المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

عليّ غالب الأوّل ، وتمم الثاني قراءة وأكمل ، وكتبت له إجازة حسنة جاء فيها ما قلته بديها : [من البسيط]

فهو الشّهاب شبيه البدر في شرف

وفي علاء وتكميل وتنوير

والبحر فضلا وإفضالا فيا عجبا

للبحركيفانتهى (١) حقاإلى البير (٢)  ٢٣ ب]

ولم يزل أهل تلك الديار والأقطار يطيرون ، الينا كل مطار ، بين سار بالليل وسارب بالنهار (لحصول مآرب وبلوغ أوطار) (٣) ، فمنهم أحد المتقين ، وعباد الله الصّالحين ، الإمام الفاضل الفهّامة الشيخ جمال الدّين يوسف بن محمد بن عثمان الشهير بابن العوامة ، الخطيب والإمام بجامع الطواشي (٤) بباب المقام ، قرأ عليّ مواضع متعددة من المنهاج قراءة سلك فيها أعدل طريق ، وأقوم منهاج (٥) ، محققا لمعانيها مدققا لمبانيها ، وسمع من نظمي قصيدتي الآتية القافيّة القافية ، غرّة القصائد التي رثيت بها شيخ الإسلام الوالد ، ووسمتها «بنفث الصدر المصدور وبث القلب المحرور» ، وأولها :[من الكامل]

قلب يذوب وأدمع تتدفق

والجسم بينهما غريق محرق

وسمع أوائل شرحي المنظوم على ألفية ابن مالك ، وأخذ عني أشياء كثيرة غير ذلك.

__________________

(١) وردت في (ع): «انتمى».

(٢) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٠٥. وإعام النبلاء ٦ : ٣٤.

(٣) وردت هذه العبارة في (م) و (ع): «لبلوغ مآرب وحصول أوطار».

(٤) هذا الجامع داخل باب المقام ، أنشأه جوهر العلائي الطواشي ، وهو مطل على خندق قديم داخل البلد. (إعلام النبلاء ٦ : ١٣٢).

(٥) وردت في (ع): «مناج».

٦١

ومنهم الشيخ الإمام والحبر الهمام شيخ المسلمين أبو عبد الله محمد شمس الدين الخناجريّ الشّافعيّ (١) ، شيخ الفواضل والفضائل ، وإمام الأكابر والأفاضل ، وبدر الإنارة المشرق لسرى القوافل ، وشمس الحقائق التي [٢٤ أ] مع ظهورها النجوم أوافل ، له المناقب الثواقب ، والفوائد الفرائد ، والمناهج المباهج ، وله بالعلم عناية تكشف العماية ، ونباهة تكسب النزاهة ، ودراية تعضد الرواية (٢) ، ومباحثة تشوق ، ومنافثة تروق ، مع طلاقة وجه ، وتمام بشر ، وكمال خلق ، وحسن سمت ، وخير هدي ، وأعظم وقار ، وكثرة صمت : [من البسيط]

ملح كالرياض غازلت الشم

س رباها وافترّ عنها الربيع

فهي للعين منظر مونق الحس

ن وللنّفس سؤدد مجموع (٣)

وقد كان اجتمع بي وبالوالد شيخ الإسلام في مصر ثم في الشّام ، ووقع بيني وبينه مفاوضة ومذاكرة ، ومباحثة ومحاورة ، مع إذعانه لما أذكر ، وقبوله لما أقول ، وهو يدعو لي ويشكر ، وعلى الله تعالى القبول ، والله المسؤول أن يوفقنا وإياه والمسلمين لما يحب من القول والعمل ، وأن يعصمنا وإياهم من الخطأ والخطل والزيغ والزلل.

ومنهم الشيخ العالم العامل والإمام الأوحد الكامل أعز الأصحاب والأحباب ، أبو هريرة عبد الرّحمن بن حسن الكرديّ الشهير بابن القصّاب (٤) ، إمام قد سما

__________________

(١) محمد بن محمد الخناجريّ (ت ٩٤٠ ه‍) ، ترجم له نجل المؤلف في الكواكب السائرة ٢ : ١٤ ـ ، درّ الحبب ٢ / ١ : ٢٥١ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٣٩ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٦٤.

(٢) وردت هذه العبارة في (ع): «وله بالعلم عناية بكشف العماية ، ونباهة بكسب النزاهة ، ودراية بعضد الرواية».

(٣) الأبيات في الكواكب السائرة ٢ : ١٤ ، وتاج المفرق ١ : ١٧٣ بلا عزو.

(٤) أحد المدرّسين بحلب توفي سنة ٩٤٢ ه‍. انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٥٧ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٣٥١.

٦٢

بجلالة قدره ، ونبذ الدنيا وراء [٢٤ ب] ظهره ، ووضع الله له البركة في علمه وعمله وعمره ، يظل يقطع ليله مستعبرا ، ويهش للجهل مبتذرا ، عالما أنه سيحمد عند صباحه السرى ، مع رواية ودراية وسلوك وهداية (١) ، ومراتب عليّة في الزهد والولاية ، قد جبل الله القلوب على محبته والنفوس على مودته : [من الكامل]

وإذا أحبّ الله يوما (٢) عبده

ألقى عليه محبّة للناس (٣)

