المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

من حبيب (١) ، ومن دواء وطبيب ، فعسى يحصل فيه الإبلال ، ويزول ذلك النصب والكلال ، وينحلّ (٢) برم الحمّى بتلك الحلال ، فسرنا قاصديها تلك الساعة ، ومشى معنا من تلك القرية جماعة ، باذلين السمع والطاعة ، متقرّبين إلينا بحسب الاستطاعة ، إلى أن حططنا بها رحال الألمام ، وخلعنا على عطف الصلاة برد الإتمام ، وكان استقرارنا بها بين الصلاتين (من اليوم المذكور وهو الاثنين) (٣) في زاوية البيريّ المعروف بالشيخ حسين ، فتلقّانا ولده صاحبنا الشّهابي أحمد ، أحسن ملتقى وأحمد ، وأخلى لنا ثلاثة أمكنة وأفرد ، وكنّا ظنّنا أنّ الدموع نفدت ، وأنّ نيران القلوب خمدت ، فتراكمت من العيون سحبها ، وتزايد من القلوب كربها ، وأخذنا بعد السلام في شرح ما فعلت الأشواق ، وإن كانت الإحاطة بوصفه [١٦٨ ب] تكليف بما لا يطاق ، ثم تسارعت إلينا للسلام سائر الإخوان ، من العلماء والرؤساء والأعيان ، فألفيتهم لم ينقص الله لهم عددا ، ولا أراهم بالفراق شملا مبددا ، فسرّ الجميع بالاجتماع ، وأقمنا كما كنّا على المذاكرة والانتفاع ، وكأني ما مددت إليهم يدا للوداع ، فنثروا من درّ الثناء منثورا ومنظوما ، ونشروا من برود الثناء مطويا ومكتوما ، فأنشدتهم : [من الكامل]

إني وإن شطّ المزار وبددت

أيدي النوائب شملنا المنظوما

لم أخل من حسن الثناء عليكم

مذ غبت عنكم ظاعنا ومقيما (٤)

ولم أزل بتلك الحضرة أجتلي أنوار المحاضرة ، وأجتني نوّار المذاكرة ، وأستأنف ما عرفته من ولاتها ، وأجدد العهد بعلمائها وفضلائها ، غير أنّ ذلك المرض يقصر بي

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٢) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٤) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٩٣ بلا عزو.

٣٠١

في الخطى ، ويقعدني عن اعتلاء ذرى المطى ، ويرهبني بقوة السطى ، ويمنحني ما أراد وما أغناني عن ذلك العطا ، ولم يزل يتعالى ويتعاظم ، ويتوالى (ويتفاقم ، ويذهب في متجره مذهبا [١٦٩ أ] ويبلغ في سيله الزّبى ، ويرقى في سبيله على الرّبى) (١) ، وحكماء تلك البلدة يترددون إليّ كل مدّة ، ويصفون من الأدوية عدّة ، فلم يزدد (٢) الأمر إلّا شدّة ، وأرادوا إبراد الحمّى فكان إبرادها رعدة ، فاستخرت الله في ترك التطبب ، والإبعاد عنهم والتجنب ، والانقياد لحكم الله والاستسلام لديه ، وتفويض الأمر إليه ، والتوكّل في كل الأمور عليه ، ثم قدم من الشّام في تلك الأيام الحاج محمد المغربيّ البوّاب (٣) وأقرأنا السلام من الأهل والأصحاب ، وأخبر بما صنع القاضي ـ قاتله الله ـ في الجهات. وما احتوى عليه من التعصبات (٤) والترّهات ، فلم ننزعج لذلك لاعتمادنا على الله ، ويقيننا الصّادق أن لا فاعل إلّا الله (٥) ، (وحمدنا الله على سلامة الأصحاب والأهل ، وعددنا ما عداه من الأمر السهل) (٦) ، واستمرينا بتلك البلدة (٧) إلى أن انصرم شهر ذي القعدة ، ثم دخل شهر ذي الحجّة ، وأقام بوفود العيد الحجّة ، فصلينا بجامع الأطروش (٨) صلاة العيد (٩) ، ثم أضافنا الشيخ عبد الرّحمن الكرديّ إلى منزله السعيد [١٦٩ ب] (وأخلى لنا خلوته بالجامع المذكور ، وسعى في أنواع إكرامنا بالسعي مشكور ، فجزاه الله عنّا الجزاء الموفور ، فأقمنا

__________________

(١) ما بين القوسين بياض في (ع).

(٢) وردت في الأصل : «يزد».

(٣) وردت في (ع): «النواب».

(٤) وردت في (ع): «الجهالات».

(٥) وردت في (ع): «إياه».

(٦) ما بين القوسين كتب في (م) على الهامش ، وسقط من (ع).

(٧) وردت في (م) و (ع): «القلعة».

(٨) وردت في (ع): «الأطروشي».

(٩) وردت في (ع): «صلاة العصر».

