المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

لك الإله أودع

يا أيها المودّع

مؤملا من فضله

شملي بكم يجتمع

فالقلب قد أذابه

حرّ الفراق الموجع

وماؤه ما قد جرى

من أدمع لا تقلع

فما يرى من زفرتي

دخان المرتفع

فغلب علينا من الشجون ما نزع القلب من الصدر أو كاد ، حتى قطع علينا ترادف البكاء ذلك الإنشاد ، ثم غيض كل منّا دمعه المنهمل ، وإن لم يستطع إطفاء ما بقلبه المشتعل ، وأنشدني ما هو له يرتجل (١) : [من مخلّع البسيط]

أستودع الله منك مجدا

أصبح بين الأنام فردا [١٥٤ أ]

أستودع الله منك ذاتا

بكل ما في الوجود تفدى

أستودع الله منك جودا

بجوده المعصرات أعدى

أستودع الله منك ركنا

أضحى لمن يرتجيه رفدا

أستودع الله منك طبعا

صفا لمن ينتحيه وردا

__________________

(١) من عبارة : «وأسرج جواد الأوبة» إلى هنا بياض في (ع).

٢٨١

أستودع الله منك بشرا (١)

لنجح راجيه قد تصدّى

أستودع الله منك ذاتا

أدلّ من شارق وأهدى

يا سائرا والقلوب تسري

بسير لا يطيق بعدا

والصبر لم يبق منه إلّا

ما لم يطق للهيام ردا

لو لا رجاء اللقاء كادت

تهد منّا القلوب هدّا

فهو لها كالغذاء يحيي

نفوسنا بالمنى ممدا

فسر قربنا لكل خير

مصاحبا دولة وسعدا

وصحة لا تزال تكسو

ذاتك مما تحوك بردا

لا تشتكي في النهار حرا

ولا بجنح الظلام بردا [١٥٤ ب]

لموطن السعد في أمان

تزداد عزا به ومجدا

والوقت في غاية اعتدال

وطالع السعد قد تبدى

أعظم بها سفرة وسيرا

أكرم بها وجهة وقصدا

__________________

(١) وردت في (ع): «مسدا».

٢٨٢

صحبت برا وأنت بحر

والجود والبر منك مدّا

فياله من قران سعد

حاسده بالردى تردا (١)

لا عدمت مجدك المعالي

ولا رأت من علاك فقدا

وسرت في دولة وأمن

ما حمد الحامدون حمدا

ثم كررنا الوداع خارج المدينة ، وعضدي بيده الكريمة ، إلى أن أصعدني السفينة ، ثم شمّر ذيله ومضى ، وأودع قلبي جمر الغضا ، (ثم تورّكنا على المطية الدهماء ، ونبطنا الولية الماشية على الماء) (٢) ، ثم رفع (٣) شراع السفينة ومرساها ، وقلنا لأصحابنا (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٤) ، ثم سارت بنا من تلك المرسى وسرت فيها وأنا [١٥٥ أ] أكفكف أمطار الدموع ، وأخلب المدينة لأجل من فيها بالطرف الوامق والقلب الولوع ، ولم أزل أتبعه ويتبعني بالصبر ، الى أن غاب كل منّا عن النظر : [من مجزوء الرّمل]

وقد علاني وعراني بعد حبي خبل

وكل من خاطبني قلت له قد رحلوا

يقول من أبصرني وسوس هذا الرجل

(وتلك السفينة تهفوا بقوادم غربان ، وتعطف بسوالف غزلان ، وتنساب في

__________________

(١) وردت في (ع): «حردا».

(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٣) وردت في الأصل : «شرع».

(٤) سورة هود آية ٤١.

٢٨٣

الجناب كالحباب ، وتحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب) (١) ولم تزل بنا تسير وتمور ، وتنجد بين الأمواج وتغور ، ونحن كما قال الشريف أبو القاسم (٢) شارحا مقصورة حازم : [من الكامل]

وغريبة الإنشاء سرنا فوقها

والبحر يسكن تارة ويموج (٣)

عجنا نؤمّ بها معاهد طالما

كرمت فعاج الأنس حيث تعوج (٤)

وامتدّ من شمس الشروق أمامنا (٥)

نور له مرأى هناك بهيج

فكأن ماء البحر ذائب فضة

قد سال فيه من النضار خليج (٦)

وسرنا بعزم لا يفك جدّه ، ولا يتجاوز حدّه ، وحزم لا يثنى رسنه ، ولا يلم بعين وسنه ، وجزم لا يبلغ مجتهد جدّه [١٥٥ ب] ، ولا تعتري العجز والتواني جده ، وتلك الجارية المنشية تتبختر بنا على سبط البحر تبختر الجارية الناشية على بسط البرّ الى حين انتصاف ذلك النهار ، فوصلنا إلى مرساة بلدة أسكودار ، ونزلنا في عمارة داخل البلد ، وأقمنا بها إلى وقت صلاة الجمعة من الغد ، فصلينا الجمعة بتلك البقعة ، ثم أسرعنا إلى التحميل مبادرين ، وبادرنا إلى الرحيل مسرعين ،

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٢) هو محمد بن أحمد الشريف الغرناطي المتوفى سنة ٧٦٠ ه‍ وشرحه على المقصورة سماه «رفع الحجب المنشورة على محاسن المقصورة».

(٣) هذا البيت ساقط من (ع).

(٤) وردت في (ع): «يفوح».

(٥) وردت في (ع): «أمانيا».

(٦) الأبيات موجودة في معاهد التنصيص ٢ : ٩٨.

