المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

وقد نسجت كفّ النّسيم مفاضة

عليه وما غير الحباب لها حلق (١)

فنزلنا [٣٥ أ] هناك كيما نستريح ونقيل ، ونزيح علل الرفاق والدواب ونزيل ، ثم أخذنا في التحميل والترحيل ، وسرنا نحثّ في المسير والرحيل ، فوصلنا منزلة يغره (٢) وقد تضمخت صفحات الربى بخلوق الأصيل ، وأرزمت المطايا على الدعة أرزام الفصيل ، بعد أن قطعنا جسرها الطويل ، وهو جسر محكم البناء متّسع الفناء لكنه تهدم من طول (٣) الزمان ، وعليه مكتوب : عمارة مولانا السّلطان الملك الأشرف قايتباي ، تغمده الله بالرحمة والغفران ، فبتنا بها تلك الليلة ، وهي ليلة الخميس ، فلما تبسّم وجه الشرق بعد التعبيس ، وآذن روح الصبح بالتنفيس ، رحّلنا الخيل والبغال عوضا عن حمر النعم والعيس ، ثم سرنا ذلك النهار وهو سادس شوال جامعين بين الاعتكار والتغليس ، في عقاب من عقبات ، وحدر (٤) من مهاوي حدرات ، وغياض وأشجار ، وفياف وقفار ، ومهامة (٥) ينقطع فيها الرفيق عن الرفيق ، ومسالك [٣٥ ب] غاية في السعة وأخرى نهاية في الضيق ، وكان ابتداء السير في ذلك النهار : [من البسيط]

في بسيط من الفيافي إذا ما

سابق الطرف فيه عاد حسيرا

وانتهينا إلى عقاب وجدنا

في ذراها من العقاب كثيرا

وسلكنا ما بين حزن وسهل

وقطعنا دماثيا ووعورا

__________________

(١) البيتان في نهاية الأرب ١ : ٢٨٤ ، ومعاهد التنصيص ٢ : ٩٨.

(٢) وردت في الأصل «يغرى» وما أثبتناه من (م) و (ع).

(٣) وردت في (م) و (ع): «من تطاول».

(٤) وردت في (م): «حذر».

(٥) وردت في (ع): «ومقامة».

٨١

وصعدنا إلى السماء ارتفاعا

وهبطنا إلى القرار حدورا

وقضينا مناسك الهمّ فيه

ونفرنا من الكروب نفورا

فأول عقبة تلقّيناها عقبة بغراص (١) ذات الجموح والشماص ، فما حصل منها النجاة والخلاص ، حتى زالت الشمس ولات حين مناص ، وهي مشتملة على أشجار خضرة ، ومفاوز مقفرة ، ومسالك مزلة وعرة ، ودورات ولفتات وعطفات وفتلات ، وفي آخرها خان ومقيل ، وأشجار عظيمة تحتها ظل ظليل ، ونسيم يشفي العليل ، (ومياه كثيرة) (٢) خصرة تروي الغليل ، وهناك مسجد قديم البنيان ، يجري الماء فيه في مثل الشاذروان (٣) ، ويتحدر في ذلك المكان على حصباء [٣٦ أ] كالدر والمرجان ، وقد قيل : [من الكامل]

وتحدّث الماء الزلال مع الحصا

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

وكأن فوق الماء وشيا ظاهرا

وكأن تحت الماء درّا مضمرا (٤)

فياله من نعيم في عقاب ورحمة بعد عذاب ، وراحة في بؤس ، وبشر في عبوس ،

__________________

(١) وردت في الأصل و (ع): «بقراص» وما أثبتناه من (م) ، وعند ياقوت (١ : ٤٦٧): «بغراس : مدينة في لحف جبل اللكام ، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ على يمين القاصد إلى أنطاكية من حلب.

وانظر أيضا : أخبار الدول ٣ : ٣٣٧ ، صبح الأعشى ٤ : ١٢٢.

(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٣) الشاذروان : يطلق على قسم من نهر أوقاع نهر قد رصفت في أرضه الحجارة وبنيت جوانبه بها لضبط الماء في النهر. (لسترانج ٨٢).

(٤) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٧٥.

٨٢

فترامينا على ذلك الماء الزلال ، وارتمينا بين (١) تلك الظلال ، فاسترحنا ساعة في ظل تلك الشجرات ، ونقعنا الغلّة (٢) من ذلك العذب الفرات ، وخفف عنا ذلك النسيم من شدة السموم بعض ما نجد ، حتى كان ذلك المكان بقول المنازي (٣) قد قصد : [من الوافر]

وقانا وقدة الرّمضاء ظلّ

سقاه (٤) مضاعف الظّل (٥) العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حنوّ المرضعات على الفطيم

يراعي الشّمس أنّى قابلتنا

فيحجبها ويأذن للنّسيم (٦)

وسقّانا على ظمإ زلالا

ألذّ من المدام مع النديم

تروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم (٧)[٣٦ ب]

__________________

(١) وردت في (ع): «من».