٣٠٢

هناك أيام التشريق ، وليالي البيض) (١) ذات الوجه الشريق ، وكنّا قد بعنا بعض الخيل والبغال ، واستخرنا الله تعالى في السفر مع الجمال ، وكان قد تهيأ في تلك الأيام قفل كبير إلى بلاد الشّام ، فرددت الاستخارة ، وجددت الاستشارة في السفر معه في المحارة (٢) ، فجاء أكابر القفل إلينا وقالوا : أنت المؤمّر علينا وألقوا إلينا مقاليد الأمور ، وقالوا : مر متى شئت بالمرور ، فكلّ منّا بطاعتك مأمور ، فوقع الاتفاق مع تلك الرفاق ، أن يكون يوم الأحد منتصف الشهر التبريز إلى الوطاق ، وكنت قد سئمت من النوى (٣) والشتات ، وأزعجني خبر (٤) الجنّة تحت أقدام الأمهات ، وهمت بالوطن هيام ابن طالب بالحوض والعطن ، وحننت إلى تلك البقاع حنينه إلى أثلاث القاع وأخذت في الإزماع ، وفاجأت الأصحاب بالوداع ، وعزمت عزما أذن للدموع [١٧٠ أ] بالانسكاب وللقلوب بالانصداع : [من الطويل]

ويوم وقفنا للوداع وكلّنا

يعدّ مطيع الشوق من كان أجزما

نصرت بقلب لا يعنف في الهوى

وعين متى استطمرتها أمطرت دما (٥)

فياله وداعا ذابت له الأجساد ، والتهبت به الأكباد ، وكاد يتصدع منه الفؤاد ، ثم أنشدت أولئك المودّعين ما قاله بعض المتأدّبين (٦) : [من الوافر]

أودّعكم وأودعكم لقلبي

وعون الله حسبكم وحسبي

__________________

(١) ما بين القوسين كتب في (م) على الهامش فذهب أغلبه ، وفي (ع) ترك بياضا.

(٢) وردت في (ع): «التجارة». والمحارة : شبه الهودج (القاموس المحيط ٤٨٧).

(٣) وردت في (ع): «الهوى».

(٤) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع).

(٥) البيتان في معاهد التنصيص ١ : ٢٤٧ منسوبة للشريف الرضي.

(٦) البيت الأول قاله الشاعر جمال الدين ابن نباتة ، وردّ عليه في البيت الثاني الرحالة خالد بن عيسى البلوي ، عند اجتماعهما في بيت المقدس سنة ٧٣٧ ه‍. (انظر : تاج المفرق ١ : ٢٧٤).

٣٠٣

وأرعى حبّكم ما دمت حيا

وأرجو فضلكم في رعي حبي

ثم ركبت على المحارة ، وخرج إلى وداعي غالب أهل الحارة ، وكان النهار قد تحوّل ، والليل قد عوّل ، وأسبل ذيله وأسدل ، وأردف إعجازا وناء بكلكل ، فوصلنا إلى خارج المدينة ، وهم مشاة (بين يديّ) (١) بسكينة ، فجددنا هناك معهم الوداع ، ثم انقلبوا ما بين مثن وداع ، ونزلنا خارج المدينة في محل التبريز ، في منزل عزيز ، بديع التفويف والتطريز ، ثم أقمنا في ذلك المحل [١٧٠ ب] يوم الأحد إلى أن تكامل السفر ولم يبق منهم بالمدينة أحد ، فاتفقنا مع أولئك النفر أن يكون السير من ليلة الاثنين طلوع القمر ، فحين كشف أدهم الليل ، بأشقر من جياد الخيل ، حمّلنا الأحمال على تلك الأجمال ، وأخذنا في التنقّل والارتحال.

ولمّا اتضح الصبح وبان ، وبدا نوره للعيان ، نزلنا بمنزل خان طومان (٢) ، ونحن في غاية الدّعة والاطمئنان. وهو منزل فسيح الساحة ، مستطيل المساحة ، حاو لأصناف النضارة والملاحة ، فلما اكتهل شباب ذلك النهار ، واعتراه بعد النضارة اصفرار ، اخترنا عن ذلك المكان الرحلة ، وصرمنا حبله وقعطنا وصله ، وكان منتهى السير إلى سراقب ، عند ظهور النجم الثاقب ، وهجوم الظلام الواقب ، من ليلة الثلاثاء سابع عشر الشهر ، واستمرينا بذلك المكان يوم الثلاثاء إلى العصر ، فلمّا حيعل داعي الصلاة ، وأجابه إليها من دعاه ، أخذنا في أهبّة الترحيل ، وشرعنا في الشدّ [١٧١ أ] والتحميل ، وقطعنا بالسير عمر ذلك الأصيل ، إلى أن وصلنا إلى مدينة المعرّة (٣) ثلث ليلة الأربعاء أو قبله بقليل ، فنزلنا بظاهرها بمربع ، فيه للخواطر منزع ، وللدواب

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع).

(٢) وردت في (ع): «طوفان». وخان طومان يقع على نهر قويق ، ويبعد عن حلب مسافة ثلاثة أميال.

(معادن الذهب ٣٧٨ الهامش).

(٣) وردت في (ع): «المغيرة». وهي المعروفة اليوم بمعرّة النعمان نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري ، وتقع بين حلب وحماة. (معجم البلدان ٥ : ١٥٦ ، صبح الأعشى ٤ : ١٤١ ، أخبار الدول ٣ : ٤٨٨).

