تاريخ مدينة صنعاء

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي

تاريخ مدينة صنعاء

المؤلف:

أحمد بن عبد الله بن محمّد الرازي


المحقق: الدكتور حسين بن عبد الله العمري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٢٤

كتاب الاختصاص

* بذكر تجديد عمارة الجبّانة التي هي مصلّى العيدين في مقام مدينة صنعاء في الحديبية منها.

* وعمارة المنارتين في المسجد الجامع بصنعاء.

* وعمارة مسجد معاذ بن جبل في جبل صيد في عدني مدينة الجند.

* وما يتخلل ذلك من الأخبار.

* بذيل الجزء الثالث من التاريخ الذي فيه ذكر قدم صنعاء. تصنيف الشيخ أحمد بن عبد الله بن محمد الرازي رضي‌الله‌عنه.

تولى تأليف ذلك وجمعه

القاضي الأجل ، السيد الأفضل ، العالم الورع

الزاهد التقي الموفق

نظام الدين سريّ إبراهيم بن أبي بكر بن علي

ابن معاذ بن المبارك بن تبع بن يوسف

ابن فضيل

أجزل الله ثوابه ، وجعل الجنة مآبه

وكافأه بالحسنات ورفع له

الدرجات

٥٠١
٥٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله خالق الأعراض والجواهر ، ومؤلّف الأجسام والعناصر ، الملك القويّ القاهر ، الأول الآخر ، عالم الإعلان والسرائر ، غافر الذنوب الكبائر منها والصغائر.

أحمده على إحسانه المتواتر ، وإنعامه المتقاطر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يرغم بها الجاحد الفاجر ، ويعظم بها الخالق القادر. وأشهد أن محمدا عبده الطاهر ، ورسوله الزاهر ، أرسله بنور باهر ، وسيف باتر ، فأباد كلّ كافر جائر ، وأعزّ كل مسلم ناصر. صلى الله عليه وعلى آله الأطيبين الأطاهر ، وأصحابه الأنجم الزواهر ، وعلى كلّ مهاجر منهم وناصر ، وسلم عليهم تسليما.

وبعد : فإن القصد والغرض ذكر تجديد عمارة الجبّانة التي هي مصلّى العيدين في مقدّم مدينة صنعاء في الحديبية (١) منها.

وعمارة المنارتين اللتين في المسجد الجامع.

وعمارة مسجد معاذ بن جبل صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي في جبل صيد في يماني مدينة الجند.

وذكر من جدّد عمارة ذلك واسمه ونسبه وذكر بعض أخباره.

__________________

(١) الحديبية : موضع في شمال مدينة صنعاء بالقرب من جبانتها. انظر تاريخ صنعاء : ١٢٩ ، ٢٥٥ ، ٢٦١

٥٠٣

وكان ما يأتي ذكره بمشهدي ..... (١) من أشياء لا يهمل ذكر مثلها لكونها إنذارا ووعظا من الله تعالى لعباده ..... (٢) عليه من فضل هذه الجبانة والمسجد الجامع بصنعاء.

وجعلت هذا التاريخ ذيلا للجزء الثالث من كتاب الشيخ أحمد بن عبد الله بن محمد الرازي ، على تقدير أنه أول وهذا آخر (٣) ، وهو لا شك هكذا من جمله / والزمان والفعل (٤). فاستغنيت عن إعادة ذكر ما ذكره فيه. فمن أحب أن يطلع على هذا فلا معنى لقراءته إلّا بعد استيعاب الجزء الثالث من كتاب أحمد بن عبد الله الرازي ، لكوني لم أذكر في هذا إلا اليسير مما ذكره في كتابه المذكور. والله المستعان وبه الثقة والحول والقوة.

* * *

فأقول ـ وما توفيقي إلا بالله سبحانه ـ :

إنه قد صح وثبت واستقرّ أن المسجد الجامع في مدينة صنعاء بني على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمره.

وأن الجبانة التي في مقدّمها وضعت مصلّى لعيد المسلمين على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي أول جبانة وضعت لعيد المسلمين في اليمن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأن مسجد الجند بني على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عمارة مسجد صنعاء والجبانة فيها.

__________________

(١) بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات ذهب بها التصوير.

(٢) بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات ذهب بها التصوير.