فما رمقه طرف إلّا وأحب أن يفديه بسواده ، ولا نال أحد دعوته إلّا ورأى بركتها في نفسه وماله وأولاده ، نفعنا الله تعالى به وبالصّالحين من عباده. حضر للسلام عليّ ، ثم أضافني إلى منزله وقدّم ما حضر من شهي مأكله ، ثم دعا لي ببلوغ ما أرجوه ، وصرف كل سوء ومكروه ، وحصل له وارد بشّرني فيه بعموم الخير من سائر الوجوه ، وذكر لي أنه كتب على سؤال وخالفه في ما كتب ابن بلال ، وأن الشيخ أحمد الهنديّ قال : أصابا من وجه وأخطأ من آخر ، ولم يفصل مجمل المقال. والسؤال مضمونه : ما الرزق الذي يحصل به للحيوان الرفق؟ فكتب ابن بلال : هو ما يؤكل حراما أو حلالا ، وكتب هو : هو ما ينتفع به استقلالا ، فافهمته بلطف (٤) [٢٥ أ] مقصد الهنديّ ، ثم سألني عن التحقيق في ذلك ، فذكرت له ما عندي فاستحسن ما قلته وقبّل يدي ، ثم بكى وقال : هكذا ، هكذا ، وإلّا فلا ، لا يا سيدي ، ثم حصل لنا أنس حصل منه بكاء وأنين ، وتعانق وتلازم وحنين ، والله تعالى يعاملنا وإياه والمسلمين بخفي لطفه آمين.

ومنهم الشيخ المحقّق ، والإمام المدقق ، حسنة الليالي والأيام ، وقرّة عين المسلمين

__________________

(١) وردت في (ع): «وهدية».

(٢) وردت في (ع): «قوما».

(٣) البيت في تاج المفرق ١ : ٢٢٦ بلا عزو. وهو لابن عبد ربه الأندلسيّ (العقد الفريد ١ : ٢٢٦).

(٤) وردت في (ع): «لطف».

٦٣

والإسلام ، الشهاب أبو العباس أحمد الهندي الحنفي (١) عامله الله وإيانا ببره الوفي ولطفه الخفي آمين ، شيخ له في تحقيق العلوم قدم عال وأشتات معال وخاطر يجول في أوسع مجال ، فيبرز نفائس لآل ، وعرائس جمال ، ويأتي بسحر حلال وبحر زلال : [من الرّجز]

فضائل مثل الحصا كثيرة

وخاطر يغرف من بحر (٢)

كان عندنا بالشّام مدّة ، وأقام يدرس بالجامع الأموي في كتب عدّة ، وهو محبّ معتقد ، غير ثان ولا منتقد ، لطيف الذات والطباع ، بخلاف من يأتي من تلك البقاع ، سلّم عليّ وتردد إليّ وسمع مني وأخذ عني ، [٢٥ ب] وذكرت بحضوره قول ابن عبّاس وتبعه الشعبيّ بجواز صلاة الجنازة بغير طهارة ، فاستفاده وتلقّاه بالقبول ، ثم أيده بقول أبي حنيفة رحمه‌الله بجواز التيمم لها مع وجود الماء وأنها عنده (٣) لا تبطل بالقهقهة ، وعلّل ذلك بأنها عنده صلاة من وجه ودعاء من وجه ، وبحثت معه في غير ذلك أيضا.

ومنهم الصّالح النيّر الدّين الخيّر القدوة العلّامة ، الشيخ زين الدّين عمر ابن أسامة (٤) ، حضر إليّ وسلم ودعا والتمس الخاطر والدعاء ، وحصل بيننا وبينه صحبة ومودة ، وأخوة ومحبة.

ومنهم الشيخ الفاضل العالم المواظب على وظائف الخير والملازم ، المثابر على

__________________

(١) أحمد البنارسيّ الهندي المتوفى سنة ٩٣٩ ه‍ ، انظر ترجمته الوافية في : در الحبب ج ١ ق ١ ، ص ١٥٣ ـ ١٦٤ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٥٧ ـ ٤٦١.

(٢) البيت في تاج المفرق ١ : ١٧٩ بلا عزو.

(٣) وردت في (ع): «عند».

(٤) توفي سنة ٩٥٧ ه‍ ، وأثبت ابن صاحب الرحلة هذه الترجمة بنصها في الكواكب السائرة (٢ : ٢٢٧) وفيه : «عمر بن سامة العرضي».

٦٤

تلاوة (١) القرآن ، إمام جامع الأطروش (٢) ، الشيخ عز الدّين محمد بن الشيخ عبد الرّحمن بن شعبان ، وقع بيننا وبينه مذاكرة ومفاوضة ومحاورة ، فاعترف بالفضل التام وأنشدني عند القيام : [من البسيط]

كانت محادثة الركبان تخبرني

عن علمكم وسناكم أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأعظم مما قد رأى بصري (٣)[٢ أ]

ومنهم الشيخ الفاضل العالم العامل ذو السكينة والوقار ، أبو زكريا يحيى ابن حسن بن قحقار ، إمام الحنفية بالجامع الكبير ، المشهور بابن الخازندار (٤) ، سلّم علينا بالجامع وتودد ، وأسرع وأشرع إلى تقبيل يدي وما تردد ، فأجللت عن ذلك مقامه ، وضاعفت حسن تلقيه وإكرامه.

ومنهم الشاب النبيل العالم الأصيل الفاضل الجليل ، البدري حسين بن الشيخ زين الدين عمر بن قاضي القضاة جلال الدّين النّصيبيّ الشّافعيّ (٥) ، له حسب صميم ، وسلف في العلم قديم ، ومنهج على السّنّة قويم ، وبيت له بالعلم والدّين تعظيم وتفخيم ، فلله ما هنالك من خيم ومناد لا يقبل الرخيم ، حسن الصورة ، جيد السيرة ، عف السريرة ، ذو رغبة في الخير وأهله ، وسلوك على قويم محجته وسبله ،

__________________

(١) وردت في (ع): «قراءة».

(٢) وردت في الأصل وفي (ع): «جامع الأطروس».

