بقيع الغرقد

الشيخ محمّد أمين الأميني

بقيع الغرقد

المؤلف:

الشيخ محمّد أمين الأميني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.

إنّ من الطبيعي أن تعتز كلّ أمة بميراثها الحضاري وتبجّله ، وأن تحتفظ ببقايا الآثار والمدن المقدسة ؛ لكي تصان من الاندراس ، خاصة إذا تعلق ذلك بالجانب العقائدي والديني.

وان بقيع الغرقد هو من تلك الأماكن التي تربط التاريخ بالعقيدة ، والتراث بالهوية ، وقد اهتمّ المسلمون على مدى الأعصار به ، فزاروه ، وبنوا على قبور كبارهم القباب ، واحتفظوا بها بوصفها رمزاً للعلم والجهاد والتضحية ، كيف لا ونحن نجد فيه قبور الأئمة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغيرهم من الصحابة الكرام ، والأولياء والشهداء العظام.

ان البناء على القبور أصبح معتاداً ، وقد تلقى المسلمون بكلّ حفاوة هذه الظاهرة الشرعية في كلّ بلادهم ، ولم يردع عنها أيّ رادع من الكتاب والسنة.

قال الله تبارك وتعالى في قصة أصحاب الكهف : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ

٥

لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(١) ، قالها الموحدون ، بدليل أنهم أرادوا اتخاذ ذلك المكان موضعاً للعبادة ، حكاه الله عنهم ولم يردع عنه ، ولم يرم فاعله بالشرك والبدعة!.

إنّ هذه الآثار والقباب تكريم لرموز العلم والتُّقى والتضحية في سبيل الدين ، وحفظها هو حفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واحترامها احترامه ، وتعدّ من مصاديق تعظيم شعائرالله ، (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٢)

هذا اضافة إلى الآثار الوضعية الروحية لتلك الأماكن ، فالمكان الذي تشرف بقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يختلف عن غيره ، كيف لا وقد قال سبحانه وتعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)(٣) ، وقال في قضية يوسف : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً)(٤) ، وقال : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً)(٥).

ومن المأساة حسبان البعض رأيهم المخالف لهذه الحقيقة القرآنية عين الصواب ، وفرض ما يحسبونه هو الصحيح على عامة المسلمين ، ورمي غيرهم بارتكاب البدعة والشرك ، وعدم اللجوء إلى الحوار العلمي البنّاء ، وعدم الإلتفات إلى الرأي الآخر جملة وتفصيلاً ، ومنها ما ارتكبوه ـ بتفردهم واستبدادهم في الرأي ـ من هدم قباب الأئمة والأولياء ، بحجج واهية ، قاصرة الدلالة والسند.

فتارة تراهم يتهمون المسلمين بأنهم يعبدون الأحجار! لله أبوهم! هذا كلام راجع إلى عدو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطريده مروان بن الحكم ، ثمّ تابعه سائر الطغاة

__________________

(١) سورة الكهف : ٢١.

(٢) سورة الحج : ٣٢.

(٣) سورة طه : ٩٦.

(٤) سورة طه : ٩٦.

(٥) سورة طه : ٩٦.

٦

والمنحرفون عن الصراط ، كالحجاج بن يوسف وغيره ، مما يدلّ على الأحقاد الدفينة.

فقد روي أنه : «أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر ـ أي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : أتدري ما تصنع؟! فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب ، فقال : نعم ، جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم آت الحجر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».

رواه أحمد (١) ، وصححه الحاكم والذهبي (٢).

وهذا هو الحجاج بن يوسف الثقفي سفاك دماء المسلمين ، قال لجمع من أهل الكوفة يريدون زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تبّاً لهم! إنّما يطوفون بأعواد ورمة بالية ، هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟! (٣).

فالويل لمن يحسب أبا أيوب الأنصاري ـ ذلك الصحابي الجليل ـ مشركاً ، ومروان بن الحكم ـ الذي طرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعنه ـ والحجاج موحداً!.