٢٨٤

ولم نزل نفري أديم الثرى ، ونجدب مطي الفيافي بجدب البرى ، إلى أن هرم ذلك النهار ، وكاد جرف اليوم ينهار ، وما بطل السير ولا تعطّل ، حتى أشرفنا على قرية القرطل ، وبتنا بها ليلة السبت رابع عشرين شوال بمكان مشرف عال ، مخضر الجنبات ، طيب النفحات ، مستحسن النبات ، حسن للبيات ، فحين تبدّى النور ، وتكلّم العصفور ، أزمعنا (١) على الترحال ، وشددنا الخيل والأحمال ، واستمر بنا السير متصل الأعمال ، إلى أن وصلنا الى كيكثبزه وقت الزوال ، ودائره البيضاء يتمنى مركز [١٥٦ أ] الزوال ، فأقمنا بها ريثما (٢) نقيل ، ونريح علل الرفاق ونزيل.

ثم رحلنا (٣) منه وسرنا نجدّ في السير ، ونسرع إسراع الطير ، إلى أن جدّ المسير وحمى (٤) الهجير ، فوصلنا إلى ساحل البحر إلى محل التعدّي ، وقد علمنا من تكرر (٥) صحبته ما هو منطو عليه من الجور والتعدّي ، فاخترنا من الجواري المنشئات جارية حالكة السيات ، واستخرنا الله في ركوبها ، ودعوناه في تيسير مرامها ومطلوبها ، ثم حللنا بها وأنسناها ، وتأملنا من الله الرحمة وما آيسناها ، وقلنا لأصحابنا (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٦) ، ثم أسرعت في اندفاعها ، وقد استذرينا تحت ظلّ شراعها : [من الكامل]

فحسبته خوف العواصف طائرا

مدّ الجنان على بنية جناحا

(ولم نزل نسير والبحور هو (؟) والعيش صفو والزمان لهو) (٧) ، حتى إذا كنا

__________________

(١) بياض في (ع).

(٢) بياض في (ع).

(٣) وردت في (م) و (ع): «ترحلنا».

(٤) وردت في (ع): «وحر».

(٥) بياض في (ع).

(٦) سورة هود آية ٤١.

(٧) ما بين القوسين بياض في (ع).

٢٨٥

بالمواسط أمر الله تعالى باجتماع الرياح المختلفة ، وتفريق تلك الواحة المؤتلفة ، فضربنا في البحر يمينا ويسارا ، وسرنا [١٥٦ ب] إقبالا وإدبارا ، وتدفعت (١) الأمواج وعظم الارتجاج ، وعصفت الجنوب ، وعسفت الجنوب ومسي السفر ما كان ، وجاءهم الموج من كل مكان ، فرجفت القلوب وخرست الألسن ، وجرت الرياح بما لم تشته السفن. وقد اشتدت علينا الرياح الغربيّة ، وتحكّمت فينا المياه البحريّة ، ولم نزل في تلك السفينة بين قوادمها وخوافيها ، نلاحظ المنايا حينا وحينا نوافيها ، قد تبدّلنا من ظل علا ومفاخر ، بقفر بحر طامي اللجج زاخر ، ومن صهوات الخيول المسرجة ، بلهوات بحر امتطينا ثبجه ، ولم نزل نعاني أليم الوجد وعظيم التبريح ، إلى أن أذن الله سبحانه بسكون الريح ، ثم أرسينا بعد عناء طويل بمرساة القرية المعروفة بالديل (٢) ، ثم ترحّلنا من تلك المرسى ، وتبدّلنا من تلك الوحشة أنسا ، ونزلنا عند العشية بقرية هناك سكن (٣) ينكجرية ، فبتنا جميعا بها ، ولم نفرق بين ظهر المطر وقبتها ، فلمّا بدا من الفجر سفور ، ونثر للصبح كافور ، [١٥٧ أ] وأحرقت فحمة الليل عنبر الصباح ، وخبا من النجوم الزهر كل مصباح ، ترحّلنا من ذلك المنزل ، وتركنا الراحة عنّا بمعزل ، وسرنا في دربندات ووداة ، كثيرات الأشجار الملتفة والمياه ، إلى (٤) أن تضاحى النهار ، واستبان رونقه (٥) واستنار ، فنزلنا بقرية تعرف بقرية الدّروند (٦) ، بها مياه شديدة البرد ، وأشجار طيبة النشر كالعرار والرند.

__________________

(١) وردت في (ع): «وتدفقت».

(٢) الديل : معناه لسان البحر ، قرية على خليج أوسع من خليج أسكدار. انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٨٨ وذكرها الخياري ١ : ٢٣٧ ، ٢ : ١١١ : أسكلة الديل.

(٣) وردت في (ع): «سكين». وينكجرية : كلمة تركية معناها : الجيش (الجند) الجديد (لطف السحر ـ هامش المحقق ١ : ١٠٨).

(٤) ساقط من (ع).

(٥) وردت في (ع) : رديفه.

(٦) لم نهتد إلى ضبط وتحديد هذا الموضع ولعله ما ذكره القرماني (أخبار الدول ٣ : ٣٧١): «درندة ، مدينة من بلاد الرّوم».

٢٨٦

ثم أخذنا في أهبة الترحال ، ورحلنا منه بعد الزوال ، وسرنا في فياف كثيرة التراب والعجاج ، واسعة الشعوب والفجاج ، شديدة الحرّ والسموم ، (ماؤها بعد قوة محموم ، ونسيمها بعد تنفسه مزكوم ، وسحاب وخير مركوم ، وثوب حميمه مرقوم) (١). ثم انتهينا إلى تلال وأوعار ، وأشجار من شجر البادية صغار وكبار ، إلى أن أشرفنا على بحرة أزنيق ، ذات المنظر الأنيق ، والوجه الشريق ، وهبّ نسيم الروح منبعثا بما به الروح تحيا بعد موت وتبعث ، وعاد إلى الأجسام [١٥٧ ب] رونق حسنها وكادت به تفنى حقيقا وتجدث. (ثم مسينا ساحلها على بساط أخضر ، وأديم أنضر) (٢) ثم لم نزل في طريقنا ذلك نتجوّل على تلك المنازل ، ونتحوّل في هاتيك الخمائل. ودخلنا البلدة والشمس مرضى أصائلها ، والربى معصفرة وصائلها ، ونزلنا بها بعمارة منسوبة للوزير الأعظم الهمام إبراهيم باشا والد عيسى باشا نائب الشّام ، وبتنا بها ليلة الاثنين سادس عشرين شوال ، ونحن في أحسن حال وأيسر بال.

