بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي
المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وبه أكتفي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصّالحات ، وتدر البركات ، وبمنّته تغفر الزلات وتقال العثرات ، وبرحمته تقرّ العيون السخنات ، بلمّ الشّمل بعد الشتات ، وبرأفته يحصل للقلوب القلقة الثبات ، بوصل الحبل بعد البتات ، أحمده على توافر نعمائه التي مدّها علينا ظلا ظليلا ، وتواتر آلائه التي أولاها ووالاها مقاما ورحيلا ، وأشكره شكرا يكون بمزيد النعم كفيلا ، ولمديد الكرم الوافر الوافي منيلا ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، شهادة معترف بوجوب وجوده ، مغترف من بحار كرمه وجوده ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، أشرف رسله وسيد عبيده وناصر دينه القيم وصاحب لواء تحميده ، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأشياعه وجنوده ، ما عزمت همة امرء على إقامة ، أو همت عزيمته بسفر ، وما تجلّى صبح بلوغ المآرب عن سرى ليل المطالب وسفر ، أما بعد.
فهذا تعليق ، أبرزه عون من الله تعالى وتوفيق ، قصدت به ضبط موارد الرحلة الرّوميّة [٢ أ] ، وذكر معاهد الوجهة الشّماليّة ، والتنويه بأسماء بعض من جمعتنا به الرحلة من الأئمة الشيوخ ، ذوي التحقيق والرسوخ ، من أصحاب وخلّان وأصدقاء وإخوان ، ما بين أقران نبلاء ، وأعيان كملاء ، وتلامذة فضلاء ، زادهم الله علما وعملا ، ومن أركان دولة ملك البسيطة ، وقطب الدائرة التي هي بالعالم محيطة ، ظل الله في الأرض ، النافذ الأمر في الطول منها والعرض ، ملك البرّين والبحرين والعراقين ، وحامي الحرمين الشريفين ، سليمان الزمان وإسكندر العصر والأوان (١) السّلطان سليمان خان بن عثمان ، لا زالت شمس ملكه مشرقة الأنوار ، والدنيا لا بسة من شعار سلطانه حلل الفخار ، ولا زالوا هم مقيمين في دولته ميزان العدل بالقسط ، متعاضدين متفقين في نصرة الحق وإعلاء كلمته على أحسن نظام وأنسب
__________________
(١) إسكندر العصر والأوان : من الألقاب السّلطانية ، والمراد بالإسكندر هنا الإسكندر بن فيلبس اليوناني وهو الذي يؤرّخ بظهوره على الفرس وغلبته إياهم. انظر : صبح الأعشى ٦ : ٣٥.
شمط ، مطرزا حلته بذكر بعض ما فتح الله تعالى به من منثور ومنظوم ، ومهمات لطيفة من غوامض العلوم ، وقد وسمته «بالمطالع البدريّة في المنازل الرّوميّة» (١) ، والله تعالى أسأل أن يجعله لوجهه الكريم خالصا ، وأن يظلنا بظله العميم حيث يكون الظل قالصا بمنه ويمنه ، [٢ ب] وفضله وطوله ، فأقول مستعينا بالله سبحانه ، ومؤملا فضله وغفرانه ، ومتوكلا في كل أحوالي (٢) عليه ، ومفوّضا جميع أموري إليه : إنني استخرت الله تعالى ـ وما خاب من استخاره (٣) ـ واستشرت كما أمرت من هو أهل للاستشارة ، في السفر إلى البلاد الرّوميّة قاصدا محل تخت الملك مدينة قسطنطينيّة (٤) لأمر اقتضى ذلك ، وألجأ إلى سلوك هذه المسالك في مدينة دمشق الشّام ، بعد فراق روحها سيّدي الوالد شيخ الإسلام ، حين نضب المعين ، وفقد المعين ، وخان الأمين ، ومان (٥) من لم نعهده ، يمين وقلّ الناصر ، وعزّ المواصر ، وخذل المؤازر ، وصدّت الإخوان ، وندت الخلّان ، وافتضح من ذلك الخطب اليسير ، من مدعي الصّحبة والأخوّة خلق كثير بحيث : [مجزوء البسيط]
لم يبق صاف ولا مصاف |
|
ولا معين ولا معين |
وفي المساوي بدا التساوي |
|
فلا أمين ولا يمين |
__________________
(١) ذكر نجل صاحب الرحلة أنّ هذه التسمية من ألطاف السيد عبد الرحيم بن أحمد بن بدر الدّين العباسيّ. انظر : الكواكب السائرة ٢ : ١٦٣.
(٢) وردت في (ع): «أحوال».
(٣) وردت في (ع): «استجاره».
(٤) القسطنطينيّة (إسلام بول إستانبول) : وهي في الأصل «بيزنطة» القديمة ، جعلها قسطنطين الأكبر عاصمة له بدلا من روما ، ولذلك كانت تسمى : «روما» الجديدة أو «تخت الروم» ، وفتحها العثمانيون سنة ٨٥٧ ه ، وقد عرفت بأسماء كثيرة منها : «إسلام بول» أي مدينة الإسلام ، الإسلام الكبير ، مدينة السلام ، ثم أصبحت هذه الكلمة فيما بعد إستانبول (اسطنبول) ، وعرفت أيضا باسم الاستانة ومعناها : «التكية الكبرى» ، ودار السعادة ، والدار العلية ، ودار الخلافة.