(٣) انظر مقدمتنا لتاريخ صنعاء ص ٣٣ ـ ٣٤ حيث ما ذهبنا إليه من أن تاريخ الرازي يقع في جزء واحد فقط.

(٤) كذا الأصل ، والعبارة قلقة.

٥٠٤

وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة مما لا يشك في نقلها. وقد روى أحمد بن عبد الله الرازي في كتابه (١) ذكر ذلك وأسنده ، فمنه ما هو مسند رواه ورفعه إلى أصله. ومنه ما نقله من كتب العلماء الورعين الثقات الموجودة بخطوطهم مما لا يشك فيه إلا مبتدع لا يصدّق بفضل أهل الإسلام. ومنه ما يرويه خلف أهل صنعاء عن سلفهم من أهل السنّة والجماعة ، فأغناني ما ذكره عن ذكر السند ، بل جعلته على هذا الوضع لعلمي بما قد تحققته من قرائن الأحوال المؤدية لتحقيق ذلك وعلمه.

وليس الغرض إلا ذكر (٢) تجديد العمارة التي حضرتها ونبهت عليها ، وذكر من عمرها بفضل هذه البقاع فخصه الله تعالى وأرشده وهداه وألهمه فعل الخير ، وكنت أنا المنبه لذلك والذاكر لفضله وهو المنفق على ذلك من ماله والفاعل لعمارة ذلك : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا / مُرْشِداً)(٣).

فأقدم ذكر اسم المشار إليه الذي أمر بتجديد هذه العمارات في المواضع المذكورة.

ثم أذكر بعد ما شهدته في زماننا من آيات الله تعالى.

ثم أذكر بعده فضل المسجد والجبانة والوافدين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل اليمن ، لأن منهم الذي عمر المسجد الجامع بصنعاء والجبانة التي هي مصلّى العيدين.

__________________

(١) عن (جامع صنعاء) و (الجبانة) انظر ما ذكره الرازي في تاريخ صنعاء من الروايات والأخبار المختلفة في الصفحات : ١٢٧ ـ ١٤٠ و ٢٥٩ ـ ٢٦١. وعن مسجد الجند الصفحات : ١٣٠ ـ ١٤٠ و ٢٥١ ـ ٢٥٦

(٢) في الأصل «إلى ذكر» ولا يقوم المعنى.

(٣) الكهف : ١٨ / ١٧

٥٠٥

[ملك الأكراد يجدد هذه العمارات]

فأما الذي أمر بتجديد هذه العمارات التي يأتي ذكر صفتها بعد ذلك فهو الأمير الأجلّ السعيد ملك الأكراد علم الدين وردسار بن بيامي بن أسوسي بن باذبان بن موفر الشانكاني (١) ، وهي قبيلة شانكان من قبائل الأكراد من العرب ، قيل : من نزار بن معد بن عدنان.

__________________

(١) أحد أمراء الأيوبيين خلال حكمهم اليمن (١١٧٤ ـ ١٢٢٩ م) وقد ولاه سيف الدين سنقر نائبا على صنعاء سنة ٥٩٨ ه‍ ١١٩٧ م بعد مقتل المعز إسماعيل طغتكين بن أيوب ، وكان بينه وبين الإمام عبد الله بن حمزة (٥٦١ ـ ٦١٤ ه‍ ١١٦٥ ـ ١٢١٧ م) معارك وحروب. وقد توفي بحصن السّمدان سنة ٦١٠ ه‍ ١٢١٣ م.

ضبطنا بعض اسمه من تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب لابن الفوطي ١ / ٦٢٩ ، وانظر قرة العيون ١ / ٤٠٥ ـ تحقيق الأكوع ، وتاريخ الكبسي (خ) : ٩٣ ـ ١٠٢ وجاء فيه «أن الملك الناصر سمّه خيفة منه». ومساجد صنعاء للحجري ٢٨

٥٠٦

فصل

في ذكر ما شاهدناه في زماننا من آيات الله سبحانه

فإنه لما كان ليلة السبت أول يوم من شهر صفر سنة تسع وتسعين وخمس مئة تناثرت النجوم الشهب نجوم كثيرة على هيئة الشهب التي ترى (١) في العادة ، حتى إن الواحد (٢) في هذه الليلة يقلب طرفه في السماء فيرى بالنظرة الواحدة ما لا يقدر أن يحصيه عددا ، وهي تمر شرقا وغربا وجنوبا. [وقد امتد ذلك من](٣) صنعاء إلى عدن وزبيد ومخاليفها ، ولم أعلم هل نظرت (٤) في غيرها أم لا. فبقي ذلك من دخول ساعة من أول الليل إلى قريب طلوع من الفجر ، إلّا النجوم المعروفة فإنه لم ير (٥) لها تحول عن مكانها.