(٢) الغلّة : العطش الشديد.

(٣) وردت في الأصل وفي (ع): «المنادي» والصواب ما أثبتناه وهو : أحمد بن يوسف السّليكي ، شاعر توفي سنة ٤٣٧ ه‍.

(٤) وردت في (ع): «وقاه».

(٥) وردت في (م): «النبت».

(٦) ورد عجز البيت في (ع): «فتلمس جانب العقد النظيم».

(٧) وردت في (ع): «التعظيم» ، والأبيات موجودة في وفيات الأعيان ١ : ١٤٣ ـ ، والتذكرة الفخرية للأربلي ٣٩٠ ، ورفع الحجب المستورة ١ : ١٢٥.

٨٣

وتعارفنا في ذلك المكان بالقاضي كمال الدّين التادفي قاضي (١) حلب ، ثم مكّة كان فوجدنا عنده لطافة وحشمة وظرافة ، ثم صار بيننا وبينه أكد صحبة وأشد مودة ومحبة ، ثم استقبلنا من ذلك [المحل و (٢)] المركز ، العقبة المعروفة بعقبة المركز ، وهي عقبة طويلة مديدة صعبة وعرة شديدة ، تقطع الأسباب ، وتخلع الألباب ، وتذكر بالصراط والميزان والحساب ، كأنما الخطابيّ (٣) عناها بقوله : [من الطويل]

سلكت عقابا في طريقي كأنها

صياصي ديوك أو أكف عقاب

وما ذاك إلّا أنّ ذنبي أحاط بي

فكان عقابي في سلوك عقاب (٤)

ورأينا في طيّها معدن الدّهنج ، وجبالا من آس عرف طيبها يتأرج ، وغياض ماؤها سلسبيل وطلها سجسج ، ورياض سقفها مفوف وبساطها مدبج ، وقفار نيران حرّها يتوهّج ، وسمومها يلفح الوجوه ويلفج ، وسبل وعرة المدرج عسرة المنهج ، يضيق الصدر من حزونها (٥) ويحرج ، فلم نزل نرقى ربوات يخيل لراقيها أنه لامس النجوم ، ونهبط وهدات [٣٧ أ] يظن (٦) من هوى فيها أنه لابس التخوم ، ونسلك مسالك كالصراط إلّا أنه غير المستقيم ، يضل العقل فيها ويتحير ويهيم ، ويقاسي القلب من هولها العذاب الأليم ، وقد اشتدّت حمارّة القيظ ، والنفوس من جواز تلك العقبة الكؤود تكاد تميز

__________________

(١) سقطت كلمة «قاضي» من (ع). وكمال الدّين التادفي هو : محمد بن يوسف بن عبد الرحمن المتوفى سنة ٩٥٦ ه‍ ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ٦٣ ـ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤٤٩ ، إعلام النبلاء ٥ : ٥٢٣ ـ ٥٢٨.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل وعوضناها من (م) و (ع).

(٣) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان الخطابيّ.

(٤) البيتان في يتيمة الدهر ٤ : ٣٣٦.

(٥) الحزون : جمع حزن ، ما غلظ من الأرض.

(٦) وردت في (ع): «نطق».

٨٤

من الغيظ. فلم نزل ذلك اليوم في شغل شاغل حتى جمعنا بين طرفي البكر والأصائل ، وولّى ذلك النهار الطائل وعطفه في الثوب القصير رافل ، وأخذت الشمس في الاصفرار من ذلك المنظر المهول ، وعزمت على الفرار وصممت على الأفول ، فنزلنا حينئذ بمرج متسع قاطع قلعة المركز ، قد ألبسه الربيع ثيابا سندسيّة طرّفها (١) بأنواع الزهر وطرّز ، وسحب عليه النسيم أذياله ، فاكتست من عرفه شذا ، وجرت في خلاله عيون كالأنهار سالمة (٢) من الكدر والقذا ، ودارت كاسات رحيقها فانتشى الغصن مستنبذا ، وروى العشب واغتذا ، وجاوره البحر المالح فلم يحصل له بمجاورته أذى ، [٣٧ ب] فبتنا بتلك البقعة المتسعة ليلة سابع شوال وهي ليلة الجمعة ، ورحلنا منها عندما اكتهل الليل وشاب ، وأقبل النهار يخطر في برود الشباب ، وغردت الحمائم على أعوادها ، وأعربت بعجمتها عما أكنته من الشجو في فؤادها ، فأثارت تباريح أشجان لم تبرح ، وأفاضت مياه أجفان لم تنزح ، وترنمت متمثلا في تلك البقاع بقول عديّ ابن زيد المعروف بابن الرّقاع العامليّ (٣) : [من الطويل]

ومما شجاني أننّي كنت نائما

أعلّل من برد الكرى بالتنسم

إلى أن دعت ورقاء في غصن أيكة

تردد مبكاها بحسن الترنم

ولما تلاقينا وجدت بنانها

مخضبة تحكى عصارة عندم

فقلت خضبت الكفّ بعدي هكذا

ولم تحفظي عهد المشوق المتيم

فقالت وأذكت في الحشا لاعج الهوى

مقالة من الود لم يتبرم

__________________

(١) وردت في (م): «فوفها».