(٥) مان يمين مينا : كذب فهو مائن أي كاذب (لسان العرب ١٣ : ٤٢٦).
فضاقت الأرض والنفس والمعيشة ، وناوشت كلاب المزابل أسد (١) بيشة ، فتعينت الرّحلة عن المملكة فضلا عن البلد ، وحسنت مفارقة النفس فضلا عن [٣ أ] الأهل والولد : [من البسيط]
ولا يقيم على ضيم يسام به |
|
إلّا الأذلّان عيرا الحيّ والوتد |
إنّ الهوان حمار الدار يألفه |
|
والحرّ ينكره والفيل والأسد (٢) |
هذا على الخسف مربوط برمّته |
|
وذا يشجّ فلا يرثى له أحد (٣) |
فاستعذت بالله من العجز والكسل ، ورفضت التعلل بعسى ولعل ، ولبست جلباب العزم ، وامتطيت مطية الحزم (٤) ، وأدخلت على معتل التواني حرف الجزم ، وجزمت على ترك الدّعة والسكون أيّ جزم ، وأخذت في إعداد الأهبّة وارتياد الصحبة ، إلى أن كمل الاستعداد ، وحصلت الراحلة والرفقة والزاد ، وخرجت من مدينة دمشق المحروسة ، ومن المنازل والديار المأنوسة ، عصر يوم الاثنين المكرّم ، ثامن عشر شهر رمضان المعظم ، سنة ست وثلاثين وتسعمائة ، وصحبني من الخدم والرفاق والأصحاب فئة صحبة قاضي القضاة ولي الدّين ابن الفرفور (٥) ، (وقد حصل عنده
__________________
(١) وردت في (ع): «أشد» وبيشة مأسدة معروفة وتسمى بيشة السماوة قال الشاعر :
كأنا أسد بيشة أو ليوث |
|
بعثر أو منازلها بواء |
انظر : معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري ١ : ٢٨٢ ، ٢٩٤.
(٢) أضيف هذا البيت على الهامش في (م) وسقط من (ع).
(٣) الأبيات في محاضرات الأدباء ٢ : ٦١١ ومعاهد التنصيص ٢ : ٣٠٦. منسوبة للمتلمس.
(٤) سقطت كلمة «مطية» من : (ع) ، وفي (م): «مطية الجزم».
(٥) محمد بن أحمد ، ابن الفرفور ، قاضي القضاة ، توفي مسجونا بقلعة دمشق سنة ٩٣٧ ه انظر ترجمته في : درّ الحبب ج ٢ ق ١ : ١٣٥ ـ ١٣٨ ، الكواكب السائرة ٢ : ٢٢ ـ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٤١ ، الثغر البسام ١٨٠ ، ٣١٢ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٤٥٠ ـ
بصحبتي في الظّاهر غاية السرور ، والله يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور) (١) ، فوصلت معه إلى الأسعديّة والناصرية ، وهما بسفح جبل قاسيون من الصّالحيّة (٢) ، ثم أرسلت معه إلى قرية دمّر (٣) [٣ ب] جماعة من الرفاق مع الأحمال ، وعنّ لي الرجوع إلى الديار لقضاء مآرب وأشغال ، وأنشد لسان الحال فقال : [من الطويل]
أقول لصحبي حين ساروا ، ترفّقوا |
|
لعلّي أرى من بالجناب الممنع |
وألثم أرضا ينبت العزّ تربها |
|
وأسقي ثراها من سحائب أدمعي |
وينظر طرفي أين أترك مهجتي |
|
فقد أقسمت أن لا تسير غدا معي |
وما أنا إن خلّفتها متأسف |
|
عليها وقد حلّت بأكرم موضع |
ولكن أخاف العمر في البين ينقضي |
|
على ما أرى والشمل غير مجمّع |
وأرجو إلهي أن يمنّ بجمعنا |
|
قريبا بخير فهو أكرم من دعي (٤) |
فوصلت إلى الدّار آخر ذلك النهار ، والشمس كحبيب يودّع (٥) حبيبه ، وقد عراه
__________________
(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٢) الصالحية : كانت قرية كبيرة من غوطة دمشق ، واليوم أحد أحياء دمشق وأكثر أهلها مهاجرون من بيت المقدس. انظر : معجم البلدان ٣ : ٣٩٠ ، لطف السمر ١ : ١٩ ، صبح الأعشى ٤ : ٩٤.
(٣) دمّر : عقبة دمّر مشرفة على غوطة دمشق ، وتقع على بعد ٤ كم غرب مدينة دمشق ، وهي من جهة الشمال في طريق بعلبك. (معجم البلدان ٢ : ٤٦٣ ، المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري ٣ : ٣٥٠).
