع ولا يفتر قائما وقاعدا ، وفي بعض الأوقات يضرب خيامه فيها ويباشر العمارة بنفسه ويرتبها ، ويقترح على البنّاء هذا الترتيب الذي فيها.

وعمل جدرانها في نهاية العرض على الحسب المشاهد المغني عن صفتي لمن رآه.

وعمل في شرقيّه مقصورة مصلّى باسم النساء للصلاة ، وجصّص ، وقضّض.

وعمل الحوض في غربيّه.

وعمل السواقي في جداره اليماني ثم في جداره الغربي للماء الجاري من البئر.

وعمل جدارها الشرقي وجدارها الغربي ، كل ذلك محدث من أساسه إلى علوه ، عمارة متقنة ، وصنعة محكمة.

وعمل منبرها في غاية الإحكام والإتقان ، وقبته ، وعمل في جانبيه خشبتان مثقوبتان بني عليهما وجصّص وجعلا برسم الرمحين اللذين فيهما العلمان.

وجعلت جدرانها الثلاثة العدنية والشرقية والغربية مسنّمة (٣) كلها مقضّضة.

وجعل باب المصلى الصغير الذي قصر برسم النساء إلى جهة الشرق ، تدخل إليه النساء من حيث لا يراهنّ الرجال ولا يطلع عليهنّ (٤) فيه أحد / في الجبانة الكبيرة مصلى الرجال.

__________________

(١) الأصل : «جدرا ، الجدر».

(٢) كذا الأصل ، وفي مساجد صنعاء ٢٨ ، والجندي ق ٩٧ : «الكثيرة من ماله أنفقه».

(٣) كذا الأصل.

(٤) الأصل : «لا يراهم» ، «عليهم».

٥٣٥

وحذّي المنبر بحايط من شرقيّه ويمانيّه وغربيّه ثم من خلفه من قبليّه.

وجصّص وأتقن جصاصه ، وأحكم قضاضه ، وكل ما عمل فيه من عمل فهو بحضور هذا الأمير الأغر الأجل الكبير علم الدين وردسار [بن](١) بيامي ، وفقه الله تعالى وأسعده ، وهداه إلى طريق الخيرات وأرشده ، وبترتيبه ونظره وأمره.

وأنفق عليه غير الجعالات الراتبة مالا كثيرا هبة منه على سبيل الجائزة للبناة والجعلاء والمقضضين ، ولكل من عمل به عملا ، وكساهم الثياب الجيدة على سبيل الخلع في عرفهم.

ونقش محراب الجبانة بالجصّ أياما نقشا حسنا جيدا متقنا ، وكتب فيه آيات من القرآن الكريم واسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصلاة عليه فيه ، والترضي عن أصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي‌الله‌عنهم ـ والترضي على سائر أصحابه ، واسم فروة بن مسيك المرادي ، وأنه هو الذي أحدث عمارتها ووضعتها (٢) على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسم هذا الأمير الأغر علم الدين وردسار ونسبه ، أجزل الله ثوابه وضاعف حسناته ، وكتب في حجرين نقشا في أيسر المحراب في الجدار وقضض حواليها ، وجصص اسم الله تعالى واسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصلاة عليه ، واسم فروة بن مسيك / المرادي وأنه هو الذي وضعها على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحجران أحدهما مرمر ، والثاني رخام.

وجصص وقضض جميع جدرانها ظاهرا وباطنا حتى صارت تنظر إلى أبعد بلد منها من عظم بياضها وحسنها.

فلما فرغ من بنائها وقضاضها وتجصيصها وإتقانها وإحكامها ، خرج أمر هذا الأمير ـ وفقه الله تعالى ـ على جمّالته بإخراج جماله لحمل البطحاء إلى المصلى ،

__________________

(١) ساقطة من الأصل.

(٢) كذا الأصل ولعلها : «ووضعها» ، كما سيأتي.