(٢) وردت في (ع): «سالة».

(٣) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع) ، وبعض هذه الأبيات في ديوان ابن الرّقاع ص ٢٦٦.

٨٥

بكيت دما يوم النوى فمسحته

بكفي فاحمّرت بناني من دمي

وحقك ما هذا خضاب خضيبة

سوى أنت بالهنان والروم متهم (١)

ولكنني لما رأيتك راجلا

وقد كنت لي كفي وزندي ومعصم

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة

لسعدي شفيت النفس قبل التندّم [٣٨ أ]

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا

بكاها فقلت الفضل للمتقدم

ثم سرنا في بسيط من الأرض عريض مرآه لا يخترقه النسيم بمسراه ، يكاد البصر يقف عند مداه (٢) مشتمل على ربيع مريع (٣) ذي زهو بديع ، وأشجار من الآس عنبرية الأرواح والأنفاس ، يجلب منظرها أنواع الإيناس ، ثم نزلنا الضحى الأعلى كيما نستريح ونريح ، ونزيل بعض العلل ونزيح ، بمكان قرب قراقابي ومعناه الباب الأسود ، وهو باب قديم مقنطر بالحجارة السود ، مرصّف (٤) منضّد ، لكنه من تطاول الزمان قد تهدّم وتهدد ، ثم سرنا منه فنزلنا (والشمس قد) (٥) عصفرت أبرادها ودنى (٦) في

__________________

(١) سقط هذا البيت والذي يليه من الأصل و (م).

(٢) قرأت في رحلة ابن جبير (ص ٢٣١) عبارة مشاكلة ومشابهة لهذه حيث قال في الحديث عن حمص : «موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه ، لا يخترقه النسيم بمسراه ، يكاد البصر يقف دون منتهاه ...».

(٣) مريع : خصيب.

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٥) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٦) وردت في (ع): «والى».

٨٦

العين الحمئة إيرادها بمكان يعرف بأستك ، بهمزة مفتوحة على وزن مرتك ، عند عين ماء نمير تجاه بسطه ، وربيع قد فرش بسطه ، وأظهر سروره وبسطه ، وأخرج سوسانه ولسانه وقرطه ، فبتنا به ليلة السبت ثامن شوال ، ثم عزمنا على الترحال وشددنا الخيل وحمّلنا البغال [٣٨ ب] : [من البسيط]

حين شاب الدّجى وخاف من الهجر

فغطّى المشيب بالزعفران (١)

فلمّا سرنا قليلا لحقني الأمير جانم ومعه جماعة فسلّموا وقالوا : أردنا المثول لخدمتكم في هذه الساعة (٢). فقلت : ما الخبر؟ فقالوا : سؤال حضر. فقلت : ما السؤال؟ فتقدم الأمير جانم وقال : هو عن قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ)(٣) فقلت : ما المقصود؟ فقال : الضمير في خلقه وما بعده على من يعود؟ فقلت : على عيسى. فقال : قد وقع بين علماء القاهرة فيه إشكال فإنّه قال خلقه من تراب فتم الخلق بهذا المقال ، ثم قال له كن هذا تحصيل حاصل أي وهو محال ، فقلت : كلا ، بل المقصود بقوله خلقه من تراب صوّر هيكله الجسماني ، وبقوله ثم قال له كن نفخ فيه الروح وأتم فيه البشرية والخلق الإنساني. فشكر وأثنى وذكر أنّ ذلك التحقيق لم يسمعه إلّا منّا ، ولم يزل يتودّد ويتواضع ويتلطّف ويتخاضع ، فلما تعالى النهار وترافع ، وتوالى حرّه وتتابع ، وصلنا إلى مدينة المصّيصة (٤) بعد أنّ سلكنا مسالك وعرة عويصة ، [٣٩ أ] وهي مدينة بكثرة الأشجار والمياه مخصوصة يجري بفنائها نهر جيحان وبها عليه جسر عظيم البنيان ، وعليها بابان يقفلان عليه إلى الآن ، وقد كانت من غرر البلدان ، وانتشأ بها جماعة من الأعيان ، لكنها الآن خربت ،

__________________

(١) البيت في معاهد التنصيص ٢ : ٩٨ منسوبا لأبي العلاء المعري.

(٢) وردت في (ع): «المشاعة».

(٣) سورة آل عمران آية ٥٩.

(٤) المصّيصة : مدينة على شاطىء جيحان ، من ثغور الشّام بين أنطاكية وبلاد الرّوم ، تقارب طرسوس.

(معجم البلدان ٥ : ١٤٥).