(٤) الأبيات الأربعة الأولى في تاج المفرق ١ : ١٤٥ بلا عزو.
(٥) وردت في (ع): «تودع».
من ألم الوداع اصفرار كما قيل : [من الطويل]
وربّ نهار للفراق أصيله |
|
ووجهي كلا لونيهما متناسب (١) |
ثم فطرت في المنزل عل عادتي المألوفة ، وفطر عندي من الأصحاب جماعة لطيفة ، ثم احتفت بي الوالدة والأولاد ، وتشاكينا حرارة الأكباد ولهيب الفؤاد ، وأنشدت بلسان الحال قول من قال (٢) [٤ أ] : [من البسيط]
غدا أودّع قوما أودعوا كبدي |
|
نارا ، وعهدي بهم بردا على الكبد |
أبدي التجلّد أحيانا فيبهرني |
|
ريق يجفّ وخدّ بالدّموع ندي |
لم أنس (٣) يوما تنازعنا حديث نوى |
|
وقولها وهي تبكي : آه يا سندي (٤) |
كنّا إلى القرب أخلدنا فنغّصه |
|
هذا الرحيل الذي ما مرّ في خلدي |
ثم خرجت إلى مدرسة الكامليّة ، وتمشيت (٥) ومعي ولدي أحمد (٦) ـ أنشأه الله
__________________
(١) وردت في الأصل : «مناسب». والبيت في معاهد التنصيص ٢ : ٩٥ بلا عزو.
(٢) وهو أبو نصر سعيد بن الشاه وأبياته في معاهد التنصيص ٣ : ١٧٠.
(٣) وردت في (ع): «لا أنس».
(٤) وردت في (م): «يا ولدي» وكتب بالهامش «يا سندي». وفي معاهد التنصيص : «خانني جلدي».
(٥) وردت في (ع): «وتمسيت».
(٦) ولد بدمشق سنة ٩٣١ ه ، وتلقى تعليمه الأول على والده ثم على يد جماعة من علماء الشام ومصر ، وولي إمامة الشافعية بالجامع الأموي ، توفي في حياة والده سنة ٩٨٣ ه (انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٣ : ١٠٠).
تعالى ـ في جامع بني أمية ، فصار لا يفارقني لحظة ، ويعيرني في كل ساعة لحظه ، وقلت : [من البسيط]
لم أنس يوم الفراق المرّحين دنا |
|
والقلب باك وطرف العين منبهت |
ونور عيني المفدى أحمد ولدي (١) |
|
يمشي قليلا أمامي ثم يلتفت |
ثم أسرجت في الكامليّة على عادتها الشموع والمصابيح ، وصليت فيها مع جماعة من الأصحاب صلاة التراويح ، ثم بتّ تلك الليلة في قلق وألم ، واستيقظت أواخر الليل فإذا والدتي عند رأسي لم تنم : [من الطويل]
أتغلبني عيناي ليلة بيننا |
|
ووالدتي من شدّة الوجد لم تنم |
أمن قسوة هذا أم الكرب غامر |
|
لقلبي مما حلّ فيه من الألم [٤ ب] |
أي والله إنّ القلب لشديد الاحتراق ، موثق من الكرب بأشد الوثاق ، مثخن بجراحات الفراق : [من الطويل]
خليلي لا والله ما القلب سالم |
|
وإن ظهرت منيّ مخايل صاحي |
وإلّا فما بالي ولم أشهد الوغا |
|
أبيت كأني مثخن بجراح (٢) |
فتهيأت حينئذ للصلاة بعد الطهور ، وتناولت مما حضر من السحور ، وتملّيت بوجه
__________________
(١) ورد صدر البيت في (م) و (ع): «ونور عيني وقلبي أحمد ولدي».
(٢) البيتان في معاهد التنصيص ٣ : ٣١ وتاج المفرق ٢ : ١٠٤ بلا عزو.
الوالدة والأولاد بقية تلك الليلة ، في تلك السويعات اليسيرة القليلة إلى أن أذّن داعي الفلاح ، ولمع الفجر بضيائه ولاح ، وسطع وجه المحجة وبان ، فتصدّع الشمل حينئذ وبان : [من الكامل]
قالوا الرحيل وما تملّت باللقا |
|
عيني ولا امتلأت بغير مدامعي |
فتيّقنت روحي بأن مقالهم |
|
أن يصدق الحادي أشدّ مصارع (١) |
فيا لله ما ألفه الصباح من عوائد الفراق ، وما أثره في الأكباد من الانفلاق ، وقلت : [من مخلّع البسيط]
أقول للصبح حين أجرى |
|
عوائدا منه بالفراق |
لا أشكر السعي منك حتى |
|
تكون لي رائد التلاق |
ولما بلغ مولانا المقر (٢) الكريم ، شيخ المسلمين السيّد عبد الرحيم (٣) هذان البيتان [٥ أ] ، أنشدني لنفسه في هذا الشأن قوله : [من البسيط]
__________________
(١) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١١.
(٢) المقر : لقب يختص بكبار الأمراء والعلماء وأعيان الوزراء وكتّاب السر ومن يجري مجراهم. انظر :
صبح الأعشى ٥ : ٤٩٤.
