المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

واللّيل لا صوم فيه (١)

فالله بالفطر خصّه

ثم ركبنا حين تعوّضت الشمس بفيها من ظلها ، ودخلنا المدينة على حين غفلة من أهلها ، لنخبر وبلها من طلها ، وعلّها من نهلها ، وحزنها (٢) من سهلها ، وخرجها من دخلها ، وكثرها من قلّها ، وجدّها من هزلها ، وسفسافها من جزلها ، فوجدناها مدينة قديمة بها بقايا عمارات عظيمة ، وآثار مآثر مقيمة ، وأزقّة فسيحة وأسواق مليحة ، وأكثر [١١ ب] أهلها من أكثر (٣) أهل الجنة ، لو لا ما ينسب إلى بعضهم من بغضهم السّنّة ، ودخلنا إلى جامعها الكبير الرحيب ، فتلقانا خادمه بالتأهيل والترحيب ، وفرش لنا سجادة ، وعكفنا فيه وقتا طويلا على الاعتكاف والعبادة ، ثم تكلّمنا مع القيّم فوجدناه لطيف الذات ، كامل الأذوات ، فسألناه عمّا يقال عن أهل بعلبك وعن رأس العين فقال : نعم هو حق ليس بالمين ، فإنها كانت عينين فأصابتهما وصمة العين ، فحضر مغربيّ ملعون الوالدين ، فسرق منهما عينا في قنينة ، وذهب بها إلى رأس جبل قرب (٤) المدينة ، فانكسرت منه وجرت عينا هناك ، ثم حضر مغربيّ آخر ، وأهل المدينة بين متأسف وباك ، فقال : يا أهل بعلبك كأنكم بالعين الأخرى وقد اغتالتها يد البين ، وأصبحت مدينتكم برأس بلا عينين ، ويمكنني أن أقول على هذه العين الباقية عزيمة (٥) ، فلا تزال بدياركم باقية مقيمة ، فجمعوا له مالا لبدا ، وازدلفوا إليه حتى كادوا يكونون عليه لبدا ، فرقى تلك العين ووضع عليها حجرا رصدا ، فلم تبد بعد أبدا وزادت [١٢ أ] على طول المدا مددا ، ورأينا قلعتها الحصينة ، وهي ذات أبنية متينة ، وأعمدة كثيرة طويلة ، وأحجار كبيرة ثقيلة يظنّ من

__________________

(١) وردت في (ع): «ما فيه صوم».

(٢) الحزن : ما غلظ من الأرض.

(٣) سقطت كلمة «أكثر» من (ع).

(٤) وردت في (ع): «قريب».

(٥) وردت في (ع): «غزيمة» ، والعزيمة من الرّقى التي يعزم بها على الجن والأرواح. (لسان العرب ١٢ : ٤٠٠).

٤١

رآها أنها صخور محررة لو لا ما تحتها من الحجارة المختصرة ، وقد كانت من غرر القلاع المشتهرة بالارتفاع والامتناع ، وهي الآن خراب مأوى للبوم والغراب ، ورأينا الحجر المعروف بحجر الحبلى ، وهو حجر مربع مستطيل ، عرضه كالصفّة العريضة وطوله كالحائط الطويل ، وهو خارج المدينة على نحو ثلث ميل ، وهو أحد حجارة بناء القلعة العجيبة ، وله عندهم حكاية من جنس ما تقدّم عن العين غريبة ، وسلّمنا على ولي الله تعالى الشيخ محمد المنير العطّار (١) ، وهو من عباد الله الصّلحاء الأخيار ، كثير الأوراد والأذكار ، ملازم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار ، وقد كان ممن يتردد إلى سيّدي شيخ الإسلام الوالد ، وكان يسمّيه بالصّالح الزاهد ، وزرنا سيدي القطب العارف بالله تعالى الشيخ عبد الله اليونينيّ من أسفل الجبل ، ثم عدنا إلى المخيم وقرص الشمس قد أفلت من يد السماء ، وأفل وارتحل ذلك النهار ، وحلّ للصائم [١٢ ب] الإفطار ، ثم لمّا كفيت مؤنة العشاء ، ومضى نحو عشرين درجة بعد العشاء ، وآن للسامر أن يهجع ، أزمع القاضي على الرحيل وأجمع ، وكان ذلك برأي منه منكوس ، وحظ له متعوس ، فضلّ عن سواء السبيل ، وعن الطريق السهل القريب إلى طريق صعب طويل ، فضيّع وقت الراحة في التعب في غير طائل ، وصرف ساعة تجلّي الحقّ في السعي في الباطل (٢) ، ولم نزل نصل السير بالسّرى ، ونكحل الأعين بإثمد (٣) الثرى ، ونعزل عن محال العيون والي الكرى ، حتى وصلنا إلى قرية الراس ، وقد تعبت البهائم والناس ، فنزلنا بها ضحوة نهار الجمعة ثاني عشرين الشهر ، وقد حمى النهار واشتدّ الحرّ ، في مكان محجر وعر ، موحش وغر ، معطش محر ، فيه مياه سخنة ، متغيرة اخبة ، يسيرة (٤) قليلة ، ضعيفة عليلة ، فأقمنا هناك إلى وقت شدّة القيلولة ، ثم ارتحل عنها من تلك الساعة قاصدا قرية الزّراعة فلم نحل بها : [من

__________________

(١) لم نهتد إلى ترجمته ولعله محمد المنير الواسطيّ المتوفى سنة ٩٥٠ ه‍ (إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٩٦).

(٢) من عبارة : «برأي منه منكوس» إلى عبارة «السعي في الباطل» ساقط من (ع).