(٣) هذه الأبيات لعبد القادر الأبّار وموجودة في الكواكب السائرة ١ : ٢٤٢ وإعلام النبلاء ٥ : ٣٤٧ ، وفي تاج المفرق ١ : ١٥٤ وكنوز الذهب ٢ : ٢٤ لمحمد بن هانىء يمدح جعفر بن فلاح.

(٤) وهو سبط الشريف زين الدّين عبد الرحمن بن إبراهيم الجعفري ، توفي بمكة سنة ٩٣٨ ه‍ ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ٢٥٨ ـ وفيه : «يحيى بن علي» ، شذرات الذهب ١٠ : ٣١٨.

(٥) توفي سنة ١٠٠٠ ه‍ ، وترجم له نجل صاحب الرحلة في الكواكب السائرة ٣ : ١٤٥ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٦٥٢ ، وإعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٦ : ٩٦ ـ ١٠١.

٦٥

سلّم عليّ مرارا وتردد ، ولا شكك في اعتقاده ولا تردد ، وتقرّب وتحبّب وتودّد ، وسأل مسائل على وجه الاستفادة في أنواع العلوم ، وسأل في القراة بعد القدوم ، ثم أضافنا إلى مدرستهم الشرفية (١) ، وقدّم سماطا هائلا بأنواع المبرات آهلا [٢٦ ب] وبأصناف الطيبات حافلا.

ومنهم صاحبنا الشيخ العالم الفاضل ، والأوحد البارع الكامل ، ذو القريحة الوقادة ، والفطنة النقادة ، والطبيعة المنقادة ، الفائق في حسن الخبر والمخبر ، شمس الدّين محمد (٢) بن خليل بن الحاج علي بن أحمد بن محمد بن قنبر (٣) ، اجتمع بي في دمشق الشّام المحروس ، وحضر عندي بعض مجالس الدروس ، ولم تزل مكاتباته تفد إليّ وترد كل وقت عليّ ، وكاتبته بمكاتبة لطيفة فيها نكت ظريفة حكيتها في تذكرتي ، وسمع بحلب قصيدتي القافيّة على التمام ، وقد اهتم بقضاء أشغال (٤) لنا غاية الاهتمام ، فجزاه الله عنّا جزاء الحسنى.

ومنهم الشيخ الصّالح المعتقد ، زين الدّين عمر (٥) بن الشيخ الصّالح يحيى ابن الشيخ الصّالح العارف بالله تعالى سيدي محمد الكواكبيّ البيريّ الرحبيّ ، حضر هو وأهله وأهل حارته وسلّم ، وعزم علينا لزاوية جده بالجلّوم (٦) وصمّم ، فذهبنا إليها يوم الجمعة تاسع عشرين رمضان المعظّم ، واستمرينا عندهم وهم لا يمكنونا من التحوّل

__________________

(١) المدرسة الشرفيّة من مدارس الشافعية بحلب سميت بذلك نسبة إلى منشئها شرف الدّين عبد الرحمن العجيميّ سنة ٦٤٠ ه‍. (معادن الذهب ١٦٤).

(٢) وردت في (ع): «شمس الدّين بن محمد».

(٣) توفي سنة ٩٧١ ه‍ ، وجل هذه الترجمة مثبتة في الكواكب السائرة ٣ : ٥٨ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٣١٦ ، وفي در الحبب ج ٢ ق ١ ص ١٣٥ ـ ، وفاته سنة ٩٦١ ه‍ ، وإعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٦ : ١٩.

(٤) وردت في (ع): «أشعار».

(٥) وردت في (ع): «زين الدين بن عمر».

(٦) الجلّوم : حارة وناحية من نواحي حلب ، بها عدة مساجد وحمّامات خراب. انظر : كنوز الذهب ١ : ٤٨٩.

٦٦

عنهم والانتقال إلى عشية يوم الأحد ثاني شهر شوال ، فجزاهم الله عنّا كل خير ووقاهم كل بؤس وشر وضير.

ومنهم الشيخ العلّامة [٢٧ أ] والقدوة الفهامة المقتفي سنن الهدى وآثاره ، خطيب الجامع الكبير ، الشيخ شمس الدّين محمد الحنفيّ الشهير بابن الحمارة (١) ، سلّم علينا وتودد بعد صلاة الجمعة بالجامع ، وهو بصفة المتودد المتواضع المتخاضع.

ومنهم الشيخ الفاضل العالم الكامل البارع في فنون العلوم وأنواع الآداب (٢) ، الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ إبراهيم بن العرضيّ (٣) المفتي بحلب ، حضر لديّ ، وسلم عليّ ، وسألني عن الخوف والرجاء ، فأجبته بما فتح به ، وسألني عن حديث : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا. فقلت له : عدّه الزركشيّ في كتابه في الأحاديث المشتهرة مما لا أصل له ، مع (٤) أنّ له أصلا ، فإنه أخرجه عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن ثابت البنانيّ بلفظ : «كانا سواء». كما أفاده شيخنا شيخ الإسلام الجلال السّيوطيّ في كتابه الدّرر المنتثرة (٥) ، ثم أنشدته أبيات أبي نواس في الرجاء : [من الوافر]

تكثّر ما استطعت من الخطايا

فإنّك بالغ ربّا غفورا

ستبصر إن وردت عليه عفوا

وتلقى سيّدا ملكا كبيرا

__________________

(١) لم أهتد إلى التعريف به.

(٢) وردت في (م) و (ع): «الأدب».

(٣) توفي سنة ٩٦٧ ه‍ ، ونسبته إلى «عرض» من أعمال حلب. وانظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٨٦ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٣٧٩ (وفيه : وفاته نحو سنة ٩٤٦ ه‍) ، وإعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٦ : ٤٥ ـ ٤٧.