(٣) هو بدر الدّين أبو الفتح عبد الرحيم بن أحمد العباسيّ الشافعيّ ، كان ملازما لجد المؤلف ، وكان قد استضاف المؤلف في القسطنطينية سنة ٩٣٧ ه ، ممّا سيأتي تفصيله في هذه الرحلة ، وكانت وفاته في سنة ٩٦٣ ه. انظر : الشقائق النعمانية ٢٤٦ ، حدائق الشقائق ٤١٠ ، الكواكب السائرة ٢ : ١٦١ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤٨٦ ـ.
إن يكن للصباح فضل على الليل |
|
بتنويره (١) دجى الأحلاك |
فله في تفرق الشمل فعل |
|
لم تسعه دوائر الأفلاك |
ثم نهضت إلى صلاة الصبح ، مؤملا من الله تعالى الصلاح والنّجح ، ثم لمّا ابتسم وجه الصباح وسفر ، شددت (٢) عليّ باكيا أهبّة السفر : [من الكامل]
عجبا لقلبي يوم راعتني النّوى |
|
ودنا التفرق كيف لم (٣) يتفطّر (٤) |
ثم طافت بي الأحباب للوداع ، وتعيّن العزم على الإزماع ، فودّعت الوالدة والأولاد وسائر (٥) الأهل ، وتجرّعت من ذلك ما ليس بالعذب ولا بالسهل ، فما منهم إلّا من لزمني وانتحب ، فما أحقّ المتلازمين منّا بقول بعض العرب (٦) : [من الكامل]
باتا بأنعم ليلة حتى بدا |
|
صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر |
فتلازما عند الفراق صبابة |
|
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر |
__________________
(١) وردت في (م) و (ع): «تنويره».
(٢) وردت في (ع): «سددت».
(٣) وردت في (م): «لا».
(٤) البيت في تاج المفرق ٢ : ١٢ بلا عزو. وفي مطمح الأنفس (١٨٠) منسوبة للوزير الكاتب عبد الملك ابن إدريس الخولانيّ الجزيريّ.
(٥) في (ع): «وشأم».
(٦) البيتان في معاهد التنصيص ٣ : ١٧٥ منسوبة للشاعر العرجيّ.
والأولاد إذ ذاك ثلاثة ، كل منهم في أول سنّ الحداثة ، أكبرهم لم يبلغ السبع (١) ولا عرف الضّر والنّفع ، وهم يبكون ويتعللون بالمحال ، وينشدون [٥ ب] بلسان الحال : [من المتقارب]
أيا أبتا لا (٢) ترم عندنا |
|
فإنا بخير إذا لم ترم |
نخاف إذا أضمرتك البلا |
|
دنجفى ويقطع عنا الرّحم (٣) |
واندفعت في سرّي منشدا والدموع تستوقف القطار (٤) ، وتستوكف الأمطار (٥) وتبلّ تلك الأقطار ، والقلب في وله وعدم إشعار ، عمّا عليه من إنشاد أشعار ، فقلت (٦) [من السريع]
ودّعت قلبي يوم ودعتهم |
|
وقلت للنوم انصرف راشدا |
وقلت للأفراح عنّي ارحلي |
|
حتى تريني لهم شاهدا |
__________________
(١) في (ع): «الشبع».
(٢) هكذا وردت في جميع النسخ ولعل صوابها : «ألا» كي يستقيم المعنى لكن يختل الوزن.
(٣) هذه الأبيات قالتها بنت الأعشى :
أبانا فلا رمت من عندنا |
|
فإنّا بخير إذا لم ترم |
ترانا إذا أضمرتك البلا |
|
دنجفى وتقطع منّا الرّحم |
انظر : بغية الوعاة ١ : ٤٦٥.
(٤) القطار : السحاب الكثير القطر أي المطر.
(٥) في (ع): «والدموع مستوقف القطار ، ومستوكف الأمطار».
(٦) في تاج المفرق (١ : ١٤٤) :
ودعت قلبي يوم ودعتهم |
|
وقلت يا قلبي عليك السلام |
وقلت للنوم انصرف راشدا |
|
فإنّ عيني بعدهم لا تنام |
وكان لذلك الوداع موقف مشهود ، ينثر فيه من الدمع لؤلؤ منضود ، وينظم عقودا في نواحي الخدود ، وقلت : [من الخفيف]
موقف للوداع ينثر فيه |
|
درر نظمت من الآماق |
كوّنت مثل وجدنا في اجتماع |
|
وبدت مثل شملنا في افتراق |
وقد أسرجت الفوانيس والخيول ، وألجمت الأفواه بما أجرت العيون من السيول ، وطاشت الألباب وذهلت العقول من توادع الأحباب ، وصبرنا على ما هو أمرّ من الحين (١) من معالجة شدّة البين : [من الكامل]
من لم يكن أخذ الهوى بفؤاده [٦ أ] |
|
فلقد أخذت من الهوى بنصيب |
فرأيت أنّ أشدّ كل بلية |
|
قضيت على أحد فراق حبيب (٢) |
[من الكامل]
ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد |
|
للموت لو فقد الفراق سبيلا |
ثم ركبت الجواد بعد أن استودعت الله تعالى جميع الأهل والوالدة والأولاد (٣) ولقد أصابني بفراقهم ما أنّه : [من البسيط]
__________________
(١) الحين : الموت والهلاك.