(٣) إثمد وأثمد : حجر يكتحل به.

(٤) وردت في (ع): «بشيرة».

٤٢

الكامل]

حتى رأيت اليوم ولّى عمره

والليل مقتبل الشبيبة داني

والشمس تنفض زعفرانا في الرّبى

وتفت مسكتها على الحيطان (١)[١٣ أ]

فنزلنا حينئذ بها في مرج فسيح الرحاب ، وسيع الجناب ، مربع الأجناب ، به للدواب مراتع ومرافق ومرابع ، يسافر النظر في أرجائه ، ولا يقف على مدى انتهائه ، وبه ماء عذب جار ، لكنه من حرارة الشمس حار.

ثم رحلنا منها عندما بزغ القمر ، ونبغ نوره وظهر ، وبلغ أقضى الآفاق وانتشر ، واستمر بنا الخبب والركض ، في بسيط من الأرض ، فسيح الطول والعرض : [من الطويل]

سريت به أحييه لا حيّة السّرى

تموت ، ولا ميت الصّباح يعاد

يقلّب منّي العزم إنسان مقلة

له الأفق جفن والظّلام سهاد (٢)

ولم نزل نعاني (٣) السرى ، ونعاصي (٤) الكرى ، إلى أن بلغ الليل غايته ، ورفع الفجر رايته ، ونكصت النجوم على أعقابها ، وسفرت الجونة (٥) عن نقابها ، وتجلّى وجه النهار مستبشرا ، ووفدت تباشير الصباح زمرا ، ثمّ برزت الشّمس في مروط

__________________

(١) البيتان في رفع الحجب المستورة ١ : ١٢٨ ومعاهد التنصيص ٢ : ٩٧ منسوبة لابن الحسين بن سراج.

(٢) البيتان لابن خفاجة : ديوان ٧٨ ، وفي تاج المفرق ٢ : ٣٢ بلا عزو.

(٣) سقطت كلمة «نعاني» من (ع).

(٤) وردت هذه الكلمة في (ع): «نعاطي».

(٥) الجونة : الشمس.

٤٣

الورس (١) ، ثم صقلت مرآتها وانجلت ، ورفعت رايتها وعلت ، فوافينا مدينة حمص ذلك الوقت من يوم السبت ، فنزلنا [١٣ ب] بمرج أخضر حسن النبت يجري به مياه لا بدة بعاصم حماة ، ممدة مع طاعتها لعاصي حماة ، وتحفّه بساتين حسنة مزدهاة ، وتلقّانا بها جماعة من وجوه الناس ، منهم الشيخ الصّالح الفاضل عبد القادر ابن الدّعاس (٢) ، ثم دخلنا المدينة بنية الزيارة ، فوجدنا غالب دورها سوداء الحجارة ، لكنها واسعة الأفنية ، متينة الأبنية ، قديمة العمائر ، عظيمة لمآثر ، ودخلنا إلى جامعها الكبير ، وزرنا بظاهرها سيّدي خالد ابن الوليد الصحابي الجليل (٣) الشهير ، وهذه البلدة أصح بلاد الشّام هواء ، وأعدلها تربة وماء ، وليس بها حيّة ولا عقرب ، بل يقال إن الحمصيّ بأي بلد كان لا تدنو منه عقرب ولا تقرب ، وكذلك الثوب المغسول بمائها إلى أن يغسل بغيره ، قيل وهو مجرّب. قال القزوينيّ (٤) : ومن عجائبها الصورة التي على باب المسجد ، نصفها الأعلى على صورة إنسان ، ونصفها الأسفل صورة عقرب بذنب وزبان ، تطبع تلك الصورة بالطين الحرّ وتلقى في ماء ، فإذا شرب منه الملدوغ برئ من الضرّ ، وبظاهرها [١٤ أ] على نحو ميل بركتها المعظّمة (٥) التي تصاد منها السمك الكبار ، وتجلب (٦) إلى دمشق وغيرها من الأقطار ، وعند أهل حمص تغفّل شديد ، وحماقة ما عليها من مزيد ، فممّا يحكى عنهم من الحكايات المشهورة ، أن بخارج المدينة ناعورة فرآها مرّة رجل حمويّ ، فقال : ما غرّبك بهذه الفلاة ، أترى أهل حمص سرقوك من حماة؟ فاختشوا أن يأخذها أهل حماة ليلا ، فأعدوا لحراستها رجلا وخيلا ، ومعهم أنواع السلاح ، يدورون حولها كل ليلة إلى (٧)

__________________

(١) الورس : صبغ لونه أصفر. (لسان العرب ٦ : ٢٥٤).

(٢) عبد القادر بن أحمد زين الدّين الكاتب الحمصيّ (ت ٩٣٧ ه‍). ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٧٤ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٠٢.

(٣) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

(٤) آثار البلاد وأخبار العباد ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٦) في (م) و (ع): «ويجلب».

(٧) وردت في (ع): «حتى».