(٤) سقطت كلمة «مع» من (ع).

(٥) الدرر المنتثرة ١٦٠.

٦٧

تعضّ ندامة كفّيك ممّا

تركت مخافة النّار السّرورا (١) [٢٧ ب]

وخبره هذه الطرف بقوله في الخوف : [من الكامل]

سبحان ذي الملكوت أيّة ليلة

مخضت (٢) صبيحتها بيوم الموقف

لو أنّ عينا في المنام تخيّلت

ما في القيامة كائنا لم تطرف

فكتب ذلك من إملائي ، ثم دعا والتمس دعائي ، والله تعالى يوفقنا وإياه لما يحبه في الدارين ويرضاه.

ومنهم الشيخ العالم المنور ، موفق الدّين أحمد بن شيخ الشيوخ أبي ذر (٣) ، وهو رفيقنا من حلب في السفر.

ومنهم العالم النبيل والفاضل الأصيل الجميل الطّاهر (٤) الحسن السريرة ، السيّد الشريف الحسيب النسيب ، شمس الدّين محمد (٥) بن النويرة ، اجتمع بي وأثنى واستفاد منا وأخذ عنّا.

(ومنهم الشيخ العالم محيي الدّين بن دغيم (٦) من أعيان حلب.

__________________

(١) الأبيات في ديوان أبي نواس ص ٧٣٠.

(٢) وردت في الأصل و (ع): «محضت».

(٣) هو أحمد بن أبي بكر أحمد ، الشيخ موفق الدّين أبو ذر توفي سنة ٩٦٢ ه‍ ، انظر ترجمته في : درّ الحبب ج ١ ق ١ ص ١٦٥ ـ ١٧٠ ، وإعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٦ : ٢٤ نقلا عن درّ الحبب.

(٤) وردت في (ع): «الظاهر».

(٥) وردت في (ع): «شمس الدين بن محمد».

(٦) هو علي بن محمد بن دغيم الحنبليّ ، المتوفى سنة ٩٤٨ ه‍. انظر ترجمته في : إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٨٨.

٦٨

ومنهم السيّد الشريف الحسيب النسيب ، برهان الدّين إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم المعروف بابن البرهان ، الإمام بمحلّة حمام الذهب) (١).

ومنهم الشّاب الفاضل إمام المدرسة الشرفيّة ، عزّ الدّين بن علوّ الدّين الحاضريّ ، من أعيان الحنفيّة (٢).

ومنهم الشيخ العلّامة والقدوة الفهّامة (قاضي القضاة ذو العقل الوافر والحصا) (٣) الأصيل النبيل الرئيس النفيس الذي لم يزل في ثوب السيادة يرفل القاضي ابن جنغل (٤) ، حضر لديّ وسلّم عليّ وتودد وتردد ، وقدّم لنا (٥) هدية من الحلاوة القرعية [٢٨ أ].

ومنهم الشّاب الزاهد والخاشع العابد والأوحد الناسك والأمجد السالك فخر الكبار وخير الأخيار ، سيدي أحمد (٦) بن الأمير محمد بن إدريس الدفتردار ، ذو أبهة وبهاء وحبوة مملوءة مكارم خالية من ازدها ، وخلقة سمت في مطالع الحسن إلى أنهى كمال وأكمل انتهاء ، تتحلى بجمانها (٧) الخرائد ويحسد حسنها النيرات الفراقد ، وتنبّه من سنة الغفلة ، ولا أقول لأجل السجعة ألف راقد ، أضافنا يوم العيد إلى محله السعيد وتأنق في سماط أحضره ، وقدمه وما أخرّه ، وليكن هذا خاتمة سردهم وواسطة عقدهم ، وثمّ جماعة آخرون تركنا ذكرهم خوف الإطالة وحذر السآمة والملالة.

وأخبرنا أصحابنا الشموس الثلاثة : ابن الخناجريّ ، وابن قنبر ، والسيد ابن

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

(٢) سقطت هذه الترجمة من (ع).

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٤) وردت في (م): «القاضي ... ابن جنغل». وهو محمد بن علي الحلبيّ المالكي ، آخر قضاة المالكية بحلب ، توفي سنة ٩٥١ ه‍ ، وترجمته في الكواكب السائرة ٢ : ٤٨ ، درّ الحبب ج ٢ ق ١ : ٢٧٦ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤١٦ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٩٩.

(٥) وردت في (ع): «إلينا».

(٦) وردت في (م) و (ع): «سيد بن أحمد».

(٧) وردت في (ع): «بحمانها».

٦٩

النويرة ، والبدر بن النّصيبيّ ، وغيرهم ، أن المشهور بحلب بابن بلال (١) رجل جاهل لا يعرف شيئا ، وإنما روج أمره أمراؤه مماليك الحمزاويّ وأولاده ، وإسكانه له في بيته خشية أن ينزل فيه رومي ، وأنه سعى له في [٢٨ ب] بعض وظائف ابن المستوفي فحصل له بذلك غنية وشهرة بعد فقر وخمول ، وذكروا عنه ترّهات تدل على جهل كبير لم أر ذكرها (٢) هنا (٣) ، ورأيت من خالفهم في ذلك كلّه ، وقال إنّه من حملة العلم وأهله ، والله أعلم بحقيقة أمره وبموافقة علانيته لسره ، والذي يظهر هو الثّاني لكنّه رجل لا مداراة عنده لأنّه تركماني.