(٢) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٩٢ بلا عزو.
(٣) في (م): «وأولاد».
لو كان بالفلك الدوّار لم يدر |
|
أو كان بالماء لم يشرب من الكدر |
أو كان بالعيس ما بي يوم فرقتهم |
|
أعيت على السابق الحادي فلم يسر (١) |
وصحبت معي من الكتب النافعة في الأسفار بعض أجزاء وأسفار ، وخرجت من المدينة وقت الإسفار ، وصحبني جماعة من الأصحاب للوداع ، وأسرعنا في السير قبل أن يتكاثروا غاية الإسراع ، هذا والدموع لا ينحبس (٢) وبلها إلّا وأخلفه طلّها ، وكلما أفرغ ذنوبها امتلأ سجلها ، والجوانح (٣) لا يهمد وقد ضرامها ، إلّا وأخلفه (٤) حرّ أوامها ، ولا يخمد تأجج نيرانها إلّا وأردفه توهج دخانها ، والشوق بالأحشاء عابث وبجوانب الضلوع (٥) عابث ، والقلب من الضطراب أهوائه خافق ، وغراب البين ببعد الأحبة ناعق ، وسرنا سير مشمعل (٦) نطوي البيد كطي السجل ، [٦ ب] فوصلنا بعد تعالي الصباح وارتفاع الشمس قيد ثلاثة (٧) رماح إلى المنزل المقرر ، وهو قرية ابن فرفور دمّر ، وهي قرية كبيرة كثيرة الخيرات وافرة الغلات طيبة النبات ، فنزلنا بها بمرج لطيف ، بديع التدبيج والتفويف ، ذي عرف أعطر ، وربيع أزهر ، من عشب أخضر ، وأقحوان أصفر ، وشقيق أحمر ، وغير ذلك مما هو عجيب التلوين غريب التكوين ، وقد حفّ به من غالب جوانبه نهر بردى وهو أكبر أنهار الشّام وأكثرها مددا (٨) بل هو أصل
__________________
(١) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٩٢ بلا عزو.
(٢) في (ع): «تنحبس».
(٣) في (ع): «الجوايح».
(٤) في (م) و (ع): «وأعقبه».
(٥) في (م) و (ع): «الظلوع».
(٦) المشمعل : السريع يكون في الناس والإبل. (لسان العرب ١١ : ٣٧٢).
(٧) وردت في جميع النسخ : «ثلاث» والصواب ما أثبتناه.
(٨) في (ع): «وأكثرها مددها».
الأنهار ومصرفها وأوسعها وأسرعها (١) وأشرفها ، يسقي ما لا يحصى من القرى ، ويسدّ عند كل قرية ثم يعود كما كان نهرا. فهو من المنن الغزيرة ، ومن الأعاجيب الشهيرة ، كما قيل : [من الكامل]
نهر يسيل كما يذوب نضار |
|
وتدور في أيدي السّقاة عقار |
فإذا استقام فصارم دامي الظّبا (٢) |
|
وإذا انحنا جنب به فسوار |
مغرورق التيار ملتطم كما |
|
خفقت بظهر (٣) مهب ريح نار |
أحمرّ وأخضرّ النبات بشطه |
|
فكأنّ ذا خدّ وذاك عذار (٤) [٧ أ] |
وكما قيل : [من الكامل]
نهر يهيم بحسنه من لم يهم |
|
ويجيد فيه الشّعر من لم يشعر |
ما اصفرّ وجه الشّمس عند غروبها |
|
إلّا لفرقة حسن ذاك المنظر (٥) |
ومن أحسن ما قيل في وصف نهر عند الأصيل قول عبد الله بن شارة الإشبيليّ : [من الكامل]
__________________
(١) في (ع): «وأشرعها».
(٢) وردت في الأصل» «الضبا» والتصحيح من (م) و (ع).
(٣) في (م) و (ع): «بطهر».
(٤) الأبيات في تاج المفرق ١ : ١٦٣ ـ بلا عزو.
(٥) البيتان في تحفة القادم ٨٢ منسوبة لابن مرج الكحل ، وفي معاهد التنصيص ٣ : ٧٧ وتاج المفرق ١ : ١٦٠ بلا عزو.