٨٧

وأكلت الدهور على محاسنها وشربت ، وتركت ساحتها كدار ميّة بالعلياء فالسند ، وغادرتها منفضة الفناء منقضة البناء ، كأن لم يكن بها سيد ولا سند ، ولم يغن بها (١) بالأمس أحد ، لم يبق منها غير رسومها الواهنة الواهية ، وأطلالها العالية البالية ، وأزقّتها الخالية الخاوية : [من الطويل]

طلول إذا دمعي شكا البين بينها

شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم (٢)

(وقد تراجعت الآن في العمران والتحقت بصغار البلدان) (٣).

وجيحان (٤) بجيم بالفتح ثم ياء آخر الحروف بالسكون ، ثم حاء مهملة وآخره نون ، نهر معروف بالعظم ، زاخر الأمواج كالبحر الخضم (٥) ، يقارب في كبره نهر الفرات ، وماؤه لطيف عذب فرات ، يلتوي التواء الأرقم ، وينسحب انسحاب المخرم ، وينعطف انعطاف السوار بالمعصم : [من الطويل]

فجدوله في سرحة الماء منصل

ولكنه في الجزع عطف سوار [٣٩ ب]

وأمواجه أرداف غيد نواعم

تلفّعن بالآصال ريط نضار (٦)

__________________

(١) وردت في (ع): «ولم يضربها».

(٢) البيت في تاج المفرق ٢ : ١٧.

(٣) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع).

(٤) جيحان : نهر مخرجه من بلاد الرّوم ويمر بالمصيصة حتى يصبّ بمدينة كفربيا من نواحي المصيصة.

انظر : معجم البلدان ٢ : ١٩٦.

(٥) وردت في (ع): «الخصم».

(٦) البيتان في معاهد التنصيص ٢ : ٩٥ منسوبة للخطيب أبي القاسم بن معاوية.

٨٨

ولابن الأبّار (١) : [من الطويل]

ونهر كما ذابت سبائك فضّة

حكى بمحانيه انعطاف الأراقم

إذا الشّفق استولى عليه احمراره

تبدّى خضيبا مثل دامي الصّوارم

يمر ببلاد السيس بين تلك الجبال والشعوب ، ثم يسير في حدود بلاد الرّوم من الشمال إلى الجنوب ، في وداة وجبال وتلال ، حتى يمر بالمصّيصة من جهة (٢) الشّمال ، ويسير بجوانبها من مشارقها إلى مغاربها ، فلما وافيناها وحللنا بها نزلنا بها في علوة ، وذلك يوم السبت ضحوة ، يصاحبنا (٣) الهواء الرطب ونسيمه ، والأرج العنبري وتقسيمه ، والنفس النجدي الذي هو في الصحّة شقيقه وقسيمه ، في ظل شجرة بطم في غاية الكبر والعظم ، كثيرة الأغصان ، غزيرة الأفنان ، يكاد (٤) يستظل بظلها أكثر من ألف إنسان. ذات طول عظيم وقوام قويم ، يرجع عن بلوغ طرفها طرف العين كليلا ، ولا يشفى من نظره لأعاليها عليلا ، ولا يروى من ترائيه لأقاصيها غليلا ، وقد قسنا أصلها باليدين فكان أربعة (٥) باعات وشبرين ، قد فاقت [٤٠ أ] الأشجار طيبا ونضرة وعظما ، فيالها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فهي من أغرب ما عايناه وأعجب ما شاهدناه ، وقد جرى في نعتها والقريحة جامدة ، ونيرانها بعد ذكائها (٦) وتوقدّها خامدة ، ما تمثّله الجنان ونطق به اللسان ورقمه البنان ، وهو قولي : [من البسيط]

__________________

(١) ورد في (ع): «ابن الأنبار» وهو أبو عبد الله محمد ابن الأبّار القضاعي البلنسي المتوفى سنة ٦٥٨ ه‍ ، والأبيات في ديوانه ٢٩١.

(٢) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٣) وردت في (م) و (ع): «فصاحبنا».

(٤) وردت في (ع): «تكاد».

(٥) وردت في جميع النسخ : «أربع باعات» والصواب ما أثبتناه.

(٦) وردت في (ع): «ذكاتها».

٨٩

يا سرحة سرحت في شط جيحان

وزاحمت في علاها برج كيوان

فروعك الشمّ لا تحصى قواعدها

والأصل أربع باعات وشبران

لنا بظلك مغنى لم يشب بعنا

فنون أفيائه من فيء أفنان

به نسيم يصفى الروح من كدر

وينعش القلب من تبريح أشجان

يعمّنا في زمان القيظ منك ندى

لو أنّ أقوامنا في العدّ ألفان

هذا هو الجود لا ما قيل من قدم

عن حاتم وعدي وابن جدعان (١)

لا زلت مخضلة الأغصان يانعة

يسقيك كل ملت القطر هتّان

فقيّلنا (٢) في ظلها إلى أن استوفى النهار حدّ الانتصاف ، وانتصفنا بحماها من حموه غاية الانتصاف ، ثم سرنا تارة في ظل وأخرى في حرور ، [٤٠ ب] وطورا ننجد وآونة نغور ، حتى كادت عين الشمس تغور ، فوصلنا حينئذ مدينة أدنة (٣) ، وهي مدينة صغيرة مستحسنة ، قد استوعبت من الظرف أجناسه وأنواعه ، واستوعبت من اللطف شيمة وطباعه ، ذات رياض أنيقة وأشجار وريقة : [من الوافر]

__________________

(١) وردت في (م): «ابن جذعان».