ذكر إرجاع ابن الفرفور وما حدث بعد ذلك من الأمور

ولمّا كان يوم الاثنين ثالث شوال المبارك حضر أولقان (٤) من جهة بكاربكي (٥) بالشّام أمير الأمراء الكرام عيسى باشا ، البالغ من مراتب الكمالات ما شاء ، وصحبتهما مكاتبات من الأمير المذكور تخبر بحضور مرسوم بعود القاضي ابن الفرفور محتفظا به للتفتيش عليه وتحرير (٦) ما نسب من المظالم إليه ، وأن المتولي لذلك القاضي ابن إسرافيل المنصوب لقضاء الشّام مكانه وعدوه عيسى باشا المشار إليه

__________________

(١) هو محمد بن محمد العينيّ الحلبيّ توفي سنة ٩٥٧ ه‍ وترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ٧ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٤٥٩ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٥٣٨ ، أعلام الزركلي ٧ : ٥٨.

(٢) وردت في (ع): «لم أذكرها».

(٣) من هنا إلى نهاية الورقة [٣٠ أ] من الأصل ساقط من (ع).

(٤) أولاق وأولقان : كلمة تركية معناها رسول أو مخبر ، انظر : شمس الدين سامي : قاموس تركي ص ٢١٩.

(٥) وردت في (م): «بكليربك» والبكلربكية : الولاية أو الإمارة ، والبكلربكي أو البكاربكي هو أمير الأمراء ، وهو لقب يطلق على بكوات الصناجق ، انظر : البرق اليماني ـ المقدمة ص ٧٥ ، ولطف السمر ١ : ٢٢٨ ، زبدة كشف الممالك لابن شاهين الظاهري ١١٢.

(٦) وردت في الأصل : «تحريره» وما أثبتناه من (م).

٧٠

لتكمل في حقّه الإهانة ، فنعوّذ بالله من زوال النعم ومفاجأة النقم ، فطلع من الشّام أعز طلوع ورجع إليها ـ والعياذ [٢٩ أ] بالله ـ أذلّ رجوع (١) ، فلمّا وصله ذلك الخبر حار وجبن وخار ، ولاذ واستجار ، وذلّ بعد تجبّر (٢) وما أذلّ من هو جبّار ، وانكسر بعد فخره وتكبّره وما أسرع كسر الفخّار ، وقد دخلت عليه بعد بلوغي هذا الخبر ، فوجدته في غاية الذلّة والاتضاع والاختضاع ، ووجهه ممتقع غاية الامتقاع ، ومنتقع نهاية الانتقاع ، وهو وجماعته كما قال الله تعالى (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٣) ، فتوجّع واشتكى وتأوّه وبكى ، ثم أظهر الجلد وأضمر البلوى ، وقال الحمد لله ما لأحد علينا تبعة ولا شكوى ، ولا ظلامة ولا دعوى ، وسوف يعلم أهل الشّام مقدار أيّامنا وحسن أقضيتنا وأحكامنا.

فطيّبت قلبه ، وسكّنت لبّه ، وقلت له : لا تخش من الرجوع ؛ فإنّ مقامك عند النّاس مرفوع ، وهذا إن شاء الله آخر القطوع ، ثم عانقني معانقة المثكل المفجوع ، وسقينا نبات الخدود بمياه الدموع ، ثم أنجد وأتهمت ، وأيمن وأشأمت [٢٩ ب] ، فعاد هو من الغد إلى الشّام ، وانتقض من حبله الإبرام ، وتهتّك حجابه ، وانفضت عنه أحزابه ، وشائنة أحبابه وأصحابه ، وتقطّعت أسبابه ، وأبيعت أمتعته وأسبابه ، وبيوته ، وعماراته ، وبساتينه ، وجنيناته ، وأراضيه وقراه ، وأعيد لأربابه كل ما كان اغتصبه أو اشتراه ، وتعدّى ذلك إلى سائر جهاته وجهات (٤) زوجاته وبناته ، وخرج عليه من كان داخلا فيه وراكنا إليه ، وشدّد عليه في الحساب من كان يعدّه من الأحباب ، فأتاه الخوف من جانب الأمن ، ومن حيث أمل الربح جاءه الغبن : [من الرّجز]

__________________

(١) وقع في مسودة المؤلف (م) تشطيب بما يعادل ورقة مضمونها بعض ما نسب لابن الفرفور من أخطاء وترّهات ، يتضح ذلك من السطر الأول الذي يمكن قراءاته : «وكان مما انتقد عليه ونسب من أنواع القبيح إليه أمور منها ...».

(٢) وردت في (م): «تجبره».

(٣) سورة غافر آية ١٨.

(٤) وردت في (م): «جهاز».

٧١

ربّ من ترجو به دفع الأذى

عنك يأتيك الأذى من قبله

ربما يرجو الفتى نفع فتى

خوفه أولى به من أمله (١)

ولم يزل في محبسه بقلعة دمشق ، يرشق بسهام المصائب أي رشق ، إلى أن مات به في السنة الثالثة في جمادى الآخر (٢) ، فنسأل الله العفو والعافية الغامرة ، في الدين والدنيا والآخرة ، آمين [٣٠ أ].