ثم رحلنا عندما اكتهل من الليل الشباب (٣) ، وشمّر ذيله للهرب والذهاب ، وأقبلت تباشير الصباح تترى ، وأخفى الأفق زهرا وأظهر رهزا ، وسرنا ساعة بجانب شاطيء (٤) بركتها ، ثم ارتقينا على كاهل عقبتها ، ثم أظلم الجوّ ، وتراكم النو ، وارتفع الصحو ، وتبدّل بالكدر الصفو ، وهما الغمام ، وأرسلت شآبيب الأمطار كالسهام ، وغلب اليأس على الأمل ، [١٥٨ أ] وقلت : أنا الغريق فما خوفي من البلل ، ولم نزل في صعود وهبوط ، ورجاء وقنوط ، وبسط وقبض ، ورفع وخفض ، لا نرى مفعولا إلّا للفاعل المختار ، ولا نشهد موصولا إلّا وقد انفصل عن صلته وعوائده بلا اختيار ، والحال عن المكاره لا تتميّز ، وقد أحوج ابتداء السير فيها إلى خير انقضائه وأعوز ، فلا ترى إلّا التعجب من هذا النعت ، والتقلّب بين العوج والأمت (٥) ، والأكف مرتفعة

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع) وفي (م) علاه التشطيب.

(٣) وردت في (ع): «أسباب».

(٤) ساقطة من (ع).

(٥) الأمت : الارتفاع.

٢٨٧

بأكيد الدّعاء إلى (القريب المجيب) (١) إله الأرض والسماء ، عسى يحفّ بالعطف بالنقل إلى خير بدل ، وهو سامع للاستغاثة عزوجل ، ثم انقلبت تلك القلبة عند انقلابنا من العقبة ، ثم طلعت الشمس ، ومدّت حبالها الشديدة المرس ، وأفضا بنا السير إلى فضاء واسع ، وقطر شاسع ، وقرى كثيرة ، ونعم غزيرة ، وكان وصولنا ضحوة نهار الاثنين سادس عشرين الشهر ، إلى مدينة [١٥٨ ب] الجديدة المعروفة بينكى شهر ، ونزلنا بخارجها على شاطئ النهر ، في مرج واسع ذي مرعى وزهر ، ثم عزمنا على الترحال وقت الظهر ، وشددنا الأحمال (٢) وامتطينا الظهر ، وسرنا سيرا مجدا لم نأل فيه جهدا إلى أن تهدّم من النهار بنيانه ، وأقبل الليل ولاحت نيراته (٣) ونيرانه ، وأطبق الظلام جفنه وأعرض ، فوصلنا إلى قرية آق بيق ومعناه الشارب الأبيض ، وبها حمام وخان ، وخارجها أشجار كثيرة من السنديان ، وبتنا بها ليلة الثلاثاء سابع عشرين الشهر المذكور ، ثم رحلنا منها حين تقوّضت خيام الدّيجور ، وجرّد الفجر سيفه المشهور ، ولم نزل نجوب تلك الفيافي والقفار إلى تعالي ذلك النهار ، فوصلنا إلى القرية المعروفة بأرمنى بازار ، ونزلنا خارجها بذلك المقعد المار المركب على العين ، وأقمنا هناك إلى ما [١٥٩ أ] بين الصلاتين ، ثم سرنا منه والأبدان (٤) أيضا تعب ، والهاجرة ذات لهب ، ولم نزل نجوب كل تنوفة ، ونقتحم كل مخوفة ، إلى أن قضى اليوم نحبه ، وواصل قرص الشمس غربه ، فانتهينا إلى قرية بوزيك ومعناه التل الأشهب ، وبها عمارة لقاسم باشا الوزير ، أتقن وضعها ورتّب ، وأبدع في عمارتها وأغرب ، فنزلنا بظاهرها بمرج وسيع به أعين وربيع ، وبتنا به ليلة الأربعاء إلى أن سلب الليل خضابه ، وأماط الفجر نقابه ، ثم أخذنا في السير والترحال ، ولم نرث لتلك المطى من الكلال ، ولم نزل نسير ذلك اليوم ، إلى أن حلّ الفطر من الصوم ، ثم شرعنا نشقّ جلابيب الليل شقّا ، ونحاسبه من عمره على ما تبقّى ، إلى أن أفضى بنا السير

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٢) وردت في (ع): «الأرحال».

(٣) وردت في الأصل : «نبراته».

(٤) وردت في (ع): «الابلال».