(٢) من القيلولة وهي نوم الظهيرة عندما يشتد الحرّ ويقوى.

(٣) مدينة في تركية على حافة نهر سيحان. وتدعى اليوم أضنة ، تقع شرق طرسوس على نحو يسير.

انظر : معجم البلدان ١ : ١٣٢ ، أخبار الدول ٣ : ٣٠٤. صبح الأعشى ٤ : ١٤٣.

٩٠

وحدائق تشبيك وشى برودها

حتى تشبهها شبائب عبقر

يجري النسيم خلالها وكأنما

غمست فضول ردائه بالعنبر (١)

ومساكن حسنة بأهلها معمورة وأسواق بجميع ما يحتاج اليه مغمورة ، ويتوصل إليها من جسر عظيم على نهر سيحان ، ويمر بخلالها وجوانبها هذا النهر كالثعبان ، وعليه نواعير تسقي ما هناك من البساتين والغيطان ، وهي بمدينة حماة أشبه البلدان ، والنهر المذكور هو بسين مهملة مفتوحة ثم ياء تحتية بالسكون ثم حاء مهملة وآخره نون ، نهر عظيم يعدّ من الأنهار الكبار ، وهو يقارب في كبره نهر جيحان المار ، وهما كما قال النوويّ شيخ الإسلام وقطب الأنام على الإطلاق [٤١ أ] غير سيحون وجيحون اللذين هما من الجنّة بالاتفاق ، فنزلنا داخل باب المدينة في مسجد صغير ، وبجانبه بئر ماء عذب (٢) معين نمير ، فاسترحنا فيه ساعة حتى تكاملت الجماعة ، ثم دخلت جامعها الكبير وقت المغرب فصليتها فيه والعشاء معا ، واجتمع بي الإمام والمؤذن فسلّما عليّ والتمس كل منا من صاحبه الدّعاء ، ثم سرنا هجمة الدّيجور (٣) إلى محل الوطاق بشط النهر المذكور ، وهو مكان بديع قد عذب ماؤه ، وراق روضه ورق هواؤه ، وتفسحت مساحاته ومارجت أرجاؤه ، وقد أهدى اليه الربيع نوافحه (٤) ، وأسدى لواقحه ، وأسدل ملاحفه ، وأسبل مطارفه ، وألان معاطفه ، وأفاض معارفه ، وأصفى (٥) ملبسه ، ووشى سندسه ، وحدّق أحداقه ، وأرخى أوراقه : [من الطويل]

__________________

(١) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١٥٤. وفي معاهد التنصيص ٢ : ٣٧ منسوبة لابن المعتز.

(٢) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٣) الدّيجور : الظّلمة الحالكة.

(٤) وردت في (ع): «نوافجه».

(٥) وردت في (م): «وأضفى».

٩١

وتبسّم ثغر النور عن شنب القطر

ودبّ عذار الطلّ (١) في صفحة النهر (١)

فزينة الأرض مشهورة ، وحلّة الروض منشورة ، والبسيطة قد مدت بساطا [١٤ ب] مفوفا ، وأهدت من ذخائرها ألطافا وتحفا : [من الكامل]

فالنّور عقد والغصون سوالف

والجزع زند والسرى سوار

رقص القضيب بها وقد شرب الثرى

وشدا (٣) الحمام وصفق التيار (٤)

فأقمنا هنالك تلك الليلة ، وهي ليلة الأحد تاسع شوال ، ثم يوم الأحد بالتمام والكمال ، ثم نحو الثّلثين من ليلة تسفر عن يوم الاثنين ، ونحن ما بين ربيع ورتيع ، وزهر ونهر ، وموج ومرج ، وحدائق وماء دافق ، ورياض ونهر فياض ، ونسيم وتسنيم ، وجنة ونعيم ، وروح وريحان ، وعرف من الجنان ، ودولاب يحنّ حنين المستهام ، المدنف من شدّة الغرام ، ويطارح بشجوه سجع الحمام ، كما قيل : [من الكامل]

لله دولاب يفيض بسلسل

في روضة قد أينعت أفنانا

قد طارحته به الحمائم شجوها

فيجيبها ويرجّع الألحانا

فكأنه دنف يدور بمعهد

ضاقت مجاري طرفه عن دمعه

__________________

(١) وردت في (ع): «الظل».

(٢) هذا البيت لابن النبيه انظر ديوانه ص ٣٧.

(٣) وردت في (م): «وشذا».

(٤) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٥٩ بلا عزو.