٣٠٤

مرتع ، ولبرد العلة ألطف مشرع ، فلم نزل به بقية تلك الليلة ثم من يومها إلى أن استوفى ميله ، وأسرج للرحلة خيله ، وشمّر للذهاب ذيله ، فاقتفينا أثره في الرحيل ، وشرعنا بين وخد وذميل (١) ، وقطع فرسخ بعد ميل ، إلى أن أخذ منّا السهر ، وشقّ جلباب الظلام سناء القمر ، وصلنا إلى خان شيخون (٢) مستعيذين (٣) بالله من شر كل خؤون ، فلمّا ابتسم وجه الشرق بعد التعبيس ، وأسفر صبح يوم الخميس ، نفس عنا تنفسه غاية التنفيس ، فحصل لنا بنوره بعد الوحشة كل تأنيس ، ثم استمرينا في ذلك المكان إلى أن حان وقت العصر وآن ، ثم أخذنا نجوب تلك البراري ، ونجول في هاتيك الصحاري ، إلى أن احتجب النور [١٧١ ب] وبرز الدّيجور ، فارتعنا لإطلال الظلام وإقبال جيش حام ، ثم اقتحمنا عساكره أي اقتحام ، إلى أن أقبلت طليعة القمر من تلك الآكام ، فحصل لجيش الظلام الانهزام ، ودخلنا مدينة حماة بسلام ، وذلك ليلة الجمعة عشرين ذي الحجة الحرام ، وكان منزلنا بظاهرها بالموقف ، في (٤) مقعد عال مشرف ، إلى أن برز الفجر من خبائه ، وملأ الخافقين بضيائه ، فتلقّانا في ذلك المكان جماعة من الأعيان المنتسبين إلى الشيخ العارف علوان (٥) ، وبلغونا سلام ولده الشيخ محمد واعتذروا عن عدم (٦) تلقّيه لنا بأنه أرمد ، وقد تضاعف عليه الرّمد واشتدّ ، لكنه قد صمّم وأكّد أن نحصل في مكان عيّنه لنا وأفرد ، وكانت الحمّى في ذلك الوقت قد اشتدّت ، واحتدمت جدا واحتدّت ، فلم يمكننا وقتئذ إجابة مرامهم ، بل ولا جواب كلامهم ، بل ولا ردّ سلامهم ، فذهبوا ثم عادوا وقد كثروا وازدادوا (٧) ،

__________________

(١) الوخد : الإسراع في المشي. والذميل : السير اللّين. (القاموس المحيط ٤١٤ ، ١٢٩٥).

(٢) وردت في (ع): «خان سيحون».

(٣) وردت في (ع): «متعوذين».

(٤) وردت في (ع): «و».

(٥) هو علي بن عطية بن علوان الصوفي الشافعي توفي سنة ٩٣٦ ه‍ ، انظر الكواكب السائرة ٢ : ٢٠٦.

(٦) وردت في الأصل : «بعدم» ، وما أثبتناه من (م) و (ع).

(٧) وردت في الأصل : «وزادوا» وما أثبتناه من (م) و (ع).

٣٠٥

وبالغوا في التأكيد وزادوا فلم يمكنني (١) [١٧٢ أ] إلّا المضي معهم إلى حيثما أرادوا ، ولم تزل أهل محلّته يوافونا في الطريق زمرا ، ويفدون علينا نفرا فنفرا ، إلى أن نزلنا في ذلك المكان ، وهو بالقرب من ضريح الشيخ علوان ، فتلقّانا ولده بالسلام ، وبالغ في الترحيب والإكرام ، وأقمت عنده ثلاثة أيام ، آخرها يوم الاثنين ثالث عشرين الحجّة الحرام ، أجتلي في تلك الأيام وأجتلب ، وأجتني ولا أجتنب ، وأقتني لكل ما أحب : [من البسيط]

فالكفّ عن صلة والأذن عن حسن

والعين عن قرّة والقلب عن حائر (٢)

فوجدته درّة بين النّاس مغفلة ، وخزانة (٣) على كل فائدة مقفلة ، وهدية من الدهر الضنين محتفلة ، وحسنة من الدهر (٤) الكثير العيوب ، ونوبة من الزمن الجمّ الذنوب ، بما (٥) شئت من أدب يتألق (٦) ، وفضل تتعطر به النسمات وتتخلّق ، ونفس كريمة الشمائل والضرائب ، وقريحة يقذف بحرها بدرر الغرائب وجواهر الرغائب ، إلى خشية لله تحول بين القلوب وقرارها ، وتثني النفوس عن اغترارها ، ولسان [١٧٢ ب] يبوح بأشواقه ، وجفن يسخو بدرر آماقه ، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب ، ومن يمت إلى أهل الديانة والعبادة بسبب ، مع نزاهة عن الدنيا ، وهمّة نيطت بالثريّا ، ولهجة ترقوق فيها ماء البشر فأحيا وحيّا ، ومحاضرة مستفزة (٧) للحلوم ، ودعابة ما

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «يمكني».

(٢) البيت في معاهد التنصيص ٣ : ١٣٩ للشاعر الوادعي الكندي ، وروايته :

فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن

(٣) وردت في (ع): «حماية».

(٤) وردت في (م) و (ع): «العصر».

(٥) وردت في الأصل : «ما».

(٦) وردت في (ع): «متألق».

(٧) وردت في (ع): «مستقرة».

٣٠٦

خالع العذر معها بملوم ، قد نشأ على عفّة وصيانة وأمانة وديانة ، فعظّم الله شأنه ، ورفع بالعلم والعمل مكانته ومكانه ، وأعلى به منار الهداية ، ورزق الناس الانتفاع به في البداية والنهاية ، فازدحموا على مورده والمورد العذب كثير الزحام ، والتأموا بمعهده وحيث الكرم يزدحم الأنام (١) ، وأنشدوا لذي مشهده : [من الوافر]

لقد حسنت بك الأيام حتّى

كأنك في فم الزمن ابتسام (٢)

لم يزل يقطع الليل ساهرا ، ويهش للجميل مبادرا ، ويقطف من العلم أزاهرا ، ويجمع إلى شرف الخلال خلال الشرف ، ويقيم بشرفه في الخبر الحجّة على من قال لا خير (٣) في الشرف ، ويعمر بالحسنات [١٧٣ أ] إناءه ، ويتبع في القربات آباءه ، بانيا كما بنوا ، وباديا من حيث انتهوا. فهو حبر الأكارم ، وبحر (٤) المكارم ، وتاج المفاخر ، وحجّة المفاخر ، ودليل كم ترك الأول للآخر ، ولقد سبرت أحواله ، وخبرت أفعاله وأقواله ، فرأيت وشاهدت وعندما حمدت مشاهدي أنشدت : [من الطويل]

وما زلت في الأخبار (٥) أسمع عنكم

حديثا كنشر المسك إذ يتضوع

فلمّا تلاقينا وجدت محاسنا

من الفضل أضعاف الذي كنت أسمع

فلم أزل ملازما حلاله ، متأملا جلاله ، ومستحسنا خلاله ، وكأنني ما عملت

__________________

(١) وردت في (م): «الكرام».

