بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي
المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥
منزل ، ويحنّ لأحبابه ولا كالحبيب الأوّل ، وأقمت بذلك المنزل وتلك الدار ستة عشر يوما لا يقرّ لي من البعاد قرار ، ولا أجد جلدا ولا أطيق اصطبارا ، ولا أطعم النوم إلّا غرارا ، وقد وهيت من فراق على فراق بداهية دهيا ، وبقيت لا ميّتا مع الأموات ولا حيّا مع الأحياء ، وكلما [١٣٨ أ] تمثّلت لتلك المعاهد ، وسألت عن تلك الموارد ، لا أجدها إلّا صما عميا ، فلم أزل أتطارح في تلك المنازل ، وأتجرع غصص المنايا من خطب البين النازل : [من الطويل]
وأنتسم نواسم تلك المعالم |
|
فيفوح لي كالعنبر المتنفس |
ونمشي حفاة في ذراها تأدبا |
|
نرى أننا نمشي بواد مقدّس (١) |
وقد تزايد الشوق وربا ، وزاد القلب هموما وكربا ، وأثار فيه حربا زبونا وحربا ، وتطايرت من نيران القلوب زفراته شررا ولهبا ، واعتلت من محاني الضلوع على الربا ، وبلغ سيل العيون من محاجرها الزبا ، وكلّ حسام الصبر ونبا ، وعثر جواد الاحتمال وكبا ، وأنا مع كل ذلك أستخبر عن أخبار ذلك الحبيب ولا خبر ولا نبأ ، وقد طال الليل وأظلم واحلولك ولا نوم ، وشابهه في نعته ما بعده من اليوم : [من الطويل]
فلم أر أنسا قبله عاد وحشة |
|
وبردا على الأحشاء عادغليلا [١٣٨ ب] |
ومن تك أيّام السّرور قصيرة |
|
به كان ليل الحزن منه طويلا (٢) |
وأنشد قول القائل مترجيّا : [من الكامل]
ولربّ نازلة يضيق لها الفتى |
|
ذرعا وعند الله منها المخرج |
__________________
(١) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٩٢ بلا عزو.
(٢) هذان البيتان لابن خفاجة : الديوان ٢١٣ وفي نفح الطيب ٤ : ١٠٧ ، تاج المفرق ٢ : ٩١.
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها |
|
فرجت وكان يظنها لا تفرج (١) |
فما راعني إلّا دخول البشير عليّ بقدومه ، ثم اجتلاء طلعته الشريفة مع تسليمه ، فتلاقينا بالتحية وتلافينا ، وبكينا حتى انكبينا ، ووالينا الحمد لله تعالى وأثنينا ، وكم من نعمة لله تعالى علينا ، فدنا الأنس ، وانشرحت النفس ، ونسخ باليوم ما وقع بالأمس ، وأخذنا نتفاوض مفاوضة الأصدقاء ، ونتحدّث عن أخبار ذلك السفر وآثار أولئك الرفقاء ، ولا تسل عن حسن هذا الاجتماع وأنس هذا اللقاء : [من الطويل]
حديث تخال الروح عند سماعه |
|
لما هزّ من أعطافه تترنح (٢) |
فكان بذلك لنوم عيني سبيل ، وعهدي بالنوم عهد طويل ، وهو في الحقيقة [١٣٩ أ] لم يفارقني بل هو في كل حالة مرافق ، وليس تألم القلب لمفارقته له وإنما هو لتألم الأجساد ، فإنه وإن نزح عن العين ما برح في الفؤاد ، فهو في الحقيقة لم يخرج عن شعار أجداده وهو السواد : [من الوافر]
حضرت فكنت في بصري مقيما |
|
وغبت فكنت في أقصى فؤادي |
وما شطّت بنا دار ولكن |
|
نقلت من السواد إلى السواد (٣) |
__________________
(١) البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي وموجودة في : معجم الأدباء ١ : ٤٦ ، وفيات الأعيان ١ : ١٨٧ وهي أيضا مما ينسب للإمام الشافعي. انظر : ديوانه ص ٢٤.