النهر قد رقّت غلالة صبغه |
|
وعليه من ذهب الأصيل طراز |
تترقرق (١) الأمواج فيه كأنها |
|
عكن الخصور تهزّها الأعجاز (٢) |
فأقمنا بذلك المنزل نهار الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان بالتمام ، فيا له من يوم ما كان أطوله ، وأخلقه بقول أبي تمام (٣) : [من الكامل]
يوم الفراق لقد خلقت طويلا |
|
لم تبق (٤) لي صبرا ولا معقولا |
وما أحسن ما قال بعده : [من الكامل]
لو حار مرتاد المنيّة لم يجد |
|
إلّا الفراق على النفوس سبيلا |
قالوا : الرحيل ، فما شككت بأنه |
|
نفس عن الدنيا تريد رحيلا |
وفي معناه قول المتنبيّ (٥) رحمهالله تعالى : [من البسيط]
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا |
|
والبين جار على ضعفي وما عدلا |
__________________
(١) البيتان في حسن المحاضرة ٢ : ٣٩٩ ونسبها السّيوطيّ إلى إبراهيم بن خفاجة الإشبيلي وليست في ديوانه ، وفي نهاية الأرب ١ : ٢٨٣ نسبها النويريّ إلى أبي مروان بن أبي الخصال.
(٢) في (ع): «تته قرق».
(٣) الديوان ٢١٥ ، ومعاهد التنصيص ٤ : ٥١.
(٤) في (ع): «لم يبق».
(٥) الديوان ص ١٧ ومعاهد التنصيص ٤ : ٥١.
والوجد يقوى كما يقوى النّوى أبدا |
|
والصّبرينحل في جسمي كما نحلا[٧ ب] |
لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت |
|
لها المنايا إلى أرواحنا (١) سبلا |
فلم أزل أتقلّى بجمر ذلك النهار ، وأجاري ذلك النهر من دموعي بأنهار ، أكنّ من الوجد ما غاية الثكلى تكنّه ، وأبدي من الحنين ما لا تطيق الجوانح تجنّه : [من الطويل]
فلله كم من لوعة كنت كاتما |
|
لها خيفة العذّال نمّ بها دمعي |
إذا كان من عيني على ما تكنّه |
|
ضلوعي من الأسرار عين فما صنعي |
وقد برّح الخفا بما أخفيه من البرحاء (٢) ، ونزحت أرشية جفوني مياه عيوني بيد البكاء : [من الطويل]
أهذا ولما تمض للبين ليلة |
|
فكيف إذا مرّت عليه شهور (٣) |
فما انقضى ذلك النهار ، وحلّ من الصوم الإفطار ، إلّا وقد أشرفت النفس على الزّهوق والقلب على الانفطار ، ثم أقمنا من ليلة الأربعاء أطول الليال إلى مقدار حد الوصية من المال (٤) ، فما كان أقصر ليلة الثلاثاء وأطول ليلة بعدها ، فيالها من ليلة ما
__________________
(١) في (ع): «روضائه».
(٢) في (ع): «الرجاء».
(٣) البيت مذكور في تاج المفرق ١ : ١٤٦ بلا عزو.
(٤) وهو الثّلث.
أخفّها يتلوها ليلة ما أشدّها كما قيل : [من الكامل]
إنّ الليالي للأنام مناهل |
|
تطوى وتنشر بينها الأعمار |
فقصارهنّ مع الهموم طويلة |
|
وطوالهنّ مع السرور قصار (١) [٨ أ] |
فلما طلع القمر ، وسطع نوره وانتشر ، ومدّ بساطه الأزهر على ذلك الزهر ، وصقل نور ضيائه صداد ذلك النهر ، عزمنا على الترحال ، وشددنا الأحمال على البغال ، وودعنا من الأصحاب من بقي وأنشدناهم إن نعش نلتقي ، وسرنا وقلبي يتوقّف عن اللحاق ، ويتخلّف عن الرفاق ، ويتخوّف من فرق الفراق بعد فرح التلاق : [من الطويل]
ولو لا الترجّي للمحبين لم تكن |
|
قلوبهم يوم النّوى تعمر الصّدرا (٢) |
واستمر بنا (٣) السير من ذلك الوقت إلى وقت الغداء ، وجزنا في خلاله بوادي بردى ، وهو واد أفيح (٤) كثير الأشجار ، بعيد القرار عظيم المقدار ، عديم المماثل والنظير ، ذو مرأى حسن ومنظر نضير ، يحفّ كل قطر منه بستان ، ويدور بجنباته نهر بردى كالثعبان ، قد بسطت يد السماء به بسطا سندسيّة ، وطرحت عليه (٥) مطارح بالزهر موشية ، وقد جرّ عليه النسيم بعد ذلك ذيوله ، وأجال بميدانه خيوله ، واستنطق أطياره ، وشقق أزراره ، وأفشى أسراره ، وأذاع رنده وعراره ، وفضض نوّاره ، وذهّب
__________________
(١) الأبيات موجودة بلا عزو في نهاية الأرب ١ : ١٣٤ وتاج المفرق ١ : ١٧٣.
(٢) سقط هذا البيت من (ع) ، وهو في تاج المفرق ١ : ٢٩٤ بلا عزو.
(٣) وردت في (ع): «واستمرينا».
(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٥) سقطت هذه الكلمة من الأصل ومن (ع) وأثبتنا ما في (م).