٩٢

يبكي ويسأل فيه عمّن بانا

فتفتّحت أضلاعه أجفانا (١) [٢٤ أ]

وذلك النهر يجول (٢) في حلّة فضية تذهبها الشمس بكرة وأصيلا ، ويجلوا صداها صيقل القمر ليلا ، ونهر عطفه خيلا ، ويسحب (٣) في تبختره بين الرياض ذيلا ، فتناديه تلك الأشجار على رسلك ف (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)(٤) وتلقّانا في ذلك المقام جماعة من الأصحاب ما بين عرب وأروام قاصدين بلاد الشّام ، فتلاقينا بالتحية والسلام ، وجمعنا بين السلام والوداع ، وذيّلنا الافتراق من ذلك الاجتماع ، وأنشدتهم والقلب بالفراق منكوي ، والجسم على نيران الفؤاد محتوي ، لفخر الرؤساء الشريف الرّضيّ الموسويّ : [من البسيط]

والدمع تنحدر من الآماق

وتفور من جوانب الأحداق

أيها الرائح المجد تحمّل

حاجة للمتيم المشتاق

وأقر عني السلام أهل المصلى

وبلاغ السلام بعض التلاق

وإذا ما مررت بالخيف فاشهد

أنّ قلبي إليه بالأشواق

__________________

(١) هذه الأبيات موجودة في حسن المحاضرة ٢ : ٣٩٩ ورفع الحجب المستورة ١ : ١٣٦ منسوبة في كليهما لنور الدّين علي بن سعد الأندلسي ، وفي نهاية الأرب ١ : ٣٨٤ منسوبة إلى أبي حفص بن وضّاح.

(٢) وردت في (ع): «يحول».

(٣) وردت في (م): «وتسحب».

(٤) سورة الإسراء آية ٣٧.

٩٣

وإذا ما سئلت عني فقل

وما أظنّه اليوم باق (١)

ضاع قلبي فأنشده لي بين جمع

وهى عند بعض تلك الحداق [٤٢ ب]

وابك عني فطالما كنت

من قبل أعير الدموع للعشّاق (٢)

ثم ترحّلوا عنا ، وأشأموا وأتهمنا ، والشوق بالجوانح مكتنف ، والدمع من الآماق منذرف ، والقلب ذاهب معهم لم يستقر ولم يقف ، فضارعت مرامه ، وأنشدت أمامه : [من مجزوء الكامل]

لله أي هوى برامه

حيث القلوب المستهامه

لم يبق قلب في الحمى

إلّا وقد أعطى زمامه (٣)

بالله يا حادي القلوب

إذا رجعت مع السلامه

فاخدع فؤادي علّه

يرعى لمنزله ذمامه (٤)

فلما مضى من ليلة الاثنين عاشر شوال ، مقدار أقصى ما يوصى به المريض من

__________________

(١) سقط هذا البيت من (م) و (ع) وكتب في الأصل على الهامش بخط مغاير.

(٢) الأبيات موجودة في نسيب الشريف الرضي (الحجازيات) ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) سقط هذا البيت والذي يليه من (ع).

(٤) الأبيات في تاج المفرق ١ : ٢٩٥ بلا عزو.

٩٤

المال (١) ، حكمنا على معزول السرى بالاستعمال ، ومتواني السير بالاستعجال ، ولم نزل (٢) نجهد في سلوك مهامة تجمع بين النفس والجزع ، وتتصيد عنقاء البسالة في شرك الفزع ، ونصعد أنف كل تنوفة وثنية ، ونعقد لجهاد كل ماذق (٣) ومارق أفضل نيّة (٤) [٤٣ أ] ما بين غابات أشجار تضيق الأنفاس ، أحسن أنواعها البطم والبلّوط وشيء قليل من الآس ، فقيّلنا بحدرة من جملة الهيش ، بها بعض ماء حار وحشيش ، وبتنا ليلة الثلاثاء بمكان من جملة جبال الورسخ ، بين غابات محتبكة وجبال شمّخ ، لا مغيث بها لمظلوم ولا مستصرخ ، فبت ونيران الفؤاد لا تتبوخ ، وغليله لا يروي ولا ينفخ ، والصدر لا يتفسح (٥) من كربه بل يتفسخ ، والضلوع تقصف من بعض ذلك وترضخ ، والدموع تنضح صحن الخد وتنضخ ، وأنا متمثّل بقول القائل : [من الطويل]

أحبائي (٦) ما لي بحياتي نفع

مذ عزّ لشملنا بشت (٧) جمع

في الليل إذا أرّقني ذكركم

أبكي أسفا جهد المقل الدمع (٨)

وبقول الآخر : [من مجزوء البسيط]

__________________

(١) وهو الثّلث.

(٢) وردت في (ع): «يزل».

(٣) وردت في جميع النسخ (مازق) والصواب ما أثبتناه ، والمذق : المزج والخلط ورجل ماذق : كذّاب.

(٤) وردت في (ع): «نبيه».

(٥) وردت في (ع): «ينفسح».

(٦) وردت في (م): «أحبابي».

(٧) وردت في (ع): «ست».

(٨) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١٢٧ منسوبة لحسام الدّين الحاجري الأربلي.