(٢) البيت في تاج المفرق ٢ : ١١٦ وفيه : «من أعطافه تتقصف».
(٣) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٠٥ منسوبة لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر البغدادي الواعظ.
وما زلنا بذلك نجتلي أنوار المحاضرة ، ونجتني نوّار المذاكرة ، ونلتقط نثير (١) لآلىء الفوائد ، وننظم عقود المقاطيع والقصائد ، ونرد من العلوم أجلّ المصادر وأعذب الموارد ، ونوالي أهل الولا ، ونختص بذوي السؤود والعلا ، ويتردد إلينا للانتفاع جماعة من الفضلاء ، ولنشير إلى ذكر جماعة أيضا ممن اجتمعنا به أو اجتمع علينا في مدينة قسطنطينيّة أم الممالك الرّوميّة وتخت سلطنة الممالك الإسلاميّة ، وكذلك في الرحلة الأزنكميدية.
فأولهم وأولاهم ، وأعلمهم وأعلاهم ، الشيخ الأوحد ، والإمام الأمجد [١٣٩ ب] المعروف بحاجي جلبي (عبد الرحيم بن علي) (٢) ابن المؤيد. وقد قدّمنا بعض ترجمته وذكر محبته وأخوّته ومودّته ، وقد حصل لي منه قبول تام ، وكنت عنده بمقام سام ، يسمّني بالعالم المدقّق ، والعارف المحقّق ، وقد استفدت منه واستفاد منّي ، وأخذت عنه وأخذ عنّي ، واستجزته لولدي أحمد ولمن سيحدّث لي من الأولاد ، ويوجد على مذهب من يرى ذلك ، ويسلك هذه المسالك. فممّا أخذ عنّي مؤلّفي المسمّى ب «الزّبدة في شرح البردة» ، و «تفسير آية الكرسي» ، وبحث وتحقيق أوضحته في معنى الكلام النفسي ، وقصيدتي القافيّة القافية ، التي هي ببعض مناقب شيخ الإسلام وافية ، وقصيدتي الخائية المعجمة ، وحل بعض طلاسم الكنوز المعظّمة ، وأنّ كتابه خلّاق عليم ، وحملها ينفع لدفع الطاعون ، وأنّه مجرّب كما رواه لنا الأئمة الواعون ، وأنشدته لنفسي [١٤٠ أ] : [من السريع]
من رام أن يبلغ أقصى المنى |
|
في الحشر مع تقصيره في القرب |
فليخلص الحب لمولى الورى |
|
والمصطفى فالمرء مع من أحب (٣) |
__________________
(١) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٢) سقط الاسم من الأصل ، وتقدّمت الإشارة إليه في مطلع الرحلة. وجلّ هذه الترجمة مثبت في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٦.
(٣) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٦.
ولشيخ الإسلام رضياللهعنه :
إن تكن عن حال الذين اجتباهم |
|
ربهم عاجزا وتطلب قربا |
حبّ مولاك والذين اصطفاهم |
|
تبق معهم فالمرء مع من أحبّا |
ومما أفادني إياه نقلا عن بعض العارفين أنّ الإنسان إذا قال «ربّنا» خمس مرّات ودعا أستجيب له ، واحتج بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) إلى قوله : ربّنا وتقبّل دعائي (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٢) فاستحضرت في الحال دليلا آخر ببركته ، وهو قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً)(٣) إلى قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ) [٤١٠ ب](الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٤) ، وهي تمام الخمس ، ثم عقبها بقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)(٥) فسرّ بذلك كثيرا وشكر ودعا.