(٢) البيت لابن الأبّار : الديوان ٤٥٨ ، وفي تاج المفرق ١ : ٢٠٦ بلا عزو.

(٣) هذه الكلمة ساقطة من (ع).

(٤) وردت في (ع): «عز».

(٥) وردت في الأصل : «للأخبار».

٣٠٧

الرحلة إلّا له ، إلى أن فجر (١) الفراق ، وما رق وما راق ، وتهيأ نفرنا ، وتأتّى سفرنا ، وأزفت النوى ، وأثارت الجوى ، فأخذت في الوداع ، وشاع خبر الجواز وذاع ، ولما استقلت نحائب الرفاق ، وتهادينا تحف الأشواق ، وتشاكينا روعة الفراق. وشددنا الأقتاب والأقتاد (٢) ، وأعددنا الأهبّة والزاد ، فبالغ في الإنعام واعتذر ، وزود حتّى (٣) لم يذر ، ثم خرج لوداعي إلى ظاهر البلدة ، ومعه من أعيان [١٧٣ ب] أهل محلّته عدّة (٤) ، وكذلك الشيخ الإمام البحر الهمام الحسيب النسيب ، الآخذ من صدق المحبّة (٥) وصفاء المودّة بأوفر نصيب. ذو الإخلاص والصفاء ، والصدق والوفاء ، مولانا السيّد أبو البركات وفا ، هو وبعض أخوته ، وغالب أهل محلّته ، وذلك كما (٦) مضى يوم الاثنين ، ثم سرت أذري دمع العين ، وآسي لشمل لا ينفك من روعة البين ، وآسف لعهد كنت إليه استنمت ، ولعيني في ظله أنمت ، فيا لله كم سربلتني النوى سقما ، وأصارت في عقلي لمما (٧) ، وألبست جسمي مرضا ، وسربلت قلبي من عناء ، ثم جددت الوداع لذينك المحبين. وتجرّعت من فراقهما ما ليس بالهيّن ، وأنشدت موجع الجنان مغروق الأجفان : [من الكامل]

ما أنصفتني النائبات رمينني

بمودّعين وليس لي قلبان

ثم حلفت عليهما وعلى من معهما بالرجوع ، واندفعت أنشد في تلك (الربوع ، وقد بلّ الثرى وبل تلك الدموع) (٨) : [من الكامل]

__________________

(١) وردت في الأصل : «فجي».

(٢) القتب : رحل صغير ، والقتد خشب الرحل.

(٣) وردت في (ع): «حين».

(٤) هذه الكلمة ساقطة من (ع).

(٥) وردت في (ع): «الهمّة».

(٦) هذه الكلمة ساقطة من (ع).

(٧) وردت في (ع): «لهما».

(٨) ما بين القوسين ساقط من (ع).

٣٠٨

ما ذا وقوفك والركاب يساق

أين الجوى والمدمع المهراق [١٧٤ أ]

ألغير (١) هذا اليوم تخبىء أم ترى

بخلت عليك بمائها الآماق

حق وقد رحلوا بقلبك والكرى

إنّ النواظر لا الدموع تراق (٢)

ثمّ أخذنا نسير ، ونجدّ في المسير ، إلى أن وصلنا إلى الرّستن ، وقد اختفى النهار وأكمن ، وتستّر حسب ما أمكن ، ونادى منادي العشاء وأعلن ، وأقمنا بها إلى أن هرول الليل ، وشمّر لذهابه الذيل ، فأعملنا الركاب ، وأخذنا في الذهاب ، وشرعنا في أسباب الإياب ، وذلك ليلة (٣) الثلاثاء رابع عشرين الحجّة إلى أن بان (٤) وجه المحجّة ، وأقام بوجود الفجر الحجّة ، ثم بدت الشمس من المشرق ، وانجلى وجه بشرها (٥) المشرق ، فمررنا على مدينة حمص مصبحين ، ونزلنا بظاهرها في ذلك الحين ، ثم جدّدنا عهدا بمعاهدها ، وزرنا بظاهرها قبر خالدها ، وافتقدنا بها من سراة الناس الشيخ عبد القادر بن الدّعاس (٦) ، فأخبرنا بسكناه الأرماس ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم. وهذا حال الدنيا لم تزل بأهلها [١٧٤ ب] لاعبة ، ولنفوسهم ونفائسهم بيد منونها سالبة ، وخيل مناياها ما فتئت راكضة ، بين ذاهب وذاهبة : [من الوافر]

__________________

(١) وردت في (ع): «العين».

(٢) الأبيات في تاج المفرق ١ : ١٦٨ بلا عزو.

(٣) وردت في الأصل : «يوم» والتصويب من (م) و (ع).

(٤) وردت في (م) و (ع): «وضح».

(٥) وردت في (ع): «نشرها».

(٦) تقدّم التعريف به في مطلع الرحلة.

٣٠٩

فأولها وأوسطها عناء

بلا فصل وآخرها فناء

ومع هذا فالغبطة بها شديدة ، والآمال فيها مع العلم بأنها دار البلى جديدة ، حتّى كان حقيقة ما يعلم من استحالتها ارتياب ، والرحلة عنها إليها إياب ، لقد حقّ أن يرفضها البصير ، ويستعدّ لما إليه يصير. ونسأل الله في هدايتنا (١) فنعم المولى ونعم النصير ، ألهمنا الله طريق إرشادنا ، وأعاننا على الاستعداد لمعادنا ، وقضى في العاجل والآجل بإسعادنا ، إنّه على كل شيء (٢) قدير ، وبالإجابة جدير.