٩٥

الشوق إليكم شديد البرح

والوجد يجلّ شرحه عن شرح

صبرا فعسى سماؤه أن تصحى

لا بدّ لكل ليلة من صبح (١) [٤٣ ب]

ثم رحلنا من ذلك المكان عندما شاب مفرق الليل ، وولى من الصباح مشمر الذيل ، وبرز الفجر من خبائه ، وبسط على العالم رداء (٢) ضيائه ، فما سرنا إلّا قليلا حتى تلقتنا عقبة الكولك (٣) ، وهي عقبة عسرة المذهب وعرة المسلك ، ضيقة المدارج متشعبة المناهج ، متعددة الهبوط والصعود ، متزايدة التهائم والنجود ، كأن نجودها صعود إلى السماء ، وأغوارها نزول إلى قرار الماء ، فدخلنا بها (٤) في أمر عظيم ، وطريق غير مستقيم ، وعذاب يوم عقيم ، بينا نحن في عقاب عقاب إذا نحن في مهاد وهاد ، وبينما نحن في رأس جبل إذا نحن في بطن واد. نهبط فنظن أن قد بلغنا من الأرض أدناها ، ونرقى فنتوهّم أن قد تناولنا من السماء سهاها ، ونسلك سبلا تحار فيها القطا ، ولا تهتدي إليها الخطى ، ويكثر من طارقها وأن ألفها الخطأ ، فهي كما وصفها أو نظيرها (٥) مولانا المقر الكريم ، مولانا السيد بدر الدّين عبد الرحيم (٦) بقوله [٤٤ أ] : [من مجزوء الرمل]

__________________

(١) البيتان لعماد الدّين الكاتب الأصفهاني وموجودة في تاج المفرق ٢ : ١٣٠.

(٢) وردت في (م): «بساط».

(٣) حدّد القلقشندي (٤ : ١٣٥) موضعها : على رأس جبل شمالي طرسوس بنحو مرحلة ، وهي قلعة مدورة يسكنها التركمان ، وهي من فتوحات السّلطان بايزيد سنة ٨٨٨ ه‍. وانظر : المنح الرحمانية ٥٥ ، قاموس الأعلام ٥ : ٣٩٢٥.

(٤) وردت في (ع): «فدخلناها».

(٥) وردت في (ع): «نظير».

(٦) السيد عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي (ت ٩٦٣ ه‍) تقدم التعريف به في مطلع الرحلة.

٩٦

كم عقاب في عقاب

دونها مرّ السّحاب

ليس للطير رقيا

فوقها حتى العقاب

حال من يرقى إليها

كرقيّ في اضطراب

كاد أن يكن (١) من يرقى

إليها لمس الشهاب

حارت الأفكار فيها

بين هاتيك الشعاب

وانثنى العقل ضليلا

بأسى تلك الهضاب

وربا الكرب ازديادا

مذ بدت تلك الروابي

ودموع العين تجري

بجفان كالجواب

يسدر المرء فلا يقوى

على ردّ الجواب

وإذا يهوي انحدارا

صار في أقصى التراب

كم سقيط صار منها

في أفانين العذاب

من يقم منها صحيحا

كان في أفق (٢) التحابي

__________________

(١) وردت في (ع): «يمكن».

(٢) وردت في (ع): «أوفى».

٩٧

فعدول المرء عنها

أبدا عين (١) الصواب

ورأينا بهذه العقبة أشجار صنوبر كالسواري ، يتّخذ منها أعظم ما يكون من الصواري ، والبعض منها ساقط منعجر كأعجاز نخل منقعر كما ضرب به النبي الصادق مثل هلاك المنافق. وفي وداتها ماء يجري من الثلج ، يتكسر ويفج من كل فج ، وبها مكان بين جبلين منتصبين كالجدارين لا يدرك الطرف أعلاهما ولو احتد ، ولا يرقى مبلغ الطير أدناهما ولو اجتهد وجدّ ، يجري بينهما ماء كثير عذب زلال ثجاج نمير وبه نسيم [٤٤ ب] يداوي السقيم ، ونبت أريج من كل زوج بهيج ، فياله من منظر ما أبهاه وأحسنه وأفرجه وأزهاه ، يرتقى منه إلى سفح أحدهما في عقبة كؤود ، ذات صخرات سود ، ومسالك لا تتسلّق فيها القرود ، ولا يمر بها الفئران إلّا وهي في صورة الحيران في غاية الخوف والرجفان. أصعب الطرق والمذاهب ، وأحزن السبل على ماش وراكب ، فلم نزل نخبط في سهل هذا الجبل ووعره ، ونخلط (٢) سيرا ترابه بصخرة ، ونشقّ أعطافه شقا ، وندق جنادله بالحوافر دقا ، مكتنفين الفزع ملتحفين (٣) الجزع ، إلى أن جزمتنا عوامله بالحذف ، ومنعتنا علاته من الصرف ، وأسفر لنا وجهه العبوس ، ومحياه الذي في مشاهدته البؤس ، عن مكان واسع ، به بعض ماء نابع (٤) وربيع مريع (٥) رائع ، وهناك للوزير بير باشا خان وعمارة وجامع ، لكنها الآن خراب مأوى للبوم والحشرات والذئاب ، فاسترحنا به ساعة دون أن نحلّ عن الدواب ، ثم سرنا إلى [٤٥ أ] منزل به ربيع ، وماء عيون جريها ليس بالسريع ، فقيّلنا به ثم سرنا في ربوات ووهدات وأنهار ، حتى انهار جميع بناء ذلك النهار ، فحين حان الغروب ، وآن

__________________

(١) وردت في (ع): «غير».