٥٣٦

فحملت إليه جماله البطحاء وبطح ، وأكثر فيه البطحاء ، حملت إليه الجمال أياما كثيرة ، والأمير ـ أعزه الله ـ قائم فيه وقاعد لا يبرح ولا ينفك من طلوع الفجر الأبيض وحينا من طلوع الشمس إلى أوقات قد تزيد وتنقص ، مع من (١) يحضر معه من حاشيته ووزرائه وحلقته وأجناده ورعيته ، يحضرون على سبيل التنزه والنظر ، فكان يحضرها من الناس خلق كثير ، مع من يصل من أطراف البلاد من أشراف العرب ورؤسائهم.

وكانت أيام عمارتها أياما مشهورة من كثرة الناس ، وسرهم ما أحياه من آثار أهل الدين. وقد ذكرت أن ابتداء عمارتها في اليوم الثاني من شهر شوال سنة اثنتين وست مئة ، وكان كمال عمارتها في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة وهو يوم الإثنين / يوم عرفة في آخر اليوم ، وصلّي فيها العيد وهي كاملة مكملة على ما حكيتها في الكتاب.

كل ذلك من النهوض وإنفاق الأموال والحضور منه. وأمر بفضّة ، عملت طلعتين كبيرتين وكتب فيهما آيات من القرآن الكريم واسمه ، ووقفهما على المنبرين الشريفين الكريمين ، منبر الجبانة المقدم ذكرها ، ومنبر المسجد الجامع بصنعاء ، لوقت كل خطبة يكونان ، والرمحين اللذين فيهما العلمان (٢) ، وذلك جائز شرعا.

ومما رأيته من بركات الجبانة أنه ما سأل أحد حاجة إلا قضاها على مرور الأيام والساعات.

وصلى هذا الأمير المقدم ذكره في مسجد فروة مرارا في وقت عمارة الجبانة وإقامته فيها.

__________________

(١) الأصل : «ما».

(٢) الأصل : «العلمين».

٥٣٧

وقد كثرت الأخبار باستجابة الدعوة فيها من قديم بالتجربة المشاهدة ، ثم ما شاهدنا من بركاتها من صلاح أحوال الناس منذ وضع تجديد عمارتها وأعيدت الصلاة فيها.

لم يسبق هذا الأمير ـ وفقه الله ـ إلى مثل هذه العمارة في المصلى أحد قبله ، ولو كان لانتشر وذكر كما ذكرت عمارتها ومن عمر العمارة القليلة والبناء الضعيف ، فهذه نعمة يجب عليه شكرها لله سبحانه ، وقد شكره حين خصه بها من دون سائر الناس ممن ملك البلاد قبله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)(١) ومن أحبه الله حبّب الله الخير إليه وهداه وأرشده. ومن أبغضه الله بغض إليه الخير وأضله ، كما قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ / كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢).

وكنت أنا يومئذ متولي الأحكام الشرعية في مدينة صنعاء وأعمالها والخطبة فيها. ثم إنه لما كان قد اندرس فضل الجبانة بسبب أحوال عرضت من ولاة لا يدينون بدين أهل السنة والجماعة ، وأهل السنة والجماعة هم ممن لا يرى رفض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وعلى عليّ ـ أحببت أن أنشر خامل فضلها وأذكر ما انطوى من بركتها ، أعلمت أهل العصر من الناس بفضائلها ، وأعلنت بذكرها في كل موطن ، حتى إني ذكرت شيئا من ذلك في آخر خطبة عيد الأضحى. في هذا العيد عند نجاز الخطبة الراتبة المجزئة المنعقدة خطبة فقلت : «واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله نصب لكم أعلام الرشاد ، وأوضح لكم سبل السداد ، إكراما لكم وتطولا ، وإنعاما عليكم وتفضلا ، وفضّل المساجد والبقاع

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ٧٤

(٢) الأنعام : ٦ / ١٢٥

٥٣٨

بعضها على بعض ، كما فضّل الشهور بعضها على بعض. ألا وإن هذا المصلى الكريم له فضل مشهور ، متقادم مذكور ، وإنه أول مصلّى وضع لعيد المسلمين في اليمن ، على عهد النبي الأمين المؤتمن ، وضعه فروة بن مسيك المرادي رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل اليمن ، بأمره في ذلك الزمن. فأكثروا فيه الدعاء والتضرع ، واغتنموا الصلاة فيه والتخشع ، فإن الدعاء فيه مقبول مجاب ، والعامل فيه مأجور مثاب. فأكثروا / طيافته وزيارته ، فقد أظهر الله بناءه وعمارته. وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم».