فأقمنا بتلك المدينة ذلك النهار بتمامة ، ثم ليلة الأربعاء إلى أن كشف القمر عن لثامه ، ومدّ نوره على خراب ذلك المكان وأكامه ، وبلغ من اعتلائه أقصى غاية مرامه ، فأخذنا في التّرحال ، وشدّدنا الأحمال على تلك الجمال ، فبلغ السير وقت [١٧٥ أ] الضحى وانتهى إلى قرية حسية (٣) وقيلنا بها. ثمّ سرنا قاصدين بلدة قارا (٤) ، وقطعنا فيافي وقفارا ، وبراري وصحارى ، إلى أن مال النهار كل الميل ، وأقبل الليل إقبال السيل ، ومدّ خيامه وسرادقه ، وزين بالزهر مغاربه ومشارقه ، فوصلنا حينئذ تلك المدينة ، وحصل بها الاستقرار والطمأنينة ، وهذه المدينة مدينة قديمة (البنيان ، واسعة الأركان) (٥) بها آثار مقيمة ، وبعض عمائر عظيمة. سامية الأرجاء ، واسعة الفناء ، موضوعة على نسبة حسنة في الاعتدال والاستواء ، رائقة الموضوع ، بديعة المجموع ، كوكبها يقظان ، وجوها عريان ، وروضها فريج ، ونسيمها أريج ، ما شئت من منظر عجيب ، وجانب رحيب ، وبسيط خصيب ، يزهو بالحسن المحض ، والنور

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «هدايته».

(٢) وردت في (ع): «على ما يشاء».

(٣) بلدة تقع جنوب حمص وتبعد عنها نحو ٤٠ كم تقريبا.

(٤) ويقال قارة ، وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق ، وتبعد عن دمشق مسافة ٩٥ كم تقريبا. (معجم البلدان ٤ : ٢٩٥ ، أخبار الدول ٣ : ٤٤٤).

(٥) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع).

٣١٠

الغضّ ، وناهيك ببلاد الشّام شامة الأرض ، كما قال عرقلة الدّمشقيّ : [من الكامل]

هذا هو الزمن الربيع المؤنق

والعيشة الرّغد التي هي تعشق[١٧٥ ب]

فعلام تصحو والحمام كأنّها

سكرى تغنّي تارة وتصفّق

وتلوم في (١) حبّ الدّيار جهالة

هيهات يسلوها فؤاد شيّق

والشّام شامة وجنة الدّنيا كما

إنسان (٢) مقلتها الغضيضة جلق

من آسها (٣) لك جنّة لا تنقضي

ومن الشّقيق جهنّم لا تحرق

في نيرب ضحكت ثغور أقاحه

لمّا بكاها العارض المتدفق (٤)

فأرحنا بها تعب الأبدان ، وتلقّانا بها جماعة من الأعيان ، وقدموا ما حضر من ميسورهم (٥) ، وسألونا في النزول بدورهم ، فاعتذرنا عن ذلك ، ولم نزل هنالك في ذلك المجلس النفيس ، إلى أن ولّى يوم الخميس ، فعنّ لنا المسرى في اليلة الغرّاء ، فأخذنا نجوب تلك الصحراء ، إلى أن وصلنا إلى بلدة النّبك (٦) فجرا ، فبادرناها (٧)

__________________

(١) ساقطة من (ع).

(٢) وردت في (ع): «أن إنسان».

(٣) وردت في (ع): «مرآتها».

(٤) الأبيات موجودة في ديوان عرقلة الكلبي ٦٨.

(٥) وردت في (ع): «منشورهم».

(٦) قرية بين حمص ودمشق ، فيها عين عجيبة ، باردة في الصيف ، قيل : مخرجها من يبرود (معجم البلدان ٥ : ٢٥٨).

(٧) وردت في (ع): «فبادرنا».

٣١١

بصلاة الفجر ، واغتنمنا بتعجيلها للأجر ، ثمّ هدأنا هدأة الوصيب ، ووسنا سنة النصيب ، فلم نفق إلّا والشمس قد طلعت ، وارتقت لذروتها وارتفعت ، فحللنا بحلال ، فأصلحنا الأحوال ، وتجهّزنا للارتحال ، فوصلنا إلى القطيّفة (١) وقت الزوال ، [١٧٦ أ] وهي قرية عامرة ، ذات خيرات وافرة ، وغلال متكاثرة. فيحاء الضواحي ، جميلة النواحي ، مخضرّة الأرجاء ، فضيّة الأنحاء ، وهي من وقف المرحوم السعيد وليّ الله تعالى الملك العادل نور الدّين الشهيد ؛ من جملة أوقافه على المرستان ، وهي الآن في ذخيرة السّلطان ، فأنخنا بها من عطن ، وقد أشرفنا بحمد الله على الوطن. وأقمنا بها إلى العصر ، وقد زال العناء والحصر ، وحصل الجبر والنصر ، ثمّ سرنا قافلين عن أوطار بحمد الله مقضيّة ، ومساع بفضل الله مرضيّة.