٢٨٨

إلى قرية تعرف بالسقا ، فنزلنا بها لنكسر سلطان النوم ، ونجبر برعي الأعين ساعة بعض (١) ما نالها من الشؤم ، [١٥٩ ب] ثم سرنا منه عندما تبدّى وجه الفجر في قندس الليل ، وهزم أدهم الليل بأشهب من جياد الخيل ، ثم ابتسم وجه الصباح بعد التعبيس ، عن عشر من الشهر وهو نهار الخميس ، ولم نزل نجوب كل بيداء ، ونقتري كل شجر أو برداء ، إلى أن وصلنا الضحى العالي إلى قرية تعرف بالقالاي (٢) وربما سميت أيضا بالكامالي ، فلبثنا (٣) ساعة بذلك المكان ، ثم سرنا فوصلنا إلى قرية آق وران ، واليوم قد ولّى شبابه ، والمساء قد استحكمت أسبابه ، وذلك ليلة الجمعة ذات الإتمام والكمال لثلاثين من شهر (٤) شوال ، ثم رحلنا منه عندما درّ قرن الغزالة من المشرق (٥) ، وانجلى وجه مرآتها المشرق ، فما تضاحى ذلك النهار حتى حصلنا (٦) بمدينة قرا حصار ، واتفق حصولنا في تلك البقعة ذهابا وإيابا يوم الجمعة ، فنزلنا بها (٧) بعمارتها منزلا مرتضى أعقب بالرضى [١٦٠ أ] وأنس أنسى ما مضى ، وطابت الروح وانبسطت (٨) النفس ، وأنست راحة ذلك اليوم ما اعترانا من تعب الأمس ، واجتمع بنا في ذلك المنزل رجل من الأعيان يقال له الحاج شعبان بن الحاج رمضان ، ثم عمّنا بخيره وميره ، وخدمنا بغسيل وغيره ، وسأل عمن رمى صيدا فأبان منه عضوا أيحل هو والعضو أم لا؟ فأجبت بأنه إن كان الجرح مدفقا ومات في الحال (٩) حلّ العضو والبدن ، وإن كان غير مدفق ومات منه بعد مدّة حرما أو ذبحه

__________________

(١) وردت في (ع): «نقض».

(٢) بياض في الأصل.

(٣) وردت في (ع) : فنزلنا.

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٦) وردت في (م): «دخلنا».

(٧) ساقطة من (ع).

(٨) وردت في (ع): «وانتشطت».

(٩) وردت في الأصل : «للحال» وما أثبتناه من (م) و (ع).

٢٨٩

حلّ هو دون العضو ، فاستملا ذلك الجواب وكتبه ، وابتهج به وأطربه ، وسرّ به وأعجبه.

ثم أقمنا بتلك البلدة ذلك اليوم ليلة السبت (١) مستهلّ شهر ذي القعدة إلى أن حان أول وقت الصوم ، فلما نشر الصبح راياته ، وحيعل (٢) الدّاعي إلى صلاته ، أجبناه مثوبين ، ثم ترّحلنا مؤنبين ، ولم نزل نتابع السير ونواصل ، إلى أن مال المعتدل واعتدل المائل ، (ولم نزل نحثّ في الرحيل ، ونصل [١٦٠ ب] المساء بالصباح والغدو بالأصيل) (٣) فكان بلوغ الغاي في قرية عظيمة تعرف بالشاي (٤) حين هرم النهار وشاخ ، وسكن حره وباخ ، وقد أعيى الركب وباخ ، فنزلنا بها بمرج أفيح ، فيه للعيون مسرح ، وللنواظر مسنح ، وظل دوحات نتفيأ منها الظلال ، عن اليمين تارة وأخرى عن الشمال ، فبتنا به والزهر أنضر من الندى ، في ظل أخضر بارد الأنداء : [من الكامل]

والليل يخفي نفسه في نفسه

والصبح كشّاف (٥) كل غطاء

وكأنما الإصباح تنثر مهرقا

أثر المداد به من الأمساء

فما صحت العيون من نشوة رقادها ، إلّا لتغريد الطيور في أعوادها ، فبادرنا لأداء الفرض مسارعين فما منّا إلّا متوض أو مصل.

ثم رحلنا قاصدين قرية نسق لي ، فوصلناها حين تضاحى النهار ، وتصاحى بعد الإسكار ، وتهلل وجهه واستنار ، فما استقرّ بنا القرار ، ولا ضمّتنا أطراف تلك الدار

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

(٢) الحيعلة : قول «حي على الصلاة» في الأذان.

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع) ، وفي النسخة (م) كتب على الهامش فذهب نصفه.

(٤) وردت هذه العبارة في (ع): «فكان بلوغ الفال في قرية تعرف بالمال».

(٥) وردت في (ع): «لسان».

٢٩٠

حتى عنّ لنا [١٦١ أ] ما يقتضي المسارعة والبدار ، إلى مدينة آق شهر (١) وشهرتها عندهم أقشار ، فوصلنا ذلك اليوم وهو الأحد ثاني الشهر آخر النهار. ونزلنا بعمارة (٢) حسين باشا بها ، وهي عمارة بلغت في المحاسن النهى ، قد كملت في صفاتها ونعوتها ، وبها مياه تجري في مسجدها وبيوتها ، وأقمنا بها بقية ذلك النهار ، ثم ليلة الاثنين ثالث الشهر إلى وقت الإسفار ، ثم رحلنا منها حين أذكت ذكاء (٣) قبتها علينا ، وسفرت فكشفت عن صحبتها إلينا ، وسرنا في ظل ظليل وزهر بليل وهواء صحيح ونسيم عليل إلى أن حان (٤) وقت المقيل ، فنزلنا بمكان يقال له سكت لي أي موضع الصّفصاف ، وأقمنا إلى أن تجاوز (٥) النهار حدّ الانتصاف ، ثم أخذنا في التحميل والترحيل ، ولم نزل بين وخد وذميل (٦) ، وإجازة ميل بعد ميل ، إلى أن وصلنا إلى قرية تلعى حين حان (٧) وقت [١٦١ ب] الأصيل ، وبدت الشمس بلون العليل ، فنزلنا بشاطىء نهرها في ظل دوح ظليل : [من الخفيف]

تحسب النهر عنده تثنى

وتخال الغصون فيه سيل

فبتنا بذلك المنزل بجانب النهر ليلة الثلاثاء رابع الشهر ، فلمّا انفجر فجر ذلك

__________________

(١) آق شهر : مدينة روميّة مشهورة ، تبعد عن قونية نحو ثلاثة أيام شمالا بغرب ، ذكر الرحالة كبريت أنّ معناها القرية البيضاء. انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٩١ ، رحلة الخياري ١ : ٢١٧ ، صبح الأعشى ٥ : ٣٥٢ ، أخبار الدول ٣ : ٣٠٦ ، لسترانج ١٨٤ ، قاموس الأعلام ١ : ٢٦٦.