ورأيت في بعض تفاسير القرآن أنه اجتمع تناثرها هكذا في بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد مبعثه بعشرين يوما ، وأكثر من نظرها / قريش نظروها يرمى بها ، وكانت بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الإثنين لعشر خلون من ربيع الأول.

__________________

(١) الأصل : «ترا».

(٢) يريد : الإنسان.

(٣) ذهب التصوير بحوالي سطر استدركنا ما ذهب من قرة العيون ١ / ٤٠٦ وجعلناه بين معقوفين. وقد ذكر الجندي مثل هذا الخبر ونقله عنه ابن الديبع في معرض ما حدث في زبيد سنة ٦٠٠ ه‍.

(٤) يريد : هل شوهدت في غيرها.

(٥) الأصل : «لم يرا».

٥٠٧

فصل

في ذكر الآية الثانية من آيات الله تعالى

وذلك أنه لما كان يوم الأربعاء لخمس عشرة خلت من شهر صفر من شهور ست مئة من بعد صلاة الظهر بقليل تراكم السحاب في الهواء (١) حتى كأنه سحاب مطر عظيم معمّ ، فوقع من السماء تراب أبيض فيه غبرة قليلة وفيه ثقل ووزن إذا اجتمع ، وعند نزوله كالنطف خفيف نزل من الهواء (٢) كما ينزل المطر الخفيف رشاش مثل النطف الصغار من المطر. فلم يزل ينزل إلى صبيحة يوم الخميس ثاني اليوم ، هذا في صنعاء ونواحيها وأعمالها حتى غطّى ورق الأشجار والزراعة يكون عمقه (٣) أصبعين ، وكان ذلك من البون بون (٤) صنعاء إلى ما يحاذيه من أرض مغارب صنعاء إلى ما يحاذيه من مشارقها إلى ذمار وأعمالها وإلى جميع مخلاف جعفر (٥) من أرض اليمن إلى زبيد وجميع أعمالها التهامية. وكان في بعض بلاد اليمن

__________________

(١) الأصل : «الهوى».

(٢) يريد : سمكه.

(٣) أي من شمال صنعاء بنحو / ٦٠ / كيلو مترا ثم جنوبا إلى مخلاف جعفر ـ المنطقة الوسطى ـ وغربا إلى تهامة. انظر عن (البون) وبقية الأماكن والمواضع في هذا الذيل الكشاف الملحق ب (تاريخ صنعاء) وسوف نعرف ما لم يرد له تعريف في الكشاف حيثما نجد ذلك ضروريا.

(٤) يقع مخلاف جعفر جنوب صنعاء (محافظة إب الآن تقريبا) وكان يعرف بمخلاف الكلاع ثم سمي مخلاف جعفر نسبة إلى الأمير الحميري أبي الفضل جعفر بن إبراهيم المناخي ، وقد نبه الخزرجي في (طراز أعلام اليمن ورقة ٢١٧) إلى وهم عمارة في (المفيد) بأن هذا المخلاف منسوب إلى جعفر بن إبراهيم المناخي مولى زياد (والمقتول في معركة مع قرامطة علي بن الفضل سنة ٢٩١ ه‍). ولعل ابن الديبع (ت ٩٤٤ ه‍) نقل عن عمارة فوقع في الوهم نفسه في كتابه (قرة العيون ١ / ١٩١). وفات العلامة القاضي محمد الأكوع التنبيه على ذلك في تحقيقه للكتاب. انظر صفة الجزيرة ٢١٠ ، والإكليل ٢ / ٢٤٤ ، والخزرجي.

٥٠٨

استدامة وقعه (١) ثلاثة أيام. وكان عمقه في زبيد قدر شبر وربما أكثر ، مع ظلمة مثل الليل كانت في زبيد وأعمالها لا يفرق بين الليل والنهار ، وما يسير الناس في زبيد ونواحيها في النهار إلا بالمصابيح من شدة الظلمة أياما. وقيل : إنه نزل بعده في زبيد تراب أسود مثل الكحل في بعض الجبال أيضا ، وكان إلى مأرب وحضر موت / وإلى البحر. وأما من ظاهر بني صريم إلى صعدة إلى شامها فلم يكن هنالك منه شيء.