واستخرنا الله تعالى سبحانه ، وقوى العزم على السفر صحبة جانم الحمزاويّ (٣) مع الخزانة ، وقد كنت اجتمعت به مرتين بحلب والشّام ، وحصل منه غاية التعظيم والإكرام ، ثم حصل بيني وبينه محبة زائدة ، وصار له فيّ اعتقاد تام حتى كان لا يخاطبني إلّا بمولانا شيخ الإسلام ، وخرجت (٤) من حلب قبل الزوال من يوم الثلاثاء رابع شهر شوال ، وكانت مدّة إقامتنا بها ستّة أيّام (٥) نصفها مع الفطر ونصفها مع الصيام (٦). وحلب مدينة عظيمة كبيرة قديمة ، صحيحة الهواء ، خفيفة الماء ، واسعة الفناء ، حسنة البناء ، عظيمة المآثر والمعاهد ، كثيرة الجوامع والمساجد ، وكانت من الفتوحات العثمانيّة وإلى آخر دولة بني أميّة مضافة إلى قنّسرين ، ولذلك قلّ ذكرها في كتب المؤرخين. ثم تدرّجت في العمارة وقنّسرين في الخراب والاندراس إلى أن

__________________

(١) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ٢٣.

(٢) سنة ٩٣٧ ه‍. وفي إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (٥ : ٤٥١): «أنّ عيسى باشا دس له سما فمات».

(٣) هو جانم بن يوسف الجركسيّ الحمزاويّ ، أمير الخزانة المصرية ، قتله سليمان باشا بأمر السّلطان في سنة ٩٤٤ ه‍. انظر : الكواكب السائرة ٢ : ١٣٢ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٧٣.

(٤) وردت في (م) و (ع): «فخرجت».

(٥) وردت في (ع): «ست ليال».

(٦) وردت هذه العبارة في (ع): «نصفها في رمضان ونصفها في شوال».

٧٢

صارت قنّسرين مضافة إلى حلب في أيام بني العباس [٣٠ ب] ، وافتتحت في سنة ست عشرة من الهجرة ، وقيل سبع عشرة وقيل خمس عشرة ، وبينها وبين قنّسرين اثنا عشر ميلا تزيد أو تنقص قليلا ، وهي من (١) الإقليم الرابع أعدل الأقاليم إقليما ، ولذلك أهلها أنضر الناس وجوها ، وأصحّهم جسوما ، وقبلتها موافقة لقبلة دمشق الشّام ، ولها من الكور والضياع العظام ما يجمع سائر الغلات النفيسة كالفستق وحبة الخضراء والزيتون والتين ، وكانت من أكثر البلاد أشجارا وأحسنها بساتين ، فأفناها كثرة وقوع الخلاف (٢) بين الملوك والسّلاطين. وقلعتها حصينة مانعة شامخة عالية واسعة ، يعجز عن مثلها الرائد ، وتمتنع على الطالب والقاصد ، تكاد تناطح نجوم الجوزاء وتتجاوز كرة الهواء وتناجي أبراجها بروج السماء ، ويحيط بها خندق عظيم مملوء على الدوام ، وبها بباب المقام بها مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وبها كتابات قديمة رومانية من ذلك ما على الرخامة [٣١ أ] البيضاء التي هي الآن بالمدرسة الحلاوية (٣) ، وهي شفافة إذا جعل تحتها نور ظهر من أعلاها أو جعل في أعلاها بان من أدناها ، وعليها كتابة سريانية عرّبت ، فإذا هي : «عمل هذا للملك قلطيانوس (٤) والنسر الطائر في رابع عشر درجة من برج العقرب» ، فيكون مقدار ذلك إلى تعريبه ثلاثة الآف سنة ، وهذا اللوح أحضره السّلطان الملك العادل نور الدّين الشهيد من فامية (٥) ، وكان يحشي فيه القطايف للفقهاء ، وطوله يزيد على ثلاثة أذرع ، وعرضه على ذراعين ، وقد بذل الفرنج فيه مالا جزيلا فلم يجابوا إليه. ومن محاسنها جبل

__________________

(١) سقطت كلمة «من» من (ع).

(٢) سقطت كلمة «الخلاف» من (ع).

(٣) المدرسة الحلاوية بحلب كانت إحدى الكنائس التي بنتها هيلانة أم قسطنطين ، وعرفت بالكنيسة العظمى ، حولها القاضي يحيى بن الخشاب سنة ٥١٨ ه‍ إلى مسجد عرف بالسراجين ، ثم حولها نور الدين زنكي سنة ٥٤٣ ه‍ إلى مدرسة ، وجعل بها مساكن للفقراء. (معادن الذهب ١٦٠).

(٤) وردت في (ع): «قليطيانوس».

(٥) فامية : مدينة كبيرة من سواحل حمص ، وقد يقال لها أيضا أفامية. (معجم البلدان ٤ : ٢٣٣ ، صبح الأعشى ٤ : ١٢٥).

٧٣

الجوشن (١) ، وهو من أنزه الجبال نباتا ذا حسن (٢) معتدل الأرواح طيب الأنفاس ، وبه كما يقال معدن النحاس ، ومحاسن حلب كثيرة وخيراتها غزيرة ، ومما قاله فيها صاحبها الملك الناصر ذو المناقب الغر والمآثر : [من الطويل]

سقى حلب الشهباء في كل أزمة

سحابة غيث نوؤها ليس يقلع [٣١ ب]

فتلك دياري لا العقيق ولا الغضا

وتلك ربوعي لا زرود ولعلع (٣)

وقال نفيس الدّين الآمديّ : [من الوافر]

سقى حلبا ومن فيها سحاب

كدمعي حين يهمي بانسجام

فإنّ بها وإن شطّت مغاني

أحبّاء على قلبي كرام

وقال الشيخ زين الدّين بن الورديّ : [من الوافر]

عليك بصهوة الشّهباء تلقى

بجوشنها محاربة الزمان

فللغرفات في الفردوس طيب

يضوع شذاه من باب الجنان

وللصّنوبريّ : [من مجزوء الرمل]

__________________

(١) الجوشن : جبل مطلّ على حلب في غربيها ، في سفحه مقابر ومشاهد للشيعة. (معجم البلدان ٢ : ١٨٦).