(٢) وردت في (ع): «بقرية».

(٣) ذكاء : بضم الذال والمد وهي الشمس.

(٤) وردت في (ع): «حال».

(٥) وردت في (ع): «غادر».

(٦) الوخد : الإسراع في المشي. والذميل : السّير اللّين. (القاموس المحيط ٤١٤ ، ١٢٩٥).

(٧) وردت في الأصل : «حتى حان» وفي (ع): «حين حال» ، وما أثبتناه من (م).

٢٩١

النهار ، وهبينا من النوم هبوب نسيم (١) الأسحار ، أخذنا في الترحال ، وشددنا الخيل والأحمال ، وأخذنا نسير ونجدّ في المسير ، إلى (أن رفل عطف اليوم في الثوب النضير ، فوصلنا في) (٢) وقت العصر أو بعده بيسير إلى قرية تعرف بصلاح الدّين ، وربما عجمت الحاء (٣) في لغة الأعجمين ، وأقمنا بها إلى أن عطس (٤) أنف الصباح ، وحيعل داعي الفلاح ، وتبدّا علم الفجر ولاح ، فسرنا سيرا مجدّا ، لم نأل فيه اجتهاد ولا جهدا ، فما فتئنا كذلك ولم نزل ، إلى أن حطّ الركاب بمدينة قونية ونزل ، وذلك وقت الطّفل ، حين (٥) أقبل العشاء وطفل ، وتبختر النهار في الثوب القصير ورفل ، ثم أقمنا بها يوم الأربعاء [١٦٢ أ] ويوم الخميس معا ، ثم من يوم الجمعة (٦) إلى وقت الصلاة في عمارة الوزير الأعظم بير باشا رحمه‌الله ، وحضرنا في ذلك الوقت من النهار وقت الشيخ الصّالح المشهور بمنلا خنكار.

ثم أخذنا في الترحال والمسير ، وقد حمى الحرّ واشتدّ الهجير ، فسرنا غير بعيد نحو نصف أو ثلثي (٧) بريد ، ينقص عن ذلك شيئا أو يزيد ، فأحسست بفتور في الحواس ، وثقل شديد في الرأس. فلم أجد بدّا من النزول على حيّ هناك نزول ، فأقمنا بذلك المكان في جوار أولئك التركمان (٨) إلى أن هتف داعي العترفان (٩) ، وحيعل المثوب بالأذان ، (نهار السبت ثامن أيام شهر ذي القعدة الحرام) (١٠) فلم نجد

__________________

(١) وردت في (ع): «سليم».

(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٣) وردت في (ع): «الحال».

(٤) وردت في (ع): «فطس».

(٥) وردت في الأصل : «حتى» ، وما أثبتناه من (م) و (ع).

(٦) وردت في (م) و (ع): «يوم الحد».

(٧) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٨) وردت في (م) و (ع): «التركان».

(٩) العترفان : الديك.

(١٠) ما بين القوسين ساقط من (ع).

٢٩٢

بدّا من الرحيل ، واحتساب الصبر الجميل ، فلمّا تعالى النهار وتصاحى ، وتلألأ وجهه وتضاحى ، نزلنا بشاطىء نهر يقال له سارسينا ، قد فاق بعذوبته وخصره على مياه (١) تلك البلدان وأربى : [من مجزوء الرّمل]

وعليه الشمس قد

ألقت شعاعا كاللهب (٢)

شبه مس أخضر

عليه حلى من ذهب

فنزلت في فنائه كي [١٦٢ ب] أزيح العلة ، وأنفع ببرده الغّلة ، فتضاعف حر الحمّى ولم يبرده ذلك الماء ، ثم لم نجد بدّا من الجدّ في المسير ، وإن اجتمع هجير الحمّى والهجير ، ولم نزل (نواصل السير ليلا ونهارا ، ونتابع السرى إظلاما وأقمارا) (٣) ، ونجوب تلك الفيافي والقفار ، أناء الليل وأطراف النهار ، وكلّما تذكرت (٤) البلاد انقلب العذاب عذبا أو الأهل والأولاد وجدت سهلا ما كان صعبا ، وقد اشتدّ التعب والعناء ، وتحكّم الألم والضنى ، وكاد أن يستولي على الهيكل الفناء : [من المتقارب]

ولذّة جسمي بذاك الضّنى

وراحة قلبي ذاك الألم (٥)

ومدّة هذا الهيام ثلاثة من الأيام إلى أن أدّت بنا الرحلة إلى البلدة المعروفة

__________________

(١) وردت في (ع): «قناه».

(٢) وردت في (ع): «كالذهب».

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع) ، وكتب في (م) على الهامش.

(٤) وردت في (م) و (ع): «بدأت».

(٥) البيت في تاج المفرق ١ : ٢٧٩ بلا عزو.