ولم نزل نجوب في تلك البريّة ، إلى أن وصلنا إلى قرية القصير (٢) عشية ، فنزلنا بها واليوم في سن الاكتهال ، وأيدينا مرتفعة بالشكر لله تعالى والابتهال ، وهي قرية حسنة ، ودمنة مستحسنة ، طيّبة الهواء ، مشرقة الأضواء. جمّة الخيرات ، طيّبة النبات ، كاملة الأذوات ، فهي بغية النفس ، وغاية الأنس ، ومنية الطرف ، ومسرح الطرف ، وسلوة الخاطر ، ونزهة الناظر ، من حيث استقبلتها أشرقت [١٧٦ ب] وكيف ما لمحت أساريرها (٣) برقت : [من الطويل]

بلاد (٤) بها الحصباء درّ وتربها

عبير وأنفاس الرياح (٥) شمول

__________________

(١) القطيّفة : قرية تقع في طرف البريّة من ناحية حمص ، على طريق القاصد من حمص إلى دمشق ، وتبعد عنها نحو ٤٠ كم. (معجم البلدان ٤ : ٣٧٨ وصبح الأعشى ١٤ : ٣٨١).

(٢) القصير : تصغير قصر ، بلدة صغيرة بالغوطة الشرقية ، وهي أول منزل لمن يريد حمص من دمشق ، أنظر : معجم البلدان ٤ : ٣٦٧. أخبار الدول ٣ : ٤٤٤ وصبح الأعشى ١٤ : ٣٨١.

(٣) وردت في (ع): «إشارتها».

(٤) في الديوان : «الشمال».

(٤) في الديوان : «الشمال».

٣١٢

تسلسل فيها (١) ماؤها وهو مطلق

وصحّ نسيم الرّوض وهو عليل (٢)

فبتنا بها ليلتنا ، ونقعنا (٣) فيها غلتنا ، وأبدلنا فيها علّتنا ، وقد اشتدّ الشوق والهيام ، وتضاعف التلهف والغرام ، وطرد عن أعيننا تلك الليلة المنام (٤) : [من الوافر]

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام (٥)

وكلّما قيل غدا تدنو الدار ، ويقرب المزار ، طربت على السماع ، وانتشيت برقبى الاجتماع ، وكفكفت العبرات ، وتمثّلت بهذه الأبيات : [من السريع]

قالوا غدا تدنو فواحسرتا

لو أن بالعمر غدا يشترى

يا ليلة قد بقيت هل أرى

أحمد في صبح دجاها السرى

أسمع بالقرب ولكنني

لا تنطفىء ناري حتّى أرى (٦)(٧)

__________________

(١) في الديوان : «ديار».

(٢) البيتان لشرف الدّين محمد بن نصر المعروف بابن عنين وهي في ديوانه ص ٦٩ وفي تاج المفرق ١ : ٢٤٠ بلا عزو.

(٣) وردت في الأصل : «منها».

(٤) وردت في (ع): «ونفقنا».

(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٦) البيت في تزيين الأسواق ص ٣٢ بلا عزو.

(٧) الأبيات في تاج المفرق ٢ : ٢٨٠ بلا عزو.

٣١٣

ولم أزل أرقب النجم أنّى سار ، تارة عن اليمين وأخرى عن اليسار ، وطورا في ارتفاع وحينا في انحدار : [من الكامل]

أرأيت ما قد قال لي نجم الدجى[١٧٧ أ]

لما رأى طرفي يديم شهودا (١)

حتام ترمقني بطرف ساهر

أقصر فلست حبيبك المبعودا (٢)

واستمريت أرقب مواقع النّجوم ، وأترصّد ثواقب (٣) الرّجوم ، وأنتظر ابتسام الليل بعد الوجوم ، وهو لا يزداد إلّا تماديا ، وكلّما استعجلته في السرى أراني تباطئا ، وكلّما رآني نشطا ازداد توانيا : [من البسيط]

فمن كان يحمد ليلا في تقاصره

فإن ليلي لا يرجى له سحر

لا تسألوني إلّا عن أوائله

فإنّ آخر ليلي ما له خبر (٤)

فلم أزل أسارقه عقله ، وأحاول منه غفلة ، إلى أن مال ميلة ، فاغتلته غيلة ، وأبخسته كيله ، ولم أعطه نيله (وجلت عليه جولة ، ولم أبق له حيلة) (٥) فحينئذ أسرج خيله وشمّر للفرار ذيله : [من الطويل]

وولت نجوم للثريّا كأنها

خواتيم تبدو في بنان يد تخفى

__________________

(١) وردت في (ع): «مشاهدا».

(٢) وردت في (ع): «المتباعدا».

(٣) وردت في (ع): «مواقت».

(٤) ورد عجز البيت في (م) و (ع): «فآخر الليل ما عندي له خبر».

(٥) ما بين القوسين كتب في (م) على الهامش ، وسقط من (ع).

٣١٤

ومرّ على آثارها وبراتها

كصاحب ورد أكمنت خيله خلفا

وأقبلت الشعرى العبور بلبه

بمرزمها اليعبوب تجنبه طرفا

كأنّ بني نعش ونعشا عطائل

بوجره قد أظلوا في مهمةخشفا [١٧٧ ب]

كأنّ سهيلا في مطالع أفقه

مفارق ألف لم يجد بعده الفا

كأنّ سهاها عاشق بين عود

فآونة يبدو وآونة يخفى

كأنّ الهزيع الأبنوسي وهنة

سرى بالنسج الخسرواني ملتفا

كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلة (١)

صريع مدام بات يشربها صرفا

كأنّ السّماكين اللّذين تظاهرا

على لبدتيه ضامنان له الحتفا

كأنّ فعل قطبها فارس له لواءان

مركوزان قد كره الزحفا

تشبيه آخر : [من الطويل]

كأنّ الدجى لمّا تولّت نجومه

مدبر حرب قد هزمنا له صفا

كأنّ عليه للهجيرة روضة

مفتّحة الأنوار أو نثره زعفا

__________________

(١) وردت في (ع): «ميله».