فظهر أنّ هذا هو منطق الأمويين وكلام أتباعهم ، لا مذهب السلف الصالح ، وظهر أن قائل هذه المقالة السخيفة : «عصاي هذه خير من محمد ؛ لأنه ينتفع بها في قتل الحية والعقرب ونحوها ، ومحمد قد مات ، ولم يبق فيه نفع ، وإنّما هو طارش» (٤) ، يتبع مقالة مروان والحجاج وسائر الأمويين الذين بسطوا العنف والتكفير في

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٤٢٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٥٦٠ ، ح ٨٥٧١.

(٣) الكامل في اللغة والأدب ١ / ١٨٠ ؛ النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ، محمد بن عقيل العلوي / ١٠٦ ؛ شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٤٢ ؛ الغدير ١٠ / ٥١.

(٤) انظر : كشف الارتياب / ١٢٧ عن خلاصة الكلام / ٢٣٠ ؛ الدرر السنية ١ / ٤٢ ؛ الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، السيد جعفر مرتضى العاملي ١ / ٣٢.

٧

أوساط المسلمين ، وأخذوا في اعتقالهم وحبسهم وتعذيبهم وقتلهم على التهمة والمظنة ، فالأحرى أن يُتَّبع مذهب السلف الصالح مثل أبي أيوب الأنصاري ، لا مذهب السلف الطالح مثل مروان والحجاج!.

إن من مذهب السلف الصالح التوجه إلى الله والتضرع إليه عند قبور أوليائه ، وهذا لايخرجهم عن دائرة التوحيد إطلاقاً ، لأنهم لايحسبونهم في عرض الله ، لا (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(١) ، لكنهم أرشد الله الناس إليهم ، وبالتوسل بهم ، حيثما قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) لوجدوا الله تواباً رحيماً» (٢) ، ولا يوجد هناك فرق بين حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومماته ، إذ موته لا يعني مفارقته هذا المنصب ، وهذا هو ما فهمه السلف الصالح.

روى المسعودي في تاريخه : في سنة ثلاث وخمسين هلك زياد بن أبيه .. وقد كان كتب إلى معاوية أنه قد ضبط العراق بيمينه ، وشماله فارغة ، فجمع له الحجاز مع العراقين ، واتصلت ولايته بأهل المدينة ، فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضجوا إلى الله ، ولاذوا بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيام (٣).

فهل يمكن رمي هؤلاء الذين لاذوا بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضجوا إلى الله عند مضجع رسوله بالشرك وارتكاب البدعة؟ أليسوا هم ـ وفيهم كثير من الصحابة ـ من السلف الصالح؟

كما أن التبرك بقبورهم له جذور أصيلة من فعل العترة الهادية وسيرة المسلمين وعلى رأسهم الصحابة ، ومن أدلة ذلك :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سورة النساء : ٦٤.

(٣) مروج الذهب ٣ / ٢٦.

٨

ما روي حول تبرك فاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبضعته ، حيث إنّهاتبركت بتراب قبر أبيها ، كما جاء في الخبر عن علي عليه‌السلام : «لما رمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت فاطمة ، فوقفت على قبره ، وأخذت قبضة من تراب القبر ، فوضعته على عينيها ، وبكت وأنشأت تقول :

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيام عدن لياليا (١)

ما ذكرناه حول تبرك أبي أيوب الأنصاري بقبر النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي صححه الحاكم والذهبي ، وقال السبكي فيه : فإن صحّ هذا الإسناد لم يكره مسّ جدار القبر (٢).

ما روي حول تبرك بلال بقبر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيثما جاء إلى قبره الشريف فجعل يبكي عنده ، ويمرّغ عليه (٣).

ما روي أن عبد الله بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف ، وأنّ بلالاً وضع خده عليه (٤).