ثم إن هذا الأمير ـ وفقه الله ـ أمر باحتفار البئر التي تلي الجبانة وإحداثها ، فاحتفرت وبنيت وأحكم طيّها ، وعملت بساورتين ، وأحدثت البركة التي تليها ، وعمل الدكانان اللتان بين البئر والبركة ، وقضض ذلك كله قضاضا حسنا ، جدران البئر ، والبركة ، والدكانان ، والسواقي ، وجرى الماء منها.

ثم أمر ببناء الدار التي تلي البئر برسم الساكن فيها لحفظ الضيعة وحفظ الدواب المرصدة للضيعة ، فبنيت على هيئتها هذه المشاهدة ، دهاليز واسعة.

ثم إنه أمر بإحياء الضيعة التي حواليها ، فشيء منها كان مرافق (١) للجبانة ومصالحها ، وشيء كان عليه أثر لا يعرف له مالك. فأجاز له أهل الشرع إصلاحها فأصلحها ، وخرج فيها جرب حسنة جيدة ، جربة قبلي الجبانة ، وجربة شرقيها ، وجربة يمانيها ، فأقامت به الأبقار أياما بل أشهرا برسم الجرور حتى انصلحت وثبتت وزرعت ، وأرصدها هذا الأمير ـ وفقه الله ـ ووقفها على مصالح الجبانة وعلى من يسكن فيها من الفقراء والمساكين المنقطعين ، وأوى إليها من أبناء السبيل ، وذلك ما فضل بعد عمارتها ونفقة القيم فيها وما يحتاج إليه. وجعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ / فَلَهُ*

__________________

(١) الأصل : «مرافقا».

٥٣٩

عَشْرُ أَمْثالِها)(١) ولقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً)(٢) وقوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى)(٣) فإنّ الله يضاعف له الحسنات ويتجاوز له عن السيئات ، إنه مجيب الدعوات.

وصارت الجبانة روضة حسنة فائقة على غيرها من حسن بنائها ، وإتقان قضاضها ، وإحكام صنعتها ، وزاد في زينتها الزراعة المحدقة فيها ، والقضوب المحفوفة بها ، فحسنها يزهر ، ومنظرها (٤) يبهر. ولقد سألت من عاين جبانات الشام ومصلاتها ، هل عمل فيها مثلها ، فأخبرني من أثق بقوله ممن طاف الشام أنه لم يعمل فيه مثلها أبدا. وأما في اليمن ، فنحن من أهل اليمن ، فما رأينا في اليمن مثلها في حسن العناية والترتيب والعمارة والإتقان والإحكام.

* * *

فصل

في ذكر ما قيل فيها من الشعر

من ذلك ما قاله الأجلّ الأكمل الأديب العالم يحيى بن محمد بن الحسين بن عبد الله الحميري (٥) :

أزهر الجوّ أم زهر الكمام

تضاحك صوب وكاف سجام

__________________

(١) الأنعام : ٦ / ١٦٠

(٢) آل عمران : ٣ / ٣٠

(٣) آل عمران : ٣ / ١٩٥

(٤) الأصل : «نظرها».

(٥) لم أجد للشاعر ترجمة ، ولعله كان معاصرا للأمير علم الدين وردسار وللمؤلف ، كما ينبئ بذلك البيت السابع عشر وما بعده من القصيدة. ونجد في هذه القصيدة الأبيات (١٣ و ١٤ و ١٥) هي ما سبق وعزي إلى الجارية في ص ٥٣٣

٥٤٠