٤٤

الصباح ، وحكى بعض ظرفاء المؤرخين في وقائع الحمقى والمغفلين : أن رجلا رأى بحمص يهوديا عطّارا في دكان يؤذن بها على باب الجامع في أوقات الأذان ، يقول : أهل حمص يشهدون أن لا إله إلا الله ، أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله ، ورأى الإمام يصلّي ورجله خارجة من المحراب ، فسأل من رجل عن دار القاضي ليشتكي له ذلك المصاب ، فطأطأ برأسه وكشف عن فلسه ، فدخل إلى القاضي يشتكي ما دهاه ، فوجد عنده صبيا قد علاه ، فخرج [١٤ ب] وهو يستغيث ، فقال له : ارجع يا خبيث ، ما بالك؟ وما حالك؟ فحكى له القصة ، فقال : أنا أزيح عنك الغصّة ، أمّا اليهوديّ فهو يؤدي للمسجد أجرة الدكان ، ويؤذن دون المسلمين متبرّعا بالأذان ، وأمّا الإمام فلعل أصاب رجله بعض نجاسة الكلاب ، فما رأى أن يدخلها معه في المحراب ، وأما الذي سألته عن الدار فقد أجابك بما به أشار ، وذلك أن بابي مقنطر معلا ، وعليه قنديل مدلى ، وأما الصبي الذي كان فوق ظهره ، فهو تحت نظره وحجره ، وفي تربيته وحجره ، وأحبّ أن يعلم إن كان بلغ مبالغ الرجال يسلّمه ما له تحت يده من المال.

ومن أغرب الحكايات واقعة عبد السلام الحمصيّ الملقب بديك الجنّ (١) الشاعر ، وهي واقعة غريبة لم يسمع بمثلها في الدهور الغوائر ، وذلك أنه كان يحب جارية له وغلاما ، وقد افتتن بهما عشقا وهياما ، فمن شدّة ما حصل له من قوة المحبة لهما (٢) والوله ، خشي أن يفجعه فيهما الدهر ويمتّع بهما غيره ، فقتلهما وجدا عليهما وغيرة ، ثم صنع من [١٥ أ] رماديهما برنيتين (٣) للمشروب وكان ينادمهما منادمة المحب المحبوب ، وإذا اشتاق إلى الجارية قبّل البرنية المجبولة من رمادها المرصد ، وملأ منها قدحه وبكى وأنشد : [من الكامل]

__________________

(١) عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبيّ (ت ٢٣٥ ه‍) من شعراء الدولة العباسيّة ، ترجمته في : الأغاني ١٤ : ٣٣ ـ ٤٥ ، وفيات الأعيان ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٨ ، وللبدوي الملثم : كتاب ديك الجن الحمصيّ.

(٢) وردت في الأصل : «فيهما» والتصحيح من (م) و (ع).

(٣) البرنية : قارورة أو إناء من خزف. (لسان العرب ١٣ : ٥٠).

٤٥

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنى لها ثمر الرّدى بيديها

روّيت من دمها التراب وطالما

روّى الهوى شفتيّ من شفتيها

وأجلت سيفي في مجال خناقها

ومدامعي تجري على خدّيها

فو حقّ نعليها وما وطىء الثّرى

شيء أعزّ عليّ من نعليها

ما كان قتليها (١) لأنّي لم أكن

أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن بخلت على سواي بحسنها

وأنفت من نظر العيون إليها (٢)

وإذا اشتاق إلى الغلام ، قبّل البرنية المعمولة من رماده ، وملأ قدحه منها ، واندفع يقول في إنشاده : [من الكامل]

أشفقت أن يرد الزّمان بغدره

أو أبتلى بعد الوصال بهجره

قمر أنا استخرجته من دجنه

لبليّتي وأثرته من خدره

فقتلته وله عليّ كرامة

فلي الحشا وله الفؤاد بأسره

__________________

(١) الأبيات في الأغاني ١٤ : ٣٧ باختلاف في رواية بعض الأبيات.

(٢) هكذا وردت في الأصل وفي (م) ، وكتب هذا البيت في (ع) على الهامش بخط مختلف وفيه : «ما كنت اقتلها ...».

٤٦

عهدي به ميتا كأحسن نائم

والطرف يسفح أدمعي في نحره

[١٥ ب]

غصص تكاد تفيض منها نفسه

ويكاد (١) يخرج قلبه من صدره

لو كان يدري الميت ماذا بعده

بالحيّ منه بكى له في قبره (٢)

فأي رقاعة أعظم من هذه الرقاعة ، وأي خلاعة تشبه هذه الخلاعة ، والجنون فنون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكان ديك الجنّ هذا ماجنا خليعا ظريفا مطبوعا مغفلا رقيعا ، عاكفا على القصف (٣) واللهو ، رافلا في ثياب المجون والزهو ، متلافا لما يحصله (من المال) (٤) ، وشعره في غاية الجودة والكمال ، ولقّب بديك الجنّ لأنه كان يصبغ لحيته وشاربه وحاجبه (٥) بألوان مختلفة ، ومات سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين (٦).

وقد رأيت أنا بجامع حمص منبرا معظّما قديما حسنا مطعّما ، وكأنه تخلخل وتضعضع ، وتقلقل وتقنع ، فسمّرت بعرضه دفة بيضاء ثقيلة خشنة عريضة طويلة غير مجلوة ولا مصقولة ، وهذا من قبيل ما سردناه ، ومن جنس ما أوردناه ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

(رجع) فلما أن دعى مؤذن حمص من المسلمين لصلاة الظهر وأذّن ، أجبناه

__________________

(١) وردت في (ع): «وتكاد».

(٢) الأبيات في الأغاني ١٤ : ٣٨.

(٣) وردت في (ع): «القصب» ، والقصف : اللهو واللعب (لسان العرب ٩ : ٢٨٣).

(٤) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٥) سقطت كلمة : «وحاجبه» من (ع).

(٦) سقطت كلمة : «ومائتين» من (ع).