وأخذت منه وحفظته وهو دقيق ناعم ، وربما إنه يطرح على جراحات الدواب فيبرئ بسرعة وربما يداوى به الحكيك المسترجف فيبرئ ، حكى لي بعض من جرّبه.

ثم تبع ذلك أصوات يتخيل أنها زلازل وليست بزلازل بل هي كصوت الحجر الكبير إذا طرح في البئر ، أقام ذلك وجه شهر في جميع اليمن الليل والنهار.

وتاب في أرض اليمن خلق كثير ، والسبب لتوبتهم هذه الآيات ، قال الله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(٢). وهذا إنذار من الله تعالى أنذر به عباده ، وذلك خارق للعادة فنسأل الله تعالى ألا يجعل الدنيا غاية مقصودنا ولا منتهى أملنا ، فإن الله ـ تعالى ـ قد أنذرنا بهذا الذي لم ينذر به سلفنا مع ما معنا من كتابه الكريم وسنة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. وهذا الذي أنذرنا به لإبلاغ الحجة علينا. فالله تعالى نسأله ونتضرع إليه أن يعفو (٣) عنا ويغفر لنا ويتقبل منا ويتجاوز عنا ، إنه قريب مجيب.

__________________

(١) الأصل : «استادمه».

(٢) الإسراء : ١٧ / ٥٩

(٣) الأصل : يعف.

٥٠٩

فصل

وقد كان حدث في أكثر بلاد اليمن ـ قبل تناثر النجوم في مدة هي ثلاث سنين آخرها السنة التي تناثرت بها النجوم ـ برق كثير في وقت الأمطار ، فتلف منه خلق كثير لا يحصي عددهم إلّا الله ، فما كان يقع المطر إلّا ويتلف / من البرق ناس ودواب. وأكثر ذلك في وصاب والجبال العالية. وكان إذا وقع المطر أصاب الناس خوف شديد من البرق.

ولقد رأيت من عجائبه شيئا أني ذات يوم واقف في بيتي في مخلاف جعفر وقد وقع المطر فبرق برق شديد حتى ما بقيت أرى من عندي مما غلب على العين من شدة البرق.

ورجل قائم ظهره إلى جنب حجار سود فأخذت الحجار البرقة لوحا من حجر أسود (١) كان رأسه مسندا عليه وانفصل اللوح من الحجر وسلم الرجل. وهو كما قال الله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ* لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ)(٢). وقد ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقع في آخر الزمان برق كثير حتى إنه إذا أصبح الناس قال بعضهم لبعض : من برق هذه الليلة هذا من بركته» وجميع ما يقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الصدق لأنه هو الصادق المصدق الأمين ، كما قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)(٣). وهذه سنن

__________________

(١) العبارة مضطربة. ولعله يريد : فأخذت البرقة من الحجار لوحا من حجر أسود.

(٢) الرعد : ١٣ / ١٣ وأول ١٤

(٣) النجم : ٥٣ / ٣ ـ ٥

٥١٠

الآيات كانت متوالية آخرها سنة البرق والظلمة. فإنا نسأل الله تعالى أن ينور قلوبنا بالإيمان ، وأن يجبب إلينا تلاوة القرآن ، والحمد لله رب العالمين.

* * *

حكاية

حكي أنه كان في مدينة الجند اجتمع جماعة في بيت واحد في غرفة عالية / وعددهم أربعة عشر رجلا ، وهم يلعبون بالميسر ـ وهو القمار ـ وذلك في إحدى هذه السنين ، فأصابتهم برقة شقّت الدار من أعلاها إلى أسفل ، ثم برقت برقة أخرى فدخلت عليهم من الشق ووقعت بينهم فأحرقت الفصوص والدراهم التي كانوا يلعبون بها ، وسبكت الدراهم سبيكة ، وقتل البرق تسعة رجال وسلم خمسة وتاب الخمسة الباقون.