(٢) وردت في (م) و (ع): «من أنزه الجبال نباتا وأحسن».

(٣) الأبيات في فوات الوفيات ٤ : ٣٦٣ باختلاف في الرواية.

٧٤

فاخري يا حلب المد

ن يزد جاهك جاها

فإذا ما كانت المد

ن رخاخا كنت شاها (١)

فلما أن عزمنا على الرحيل منها في اليوم المذكور ، لم يتخلّف أحد من الأصحاب عن الحضور ، ثم أخذوا في أصناف الوداع وهم بين مثن وداع وباك ومتأسف على عدم ملازمة الاجتماع ، وأنا أودعهم والجوانح ملتهبة ، والدموع منسربة ، والشوق بالقلوب [٣٢ أ] لاعب ، وغراب البين بفرقة الإخوان ناعب ، ثم أخذت في أسباب الترحال وأنشدت بلسان الحال والقال : [من الخفيف]

ليت شعري أنلتقي بعد هذا

أم وداعا يكون هذا اللقاء

فاذكروني وزوّدوني دعاء

خير زاد تزودوني الدّعاء (٢)

ثم لما قدموا الجواد ، قرأ في قفاي ابن الشيخ حسين (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(٣) ، ثم أنشد البيتين المجربّين (٤) في عود من قيلا في قفاه إلى محل وطنه سالما واجتماعه بقائلهما بعون الله كما نصّ عليه في الإحياء حجّة الإسلام الغزالي (٥) أمدنا الله تعالى بمدده المترادف المتوالي ، وهما : [من مخلّع البسيط]

يا من يريد الرحيل عنّا

أسعدك الله في ارتحالك

__________________

(١) البيتان في معجم البلدان ٢ : ٢٨٩ ضمن قصيدة طويلة أوردها ياقوت كاملة.

(٢) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٤٥ بلا عزو.

(٣) سورة القصص آية ٨٥.

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٥) لم نعثر على هذه الأبيات في كتاب إحياء علوم الدين.

٧٥

كان لك الله خير واق

أمّنك الله في المسالك

والله تعالى يقدر ذلك ، أنّه سبحانه القادر المالك ، ثم ذهبنا إلى حارتنا الأخرى وهي حارة الجلّوم إلى زاوية الشيخ محمد الكواكبي (١) [٣٢ ب] بلغنا الله تعالى ببركته ما نحب ونروم ، وكان لنا عند حفيده الشيخ عمر جزيئات ، فوجدناه قد تقاضاها على أتم الحالات ، وتلقانا هو وأعيان أهل المحلّة مودعين ، وباكين من ألم الفراق متوجعين ، ثم خرجوا معنا مشاة من باب أنطاكية (٢) إلى قاطع النهر ، ثم جاوزوا العمران وانتهوا إلى البرّ ، فحلفنا عليهم في العود فعادوا بعد الدّعاء وقراءة الفاتحة ، فجزاهم الله تعالى خيرا على أفعالهم الجميلة ونيّاتهم الصّالحة ، فلما عطف المودعون بالعود لقطرهم والرجوع ، وتبرأ التابع من المتبوع ، وطفيت نيران الوداع بمياه الدموع ، ترادفت (٣) على القلب أشجانه ، وتزايدت كروبه وأحزانه ، ثم وقفت هناك وقفة المسلّم ، وودعت البلاد الشّاميّة وداع المتأمّل المتألم ، وأنشدت : [من الطويل]

خليليّ هذا موقف من متيّم

فعوجا قليلا وانظراه يسلم (٤)

ثم سرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الأجارع ، وقد فارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع ، وودعت الجلد عند وداعي تلك المجامع والجوامع ، [٣٣ أ] وقد خامرني الفرق واستولى على جفني الأرق ، وأولعت بما يولع به المشفق ، وأنفقت دمعي وكل

__________________

(١) وردت في (ع): «الكواني» مصحفة.

(٢) أحد أبواب حلب ، وسمي كذلك لأنه يفضي إلى مدينة أنطاكية ، وقد بني قبل القرن الرابع الهجري (معادن الذهب ٨٠).

(٣) وردت في الأصل و (ع): «ترادف» ، وما أثبتناه من (م).

(٤) البيت في معاهد التنصيص ٤ : ٢٢٧ منسوبة لأبي نواس وتاج المفرق ١ : ١٤٨ بلا عزو.

٧٦

امرء بما عنده ينفق ، ورحم الله زهيرا (١) المهلبيّ ، فعن حالي عبّر بقوله : [من الطويل]

إلى كم جفوني بالدموع قريحة

وحتام قلبي بالتفرّق خافق

ففي كل يوم لي حنين مجدد

وفي كل أرض لي حبيب مفارق

ومن خلقي أني ألوف وأنه

يطول التفاتي للذين أفارق

وأقسم ما فارقت في الأرض موضعا

ويذكر إلّا والدموع سوابق (٢)

ولم أزل أسير ممتعا من شميم عرار نجد ، ومحملا أنفاس الصبا حقائب الوجد ، وقد أخذ مني البين أخذته ، وفلذ من فؤادي فلذته ، واستولت على قلبي كروب جمّة وخطوب مدلهمّة ، منها فراق الوالدة والأولاد والأهل ، وسلوكي من ذلك طريقا ليس بالهين ولا بالسهل ، ثم انفرادي صحبة من لا أثق به على نفسي بعد اجتماعي بأهل مودتي وأنسي ، وتبدّلي من أمن الإقامة بخوف السفر ، وبخشونة [٣٣ ب] عيش أهل البدو من رفاهية عيش أهل الحضر ، وتغرّبي في بلاد لم أعرفها ، وائتلافي مع وجوه لم آلفها ، فصرت في حالة دونها مفارقة الحياة لو لا ما أرتجيه من تدارك لطف الله ، فما أشبه تلك الحال بما تخيله الأمير (٣) حسام الدّين الحاجريّ الإربليّ (٤) ، حيث قال : [دو بيت]

لمّا نظر العذّال حالي بهتوا

في الحال وقالوا لوم هذا عنت

__________________

(١) سقط اسم الشاعر من (ع).