ما ذكر عن التابعي ابن المنكدر من أنه كان يجلس مع أصحابه ، وكان يصيبه الصمات (٥) ، فكان يقوم كما هو يضع خدّه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يرجع ، فعوتب في ذلك فقال : انه ليصيبني خطره ، فاذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الذهبي :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ١٢ / ٣٣٧ ؛ التحفة لابن عساكر على ما في الغدير ٥ / ١٤٧ ؛ نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي / ١٨٠ ؛ وفاء الوفا ٢ / ٤٤٤ ؛ المغني ، ابن قدامة ٢ / ٤١١ ؛ الشرح الكبير ، عبد الرحمن بن قدامة ٢ / ٤٣٠.

(٢) انظر : وفاء الوفا ٤ / ١٤٠٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ، الذهبي ١٠ / ٣٥٨.

(٤) كشف الارتياب : ٤٣٦.

(٥) هو اعتقال اللسان أو السكوت الطويل.

٩

استعنت بقبر النبي (١).

وقد أفتى الامام أحمد بن حنبل بجواز التبرك والتمسح بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبره ومنبره رجاء ثواب الله (٢).

كما أن المسلمين كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنبره ، وأخذ تراب قبره ، والاحتفاظ بشَعره.

كما أنهم كانوا يتبركون في حياته بأخذ شعره ، والتبرك بما بقي من ماء وضوئه.

كلّ هذا يدل على أن التبرك بآثار رسول الله كان أمراً ارتكازياً لدى عامة المسلمين ، من دون فرق بين حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومماته.

كما أن زيارة قبور الأولياء ، والصلاة والدعاء والتضرع إلى الله والبكاء عندها مما لا أشكال فيه ، وعليه سيرة المسلمين ، وهو من دأب الصالحين.

روى الحاكم النيسابوري : ان فاطمة بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تزور قبر عمها حمزة كلّ جمعة ، فتصلي وتبكي عنده (٣) ، ثم قال : هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات ، وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب ، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنة مسنونة (٤) ، وقال في موضع آخر حول الحديث : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (٥).

فهذا هو ابن حجر يقول في شأن ابن خزيمة في زيارته لقبر الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ، راوياً عن أبي بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى قوله :

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢١٣.

(٢) انظر : وفاء الوفا ٤ / ٤١٤.

(٣) المستدرك على الصحيحين ١ / ٣٧٧ ؛ انظر : مصنف عبدالرزاق ٣ / ٥٧٢ ؛ السنن الكبرى ، البيهقي ٤ / ٧٨.

(٤) المستدرك على الصحيحين ١ / ٣٧٧.

(٥) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٢٨.

١٠

خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافدون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس ، قال : فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة ، وتواضعه لها ، وتضرعه عندها ما تحيّرنا (١)

وهذا هو ابن حبان يقول في شأنه عليه‌السلام : وقبره بسناباذ خارج النوقان ، مشهور يزار ، بجنب قبر الرشيد ، قد زرته مراراً كثيرة ، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها إلا استجيب لي ، وزالت عني تلك الشدة ، وهذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك ، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته ، صلى الله عليه وعليهم أجمعين (٢).

وروي عن أبي علي الخلال ـ شيخ الحنابلة ـ أنه قال : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهّل الله تعالى ما أحبّ (٣).

كما أن الإمام الشافعي حينما كان ببغداد كان يجيء إلى قبر أبي حنيفة ، يزوره فيسلم عليه ، ثمّ يتوسل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته ، روى الخطيب عن علي ابن ميمون عن الشافعي قوله : إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجىء إلى قبره في كلّ يوم يعني زائراً ، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين ، وجئت إلى قبره ، وسألت الله تعالى الحاجة عنده ، فما تبعد عني حتى تقضى (٤).

كما أن المسلمين بمصر لازالوا يهتمون بزيارة مشهد الإمام الحسين عليه‌السلام.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ابن حجر العسقلاني ٧ / ٣٣٩.

(٢) كتاب الثقات ، ابن حبان ٨ / ٤٥٦.

(٣) تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ١ / ١٢٠.

(٤) تاريخ بغداد ١ / ١٣٥.