* * *

٥١١

فصل

في ذكرى الوافدين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وفي ذلك يظهر المقصود ، لأن منهم الذي بنى (١) المسجد الجامع بصنعاء ، والجبانة فيها. ثم نذكر بعدهم ما خصّ الله به هذا الأمير الكبير الأجل المقدم ذكره علم الدين وردسار ـ أجزل الله ثوابه ـ من عمارة ما ذكرت مما قد كان اندرس وذهب وأخمله من ولاة الأمر من طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢). فكان هذا الأمير الأجل السّنّي الشافعي المخصوص بإحياء هذه المواضع الكريمة والمساجد الفاضلة المشهود لها بالفضل. ضاعف الله تعالى حسناته ، ورفع في الجنات درجاته.

ولما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه الوفود ـ وفود العرب ـ من كل جهة ، وذلك كان في سنة تسع ، وأنها كانت تسمى «سنة الوفود» (٣) لأن العرب كانت تتربّص بالإسلام أمر قريش وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وضريح ولد إسماعيل / بن إبراهيم ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاربته وخالفته. فلما افتتحت مكة وذلت قريش ودوخها الإسلام عرفت العرب أنه

__________________

(١) الأصل : «بنا».

(٢) الجاثية : ٤٥ / ٢٣

(٣) سيرة ابن هشام ، ط الأوربية ٢ / ٩٣٣. والطبري ، ط دار المعارف ٣ / ١١٥ ، وانظر في ذلك ما تقدم في تاريخ صنعاء.

٥١٢

لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله تعالى كما قال الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(١) ، فقدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفود العرب من أشراف بني تميم كالزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفي وفد بني تميم عيينة بن حصن بن بدر بن حذيفة وغيره من أشراف العرب (٢). ثم قدمت عليه بعد ذلك وفود اليمن (٣) : فروة بن مسيك المرادي قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم ، وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا حتى أثخنوهم قتلا وقهروهم في يوم كان يقال له : «يوم الرّزم» (٤) ، الرزم ؛ بالزاي وهو الصحيح ، قيل إنه موضع في الجوف من أرض اليمن من أعمال صنعاء اليمن ، فكان الذي قاد إلى مراد همدان الأجدع بن مالك ، وقيل : مالك بن خريم. ولفروة بن مسيك فيما أصابه هو وقومه أشعار يصبّر بها نفسه على ما جرى. فلما انتهى فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرّزم؟» ، قال : يا رسول الله ، من ذا يصيب قومه مثلما يصيب قومي يوم الرزم لا يسوؤه ذلك؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا». فاستعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مراد وزبيد وسائر مذحج كلها ، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه (٥).

__________________

(١) سورة النصر : ١١٠ / ١ ـ ٣

(٢) انظر سيرة ابن هشام ، ط الأوربية ٢ / ٩٣٣. والطبري ، ط دار المعارف ٣ / ١١٥. وانظر عن وفود اليمن ما تقدم في تاريخ صنعاء.

(٣) يقال ليوم الرزم : يوم الردم بالدال أيضا ، وكان بين همدان ومذحج ، وقد صادف يوم بدر في السنة الثانية للهجرة ٦٢٤ م. انظر الإكليل ٢ / ٤٦٢ و ١٠ / ٨٣ و ١٩٢. وصفة الجزيرة ٢٣٧ وحاشية ٨. وانظر خبر فروة بن مسيك مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطبري ٣ / ١٣٤ ـ ١٣٦.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٩٥٠. والطبري ٣ / ١١٥.

٥١٣

ووفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا قيس إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد ، قد خرج بالحجاز وقال : إنه نبي ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه. فإنه إن كان نبيا كما يقول لن يخفى (١) عليك ، إذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه. فأبى (٢) عليه قيس وسفّه رأيه. وركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وصدّقه وآمن به. فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وتحطّم (٣) عليه وقال : خالفني وترك رأيي ، فقال في ذلك شعرا يذم به قيس بن مكشوح ويطرح تواعده به ويذكر شجاعة نفسه ، فكأنه لا يلفت عليه (٤).

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأشعث بن قيس بن شهاب (٥) ، إنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثمانين راكبا من كندة ، فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مسجده](٦) قد رجّلوا جمامهم (٧) وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة (٨) قد كففوها

__________________

(١) الأصل : «يخفا» «فأبا».