٤٧

بصلاتها مجموعة مع العصر ، ثم رحلنا قاصدين الرّستن (١) ، وسرنا بعزم [١٦ أ] غير مرتاب ، وبسير يطوي البيد كطي السجل للكتاب ، والحرّ قد قويت عزيمته واشتدت شكيمته : [من البسيط]

والغبار الكثيف ألبس عطفي

عسليا وديني التوحيد

وكسى عارضيّ ثوب مشيب

ورداء الشباب غضّ جديد

فوصلناها عندما سئمت الشمس من الحرور ، وركنت إلى الاكتنان والوكور ، وكاد قرصها في العين الحمئة يغور ، فنزلنا بمرج أريج ، ذي نبت بهيج ، ومنظر فريج ، يحتوشه العاصي من جانبيه ، ويتوصّل من جسر على عشر قناطر إليه ، وهذا الجسر واسع الفناء ، محكم البناء ، قد أحكم بالبلاط (٢) الأسود تبليطه ، وله جوانب عالية (٣) من حافيته تحوطه ، والرّستن لها ذكر في الملاحم والفتن ، وهي قرية على تل قاطع الجسر من جهة حمص ، ثم هي الآن مأوى لكل سارق ولص.

(رجع) فلما تنبّه القمر بعدما رقد ، واستنار من مشرقه واتقد ، وأسنّ حسامه المجلو وأحدّ ، وآن تجلى الواحد الأحد ، من ليلة يسفر صباحها عن يوم الأحد ، لم يبق منّا بذلك المحل أحد ، وسرنا نقطع مسافة البيداء ، ونطوي شقّتها طي الرداء ، فبينا أنا أسير أمام القوم ، وقد غلب عليهم النعاس ، وحكم عليهم النوم ، وإذا باثنين من السرّاق يظن أنهما من [١٦ ب] الرفاق ، فوقف المملوك الماشي أمامي وحار ، وخاف منهما وجبن وخار ، فزبرته وزجرته ونهرته ، ثم تقدّمت إليهما وسلّمت عليهما لأسبر كنههما وأخبر من هما ، وأنا محترز منهما قابضة يدي على الحسام ، فألقيا إليّ

__________________

(١) الرّستن : بلدة على نهر العاصي بين حماة وحمص ، وبها آثار باقية إلى يومنا وينسب إليها جماعة من أهل العلم والفضل (معجم البلدان ٣ : ٤٣ ، وأخبار الدول ٣ : ٣٧٢).

(٢) وردت هذه الكلمة في (ع): «بالبلاد» مصحفة.

(٣) وردت في (ع): «علية».

٤٨

السلام وعدلا عن الطريق بعد أن ردا عليّ السلام ، فتبعتهما فذهبا وأسرعا في المشي وهربا ، ثم وقفا يتوامران ويتشازران (١) ويتشاوران ، فسقت وراءهما فسقط أحدهما في بعض تلك الوهاد سقطة عظيمة هلك منها أو كاد ، وحار الآخر وخاص ، ثم ولى مدبرا وله خصاص ، ولم نزل نسير مستعدين ونسري مجدين في تلك الفدافد والفيافي ونحن كما قال الرّصافي (٢) : [من البسيط]

ومجّدين في السّرى قد تعاطوا

خمرات الكرى بغير كؤوس

جنحوا وانحنوا على العيس حتّى

خلتهم يعتبون أيدي العيس

نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن

وجدوه سلافة (٣) في الرءوس

فما طلع من الغد وجه النهار ، ولا بدا فيه حاجب الأسفار ، إلّا وقد أشرفنا على مدينة حماة ، جعلها الله تعالى في حفظه وحماه ، تتلع إلينا [١٧ أ] أجياد قصورها وغرفاتها ، وتبسم عن ثغور أسوارها ، وفلج شرفاتها كالعذارى شدت مناطقها ، وتوّجت بالإكليل مفارقها ، فحمدنا عند الصباح السرى ، ونفّرنا عن وكر العيون طير الكرى ، ثم دخلنا المدينة حين أشرق وجه الشمس مسفرا ضاحكا مستبشرا من (٤) يوم الأحد رابع عشر في شهر رمضان ، ونزلنا خارجها على نحو نصف ميل (٥) ببستان ، ذي زهور وفينان (٦) ، وأغصان تتمايل تمايل النشوان ، ومذانب (٧) تسل

__________________

(١) الشزر : الشدة والصعوبة في الأمر ، وتشزر الرجل ، تهيأ للقتال. (لسان العرب ٤ : ٤٠٥).

(٢) ديوان الرصافيّ البلنسيّ ١٠٢.

(٣) وردت في (ع): «شلافة».

(٤) وردت في الأصل : «في» وما أثبتناه من (م) و (ع).

(٥) سقطت كلمة «ميل» من (ع).

(٦) وردت هذه الكلمة في (ع): «وفينا».

(٧) المذانب : جمع مذنب ، جدول الماء أو مسيل الماء الضيّق.

٤٩

السيوف ، وترى لنفسها على الأنهار المشفوف ، وتخترق من مكللات الثمار الصفوف ، وتدور على سوف الغصون كالخلاخل (١) ، وتلتوي بها التواء اللسان المجادل ، ودولاب يحن الحنين الجوار ، ويضرم في القلب المشوق حرّ الأوار ، ويهيج لوعة الصب المغترب النازح الدار ، كما قيل في نعته : [من الهزج]

ودولاب إذا أنّ

يزيد القلب أشجانا

سقى الغصن (٢) وغناه

فما يبرح نشوانا (٣) [١٧ ب]