١١

فهل يمكن رمي كلّ هؤلاء ـ وفيهم كبار المسلمين وفقهاؤهم وعلمائهم ـ بالشرك وارتكاب البدعة؟

وكذلك الأمرفي شأن الإعتناءبقبور الأولياء ، ولزوم المحافظة عليها ، واصلاحها ، وترميمها ، كما جاء في الخبر : «كانت فاطمة تأتي قبر حمزة ترمه وتصلحه» (١).

وأما بناء القباب على قبور الأولياء فليس من مظاهر الشرك كما يزعمه البعض ، وإلا فلا بدّ من رمي معظم المسلمين بالشرك!.

هذا هو الذهبي يذكر في ترجة العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : وعلى قبره اليوم قبة عظيمة من بناء خلفاء آل العباس (٢).

وقال أيضاً : وله قبة عظيمة شاهقة على قبره بالبقيع (٣).

وكذا الأمر في حق غيره مثل مالك ونافع وحليمة السعدية وغيرهم.

وعن السمهودي في المشهد المعروف بالنفس الزكية ، قال : وهذا المشهد شرقي جبل سلع ، وعليه بناء كبير بالحجارة السود (٤).

فظهر أنه على مرّ القرون كان البقيع معظماً لدى كافة المسلمين ، الذين أشادوا القبب على قبور الأئمة والصحابة والأولياء ، احتراماً وتكريماً للذين صنعوا التاريخ ومجد الاسلام.

إن هدم قبور أولياء الله بالبقيع وتدميرها ناشىء عن عدم الفهم واعوجاجه ، كما صرح به الإمام الخميني (٥) رضوان الله تعالى عليه.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ١٩ ؛ تاريخ المدينة المنورة ، ابن شبة النميري ١ / ١٣٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢ / ٩٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ٢ / ١٠٠.

(٤) التاريخ الأمين لمدينة سيد المرسلين ، الشيخ عبد العزيز المدني / ٤٠٨ ، عن وفاء الوفا ٢ / ٩٢.

(٥) انظر : صحيفة إمام ١٨ / ١٧٥.

١٢

فبناء عليه لابدّ أن يصحّح البعض فهمه الخاطىء ، وإن أصرّ على خطأه فليس له فرض رأيه على سائر المسلمين ، فإنّ كلّ مذهب من مذاهب المسلمين له رأيه وفهمه واجتهاده واستنباطه ، ويمكن فتح الحوار العلمي بشكل بنّاء وهادئ في المجالات العلمية ، بلا تكفير ولا سباب ، وأما فرض الرأي على الآخرين فقد مضى دوره ، وانتهى أجله ، وهو مما يأباه العقل السليم.

وكيفما كان ، فالبقيع هو هوية المسلمين ، ومن أهم مواضع تراثنا الإسلامي ، فلابدّ لجميع المسلمين الغيارى أن يعرفوا حقه ، ويهتموا بإعادة بنائه ، حيث إنه منار لهدى البشرية ، وملاذ للتربية الانسانية.

ولقد حاولنا في هذا البحث الوجيز الكشف عن بعض زوايا الموضوع ، حشرنا الله والقارىء الكريم مع أئمة البقيع عليهم‌السلام ، ووفقنا لاتّباعهم ، ومواصلة مسيرتهم الحافلة بالعز والكرامة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

٢٨ / صفر المظفر / ١٤٢٨ من الهجرة النبوية

يوم وفاة الرسول الأعظم محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسبطه الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام

قم المقدسة ـ محمد أمين الأميني

١٣
١٤

البقيع والإطلاقات المختلفة

بحث لغوي

قال الجوهري : إن البقيع موضع فيه أُرُوم الشجر من ضروب شتّى ، وبه سمّي بقيع الغرقد ، وهي مقبرة بالمدينة (١).

وقال الفيروز آبادي نحوه في القاموس (٢).

وقال ابن فارس بن زكريا (المتوفى سنة ٣٩٥) : بقع البقعة من الأرض ، والجميع بقاع ، والبقيع المكان المتسع ، قال قوم : لايكون بقيعاً إلا وفيه شجر ، وبقيع الغرقد ، وكان ذاشجر ، ثم ذهب الشجر فبقي الإسم (٣).