(٢) تحطم عليه : اغتاظ منه واشتد عليه. وفي الطبري ٣ / ١٣٢ ـ ١٣٤ : «تحفظ عليه» في الخبر ، والقصيدة مطلعها :

أمرتك يوم ذي صنعا

ء أمرا باديا رشده

وانظر سيرة ابن هشام ٢ / ٩٠١ ـ ٩٠٣ وفيها أيضا : «تحطم عليه» ، ولعل المؤلف أخذ عنه ، فهو كثير النقل عنه.

(٣) كذا الأصل. ولعلها : «فكان لا يلتفت إليه».

(٤) انظر السيرة ٢ / ٩٠٣ ، وفي الطبري ٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩

(٥) من الطبري والسيرة.

(٦) مفردها جمة ، وهي مجتمع شعر الناصية الذي يصل إلى المنكبين ، ورجلوا جمامهم أو جممهم : أي أصلحوها وسرحوها.

(٧) الجبب : مفردها جبة ، وهي نوع من الثياب معروف ، والحبرة : البرد والثوب الموشى ، أو هي ضرب من برود أهل اليمن معروف عندهم.

٥١٤

بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / قال : «ألم تسلموا؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟». قال : فشقوه منها فألقوه. ثم قال له الأشعث بن قيس : يا رسول الله! نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاحكا وقال : «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث» وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين ، فكانا إذا شاعا في بعض العرب فسئلا ممّن هما قالا : نحن بنو [آكل (١) المرار ، يتعززان بذلك. وذلك أن كندة كانوا ملوكا. ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، نحن بنو النضر بن كنانة ، لا تكونوا منا ـ يعني في النسب ـ ولا نلتقي من أبينا» فقال الأشعث بن قيس : هل عرفتم يا معشر كندة! والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.

قال ابن هشام (٢) : «الأشعث : من ولد المرار من قبل النساء ، وآكل المرار : الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندى ، ويقال كندة ، وإنما سمي : آكل المرار : لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم ، وكان الحارث غائبا ، فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى (٣) أم إياس بنت عمرو بن محكم الشيباني امرأة الحارث بن عمرو ، فقالت لعمرو في مسيره : لكأني برجل أدلم أسود كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك ، تعني الحارث بن عمرو ، فسمي آكل المرار ، والمرار : شجر. ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل ، فلحقه واستنقذ امرأته وما كان أصاب».

وقيل : آكل المرار : حجر بن عمرو ، وسمي آكل المرار لأنه أكل هو وأصحابه المرار في تلك الغزوة.

__________________

(١) ليست في الأصل.

(٢) السيرة ٢ / ٩٠٣

(٣) الأصل : «سبا».

٥١٥

وقدم (١) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صرد / بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد ، فأسلم وحسن إسلامه ، وأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجاهد في سبيل الله من لم يسلم ممن يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن. فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل جرش ، وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليها خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم ، فحاصروهم فيها قريبا من شهر ، وامتنعوا فيها منه. ثم إنه رجع عنهم قافلا ، حتى إذا كان في جبل يقال له : شكر (٢) ، ظن أهل جرش (٣) أنه إنما ولّى عنهم منهزما ، فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه (٤) عطف عليهم فقتلهم قتلا شديدا. وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة يرتادان وينظران ، فبينما هما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشية بعد العصر إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بأي بلاد شكر؟» فقال الجرشيان : ببلادنا جبل يقال له : كشر ، فكذلك يسميه أهل جرش. فقال : «إنه ليس كشر ولكنه شكر». قالا : فما شأنه يا رسول الله؟ قال : «إن بدن الله لتنحر عنده الآن». فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان فقالا لهما : ويحكما ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينعي إليكما قومكما ، فقوما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسألاه أن يرفع عن قومكما. فقاما إليه فسألاه ذلك ، فقال : «اللهم ارفع عنهم». فخرجا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومهما فوجدا قومهما أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد الله الأزدي في اليوم الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال وفي الساعة / التي ذكر فيها ما ذكر. فخرج وفد

__________________

(١) الخبر في السيرة ٢ / ٩٠٢ ، والطبري ٣ / ١٣٠

(٢) في الطبري ٣ / ١٣٠ : «كشر». وشكر : جبل في اليمن على مقربة من جرش (ياقوت).

(٣) الأصل : «ظن أن أهل جرش أنه».

(٤) الأصل : «أدركوا».