ومنهم ولده العلّامة المحقّق ، والفهّامة المدقّق ، الرافع قواعد هذا البيت والمؤسس ، ملا عليّ جلبي (٦) المدرّس ، فرع الأصل العزيز ، وطبع الأدب المحجل أسلاك الدرر وسبائك الإبريز ، المعترف له في ميدان البلاغة فرسان البراعة بالسبق والتبريز ، أحد المشيخة الذين تفرط بحلى أنبائهم كل أذن مصيخة ، فترسّخوا للعلا وتوشّحوا بغر الحلا ، وكرعوا في بحر علم لا يكدره الدلا ، لم يزل متحليا من الشيم الفاضليّة
__________________
(١) سورة إبراهيم آية ٣٧.
(٢) سورة إبراهيم آية ٤٠ ـ ٤١.
(٣) سورة آل عمران آية ١٩١.
(٤) سورة آل عمران آية ١٩٤.
(٥) سورة آل عمران آية ١٩٥.
(٦) توفي سنة ٩٤٤ ه ، ترجمته في الشقائق النعمانية ٢٩٤.
متجلّيا في سعودها الشارقة (١) بدرا متخلّيا عن كل ما يعقب الإقبال على السعادات إدبارا ، متسنّما من ذروة مراتب الصفات وصفات المراتب أحصاها منالا وأسماها منارا ، متبسّما من أخلاق المجد ومجد الأخلاق أزهرها نضارة وأنضرها إزهارا [١٤١ أ] متنسّما من رياح الأريحية نفحة طيبة ونسيما معطارا ، (أحضره والده لديّ ، فسلّم عليّ وتودّد إليّ ، وصار بيننا وبينه أكد صحبة وأشدّ محبّة) (٢).
ومنهم أخوه الشّاب النجيب ، والفاضل الأريب ، الواصل إلى رتبة النهاية في المبادىء ، والفائق بفضله الحاضر من أقرانه والبادي ، سيّدي أبو الهدى عبد الهادي ، شاب نشأ في عبادة الله ، وراعى في صغره من الهدي والهدى أباه ، اختطفته يد المنيّة في صباه ، ودعاه ربه إلى جواره فلبّاه ، فمات بالطّاعون شهيدا في صفر الخير سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ، ونحن إذ ذاك ببلدة أزنكميد ، رحمهالله تعالى ، وكان قد جمعه أبوه عليّ ، وأمره بالتردد إليّ ، وحضر مجلسي عند أبيه ، وسمع ما صدر منّي من البحث فيه (٣).
ومنهم أخوه أيضا الطفل الزكيّ والشّاب الذكي ، الموسوم بسمة الولاية ، والملحوظ [١٤١ ب] بعين العناية ، ذو الأنس الظاهر ، والخلق الطاهر ، محيي الدّين عبد القادر ، أحضره والده إليّ ، وأمره بالمثول للاستفادة بين يديّ ، أنشأه الله تعالى نشوءا صالحا ، وجعله من متاجر الخيرات رابحا بمنّه وكرمه (٤).
ومنهم الشيخ الإمام العلّامة القدوة العمدة الفهّامة ، فرع الحسب الصميم ، ونبع الأصل الكريم ، وطبع الفضل العميم ، وطوع الخلق العظيم ، قدوة الأئمة ، وواحد أسانيد الأمة ، قاضي القضاة ، وإمام الفقهاء والنحاة ، وربّ العقل الوافر والحصاة ، روض العلم الوارف الظلال والفيء ، والوافر الريع والري ، قاضي أماسية وما معها
__________________
(١) وردت في (ع): «شعورها الشارفة».
(٢) ما بين القوسين شطب في (م) وسقط من (ع).
(٣) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٤) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
القاضي عبد الحيّ ابن أخي حاجي جلبي (١) المشار إليه ، أفاض الله نعمه عليه ، اجتمع بي وبوالدي بالشّام عند قدومه إليها قاصدا بيت الله الحرام ، فصار بيننا وبينه صحبة ومودّة ومحبّة (٢).