وقال نحوه في لسان العرب (٤) وتاج العروس (٥).

وفي النهاية لابن الأثير ـ بعد ذكر ما مرّ ـ قال : ولا يسمى بقيعاً إلا وفيه شجر

__________________

(١) صحاح اللغة ، الجوهري ، مادة (بقع).

(٢) القاموس المحيط ، الفيروزآبادي ، مادة (بقع).

(٣) مجمل اللغة ، ابن فارس ، مادة (بقع).

(٤) لسان العرب ، ابن منظور ، مادة (بقع).

(٥) تاج العروس ، الزبيدي ، مادة (بقع).

١٥

أو أصولها (١).

وأمّا الغرقد ، فهو على ما قاله الخليل : شجر كان ينبت هناك ، فبقي الاسم ملازماً للموضع ، وذهب الشجر (٢).

وذكر نحوه الفيومي في المصباح (٣).

وفي القاموس : الغرقد شجر عظام ، أو هي العوسج إذا عظم ، وبها سمّوا بقيع الغرقد مقبرة المدينة ، لأنه كان منبتها (٤).

وفي لسان العرب وتاج العروس : أنه شجر له شوك ، فذهب وبقي الاسم لازماً للموضع (٥).

وعن الأصمعي : قطعت غرقدات ، فدفن فيها عثمان بن مظعون ، فسمي المكان بقيع الغرقد لهذا السبب (٦).

وفي مواهب الجليل : بقيع الغرقد : الذي فيه مقبرة المدينة ، بباء بغير خلاف ، وسمي بذلك لشجرات غرقد هو العوسج كانت فيه (٧).

وجاء في دائرة المعارف الاسلامية : بقيع الغرقد : وهذا الإسم يدلّ على أرض كانت مغطاة بنوع من شجر التوت مرتفع (٨).

وقالوا : وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة ، (والكفت في اللغة : الضمّ) ، لأنه

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ، ابن الأثير ، مادة (بقع).

(٢) العين ، الخليل بن أحمد الفراهيدي ، مادة (غرقد).

(٣) المصباح المنير ، الفيومي ، مادة (غرقد).

(٤) القاموس المحيط ، الفيروزآبادي ، مادة (غرقد) ؛ بحار الانوار ، محمد باقر المجلسي ٤٦ / ٢١٦.

(٥) لسان العرب ، ابن منظور ؛ تاج العروس (مادة غرقد).

(٦) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ، ابن سيد الناس ١ / ٣٩٨.

(٧) مواهب الجليل ، الحطاب الرعيني ٧ / ٦٠٧.

(٨) دائرة المعارف الاسلامية ٤ / ٣٥ ، مادة (بقع).

١٦

مقبرة تضمّ الموتى (١) ، قال الحموي : الكفتة : اسم لبقيع الغرقد ، وهي مقبرة أهل المدينة ، سميت بذلك ؛ لأنها تكفت الموتى ، أي تحفظهم وتحرزهم (٢).

اطلاقات البقيع

ثمّ إن كلمة البقيع استعملت بلحاظ معناها اللغوي في موارد شتى ، نشير إلى بعضها :

الف) بقيع الخيل (سوق المدينة)

ذكر الحموي عن النصر : بقيع الخيل موضع بالمدينة عند دار زيد بن ثابت ، دفن به عامة قتلى أحد ، قال نصر : وأظنه بقيع الغرقد (٣).

وروى ابن شبة باسناده عن عائشة في حديث : كان يقال لسوق المدينة بقيع الخيل (٤).

وعن القمي ـ في قضية حكم سعد بن معاذ على بني قريظة بقتل رجالهم ـ : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأخدود ، فحفرت بالبقيع ، وقال آخرون : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حفر لهم خنادق في سوق المدينة ، فضرب أعناقهم فيها (٥).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ١٩ / ١٦١ ؛ غريب الحديث ، الحربي ٢ / ١٢١ ؛ مجمع البحرين ، الطريحي ، مادة (غرقد).

(٢) معجم البلدان ، ياقوت الحموي ٤ / ٤٦٨.