٣١٥

كأنّا وقد ألقى إلينا هلاله

سلبناه جاما أو قصمنا له وقفا

كأنّ السهى إنسان عين غريقة

من الدمع تبدو كلما ذرفت ذرفا

كأن سهيلا فارس عاين الوغى

ففر ولم يشهد طرادا ولا زحفا

كأنّ سنا المريخ شعلة قابس

تخطفها عجلان يقذفها قذفا (١)

كأنّ أفول البيد (٢) طرق تعلقت

به سنة ما هبّ فيها ولا أغفى [١٧٨ أ]

فلمّا بقي من الليل القليل ، أخذنا في التحميل ، وسألنا من الله التيسير والتسهيل ، ثمّ شرعنا نسير في تلك الهضاب ، ونجول في هاتيك الشعاب ، إلى أن تمزّق من الليل الجلباب ، وتقشّع ظلامه وانجاب ، وظهر الفجر من الحجاب ، ومدّ من سرادق ضيائه على الوجود الأطناب ، (وافترّ ثغر الضوء في وجه ذلك الجوّ) (٣) ، وأقبل الصبح مبشرا بالاجتماع ، كما كان منذرا بالفراق في حالة الوداع ، فشكرت سعيه إذ ذاك ، وأنشدت وأنا باك : [من المضارع]

شكرت سعي الصباح لمّا

وافا بشيرا بالاجتماع

وقلت غفرا لما جنته

يداك في حالة الوداع

__________________

(١) سقط هذا البيت والذي يليه من (ع).

(٢) وردت في (م): «النشر».

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).

٣١٦

فلمّا لاح ابن ذكّاء (١) والتحف الجوّ بالضياء هبّ علينا نسيم تلك الديار (٢) ، وقابلنا وجهها بالاستبشار ، فطار القلب كل مطار ، وجادت العين بالدمع المدرار ، وأنشدت في تلك الأقطار والدمع يستوقف القطار (٣) [١٧٨ ب] :

هبت سحرا فنبهت وسواسي

نشوى خطرت عليلة الأنفاس

أهدت أرج الرجاء بعد اليأس

ما أحسن بعد وحشتي إيناسي

وما برحنا نلتحف من تلك البقاع برودا ، ونقابل من هضابها نهودا ، ومن رباها أعينا وخدودا ، ونلتمس منها معاهد وعهودا ، وقد برز إلى الملتقى سائر الأصحاب والأصدقاء ، ولم يزالوا يتواردون إليّ ، ويطيلون التسليم عليّ ، وقد استطارت صدوع كبدي من الحنين إلى ولدي ، فلم يكن بأسرع من إقبال المبشر بقدومه ، ثمّ اجتلاء طلعته مع تسليمه (٤) ، فأرسلت الدموع (٥) تترى ، وحمدت الله تعالى شكرا ، وأنشدت لبعضهم شعرا :

عينيّ دمعت مسرة بالجمع

قالوا مهلا ما في البكاء من نفع

دع عينك تستغنم منهم نظرا

ما ذا زمن تشغلها بالدّمع (٦)

__________________

(١) ابن ذكاء : هو الصبح ، ويقال للشمس ذكاء ، والصبح من ضوئها.

(٢) وردت في (م) و (ع): «الدار».

(٣) القطار : السحاب الكثير القطر أي المطر.

(٤) وردت هذه العبارة في (م) و (ع): «ثم اختلاط لعبه مع تسليمه».

(٥) وردت في (م) و (ع): «دموع العين».

(٦) سقطت هذه الأبيات من (ع) وكتبت في (م) على الهامش. وهي ممّا ينسب إلى الملك أبي الفداء صاحب حماة ، انظر : تاج المفرق ٢ : ١٣٢.

٣١٧

وكان من جملة الملتقين إلى ذلك المكان من الأصحاب والأصدقاء والخلّان ، الشيخ الإمام الأوحد ، والحبر الهمام الأمجد [١٧٩ أ] فخر السّنّة والملّة ، وإمام الأئمة الجلّة ، ولي الله الكريم عليه ، المنقطع إليه ، المنتفع بالقراءة (١) والتلاوة بين يديه. أجلّ العلماء العابدين ، وأنبل الأولياء الزاهدين ، وأحفل الفقهاء الماجدين ، الشيخ أبو العبّاس أحمد شهاب الدّين العريقي الأصيلي المعروف نسبه بالميلي (٢).

والشيخ الفقيه العالم النبيه الحبر الأوّاه الخاشع لله ، العالم العلّامة والحافظ الفهّامة ، خير الأخيار وحبر الأحبار ، ذو الفضل المتين ، والعقل الرصين ، الشيخ محمد شمس الدّين العجلونيّ الريمونيّ (٣).

والشيخ الأفضل الأوحد الأكمل ، عين الأصحاب ، ورأس الأحباب ، ذو الحكم الظاهرة ، والشيم الطاهرة ، والنباهة (٤) الحاضرة ، والنزاهة التي أذعنت لها الدنيا وترجى لها الآخرة ، ذو الفضل المبين ، والعقل المتين ، الشيخ أبو المحاسن يوسف جمال الدّين بن خضر الشّافعيّ الصّوفيّ القادريّ.

(والشاب الفاضل العالم الكامل ، ذو [١٧٩ ب] الأعراق الزكية ، والأخلاق المرضية ، الكثير المحاسن ، القليل المساوىء ، الشّمس محمد بن الحمزاويّ) (٥).