٢٩٣

بأركلي (١) وتسّمى بهرقلة ، وكان حلولنا بتلك البلدة يوم الاثنين عاشر ذي القعدة ، وقد تضاعف السقم وترادف الألم ، واشتدّ بي المرض ، وغيّر جوهر الجسم ذلك العرض ، وعجزت عن الحركة والانتقال والتحوّل والارتحال مدّة ثلاث ليال ، وأنا أتلهب من شدّة البعاد ، وأتلهف وأتشوق إلى معاهد البلاد ، وأتأسف [١٦٣ أ] وأتمثل بقول العبّاس بن الأحنف (٢) : [من المديد]

يا بعيد الدّار عن وطنه

مفردا يبكي على شجنه

كلّما جدّ الرّحيل به

زادت الأسقام في بدنه

ولقد زاد الفؤاد شجا (٣)

طائر يبكي على فننه

شفّه ما شفّني فبكى (٤)

كلّنا يبكي على سكنه

فحين طال المطال ، واشتدّ ذلك الحال ، لم نجد بدّا من اكتراء جمال ومن شراء محمل يحملنا ، فحين تمّ الأمر وكمل ، وحضر المحمل والجمل ، وامتطينا مطاه وشرع في خطاه ، بل في خطاه ، ثم خرجنا من تلك البلدة (٥) وذلك يوم الأربعاء ثاني عشر القعدة ، فلم يلبث ذلك الجمل المذكور حتى مرّ على بعض ما على تلك الأنهار من

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إليها في مطلع الرحلة ، والظاهر أنّ هرقلة مدينة أخرى غير أركلي ، ببلاد الرّوم أيضا ، ذكر كليهما القرماني ولم يشر إلى أنهما واحدة. انظر : أخبار الدول ٣ : ٥٠٥ ومعجم البلدان ٥ : ٣٩٨ ـ

(٢) ديوانه ٣١١ ، ومعاهد التنصيص ١ : ٥٦ ، وتزيين الأسواق ٥٣٦.

(٣) وردت في (م) و (ع): «ضنى».

(٤) وردت في (ع): «فيك».

(٥) وردت في (ع): «الهلكة» ، وفي (م) : كلمة غير مقروءة.

٢٩٤

الجسور ، فزلّت إحدى رجليه أو يديه ، فسقط في النهر هو ومن عليه ، فكان ذلك من أنكأ القرح ، ومن الكي أثر الجرح ، ولم يسعنا غير الصبر والاحتساب ، والتبدّل بجيمع (١) الأثواب ، ثم نزلنا تلك الليلة ببعض قراها [١٦٣ ب] واستعملنا ما كنّا استصحبنا من قراها ، ثم أصلحنا الأحوال ، وعزمنا على الترحال ، عندما غاص نهر المجرّة (٢) ، وهتمت أسنان الكواكب المفترّة ، وضحك وجه الشرق بعد التعبيس ، فأسفر عن ثالث عشرين الشهر يوم الخميس ، وسرنا مجتهدين وأسرعنا مجدّين إلى أن نزلنا بقرية تعرف بشجاع الدّين ، ثم رحلنا منه وقت الإظهار ، وانتصاف ذلك النهار ، ولم نزل نقطع أديم الفلا ونفري ، حتى أنخنا بالقرب من آق كبري ، والعشية تخور بدمانها ، وذكاء تتسخط بدمائها ، فبتنا بذلك المكان بالقرب من النهر ليلة الجمعة رابع عشرين الشهر إلى أن أنشد لسان الحال قول من قال : [من الخفيف]

لم نر الليل حيث رقّ دجاه

وبدا طيلسانه ينجاب

وكأنّ الصباح في الأفق باز

والدجى بين مخلبيه غراب

وكأن السماء لجة بحر

وكأن النجوم فيها حباب (٣) [١٦٤ أ]

وقد تشوقت الأبصار لسفور الأسفار ، فحين أسفر النهار واستراحت أعين النظّار من ألم الانتظار ، أخذنا (٤) في المسير بعد التحميل ، وجمعنا بين طرفي البكر والأصيل ، وغالب سيرنا ذلك النهار في مروج وأنهار ، وعيون جارية ، وأشجار سامية ، وجبال عالية ، إلى أن وضعنا الرحال ليلة السبت بمرج أفيح حسن النبت ، بالقرب من

__________________

(١) وردت في (ع): «بمنع».

(٢) بياض في (ع).

(٣) الأبيات لتميم بن المعزّ ، انظر : الديوان ٩٦.

(٤) في الأصل و (م): «ثم أخذنا».

٢٩٥

عقبة الكولك (١) المارة النعت ، ذات العوج والأمت ، وعورة المنهج وصعوبة السمت ، فأقمنا به إلى أن رأيت الفجر والنسر (٢) خاضب جناحه ورشا عليّ بالعنبر الورد : [من الطويل]

وحلّت يد الجوزاء عقد وشاحها

إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد

ثم قطعنا تلك العقبة وسلكنا مسالكها المستصعبة ، ولم نزل نرقى (٣) فيها إلى أن بلغنا مراقيها وإذا هناك قلعة قد عقدت الجبل حبوتها ، وأزلقت الغراب أن يطأ ذروتها ، وعصم سوار الوادي الملويّ معصمها ، وحمت غرر دهمائها أدهمها (٤) ، فالخيل [١٦٤ ب] تصعد إليها أنجما بين طالع كطالعها وغارب كغاربها ، والأرجل منها على كرة لا تستقر بأخمص راجلها ، ولا بحافر فرس راكبها ، تأوي الطيور الكواسر لأدنى حافاتها ، وتبلغ النفوس نهايتها عند موافاتها ، وتزلّ أقدام الصاعدين عن أكثر صفاتها ، وتعجز أوصاف الواصفين عن بعض صفاتها : [من الكامل]

يأوي إليها كلّ أعور ناعب

وتهبّ فيها كلّ ريح صرصر

ويكاد من يرقى إليها مرّة

من دهره يشكو انقطاع الأبهر (٥)

__________________

(١) وردت في (ع): «الكوالك». وهي قلعة مدورة على رأس جبل شمالي طرسوس بنحو مرحلة ، وهي من فتوحات السّلطان بايزيد سنة ٨٨٨ ه‍. انظر : صبح الأعشى ٤ : ١٣٥ ، المنح الرحمانية ٥٥ ، قاموس الأعلام ٥ : ٣٩٢٥.