(٣) معجم البلدان ٢ / ٤١٣ ؛ انظر : القاموس المحيط ٣ / ٦ ، مجمع الزوائد ، نورالدين الهيثمي ٤ / ١٥٨ و ٩ / ٢٦٨ ، مراصدالاطلاع ١ / ١٢٣ ؛ معجم معالم الحجاز ١ / ٢٤٣ ؛ الدرالثمين في معالم دار الرسول الأمين / ٢٢٩.

(٤) تاريخ المدينة المنورة ١ / ٣٠٦.

(٥) الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ١١ / ١٧٤ ، عن تفسير القمي ، علي بن إبراهيم القمي ٢ / ١٩١ ؛ بحار الأنوار ٢٠ / ٢٣٦.

١٧

وعن سعد بن أبي وقاص : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجهّز أو كان يعرض جيشاً ببقيع الخيل ، فاطلع العباس بن عبد المطلب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا العباس ، عمّ نبيكم ، أجود قريش كفّاً ، وأحناه عليها» (١).

وعن الصعب بن جثامة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمى البقيع ، وقال : «لا حمى إلا لله ولرسوله» (٢).

وروي عن ابن عمر ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حمى البقيع للخيل (٣) ، فقلت له : لخيله؟ قال :

لا ، لخيل المسلمين (٤).

وفي طبقات المحدثين عن ابن عمر ، قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حمى البقيع لخيل المسلمين (٥).

وروى الخطيب عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حمى البقيع ، وليس بالبقيع نخيلة (٦).

وقال فهيم محمود شلتوت في هامش كتاب تاريخ المدينة المنورة : البقيع .. هو الذي حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو على عشرين فرسخاً من المدينة ، وبقيع الغرقد مقبرة المدينة (٧).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري ٣ / ٣٢٨ ؛ انظر : مسند أبي يعلى ٢ / ١٣٩ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر ٢٦ / ٣٢٦ ، ٣٢٧ ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة ، ابن الأثير ٣ / ١١١.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ / ٦١ ؛ انظر : شرح معاني الآثار ، الطحاوي ٣ / ٢٦٩.

(٣) السنن الكبرى ، البيهقي ٥ / ٢٠١.

(٤) مجمع الزوائد ١ / ١٥٨ ، قال : رواه احمد ؛ السنن الكبرى ٥ / ٢٠١ ؛ انظر : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ٣ / ٣٩ ؛ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ، علي بن أبي بكر الهيثمي / ٣٩٥ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي ٦ / ٥٥١ ؛ الجامع العباسي ، الشيخ بهاء الدين العاملي ٢٥٧.

(٥) طبقات المحدثين باصبهان والواردين عليها ، أبو الشيخ الأنصاري ٤ / ٢٨٠ ؛ انظر : موارد الظمآن / ٣٩٥.

(٦) تاريخ بغداد أو مدينة السلام ، الخطيب البغدادي ٣ / ٢٣١.

(٧) تاريخ المدينة المنورة ١ / ٨٦.

١٨

وعن عمر : من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع ، فليشتر بها سحق الثياب (١).

وروى البيهقي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى البقيع ، فرأى رجلاً ، فساوم به ، ثمّ تركه فاشتراه رجل فأعتقه ، ثمّ أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إني اشتريت هذا فأعتقته ، فماترى فيه ، قال : «أخوك ومولاك ..» .. (٢).

وروي : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى البقيع ، فرأى رجلاً يباع .. (٣).

وروى ابن حجر عن عبد بن عبيد بن مراوح عن أبيه ، قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البقيع والناس يخافون الغارة بعضهم على بعض ، فنادى مناديه : الله أكبر ، فقال : لقد كبّرت كبيرا ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فارتعدت وقلت : لهؤلاء نبأ ، فقال : أشهد أنّ محمداً رسول الله ، فقلت : بعث نبيّ ، فقال : حيّ على الصلاة ، فقلت : نزلت فريضة ، واعتمدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسألته عن الإسلام فأسلمت ، وعلمني الوضوء والصلاة ، وصلى فصليت معه ، وحمى البقيع ، واستعملني عليه (٤).