٥١٦

جرش حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس والراحلة والمثيرة بقرة الحرث (١).

* * *

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب ملوك حمير وقت مقدمه من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ، [ونعيم بن عبد كلال](٢) ، والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان. وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرّة الرّهاوي بإسلامهم ومفارقتهم للشرك وأهله ، فكتب إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان :

أما بعد : فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبا من أرض الروم ، فلقينا بالمدينة ، فبلّغ ما أرسلتم به ، وخبّرنا بما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم للمشركين. وإن الله تعالى قد هداكم بهداه ، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيّه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر

__________________

(١) يلي هذا في السيرة ٢ / ٩٠٠ ، وفي الطبري ٣ / ١٣١ : «فمن رعاه من الناس فماله سحت ، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد ـ وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية وكانوا يعدون في الشهر الحرام ـ :

يا غزوة ما غزونا غير خائبة

فيها البغال وفيها الخيل والحمر

حتى أتينا حميرا في مصانعها

وجمع خثعم قد ساغت لها النّذر

إذا وضعت غليلا كنت أحمله

فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا»

(٢) من السيرة ٢ / ٩٠٠ ، والطبري ٣ / ١٢٠. والخبر بنصه كاملا فيهما.

٥١٧

ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر وإنه في الإبل الأربعين ابنة لبون ، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي أربعين من البقر بقرة ، وفي ثلاثين / من البقر تبيع جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة. وإنها فريضة الله التي فرض على عباده المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدّى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، وله ذمة الله وذمة رسوله. وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية ، على كل حالم ذكر أو أنثى ، حرّ أو عبد ، دينار واف من نقد المعافر أو عوضه ثيابا ، فمن أدّى (١) ذلك إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدوّ لله ولرسوله.

(وفي كتابه بعد اسم محمد رسول الله الذي) (٢) أرسل إلى زرعة ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا ، معاذ بن جبل ، وعبد الله بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرّة ، وأصحابهم. وأن يجمعوا ما عندكم من الصدقة ، والجزية من مخاليفكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا.

أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله الله وأنه عبده ورسوله. ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين فأبشر بخير وآمرك بحمير خيرا. ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مولى (٣)

__________________

(١) الأصل : «أدا».

(٢) ما بين القوسين لم يرد في سيرة ابن هشام أو الطبري.

(٣) الأصل : «مولا».

٥١٨

غنيكم وفقيركم ، فإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يزكى بها فقراء المسلمين وابن السبيل. وإن مالكا قد بلّغ الخبر وحفظ الغيب / وآمركم به خيرا. وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم ، وآمركم بهم خيرا فإنه منظور إليهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

* * *

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد (١) في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا ، فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون : أيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه ، وأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك كان أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا. ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا هو :

«بسم الله الرحمن الرحيم

لمحمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من خالد بن الوليد :

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

أما بعد : فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ؛ أما بعد : يا رسول الله ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٩٥٨ ـ ٩٦٠ ، الطبري : ٣ / ١٢٦ (حوادث سنة ١٠ ه‍).

٥١٩

الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله / صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثت فيهم ركبانا : يا بني الحارث أسلموا تسلموا ؛ فأسلموا ولم يقاتلوا. وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله تعالى به ، وأنهاهم عما نهاهم الله تعالى عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي ـ عليه أفضل الصلاة والتسليم ـ [حتى يكتب إلي رسول الله](١) والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته».

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى خالد بن الوليد :

سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.

أما بعد : إن كتابك جاءني مع رسولك (٢) يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام. وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن قد هداهم الله بهداه ، فبشّرهم وأنذرهم ، وأقبل ، وليقبل معك وفدهم. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».

فأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب منهم : قيس بن الحصين [بن يزيد بن قنان](٣) ذي الغصّة ، ويزيد بن عبد المدان ، ويزيد بن المحجّل ، وعبد الله بن قراد (٤) الزيادي ، وشداد بن عبد الله القيناني ، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟» قيل : يا رسول الله ، هؤلاء

__________________

(١) من ابن هشام والطبري.

(٢) في ابن هشام والطبري : «رسلك».

(٣) من الطبري ، والإكليل ١٠ / ١٨٩ ـ ١٩٠

(٤) في الطبري : «قريظ».

٥٢٠