والشيخ الفاضل والعالم العامل (٦) المهذّب الأخلاق ، الطيّب الأعراق ، ذو المحبّة الصادقة ، والأخلاق الموافقة ، ذو المحل الأسمى ، المطابق منه الاسم المسمّى ، خير

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

(٢) وردت في (ع): «العريق الأصيل المعروف نسبه بالميل» ، وانظر : الكواكب السائرة ٢ : ١٢٠ ، ٣ : ١٢٢.

(٣) هو محمد بن إسماعيل بن محمد الشافعيّ ، توفي سنة ٥٥٩ ه‍ ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ٢٧ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٤٤١.

(٤) وردت في (ع): «والشاهد».

(٥) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع). وصاحب الترجمة هو : محمد بن أحمد بن أحمد ، انظر الكواكب السائرة ٢ : ٢٧.

(٦) وردت في (م) و (ع): «الكامل».

٣١٨

التلاميذ ، ورأس الأسانيد ، اللابس من التقوى خير لباس ، المحبّ ابن الزّرخوني القوّاس (١).

والشيخ العلّامة الإمام الفهّامة ، الحبر المجيد ، الباحث المفيد ، الأوحد الفريد ، ذو الفضل البارع ، والذكاء الصادع ، الطيّب الموارد والمشارع. الآتي من ذكائه بما تقضى (٢) منه العجب ، الشيخ زين الدّين الحمويّ المسمّى برجب (٣).

والشيخ العالم الإمام الأوحد الأمجد الهمّام ، المرتقي بفضله إلى أعلى مقام ، المفنّن (٤) في العلوم ، والمتبحّر في المنطوق والمفهوم ، ذو الخلق المعتدل والطبع المستوي ، الشيخ علاء الدّين ابن أبي [١٨٠ أ] سعيد الحموي (٥).

والشيخ العالم المحقّق ، الفاضل البارع المدقّق ، البعيد الهمم ، الزكي الشيم ، الراسخ القدم ، ذو الذهن الثاقب ، والفكر الصائب ، المتقدّم على أكثر من يدرس ويفتي ، الشيخ شمس الدّين محمد الجبرتي.

والشيخ الفاضل ، والعالم العامل ، الأوحد الكامل ، الأصيل (٦) الجليل ، الحسيب النبيل ، الرئيس النفيس الكامل المروة والتام الفتوّة ، ذو المناقب التي يحدّها ذكاء ، والفعال (٧) التي في غيرها قطع الشركا ، والأصول التي من فروعها سرى الحسب والزكا العضيدي الذخري ، الشيخ بدر الدّين البكريّ.

__________________

(١) هو محمد بن عبد الجليل بن محمد ، توفي سنة ٩٦٤ ه‍ ، وترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ٤٠ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٤٩٨.

(٢) وردت في (ع): «يفضي».

(٣) هو رجب بن علي بن أحمد الشهير بالعزازي توفي سنة ٩٦٠ ه‍ ، وترجمته في الكواكب السائرة ٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٤٧٠.

(٤) وردت في (ع): «المعين».

(٥) هو علي بن محمد بن حسن الحموي المشهور بابن أبي سعيد توفي سنة ٩٤٠ ه‍ ، وترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٩٩ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٢٣٩.

(٦) وردت في (ع): «الدّين».

(٧) وردت في (ع): «والعقل».

٣١٩

والشيخ الصّالح الكامل العابد الزاهد العامل (١) المحبّ الصادق ، والخلّ الموافق ، ذو الإخلاص والصفاء ، والصدق والوفاء ، اللاهي بربه عن الملاهي ، الشيخ الصّوفيّ عبد الكريم الأمياهيّ (٢).

والشيخ الفاضل البارع الكامل العالم العامل ، ذو المناقب والشمائل ، الحافظ اللافظ ، المذكّر الواعظ ، الحسن السمت ، الطيّب النعت [١٨٠ ب] ذو الدّين الثخين (٣) ، والعقل المتين ، والفضل المبين ، قرّة عين المحب وسخنة (٤) عين العادي ، الشيخ أبو الحسن علاء الدّين ابن (٥) البغداديّ ، وغيرهم من المحبين والأصحاب المتوددين ، والتلامذة المترددين ولم يزالوا يفدون زمرا ويردون نفرا فنفرا.

فلمّا كثر المترددون والمنتابون ، وقد وصلنا إلى محلّة القابون (٦) ، نزلت من المحارة في رأس تلك الحارة ، وامتطيت صهوة جوادي ، وقد قوى فؤادي عند مشاهدة بلادي ، وظهرت للصحة إن شاء الله بوادي. فياله من طرف أشهب ، قد اختصر من بالغ في وصفه وأسهب ، مريع (٧) رائق ، لاحق سابق ، مطلق الجرائد ، قيد الأوابد ، يلوح كالصباح ، ويسابق الطرف ويباري الرماح ، ويمرح بين اختيال وارتياح ، وارتجاج وارتجاح. تستوقف اللحظات (٨) في حضرته برقة حسنه وكمال خلقته. ذي نخوة شمخت به عن نده ، وشهامة طمحت به عن ضده ، [١٨١ أ] فهو الأشمط الذي حقه

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «الكامل».

(٢) عبد الكريم بن عبد اللطيف بن علي ، توفي سنة ٩٤٠ ه‍ ، وترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٧٨ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٣٣٨ وفي كليهما : «المياهي».

(٣) وردت في (ع): «السمين».

(٤) وردت في (ع): «ونتيجة».

(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٦) القابون : موضع بينه وبين دمشق ٤ كم ، في طريق القاصد إلى العراق. انظر : معجم البلدان ٤ : ٢٩٠ ، صبح الأعشى ٤ : ١٩٥.

(٧) وردت في (ع): «رائع». ومعنى مريع : خصيب.

(٨) وردت في (ع): «للخطاب».

٣٢٠