(٢) الأبيات في تاج المفرق ١ : ١٥٧.

(٣) وردت في (ع): «الإمام».

(٤) وردت في (م) و (ع): «الأربدي» ، وحسام الدّين هذا هو عيسى بن سنجر أبو الفضل ، انظر : وفيات الأعيان ٣ : ٥٠١ ـ ، وشذرات الذهب ٧ : ٢٧٢ ـ

٧٧

لا تحسب إلّا أننا نعذله

من يسمع من يعقل من يلتفت (١)

وأتمثّل في الإنشاد بقول العماد (٢) : [من البسيط]

بالله عرفت ما بحالي صنعوا

خلوه بنار شوقهم ينصدع

ما لم أرشملي بهم يجتمع

ما أحسبني بعيشتي أنتفع

وأتوجّع مما ألقاه متخلّقا بقول زين الدّين الكاتب ابن عبيد الله : [من السريع]

لم تجد همي ولا ولهي

أم مفقود لها وله

ما بقاء الروح في جسدي

غير تعذيب لها وله

ثم ألتمس بقول القائل متمثّلا : [من الكامل]

وعسى إلهي أن يمنّ بنظمنا

عقدا كما كنّا عليه وأفضلا (٣)

فلربّما نثر الجمان تعمّدا

ليكون أحسن في النّظام وأجملا [٣٤ أ]

__________________

(١) الأبيات موجودة في تاج المفرق ٢ : ١٢٦.

(٢) العماد الكاتب الأصفهاني والبيتان في تاج المفرق ٢ : ١٣٠.

(٣) ورد هذا البيت في نفح الطيب ٤ : ١٠٦ منسوبا لابن خفاجة ، وهي في ديوانه ٢٠٨ ، ورواية البيت الأول :

وعسى الليالي أن تمنّ بنظمنا

عقدا كما كنّا عليه وأكملا

٧٨

وأنسخ الوحشة بالإيناس بما جرى على لساني إذ ذاك من قول بعض الناس : [من مجزوء الكامل]

أبشر بخير عاجل

تنسى به ما قد مضى

فلرب أمر مسخط

لك في عواقبه الرضى (١)

إن شاء الله تعالى ، واستمر بنا السير متصل الأعمال ، غير مخفق المساعي والآمال ، إلى بلوغ الشمس من غاية الرفعة المآرب ، غير منهبطة في المشارق ولا منحدرة في المغارب ، فوصلنا حينئذ إلى المنزل المبارك بظاهر قرية الأثارب (٢) ، ثم بتنا بها ليلة الأربعاء خامس شهر شوال ، نقاسي كرب تلك الأحوال ، ونعاني خطوب هاتيك الأهوال ، ونعالج شدّة الأشواق ، ونتوجّع من ألم الفراق ، ونطارح ذوات الأطواق ، وننشد قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان في نحو هذا الشأن : [من الطويل]

أقول وقد ناحت بقربي حمامة

أيا جارتا هل بات حالك حالي

معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى

ولا خطرت منك الهموم ببالي

أتحمل محزون الفؤاد قوائم

على غصن نائي المسافة عالي [٣٤ ب]

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

__________________

(١) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٤٨ بلا عزو.

(٢) الأثارب : قلعة وقرية معروفة بين حلب وأنطاكية ، بينها وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ. (معجم البلدان ١ : ٨٩).

٧٩

تعالي تري روحا لديّ (١) ضعيفة

تردّد في جسم يعذّب بالي

أيضحك مأسور وتبكي طليقة

ويسكت محزون ويندب سالي

لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة

ولكنّ دمعي في الحوادث غالي (٢)

فلما طرب طائر السحر ، وأذهب نسيمه ما بقلب الساهر من الوحر (٣) ، وطرزت طرة الظلام يد الإصباح ، وأرسل الفجر في رداء الليل (٤) خيط الصباح ، ترحّلنا من ذلك المنزل بعد صلاة الصبح ، وسألنا من الله تعالى المعونة والنجح ، ثم جزنا وقت الإشراق على الرصيف ، وهو عجيب الوضع والترصيف ، طول (٥) نصف ميل أو ينقص عنه بقليل ، ثم سرنا بوادي العمق (٦) ونزلنا بوسطه وسايرنا النهر الجاري هناك وحللنا بشطه (٧) ، وذلك وقت الضحى الأعلى من النهار ، وما أشبه ذلك المنزل بقول أبي القاسم بن العطّار : [من الطويل]

نزلنا بشاطى النهر بين حدائق

بها حدق الأزهار يستوقف الحدق

__________________

(١) وردت في (ع): «لذي».

(٢) الأبيات موجودة في وفيات الأعيان ٢ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) الوحر : الغيظ والحقد ، وفي الحديث : «الصوم يذهب بوحر الصدور». (لسان العرب ٥ : ٢٨١).

(٤) وردت في (م): «السحر».

(٥) وردت في (م): «طوله».

(٦) وادي العمق : كورة بنواحي حلب بالشّام كانت قديما من نواحي أنطاكية. انظر : معجم البلدان ٤ : ١٥٦.

(٧) وردت في الأصل وفي (ع): «بسطه» ، وما أثبتناه من (م).

٨٠