(٢) وردت في (ع): «والنشر».

(٣) وردت في (م) و (ع): «نرتقي».

(٤) هذا الوصف لعبد الرحيم بن علي المعروف بالقاضي الفاضل ، قاله واصفا به قلعة الكرك من بلاد الأردن وهو ما أثبته ابن فضل الله العمري بنصه. انظر : مسالك الأبصار ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٥) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٦١ بلا عزو. وهي للوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني. انظرها في مطمح الأنفس ١٧٩.

٢٩٦

فما حصل منها الانفصال ، ولا انقطع تتابع السير والاتصال ، حتى آن وقت الزوال ، وامتدّ الظلّ ومال ، فنزلنا في مكان كالبستان ، به أشجار صنوان وغير صنوان ، وعيون باردة سارحة متطاردة ، فارتمينا (١) في ذلك المكان وأرحنا تعب الأبدان ، ولكن لم يحصل لي راحة لاشتداد (٢) الحمى ولم يبرد حموها برد ذلك الماء ، ولم نزل نحثّ السير والسرى ، ونعاصي الراحة والكرى ، [١٦٥ أ] والعلا يذوب من كدّنا خجلا ، والنجم يرعد من سرانا وجلا ، والحرور تعجب من تجرينا عليه والسموم يتحول (٣) من أقدامنا لديه ، ونحن نقاسي كرب الزمان ومحنه ، وقد أمضى كل منّا راحلته وبدنه ، وأضاق ذكرى وطنه وسكنه عطنه ، إلى أن وصلنا ظهر يوم الأحد سادس عشرة مدينة أدنة ، فنزلنا بها في عمارة لابن رمضان مستحسنة (٤) ، وألقى كلّ منّا عصاه وخلع رسنه ، وغشيه ممّا قاسى النعاس أمنه ، واستمرينا ثلاثة أيام في تلك الأمكنة ، ثم برزنا يوم الأربعاء تاسع عشر (٥) الشهر إلى ظاهر المدينة بشاطىء النهر ، وقد صحبنا من تلك البلدة جماعات من الرفاق عدّة ، فلمّا تكامل عدة النفر عزمنا بهم على السفر ، ثم رحلنا بالقوم بعد الظهر في ذلك اليوم (وقد حضر سمومه وغاب نسيمه) (٦) ، ثم سرنا نساير السبيل ، ونقطع ميلا بعد ميل ، إلى أن تجاوزنا الأصيل ، وأظلّنا ليل كظهر الفيل ، فنزلنا حينئذ [١٦٥ ب] بالمصّيصة على شاطىء جيحان ، حين آن وقت العشاء وحان (٧) ، فحين نزلنا عن ظهور الدواب وحللنا عنها ، وقعنا وقعة لا أحلى عند المسافر منها ، فلم نستفق إلّا والليل قد شابت مفارقة ، وأزهرت مغاربه ومشارقه ، وقد تخلّق الشرق بدرعه المزعفر ، وضرب في علياه رنكه

__________________

(١) وردت في (ع): «فارعينا».

(٢) وردت في (ع): «لاستدوا».

(٣) وردت في (م) و (ع): «تتأوه».

(٤) وردت في (ع): «فسيحة».

(٥) وردت في (م) و (ع): «تاسع عشرين».

(٦) ما بين القوسين ساقط من (ع) ، وكتب في (م) على الهامش.

(٧) وردت في (م) و (ع): «وحال».

٢٩٧

الأصفر ، فأخذنا في أهبّة التّرحال وشددنا على الخيل الأحمال ، وقد أشيع أنّ الدرب مخوف ، وأنّ اللّصوص به تطوف ، وسرنا في براري وقفار ، ذات أشجار كبار ، موحشة المسالك ، كثيرة المهالك ، قد لمع سرابها ، وتوّقدت هضابها ، وصرخ بومها ، ونعق غرابها ، وقد اشتدّ حرّ الشمس ، وفاخر اليوم في شدائده الأمس ، فلم نزل سائرين سائر (١) ذلك اليوم إلى أن حلّ من الفطر الصوم ، وغشى الأعين النوم ، وعمّ الإعياء واللغوب (٢) جميع القوم ، وسامهم ذلك الحرّ والسموم أشد سوم ، وعاموا في العرق كل عوم ، وراموا الركون إلى الاستراحة [١٦٦ أ] أي روم ، فنزلنا حينئذ بالنّاس بجانب البحر بالقرب من قلعة باياس (٣) وبتنا بذلك المقام ليلة الجمعة حادي عشرين القعدة الحرام ، ثم سرنا منه ووجه المحجّة قد أماط النقاب ووضح بشعب الفجاج والشعاب. وحللنا (٤) في مروج وأزهار ، ومياه وأنهار ، وجزنا بعقبة المركز (٥) وقطعناها وانتهينا إلى عقبة بغراص (٦) ووصلناها وقيّلنا بأسفلها في روض نضير ، به ماء عذب نمير ، وأشجار من آس ، وفواكه مختلفة الأجناس ، ثم أخذنا في عقبة بغراص (٧) ، ذات الالتواء والاعتياص ، إلى أن سقطت الشمس للغروب ، وقد أنضت (٨) الرواحل من الإعياء وضعفت الأنفس من اللغوب ، فنزلنا بوسطها عند المسجد والخان ، والمياه الجارية في مثل الشاذروان ، فاستراحت الأجسام وارتاحت الأرواح ، وانشرحت الأنفس غاية الانشراح ، ونقعنا الغلّة من ذلك الماء وخفّف بعض ما كنت أجده من الحمى ، ثم

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «طول».