فما مضى من حين النزول إلّا القليل ، حتى عزم القاضي وصمم على الرحيل ، فأرسلت اليه كلاما خشنا (٤) ، وقلت : هذا الذي تفعله ليس حسنا ، فإن رحلت أقمت أنا بالبلد ، ثم لا يتبعك من غير جماعتك أحد ، فأخر بسبب ذلك الرحيل والمسير إلى ثلث الليل الأخير ، ثم ركبت ودخلت المدينة قاصدا جامعها الكبير ، ثم قصدت زاوية القطب الرباني سيدي الشيخ عبد القادر الكيلانيّ (٥) ، أعاد الله علينا من بركاته وأمدنا بمدده ، وفيها الآن جماعة باقية من ذريته وولده (٦) ، فتلقانا منهم الشيخان الفاضلان والشابان الكاملان الشيخ بركات والشيخ عبد القادر ولدا الشيخ العابد العالم العارف بالله تعالى الشيخ قاسم وأخوا شيخ الزاوية الآن صاحبنا الشيخ الكامل العالم العامل ذي الإخلاص والصفاء والصدق والوفاء الشيخ أبو محمد وفا ، فابتهجا بنا وأنزلانا بأعلى الزاوية في الرواق ، وكان الشيخ وفا قد خرج حينئذ

__________________

(١) وردت هذه الكلمة في (ع): «والخلاخل».

(٢) وردت في (م): «الروض».

(٣) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٤٧ وفي رفع الحجب المستورة ١ : ١٣٧ بلا عزو.

(٤) وردت في (م) و (ع): «حسنا».

(٥) عبد القادر بن موسى بن عبد الله ، مولده في جيلان من وراء طبرستان والنسبة إليها جيلانيّ وكيلانيّ ، متصوف واعظ ، توفي سنة ٥٦١ ه‍ ، ترجم له كثيرون منهم الذهبيّ في سير أعلام النبلاء ٢٠ : ٤٣٩.

(٦) ذكر الذهبيّ في ترجمته أنه لم يعقّب ولم يترك ولدا.

٥٠

إلى تلقّينا بالوطاق (١) ، فما مضى ساعة من حين [١٨ أ] التلاق حتى حضر فتلاقينا بالتقبيل والعناق ، وحنّ كل منا حنين المغرم المشتاق ، وأنّ (٢) أنين الموجع الأحشاء من ألم الفراق ، فياله من صديق وأخ للروح شقيق (٣) : [من الطويل]

نسيب إخاء وهو غير مناسب

قريب صفاء وهو غير قريب (٤)

ثم دخلنا إلى خلوة هناك مطلّة على العاصي ، وقبالتها ناعورة ينصب منها الماء إلى الأداني (٥) من الزاوية والأقاصي ، وهو مكان بهج مستظرف مستنزه فرج ، ثم أحضر الشيخ وفا المنشور المكتتب له بالمشيخة بعد أخيه ، ورضا أخويه (٦) المذكورين بما رقم وزبر فيه ، فكتبت عليه تقريظا (٧) وأجزته بما يجوز لي وعني روايته أيضا ، وقدّم رجل من جماعته فتيا صورتها رجل عمّر طبقة على مكان موقوف بغير إذن من مستحقي الوقف ولا ممّر لها إلّا منه ، ثم وقفها على نفسه ثم على ذريته ، فهل يصح وقفها أم لا؟ وما الحكم في ذلك؟ فكتبت عليها : الحمد لله اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، لا يصح الوقف المذكور ، بل ولا يجوز عمارة الطبقة ، إذ لا مسوغا شرعيا وهي ملك لأربابها ، لكنها غير محرّمة فتزال [١٨ ب] أو تبقى بأجرة مثل إن كان في ذلك مصلحة للوقف ، ثم لا يحكم بأن وقفها صحيح إذا أبقيت بأجرة لأنا حكمنا بإبطاله أولا لا بوقفه ، إذ الوقف لا يحتمل الوقف والله الموفق.

__________________

(١) الوطاق : كلمة تركية أصلها «أوتاق» ومعناها الخيمة الكبيرة وتأتي أيضا بمعنى المخيم. انظر : لطف السمر ١ : ٢١٠ وإعلام الورى ٦٦.

(٢) وردت في (ع): «وحنّ».

(٣) وردت في (ع): «شفيق».

(٤) البيت في معاهد التنصيص ٤ : ٢٥٨ من قصيدة لعلي بن محمد الكوفيّ.

(٥) وردت في (ع): «الأذاني».

(٦) وردت في (ع): «إخوته».

(٧) وردت في جميع النسخ : «تقريضا» والصواب ما أثبتناه.

٥١

ولم نزل نسرح في روض من ذلك الاجتماع ، ونشرح ما وجدناه من البعد والانقطاع ، ونجول في ميادين بحوث ونقول ، في أنواع العلوم المعقول منها والمنقول ، ونتجاذب أطراف أخبار ، ونتذاكر مذاكرة ألطف من نسيم الأسحار ، حتى هرم شباب ذلك النهار ، وأخذ بنيانه في الانهيار ، وأذنت الشمس بالغروب وانثنى قوس حاجبها وهو محجوب ، وحلّ من الصيام الإفطار ، وذرّ إثمد الليل في عيون الأقطار ، فصلّينا بالزاوية صلاة المغرب ، ثم قدّم لنا سماطا عن كرم شيم مقدّمه معرب ، مشتمل على كل نوع مفتخر معجب ، ثم ودّعنا هو وإخوته ومن حضر ، وقرأوا الفاتحة ودعوا لنا بجمع الشمل (١) بعد قضاء الوطر ، وأرسلوا معنا إلى المخيم (٢) خمسة رجال بأسلحة من قسي (٣) ونبال ، وفارقت من فارقت لا عن ملالة ، وودعت من ودعت لا عن تعوض ، وصدروا من الوداع ووردت ، [١٩ أ] واجتمعوا في تلك البقاع وانفردت ، (وأتهموا في بلادهم وأنجدت) (٤) ، وسرت : [من البسيط]

ولوجدي من العروض بسيط

ومديد ووافر وطويل

لم أكن عارفا بهذا إلى أن

قطّع القلب بالفراق الخليل (٥)

وتمثّلت وقد جدّ العزم بقول أبي المغيرة بن حزم : [من الخفيف]

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٢) وردت في (ع): «الخيم».