(٢) وردت في (ع): «ويخلط».

(٣) وردت في (ع): «متلحفين».

(٤) وردت في (ع): «مانع».

(٥) وردت في (ع): «مربع». والمريع : الخصيب.

٩٨

لقرص الشمس الوجوب ، واتصفت صلاة المغرب بالوجوب ، نزلنا بشط نهر في غاية الاتساع ، شديد الجري والدفاع ، أكثر في الارتفاع من مائة ذراع ، ويحاذيه مرج أفيح ومسرح ومشرح ، وربيع يجول فيه الطرف ويمرح ، وهو بالقرب من آق كبرى ومعناه الجسر الأبيض بالعربيّة ، وهو آخر ما كانت تحكمه الجراكسة وأول البلاد القرمانيّة ، فبتنا بشط ذلك النهر ليلة الأربعاء ثاني عشر الشهر ، وهناك هواء شديد ، وبرد ما عليه من مزيد ، حتى خيّل لنا أن الشتاء عاد بأنوائه (١) والبرد رجع بأدوائه ، فاشتكت منه الأسنان ورجف الجنان ، وقعدنا تحت الرعدة ننتظر الفرج بعد الشدّة ، ثم رحلنا منه [٤٥ ب] : [من الكامل]

والبدر يجنح للغروب كأنه

قد سلّ فوق الماء سيفا مذهبا (٢)

ثم برق من الفجر نوره ، ولاحت من الصباح تباشيره ، فسرنا في مخاضات وطلعات ونزلات (إلى أن ترافع النهار وتعالى ، وتتابع حرّه وتوالى) (٣) ، وقيّلنا ذلك النهار بمكان بشط بعض تلك الأنهار. ثم سرنا فجزنا على بساتين بها فواكه وزيتون ، وشذى يفوح من أشجار زيزفون ، ونزلنا بمكان به مياه ومرج ، وبالقرب منه جبال من ثلج ، فحصل فيه برد شديد وريح بارد ، ومطر يقوى ويضعف لكنه متوال متوارد ، فقطعنا تلك الليلة بين همل وهطل ، وعطاء من السحب لا يكدره مطل ، ورقصت القلوب لتصفيق الرياح ، وفقدت النفوس الروح والخواطر الارتياح ، وطال الليل مع أنه قصير الذيل ، كما قال أبو المعالي الحظيريّ : [من مجزوء البسيط]

أقول والليل في امتداد

وأدمع الغيث في انسفاح

__________________

(١) وردت في (ع): «بأنواعه».

(٢) البيت في معاهد التنصيص ٢ : ١٠٠ منسوبا لمنصور بن كيغلغ.

(٣) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

٩٩

أظنّ ليلي بغير شك

قد بات يبكي على الصّباح

هذا والشمس في آخر برج السرطان ، والصيف قد ألقى على الأرض الجران (١) ، وحكم في الوجود بقوة السّلطان ، فكان كما [٤٦ أ] قال مولانا المقر الكريم الشيخي الإمامي البدري السيد عبد الرحيم (٢) : [من السريع]

جادت لنا الأنواء مغدقة

والصيف أقبل مسرع الجري

فكأنّما شمس الضّحى خرّفت

فتشبّه السرطان بالجدي

ومما قلته : [من الكامل]

نوء الشتاء وبرده وافى وقد

حكم المصيف بقوة السّلطان

فلعلّ هذا الدهر أمسى ذاهلا

فأتى بنوء الجدي في السرطان

فلمّا طلع الفجر ولاح ، وضربت بشائر الصباح ، عزمنا على التبكير بالسير والتغليس ، وذلك ثالث عشر شوال يوم الخميس ، فوصلنا مدينة أركلي (٣) والشمس مستوفية اللألاء مرتقية درجة العلاء ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهي مدينة

__________________

(١) وردت في (ع): «الحران» والجران : باطن عنق الفرس أو الجمل ومنه قولهم : ضرب الجمل بجرّانه إذا برك : (لسان العرب ١٣ : ٨٧).

(٢) السيد عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي (ت ٩٦٣ ه‍) تقدّم التعريف به في مطلع الرحلة.

(٣) أركلي : مدينة بالرّوم ، ذكر القرماني (٣ : ٣٠٥) أنها كلها وقف على المجاورين بمكة والمدينة. ويرى لسترانج (١٨٢) أنها «هرقلة» وقد تحرّف الاسم في الأزمنة المتأخرة.

١٠٠