ومنهم الفاضل البيب ، والعالم الأريب ، الباسق في شجرة كريمة الأعراق ، [١٤٢ أ] ساطعة الإشراق ، طيبة الأثمار والإيراق ، محرزا في ميدان طهارة الأردان قصب السباق ، متميّزا في عنفوان الشباب بحسن الخلق وإحسان الأخلاق ، ابن قاضي العسكر الإمام عبد الرّحمن أخي حاجي جلبي أيضا المسمّى هو بعبد الرّزاق ، انقصف غضر أجله في ريعانه ، وكبا جواد أمله في ميدانه ، فلبّى داعي ربه إذ دعاه ، وأجاب ندائه مسارعا للقياه ؛ فمات شهيدا بالطّاعون في شهر صفر المذكور قبل ابن عمّه المشار إليه بأيام ، رحمهالله ، وكان قد اجتمع بي مسلّما ، وأخذ عني متفهّما (٣).
ومنهم المقرّ العالي الكريم ، والجناب السامي الجسيم ، المولوي الإمامي العالمي العلّامي زين ممالك الإسلام ، وحسنة الليالي والأيّام ، ورجل الكمال والكلام ، وحامل فخر الأقلام ، ولواء الشرع المنيف والأحكام ، ونجل الشراة الأعلام ، غرّة الزمن البهيم ، وبورد الآمال الهييم ، الفائق بدرر علمه وكلمه على الدارين ، قاضي قضاة [١٤٢ ب] العساكر المنصورة الرّوم إيليه محيي الدّين بن الفنّاري (٤).
ومنهم المقرّ الكريم العالي ، الجامع أشتات المعالي ، حسنة الأيام والليالي ، علّامة الزمان ، ووحيد الأقران ، والمشار إليه بالبنان والبيان ، زين الأكابر والأماثل ، ورأس الأعيان الأفاضل ، ومقصد المتلمّس والسائل ، ومحطّ رجل أمل الآمل ، ومغيث الفقراء واليتامى والأرامل ، ذو السيرة الحسنة المشكورة ، قادري جلبي (٥) قاضي قضاة
__________________
(١) هو عبد الحي بن عبد الكريم بن علي ، انظر ترجمته في الشقائق النعمانية ٣٠٤ ـ
(٢) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٣) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٤) هو محمد بن علي بن يوسف الفناري ، توفي سنة ٩٥٤ ه ، وترجمته الوافية في الشقائق النعمانية ٢٢٩ ـ ، والكواكب السائرة ٢ : ٥٢ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤٣٧. وهذه الترجمة ساقطة من (م) و (ع).
(٥) توفي سنة ٩٥٥ ه ، وترجمته الوافية في الشقائق النعمانية ٢٦٤ ـ
العساكر الأناظولية المنصورة ، أدام الله بهجة الدنيا ببهجة سلطانه ، ووالى تمهيد ربوعه وتشييد أركانه ، وضاعف السعد في أمره وشأنه ، قد اعتنى بأمري غاية العنية ، وحصل منه كل تعظيم ورعاية ، وقررني في تدريس حسن جليل نفيس ، ابتداء منه من غير سؤال ، ولا طلب ولا التماس بحال ، هذا مع نزر اجتماعي عليه وعدم ملازمتي له [١٤٣ أ] وقلّة ترددي إليه ، وإنّما كان كلام الباشا معه بسببي وتحريضه عليه بما يتعلق بي بسبب كتابة براءات بتجديد ما بيدي من الجهات وشؤون أخرى لا تبرز ، وقد انقضى كل منها بحمد الله وتنجز (١).