(٣) القسي : الأقواس ، جمع قوس.

(٤) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع).

(٥) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٩١ بلا عزو. وفي معاهد التنصيص ٣ : ١٥١ منسوبة لنصر الله بن الفقيه المصري باختلاف في الرواية :

وبقلبي من الفراق مديد

وبسيط ووافر وطويل

لم أكن عالما بذاك إلى أن

قطّع القلب بالفراق الخليل

٥٢

واجد بالخليل (١) من برحاء الش

وق وجد ان غيره بالحبيب

إن قلبي لكم لكالكبد الحرّا

وقلبي لغيركم كالقلوب (٢)

ثم بتنا بذلك البستان المذكور ، وتلك الناعورة بالقرب منّا تحن وتدور ، وتنجد في طلب الماء وتغور ، كما قيل : [من مجزوء الرّجز]

ناعورة مذعورة

ولهانة وحائرة

الماء فوق كتفها

وهي عليه دائرة

بل من هذا القبيل : [من الكامل]

باتت تحنّ وما بها وجدي

وأحنّ من طرب إلى نجد

فدموعها تحيى الرياض بها

ودموع عينيّ أحرقت خدي (٣)

ولك أن تقول : [من الكامل]

باتت تحنّ وما بها كربي

وأحنّ من شوق إلى حبي

__________________

(١) وردت في الأصل : «بالحبيب».

(٢) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٦٣.

(٣) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٦٦ بلا عزو.

٥٣

فدموعها تحيى الرياض بها

ودموع عيني أحرقت قلبي [١٩ ب]

ولك أن تنشد : [من الكامل]

باتت تحنّ وما بها شجني

وأحنّ من شوق إلى وطني

فدموعها تحيى الرياض بها

ودموع عيني أحرقت بدني (١)

ومدينة حماة هذه من أحسن بلاد الشّام ، وألطفها ، وأملحها ، وأظرفها ، وأنزهها ، وأترفها ، وبها قلعة شامخة ، عالية باذخة ، حصينة مانعة ، مكينة واسعة ، مليحة الأبراج والأبواب ، لكنها الآن خراب ، وبالمدينة جوامع ومساجد ومآثر ومعاهد ذات بهاء ورونق ، ومعظمها منقوش البناء بالحجر الأبلق ، مستدير بها العاصي على غالبها من الشرق والشمال ، وتتناوح فيها مهاب رياح الجنوب والشمال ، وتحفّها بساتين من غالب الجهات ، وروضات طيبة النبات ، ذات ظل ظليل وماء سلسبيل ، تنساب بها الجداول انسياب الأراقم (٢) بكل سبيل ، وتهدي حياة النفوس تحيات أنفاسها الصحيحة بنسيمها العليل ، وتتجاذب نواعيرها وهي (٣) من ألم الأحزان باكية ، ومن تزايد الوجد والأشجان شاكية ، كيف وقد فارقت من الأغصان مآلف ، ومن الرياض معاهد ومقاصف ، ومن الحمام الهواتف مقاعد للسمع ومواقف ، ودارت طائعة في خدمة العاصي ، [٢٠ أ] وسقت بما يجري من عيونها الداني من الأرض والقاصي ، فلا غرو أن هيجت بحنينها الأحزان ، وذكّرت الغريب حنين أهله فأثارت عنده لواعج الأشجان.

__________________

(١) سقط هذا البيت من (ع).

(٢) وردت في (ع): «الأرقم» ؛ والأراقم هي الذكور من الأفاعي.

(٣) وردت في (ع): «أي».

٥٤

وحماة وشيزر (١) مخصوصتان بكثرة النواعير العظام دون غيرهما من بلاد الشام ، وما أحسن ما قال الشيخ جمال الدين بن نباتة (٢) في طرديته : [من الرّجز]

أحسن بوجه الزمن الوسيم

تعرف فيه نضرة النعيم

وحبذا وادي حماة الرحب

حيث (٣) زهى العيش به والعشب

أرض السناء والهناء والمرج

والأمن واليمن ورايات الفرج

ذات النواعير سقاه الرب

وأمهات عصفه والأبّ

تعلمت نوح الحمام الهتف

أيام كانت ذات فرع أهيف

لا عيب إلّا أن معناها الهنى

ينسى أخا الغربة حبّ الوطن

وكلها من الحنين قلب

وكيف لا والماء فيها صب

لله ذاك السفح والوادي الفرد

والماء معسول الرضاب مطرد

يصبوبها الرائي فكيف السامع

ويحمد العاصي فكيف الطائع

__________________

(١) وردت في الأصل وفي (ع): «شيرز» بتقديم الراء وهذه من قرى سرخس ، والتصحيح من (م) : بتقديم الزاي على الراء وهي كورة من أرض الشام. انظر : معجم البلدان ٣ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ، صبح الأعشى ٤ : ١٢٣ ـ.

(٢) وردت في (ع): «جمال الدين نباته» ، وهو محمد بن محمد المصري ، أبو بكر شاعر عصره توفي سنة ٧٦٨ ه‍ انظر ترجمته ومصادرها في أعلام الزركلي ٧ : ٣٨.