وروى الهيثمي : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببقيع الخيل فأقبل العباس .. (٥).

وعن ابن سعد : ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومأة فرس ترعى بالبقيع (٦).

__________________

(١) المغني ، عبد الله بن قدامة ٤ / ١٧٧ ؛ الشرح الكبير ، عبدالرحمن بن قدامة ٤ / ١٧٧.

(٢) السنن الكبرى ٦ / ٢٤٠.

(٣) سنن الدارمي ٢ / ٣٧٣.

(٤) الإصابة في تمييز الصحابة ، ابن حجر العسقلاني ٤ / ٣٤٧.

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٢٦٨.

(٦) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ٣ / ١٣٦ ؛ الغدير ، الشيخ عبد الحسين الأميني ٨ / ٢٨٤ ؛ انظر : البداية والنهاية ، ابن كثير ٧ / ١٨٤.

١٩

وذكر الشيخ الطوسي بإسناده عن حذيفة بن اليمان قال : لما خرج جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قدم جعفر والنبي عليه‌السلام بأرض خيبر ، فأتاه بالفرع من الغالية والقطيفة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأدفعنّ هذه القطيفة إلى رجل يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فمدّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعناقهم إليها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين علي؟ فوثب عمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه ، فدعا عليا عليه‌السلام ، فلمّا جاء قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، خذ القطيفة اليك ، فأخذها علي عليه‌السلام ، وأمهل حتّى قدم المدينة ، فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة ، فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكا سلكا ، فباع الذهب وكان ألف مثقال ، ففرقه علي عليه‌السلام في فقراء المهاجرين والأنصار .. (١).

وروى النسائي باسناده عن قيس بن أبي عرزة قال : كنا نبيع بالبقيع ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكنا نسمى السماسرة (٢) .. (٣).

وروى باسناده عن ابن عمر : كنت أبيع الأبل بالبقيع ، فأبيع الدنانير وآخذ الدراهم (٤).

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي / ٦١٤ ، مجلس ٢٩ ، ح ٧ ، عنه بحار الأنوار ٢١ / ١٩ ، ح ١٤ ؛ انظر : دلائل الإمامة ، الطبري ١٤٤ ؛ حلية الأبرار ، البحراني ٢ / ٢٦٨ ؛ بحار الأنوار ٣٧ / ١٠٥.

(٢) جمع سمسار ، والسمسرة : البيع والشراء. كذا في الفائق في غريب الحديث ٢ / ١٥٨.

(٣) النسائي ٧ / ١٥ ؛ انظر : مسند الحميدي ١ / ٢٠٨ ؛ مسند أحمد ٤ / ٦ ؛ الآحاد والمثاني ، أحمد بن عمرو بن الضحاك ٢ / ٢٦٠ ؛ المستدرك على الصحيحين ٢ / ٥ ؛ السنن الكبرى ٣ / ١٣١ ؛ تاريخ بغداد ٥ / ٢٨٠ ؛ المنتقى من السنن المسندة ١٤٤ ؛ الفائق في غريب الحديث ٢ / ١٥٨ ؛ سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي ٩ / ٩.

(٤) النسائي ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، ونحوه فيه ٧ / ٢٨٣ ؛ انظر : سنن أبي داود ٢ / ١١٤ ؛ سنن الترمذي ٢ / ٣٥٦ ؛ سنن الدارمي ٢ / ٢٥٩ ؛ سنن الدارقطني ٣ / ٢٠ ؛ مسند أبي داود الطيالسي / ٢٥٥ ؛ مسند ابن جعد / ٤٨١ ؛ صحيح ابن حبان ١١ / ٢٨٧ ؛ مسند احمد ٢ / ٨٣ ، ٨٤ ، ١٣٩ ، ١٥٤ ، ١٥٥ ؛ المستدرك على الصحيحين ٢ / ٤٤ ؛ التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير ، ابن حجر ٨ / ٤٣٤ ؛ الكامل (لعبد الله بن عدي) ٢ /

٢٠