ومنهم قاضي قضاة المسلمين وأولى ولاة الموحدين ، وينبوع العلم واليقين ، العادل العدل في أحكامه ، والجزل في إقدامه ، والمراقب لله في فعله وكلامه ، عين إنسان الزمان ، وإنسان عين البيان ، قاضي القسطنطينيّة سعدي بن عيسى بن أمير خان (٢) ، ما قرن به فاضل في الرّوم إلّا رجحه ، ولا ألقي إليه مبهم من العلم إلّا كشفه وأوضحه ، له صادقات عزائم ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، إلى عفّة ونزاهة وإيابة ، وهمّة عليّة وصيانة ، وطلاقة وجه وبشرة ، وناء جميل يتضوّع نشره ، مع خلق وضيّ وخلق رضي :
يقابلني له خلق وضي |
|
لصدق بشره خلق رضي (٣) |
مع إجلال [١٤٣ ب] وتعظيم ، ومبالغة في التكريم ، واعتراف بالفضل الجسيم ، عامله الله بفضله ولطفه العميم (٤).
__________________
(١) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٢) توفي سنة ٩٤٥ ه وترجمته في الكواكب السائرة ٢ : ٢٣٦ ـ وفيه : عيسى بن أمير خان المعروف بسعدي جلبي ، والشقائق النعمانية ٢٦٥ وفيه : سعد الله بن عيسى ، وشذرات الذهب ١٠ : ٣٧٣ وفيه : عيسى بن أمير خان.
(٣) البيت في تاج المفرق ١ : ١٧٧.
(٤) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
ومنهم الشيخ العلّامة والقدوة الفهّامة ، والإمام الأوحد ، والهمام الأمجد ، مولانا خجا جلبي بن مولانا محيي الدّين محمد ، أحد المدرسين الثمانية ، ذو همّة عليّة ، وفطنة ألمعيّة ، ووقار ما مثله وقار ، ومآثر كأنها علم في رأسه نار ، ومفاخر طوالعها صبح ونهار ، وسجايا عريقة المجد ماجد الأعراق ، خليقة بالحمد حميدة الأخلاق ، قد سقته العلوم زلالها ، ومدّت عليه ظلالها ، وأحلّته الجلالة حلالها ، وسقته الأصالة عذبها وسلسالها ، فعلا قدرا ، ولاح في سماء السناء بدرا ، وصار لأولئك الصدور صدرا ، وقع بيني وبينه بحث في أنّ النعت في قوله تعالى (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(١) متعلّق بطعام أو بضريع فهو مال ، وأنا قلت : متعلّق بضريع ، وذكر كل منّا حجّته في ذلك ، ثم أوردت عليه ظاهر الحصر منّا مع أنه طعامهم الزّقّوم ، وهو [١٤٤ أ] غير الضريع ، وشرابهم الحميم ، فأجاب بأنّ ذلك يختلف بتعدد الأشخاص ، واعترضت ... (٢) في الصفوة فإنه جزم بها مكسورة الصّاد لا غير ، فقلت له بل هي مثلثة الصّاد ، وبيننا وبينه محبّة وصحبة ، وهو يتأدّب معي كثيرا ، ويجلّني إجلالا كبيرا ، وهو صهر مولانا حاجي چلبي أخو زوجته الكبرى ، وهي أم ولده الكبير (٣).
ومنهم الإمام العالم العامل ، والهمام الأمجد الكامل ، القدوة الأمّة ، وأحد أئمة الأمة ، ذو المناقب الرضيّة المرضيّة ، والأخلاق الزكية ، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد شمس الدّين شمسي جلبي أحد مدرسيّ الثمانية (٤) ، بيننا وبينه محبّة وصحبة ، ومصافاة وموافاة ، وذكر لي أنّ سنّة دون الخمسين سنة ، مع أنّه نقي الشيبة ذو شيبة حسنة ، وأنشدته بحضرة مولانا حاجي جلبي لشيخ الإسلام تقي الدّين بن دقيق العيد بسندي إليه قوله : [من الطويل]
__________________
(١) سورة الغاشية آية ٧.
(٢) كذا وجدته بياضا في الأصل.
(٣) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٤) تقدّم التعريف بها ، وهي مجموعة المدارس التي بناها السلطان محمد الثاني وألحقها بمسجده (المنح الرحمانية ٥٣).