أزهاره [٨ ب] ، ونثر درهمه وديناره ، وحيّا ورده وبهاره ، وصافح آسه وجلّناره ، وأطاب تنآه وأخباره ، وأمالت بنشأتها قدوده ، وأخجلت (١) بقبلتها خدوده ، وحشّدت (٢) جنوده ، وحشرت بيضه وسوده ، ونشرت (٣) ألويته وبنوده ، وملأت تهائمه ونجوده ، ونظمت جواهره وعقوده ، وأعطت (٤) مواثيقه وعهوده : [من الطويل]
محلّ كأنّ الشمس تخجل كلما |
|
نضت ثوبها عن معطفيه مغيبا |
تنم رياح الخلد منه لأهله |
|
ويطفح تسنيم ويرشح طيبا (٥) |
ثم جزنا بأعين التّوت (٦) وهي في أمر مريج (٧) ، وشهيق وعجيج ، وزفير ونشيج ، ولغط وضجيج ، واضطراب والتواء ، واعوجاج واستواء ، وشكوى مما صنعته يد النّوى ، وما أثارته وأثرته شدّة الهوى ، (ولم نزل) (٨) نجدّ في السير ولا نرفق ، حتى نزلنا تعالي النهار من يوم الأربعاء عشرين شهر رمضان بمنزلة خان الفندق (٩) على عين ماء بارد
__________________
(١) وردت في (ع): «وأمحلت».
(٢) وردت في (ع): «وحدت».
(٣) وردت هذه العبارة في (ع): «وحشرت بيضه وشهوده وسدت ألويته ...».
(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٥) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٤٥ بلا عزو وورد هذان البيتان في (ع) :
الشمس تخجل كلما بها عن معطفيه مغيبا |
|
الخلد منه لأهله نسيم ويرجح طوبى |
(٦) وردت في (ع): «باعن التوت».
(٧) وردت في الأصل و (ع): «مربح» ، وما أثبتناه من (م) والمريج : الملتوي الأعوج ، وفي القرآن : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) انظر : لسان العرب ٢ : ٣٦٥.
(٨) ما بين القوسين ساقط من الأصل وأثبتنا ما في (م) و (ع).
(٩) ويسمى خان العروس ، وهو من بناء صلاح الدّين الأيوبيّ ، وعليه كتابة فوق بابه تسميه بالفندق ، وتاريخ بنائه سنة ٥٧٧ ه. انظر : رحلة الخياري (الهامش) ١ : ١٧٨.
عذب غدق يغدق ، فأقمنا به ريثما نستريح ، ونزيح (١) علل الرفاق والدّواب ونريح ، ثم ترحّلنا منه عندما حان وقت الزوال [٩ أ] وامتد الظل ومال ، وكان ذلك اليوم أطول من ظل القناة ، وأحرّ من دمع المقلاة ، وسرنا والقيظ يشتدّ حرّه ، والهجير يتلظّى جمره ، إلى أن وافينا وادي الزّبدانيّ ، وقد أعرس بالورد وتزبّن بالعرار والرند ، واطردت جداوله أي طرد ، وفاح نسيمه المنعش للروح بالطيب والبرد ، فتلقانا أهله بحزم الورد النصيبي ، ووفر منه ذلك اليوم حظّي ونصيبي ، وقلت : [من المجتث]
جزنا بقوم كرام |
|
وافوا بورد نصيبي |
فاجزلوا منه حظّي |
|
ومنه وفّوا نصيبي |
فياله من واد ما أحلاه وأملحه ، وأفسحه وأفيحه وأفوحه ، كأن رياضه سماء زيّنت بالزواهر ، أو قباب زمرد رصّعت من الدر والياقوت بأنفس الجواهر ، أو عذارى تتجلّى في حلل سندسيّة باسطة أكفها للتسليم ، أو مهدية أقداحا ختامها مسك ومزاجها من صفاء التسنيم ، فتركنا عشه ودرجنا ، وما عجنا على غير المسير ولا عرجنا ، فوصلنا قرية صرغايا (٢) أصيل ذلك اليوم ، فنزلنا في أحسن المنازل بخلاف بقية القوم في أرض خضرة ، بين مياه خصرة وأزهار عطرة ، وأشجار نضرة ، وجورات (٣) [٩ ب] تميس بقدود الحور ، وتتستر (٤) بالأوراق تسترها بالشعور ، وحمائم تترنم على أعواد الغصون ، وتبدي فنون الأشواق والشجون ، كما قيل : [من الكامل]
تشدوا بعيدان الأراك حمائم |
|
شد والقيان عزفن بالأعواد |
__________________
(١) وردت هذه الكلمة في (ع): «ونربح» ، وفي (م): «ونزيل».
(٢) وردت هذه الكلمة في (ع): «صرغانا».
(٣) وردت هذه الكلمة في (م): «حورات».
(٤) وردت هذه الكلمة في (ع): «وتستتر».