(٣) وردت في (ع): «حين».

٥٥

إذا نظرت للربا والنهر

فارد عن الربيع أو عن جعفر

محاسن تلهي العيون والفكر

ربيع روضات وشحرور صفر

أمام كل منزل بستان (١) [٢٠ ب]

وبين كل قرية ميدان

أما (٢) رأيت الورق في الأوراق

جاذبة القلوب بالأطواق

ومما قاله ابن حجة الحمويّ فيها : [من السريع]

مرج حماة بنواعيره

زاد على المقياس في روضته (٣)

فاغتاظ نمور دمشق لذا

فقلت لا أفكر في غيضته

وله فيها : [من الطويل]

بوادي دمشق الشّام من أيمن الشط

وحقك تطوي شقّة الهم بالبسط

بلاد إذا ما ذقت كوثر نيلها

أهيم (كأني قد ثملت باسفنط) (٤)

__________________

(١) وردت في (ع): «لسان».

(٢) وردت في (ع): «لها».

(٣) وردت في (ع): «روضه».

(٤) ما بين القوسين طمس في (م) ، وترك بياضا في (ع).

٥٦

ومن يجتهد في أن في الأرض بقعة

تشابهها قل أنت مجتهد مخطي

وصوب حديثيّ ماءها وهوائها

فإنّ أحاديث الصحيحين ما تخطي

إلى أن يقول :

ومذ مدّ ذاك النهر ساقا مد ملجا

وراح بنقش النبت يمشي على بسط

لوينا خلاخيل النواعير فالتوت

وأبدت لنا دورا على ساقه السبط

وظرف من قال يهجوها وأهلها : [من الكامل]

عمّ الفساد حمى حماة فمردها

ورجالها ونساؤهن جميعا

شبه النواعير التي يهوونها

من مسّه العاصي يدور سريعا

(رجع إلى سياق الرحلة) ثم رحلنا من ذلك البستان حين مضى من الليل الثلثان ، [٢١ أ] فلم نزل نسري وندلج ، ولا نعول على غير المسير ولا نعرج ، إلى أن أسفر وجه الصباح المبتلج ، فوافينا في الطريق عربان مدلج (١) ، وهم نزول على بعض تلك الجبال ، ومعهم خيل وجمال ، فلاقونا عند الإشراق ، وباعونا (٢) من لبن النياق ، ورأى بعضنا امرأة منهم تقطع من زرع ، فقال : لا يحل لك هذا في الشرع ، فقالت

__________________

(١) هو مدلج بن ظاهر بن عساف ، أبو هرموش ، أمير عرب الشّام ، على جانب كبير من القوة والبطش توفي سنة ٩٤٥ ه‍. انظر ترجمته في : درّ الحبب ج ٢ ق ١ ص ٤٨٠ ، الكواكب السائرة ٢ : ٢٥٠.

(٢) وردت في (ع): «وباعون».

٥٧

يعيش (رأس مدلج) (١) لا عدانا برّه وخيره ، يحلل لنا هذا وغيره ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، ثم سرنا فلما تكامل من النهار شبابه ، واستنار وجهه وصفى إهابه ، أفضى بنا إلى خان شيخون (٢) المسير ، وهو مكان موحش معطش ، يسقى فيه من بئر على بعير ، فلمّا انهار ذلك النهار ، ومال الظل وامتد ، وحمى الحرّ واشتد ، واحتدم حموه واحتد ، أخذنا في أهبة الترحال ، وشددنا الأحمال على البغال ، ولم نزل نسير في تلك الفيافي (٣) وهجيرها يلفح ، وزفيرها لا يكف عنّا ولا يصفح ، إلى أن حان وقت المغيربان ، واختفت الشمس عن العيان ، [٢١ ب] فوصلنا إلى معرّة النّعمان ، وذلك في ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان ، فنزلنا بها بمكان مخوف كثير السّراق والذؤبان ، وبتنا بها وقلوبنا تخفق فرقا وتطير وجلا ، وإن رأينا غير شيء ظنناه رجلا.

وقد كانت المعرّة مدينة كبيرة وانتشأ بها (٤) من العلماء جماعة كثيرة ، وناهيك بأبي العلاء رأس النبلاء وعين الفضلاء ، وزين الأدباء ، وفخر الشعراء ، والشيخ العلّامة الفهامة زين الدّين بن الورديّ ، أفقه الشعراء ، وأشعر الفقهاء ، وأنبه الظرفاء ، وأظرف النبهاء ، وكفاه برهانا على كماله وحجة نظمه الحاوي المسمّى بالبهجة ، وغيرهم من الأفاضل والأعيان الأماثل ، وأما الآن فقد تعوضت من ذوي العلم بذوي الظلم ، ومن أهل الفضل بأهل الجهل ، ومن الأماثل بالأراذل ، ومن الفقهاء بالسفهاء ، ومن الحداق بالسرّاق ، ومن أهل الأداب بالذئاب في الثياب ، وعامة أهلها الآن لصوص ، إلّا ما أخرجه من التعميم الخصوص ، فأقمنا بها سواد الليل ثم رحّلنا البغال والخيل [٢٢ أ] ورحلنا منها عند ظهور نجم الصبح الثاقب. وحدور ضده المراقب ،

__________________

(١) ما بين القوسين ترك بياضا في (ع).

(٢) وردت في (ع): «سيحون». ومرّ بخان شيخون الرحالة كبريت في طريق عودته من الأستانة قال : «فأتينا على خان الشيخون ، وهو في واد مخضلّ وحوله ضيعتان بعيدتان عنه» انظر : رحلة الشتاء والصيف ٢٠٥.