وددت بأن الشيب عاجل المنى |
|
وقرّب من عهد الشباب مزاره [١٤٤ ب] |
لأكسب من عصر الشباب نشاطه |
|
وأكسب من عصر المشيب وقاره (١) |
فسرّ بذلك وابتهج واستبشر ، وحمد الله تعالى وشكر (٢).
ومنهم الشيخ الصالح العالم ، الأوحد الكامل ، الخيّر الجيّد ، المقرئ المجوّد ، الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبيّ الأصل ، ثم القسطنطينيّ (٣) الخطيب والإمام بجامع المرحوم السّلطان محمد ، اجتمع بي مرّات وتودّد ، وصار بيننا وبينه أعظم مودّة وأوكد ، وأعارني من كتبه عدّة أيّام تأليف ما ألفته ببلاد الرّوم كتفسير آية الكرسي وشرح البردة ، والله يعاملنا وإياه والمسلمين بلطفه الخفي وبره الحفيّ وجوده الوفي بمنه وكرمه آمين.
ومنهم الشيخ النبيل الوقور ، المنسوب للعلم ، والموسوم بالحلم ، والمعدود من ذوي العقل والحصاة ، والمشار إليه في أعيان القضاة ، قاضي المنزلة ثم الخانكة ، فتح الله صحبنا من حلب إلى الرّوم ، وتكلّمنا معه في بعض العلوم ، وصار بيننا وبينه [١٤٥ أ] مواددة ومجاملة ، ومصادقة ومخاللة ، وممّا سألني عنه لبس الوشق ؛ فأجبته بأنه كالسمور ، والقول بالحلّ هو المعتمد والذي عليه الجمهور ، وبحثت معه في وجه (٤) ذلك بما لا يسع هذا الكتاب ذكره ، وسأوضح الكلام على ذلك ، إن شاء الله تعالى ، في الرسالة التي أفردتها للكلام في ذلك وشرعت في تأليفها ، والله تعالى يقدر إتمامها والنفع بها.
__________________
(١) البيتان في : فوات الوفيات ٣ : ٤٤٥ وفي رفع الحجب المستورة ١ : ١٩٨ بلا عزو.
(٢) سقطت هذه الترجمة من (م) و (ع).
(٣) توفي سنة ٩٥٦ ه ، وترجمته في الكواكب السائرة ٢ : ٧٧ ، والشقائق النعمانية ٢٩٥ ـ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٤٤٤.
(٤) وردت في (ع): «فروع».
ومنهم الشيخ الأوحد ، والأصيل الأمجد ، ذو البيت (١) الذي طارت مناقب نزاهته كل مطار ، وانتظمت أسلاك أصالته في أجياد الأسطار ، وسرت نسمات فضيلته سرى نسمات باسمات الأزهار ، وهمت سحاب سماحته كالغيث المدرار ، فسما في سماء المجد علما راسخ القواعد ، مشار إليه من كل غائب وشاهد ، حينا للصلة وآونة للعابد ، تصطفيه الرّتب العلية السّنية ، وتتنافس (٢) فيه الخطط الشرعيّة السّنّية ، [١٤٥ ب] فطورا مقدّما في أندية الأمراء والأعيان ، وتارة صدرا في قضاة العدل والإحسان ، القضائي الكمال التّادفيّ (٣) قاضي حلب ثم مكّة. كان صحبني من حلب إلى البلاد الرّوميّة ، فأسفر عن أعذب أخلاق ، وأكرم أعراق ، وأحسن طوية ، وأنشدني من (٤) نظمه قصيدة تائيّة ، ومقامه أكبر من الشعر ، وأعلى في القيمة وأغلى في السعر.
ومنهم الشيخ النبيل ، والفاضل الأصيل ، فخر النبلاء ، وأوحد الفضلاء ، القليل الأنظار والأشباه ، قاضي أزنكميد محيي الدّين محمد ابن قاضيها لطف الله ، حضر لدينا ببلده للسلام ، ثم أرسل هدية من الدجاج والفاكهة والأغنام. وبعث إلينا ألغازا فقهيّة وغيرها رآها في كتاب عنده ولم يدر ما هي فحللناها له وأجبناه عنها.