مال النسيم بقضيبه فتمايلت |
|
مهتزة الأعطاف والأجياد |
هذي تودع تلك توديع التي |
|
قد أيقنت منها بوشك بعاد |
واستعبرت بفراقها عين الندى |
|
فابتلّ مئزر غصنها الميّاد (١) |
فبتنا في ذلك المنزل المعظّم (٢) القدر ، ليلة الخميس حادي عشر ، وهي في أرجح ميليّ الإمام الشّافعيّ رضياللهعنه ليلة القدر ، وقلت من أبيات : [من الطويل]
وقرية صرغايا المعظّمة القدر |
|
نزلنا بها في مرجها ليلة القدر |
ثم رحلنا منها وقد بزغ القمر بين النجوم كالملك لا بس التاج ، مرتديا بين عساكره بأبيض الديباج ، وقد عوّض نوره وأغنى في الحالين عن السراج ، فسلكنا مسالك سهلة ثم أدركنا مدارك مستصعبة وأعقبنا رقي عقبة ، وما أدريك ما العقبة ، هي عقبة الرّمّانة التي منها القلوب ملانة ، ذات مدارج [١٠ أ] وعرة ، ومناهج عسرة ، ومهاد ومشارف ، ومثان ومعاطف ، تخلع القلب وتقطع النياط ، وتذكر بالحشر والحساب والصراط ، فزاد حزنها على الفؤاد أحزانه ، ورادف بثّه وأشجانه ، ثم قطعناها عند الصباح ، وسرنا في مهامة فيح وفياف فساح ، ولم نزل في إتهام وإنجاد ، وصعود ربوة وهبوط واد ، حتى انتهينا إلى واد كبير ، ذي منظر نضير ، وعشب كثير ، وعينان تجريان على صخر بماء زلال خصر (٣) نمير ، كما قيل : [من الطويل]
__________________
(١) من عبارة (وحمائم تترنم ...) إلى نهاية الشعر (غصنها المياد) ساقطة من (ع) ؛ والبيتين الأخيرين سقطا من (م).
(٢) وردت في (م): «السامي».
(٣) سقطت كلمة : «خصر» من (ع) ، وفي (م) كتبت في الهامش.
وواد حكى الخنساء لا في شجونها |
|
ولكن له عينان تجري على صخر (١) |
قد بسط الربيع به بسطا سندسيّة ، ومطارف عبقريّة ترتاح لرؤيتها الأرواح ، وترتع النفوس منها في مراتع الارتياح ، ثم فارقناه وهو يصفر ، ويتبلّج وجهه ويسفر ، ونحن نحضر في السير ولا نخسر ، حتى وصلنا إلى مدينة بعلبك ، وعوض اليقين منها بالشّك ، فنزلنا بها ضحوة النهار على رأس العين ، في مكان أفيح مقابلة فلاة [١٠ ب] مد العين ، بها مروج وروضات هي مرتع النواظر ومتنفّس (٢) الخواطر ، قد أخذت أذوات (٣) الجنان ، وأسفرت عن رفرف خضر وعبقري حسان ، وأتت من الحسن والإحسان ، بما يقصر عن وصفه لسان القلم وقلم اللسان ، كما قيل : [من الكامل]
إني دخلت لبعلبك فشاقني |
|
عين بها الظلّ الظليل مخيم |
فلأجل ذا من أهلها أنا مكرم |
|
ولأجل عين ألفعين تكرم (٤) |
ورأس العين هو مكان كالبركة ، ينبع منه ماء ثجاج ، عذب نمير خصر ليس بملح ولا أجاج ، ويدخل إلى المدينة فيجوب في أكنافها حتى تحس بالري من أظفارها وأطرافها ، وبجانب ذلك المكان صفة متسعة ، وبالقرب منه مسجد كانت تقام فيه الجمعة. وتلقانا بهذا المنزل المذكور جماعة من أعيان أهل المدينة ، وقد رفعت عنهم بواسطة شهر الصّوم المؤنة ، منهم الشيخ الإمام العالم العلامي البهايّ العصيّ (٥)
__________________
(١) هذا البيت مذكور في رفع الحجب المستورة ١ : ٣١ بلا عزو.
(٢) وردت هذه الكلمة في (ع): «منتفس».
(٣) في (م): «أدوات».
(٤) سقطت هذه الأبيات من (م) و (ع).
(٥) هو محمد بن محمد بن علي البعليّ الشافعيّ ، مفتي بعلبك توفي سنة ٩٤١ ه ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١١ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٤٦ وفيه : «الفصي».
وولداه وغيرهم من الأكابر والقضاة ، وكلّ من القوم يعتذر بكرم شهر الصّوم ، فقلت وعن الحق ما حلت [١١ أ] : [من المجتث]
شهر الصّيام كريم |
|
لكنكم بخلاء |
هب أننا في صيام |
|
أليس يأتي العشاء؟ (١) |
وقلت : [من المجتث]
شهر الصّيام كريم |
|
والبخل فيكم سجيّة |
هبنا نصوم نهارا |
|
أليس تأتي العشيّة؟ |
وقلت : [من المجتث]
شهر الصّيام كريم |
|
والفطر رخصة سفر |
وإن نصم (٢) فمغيب |
|
للشمس ميقات فطر |
وقلت : [من المجتث]
شهر الصّيام كريم |
|
والفطر للسّفر رخصة |
__________________
(١) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١١.
(٢) وردت في (ع): «وإن نصوم».