(٣) وردت في (ع): «الضيافي».

(٤) وردت في (ع): «وانتسابها».

٥٨

وذهاب الفجر الكاذب ، وإياب ضده المعاقب ، ذي الألقاب الغرّ والمناقب ، فوصلنا وقت الضحى الأعلى إلى منزل سراقب (١) ، وهو منزل رحيب ، ذو مرعى خصيب ، قد أخذ من الحسن والإحسان أوفر نصيب ، غير أنه كثير الطّرار والطراق ، جم اللصوص والسّراق ، فلما حان وقت الظهر وآن ، رحلنا قاصدين قرية زيتان ، فوصلناها ونزلنا بها : [من البسيط]

والشّمس تجنح للغروب مريضة

والليل نحو مغيبها يتطلّع (٢)

بمكان نضر المنظر حسن المخبر يدور به النهر الواصل من جهة حلب ، وهو في العذوبة والخفة غاية ما يطلب ، فصادفت الخواطر فيه مرتعا والبهائم مرعى ومربعا ، وبتنا به تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء ثم نسخ الهجوع الهجود ، وانتهى المقام مع انتهاء قيام نبي الله داود ، فأزمعنا على السرى وعزمنا على رفض الكرى ، فسلكوا بنا طريقا عسرا عسرا (٣) ، ودربا (٤) بعيدا محجرا ، وسبيلا وعرا مضجرا ، متعدد التهائم والنجود ، متزايد [٢٢ ب] الهبوط والصعود ، حتى تعبت الرجال والخيل ، وولّى الليل مشمّر الذيل ، وبرق من الفجر نوره ، ولاحت من الصباح تباشيره ، وتتابعت راياته في الأفق الشرقي حتى : [من الطويل]

كأن سواد الليل والصبح (٥) طالع

بقايا مجال (٦) الكحل في الأعين الزّرق (٧)

__________________

(١) سراقب : منزل شمال المعرّة ذكره كبريت : «ضيعة لطيفة فيها خان ، وبها أبنية محكمة العمارة ومساجد وحمامات» انظر : رحلة الشتاء والصيف ٢٠٣.

(٢) البيت في تاج المفرق ٢ : ١٠.

(٣) وردت في (ع): «عشرا عشرا».

(٤) وردت في (ع): «ودرنا».

(٥) وردت في (م): «الفجر».

(٦) وردت في (ع): «محال».

(٧) البيت في الحلة السيراء (١ : ١٩٩) لتميم بن المعز ، وتاج المفرق ٢ : ٦٦ بلا عزو.

٥٩

ثم تجلّى وجهه الأشقر ، وتبلّج ضاحكا وأسفر ، ثم تطلعت عين الشمس ومدت حبالها الشديدة المرس ، الحاكية في لونها لون الورس ، ثم ارتفعت وعلت ، وفارت قدرها وغلت ، وتزايد حرّها ، واتقد جمرها ، فتراءى لنا حينئذ وجه حلب من بعيد ، وفارقنا القاضي من مقام الشيخ سعيد ، (فياله من فراق سعيد ، ورأي سديد ، وأمر حميد (١) ، ثم قصدنا باب المقام الحميد) (٢) ودخلنا مدينة حلب بسلام ، وذلك يوم الأربعاء سابع عشرين شهر الصيام ، ونزلنا في زاوية الشيخي الإمامي الكبيري العارف بالله تعالى ، الشيخ حسين البيري (٣) رحمه‌الله تعالى ورضي عنه وأرضاه ، فتلقانا ولده صديقنا وصاحبنا ، ذو الدّين الثخين ، والورع المتين ، والعقل الرصين ، الشيخ [٢٣ أ] العالم الفاضل أحمد أبو العباس شهاب الدّين (٤) ، ولم يصدق بالقدوم والحضور من عظم ما حصل عنده من السرور ، ولم يعرفنا إلّا من قريب ، فقابلنا حينئذ بالترحيب وتلقانا بالتقبيل والتعنيق ، وبكينا فرحا بجمع الشمل بعد التفريق ، ثم أفرد لنا ثلاثة أمكنة فضية متسعة مستحسنة ، منها مكان مشرف أنيق ، مشرف بشبابيك على الطريق ، فجزاه الله عنا الجزاء الحسن ، وأمدّه بوافر الجود وكامل المنن (بمنه وكرمه) (٥) آمين.

وقد كان هو اجتمع بي في دمشق مدّة مديدة ، وقرأ عليّ فيها كتبا عديدة ، وأعطيته نسخة بتأليفي المسمّى «بالدّر النضيد في أدب المفيد والمستفيد» ، وكتب بخطه تأليفي المسمّى «بالبرهان الناهض في نية استباحة الوطيء للحائض» ، وقرأ

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٢) سقطت هذه الكلمة من الأصل ومن (م). وباب المقام أحد أبواب مدينة حلب ، ويسمّى أيضا باب دمشق ، وقد بني في الفترة الأيوبية في زمن الملك الظاهر غازي. (معادن الذهب ٨١).

(٣) حسين بن حسن بن عمر البيري الحلبي الشافعي الصوفي (ت ٩٢٢ ه‍). انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ١ : ١٨٤ ، شذرات الذهب ١٠ : ١٥٣.

(٤) أحمد بن حسين بن حسن البيريّ الصوفيّ (ت نحو ٩٦٣ ه‍). انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٠٤ ـ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤٨٤ ـ ، إعلام النبلاء ٦ : ٣٢.

(٥) ما بين القوسين ساقط من (ع).

٦٠