(٢) اللغوب : التعب الشديد والإعياء. (لسان العرب ١ : ٧٤٢).

(٣) باياس وبيّاس : بليدة شرقي أنطاكية وغربي المصيصة بقرب البحر وقلعة بغراص. (معجم البلدان ١ : ٥١٧ وأخبار الدول ٣ : ٣٣٧).

(٤) وردت في (ع): «دخلنا».

(٥) وردت في (ع): «بالعقبة المركب».

(٦) مرّ بها ووصفها صاحب الرحلة في بدايات الرحلة.

(٧) وردت في (ع): «بقراص».

(٨) وردت في (ع): «ألقيت».

٢٩٨

رحلنا من [١٦٦ ب] ذلك المكان المذكور ، وقد استنارت بالقمر ظلمة الدّيجور ، وسرنا في مسالك وعرة ، وشعوب متشعبة مضجرة ، وإهباط وإصعاد ، وإغوار وإنجاد ، ثمّ اكفهرّ وجه السماء وتغيّر ، ودمدم الرعد وزمجر ، وأومض البرق من الغرب والشرق ، وهبّت الرياح نشرا ، وأقبلت السحب زمرا ، فرجفت القلوب ، وأحسّت بملاقاة الكروب ، واستمرّ ذلك التهديد ، وتواتر من الرعد الوعيد ، واختلفت آراء الريح ، وجاد الغمام بماءه (١) جود الشحيح ، ثم أقشعت السماء ، وارتفعت تلك الأنواء ، وتفرّق (٢) جمع السحاب ، وتمزّق منه الجلباب ، وأسفر وجه القمر من لثام الغمام ، وأزهرت الزهر كالزهر تفتح عنه الكمام (٣) ، فزالت تلك الكروب ، واطمأنت بحمد الله القلوب ، ولم نزل نسير إلى أن أظلّ التنوير ، وجسر الصبح المنير : [من البسيط]

ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها

مرآة تبر بدت في كف مرتعش

فانحدرنا من تلك العقبة ، وسرنا في أرض مستوية مصطحبة (٤) [١٦٧ أ] بين أشجار كثيرة الظلال ، وأنهار تجري بماء زلال ، ثم تلقّانا بر (٥) واسع الفجاج والشعاب ، كثير العجاج والتراب ، طويل المساحة ممتد الساحة ، لا يبلغ الطرف منتهاه ، ويكلّ الطرف عن بلوغ مداه ، فلم نزل نسير به من بكره ، إلى أن أبدى النهار حرّه وأضطرم (٦) جمره ، فقيلنا حينئذ بخان يغره ، ثم رحلنا منه متوجهين إلى تلقاء (٧) بلدة

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٢) وردت في (ع): «وتولى».

(٣) وردت في (ع): «المكام».

(٤) وردت في الأصل : «مسطحبة» ولعلها صوابها مسطحة.

(٥) وردت في (م) و (ع): «موضع».

(٦) وردت في الأصل : «وأضرم».

(٧) وردت في (م) و (ع): «نحو».

٢٩٩

تيزين (١) ، فوصلناها عندما دخلت الشمس خدر الغروب ، وتستّرت بسربها (٢) المحجوب ، وأسبل الليل إزاره ، وعمّ ظلامه الوجود وأقطاره. وهي بلدة قديمة ، ذات عمائر عظيمة ، وآثار معاهد مقيمة ، فسيحة الأرجاء ، صحيحة الهواء ، ممتدّة الغاية في الحسن والانتهاء ، واسعة الرقعة ، طيّبة البقعة ، سامية الارتفاع ، مشرقة البقاع ، مباركة الأغوار والتلاع ، ممرّغة الجنبات ، متنوعة النبات ، ممدودة الظلال ، مودودة الحلال ، مأمولة السعادة مسعودة الآمال ، قد أخذت من كل المحاسن [١٦٧ ب] نصيبا ، وفوّقت إلى سهم الفضائل سهما مصيبا ومليت ظرفا ونخبا (٣) ، وأوتيت من كل شيء سببا ، فبتنا بها وقد عزمنا على الرحلة وأتينا صدقاتها نحلة.

ثم سرنا من ذلك المكان حين أبرز (٤) الأفق ذنب السّرحان ، وآن انبلاج الفجر وحان ، (ليلة الأحد ثالث عشرين) (٥) ، ثم أخذنا في المسير صباحا إلى أن تعالى النهار وتضاحى ، ودخلنا في معاملة الحلقة وقت الغداء (٦) ، ونزلنا في قرية يقال لها تل عدا ، فتلقانا (٧) أهلها بالسلام والترحيب والإكرام ، وأنزلونا في بيوتهم ، وأسهمونا في قوتهم ، وتواردت علينا منهم الضيافات ، وزالت عنّا بحمد الله تلك المخافات واطمأنت الأنفس وطابت الأرواح ، وزال العناء وحصل الارتياح.

فأقمت بها إلى يوم الاثنين رابع عشرين القعدة وقت الصباح ، فلمّا بدا بنوره ولاح ، وملأ ضياؤه تلك البطاح ، وكان ذلك المرض قد غلب ، واشتدّ بأسه وخلب ، وأذهب بالقوى [١٦٨ أ] وسلب ، فاستخرت الله تعالى في المضي إلى حلب إذ لا تخلو

__________________

(١) تيزين : قرية كبيرة من نواحي حلب ، كانت تعدّ من أعمال قنسرين ثم صارت أيام الرشيد من العواصم مع منبج. انظر : معجم البلدان ٢ : ٦٦.

(٢) كذا وردت ولعلها : «بسترها».

(٣) وردت في (ع): «وأدبا».

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٥) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

(٦) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٧) وردت في (م) و (ع): «فتلقونا».

٣٠٠