ومنهم الشاب النيّر ، الدّين الخيّر ، الصّالح الذكي ، الفاضل الزكي ، اللطيف الذات والطباع ، المباين بحسن الأخلاق أهل [١٤٦ أ] تلك البقاع ، عين الأزلام والأصحاب (الحاج مصلح الدّين لطفي بن الحاج) (٥) محمد الأزنكميديّ الشهير بابن القصّاب. من أعيان بلدة أزنكميد وكبارها وموسريها ورؤسائها وتجارها ، أقمنا عنده
__________________
(١) في الكواكب والشذرات : «النسب».
(٢) في الكواكب والشذرات : «وتستأنس به».
(٣) تقدّمت الإشارة إليه في مطلع الرحلة. وهو : محمد بن يوسف بن عبد الرحمن كمال الدّين أبو اللطف ، توفي سنة ٩٥٦ ه ، وجلّ هذه الترجمة أثبتها نجل صاحب الرحلة في الكواكب السائرة ٢ : ٦٣ ـ ، وانظر : شذرات الذهب ١٠ : ٤٤٩ ، إعلام النبلاء ٥ : ٥٢٣.
(٤) وردت في (ع) مصحفة : «وأسدى في».
(٥) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
ببيته (١) ببلدة أزنكميد في عيش رغيد ، وإكرام ما عليه من مزيد ، كما تقدّم ذكر ذلك مع ما اتفق لنا هنالك ، وقد أخذ عنّي وسمع منّي وقرأ عليّ حديث رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم الملكين وإسرائهما به ، ورؤيته لإبراهيم الخليل عليهالسلام ، ومالك خازن النار عليهالسلام ، وأصحاب التنور ، والسابح في البحر ، وما مع ذلك الحديث المشهور بطوله وبعض كتابي «الزبدة في شرح البردة» وبعض شرحي المنظوم على «الألفية» وغير ذلك ، واستجازني بما يجوز لي وعنّي روايته له ولأولاده الثلاثة عبد الكريم المراهق وعبد اللطيف السداسي وعبد المطلب الثلاثي ، ثم اجتمع بي في القسطنطينية عند رحلته إليها للملازمة ، والله تعالى يرزقنا وإياه حسن الخاتمة بمنه [١٤٦ ب] وكرمه آمين.
ومنهم الشيخ الجليل الكبير النبيل المتخشع الخاضع المتواضع الشهير (٢) بالدين والخير ، السائر بين أمثاله أحسن سير ، شيخ محمد المتولّي بعمارة (٣) السّلطان سليم خان ، تغمّده الله بالرحمة والرضوان ، وهو قرابة شيخ كمال ناظر النظّار بالشّام كان ، سلمّ مرّات متواضعا وملتمسا للبركة والدعاء ، وأضافني إلى منزله واحتفل فيما هيئه من مأكله ، وأحضر ابنه وولديّ كمال (٤) وهما محمد وجمال للسلام عليّ والمثول بين يدي ، والله تعالى يصلح الأحوال ويوفّقنا لما يحب في الحال والمال بمنه وكرمه آمين.
ومنهم الشيخ العالم ، المواظب على الخير والملازم ، العالم الأريب ، البليغ الأديب ، الفصيح الخطيب ، المتولّي خطابة العمارة المذكورة ، وخوجا باش الينكجرية المنصورة ، رجل لطيف الذات ، كامل الأذوات ، مشتهر بعلمه وفضله ، ذو رغبة في الخير وأهله ، وبيني وبينه أكدّ صحبة [١٤٧ أ] وأشد محبّة ، والله تعالى يعاملنا وإياه والمسلمين بخفي لطفه ووفي كرمه آمين.
ومنهم الشيخ الأمجد ، والفاضل الأوحد ، والحافظ للقرآن المجيد ، والمقرئ بالإتقان
__________________
(١) وردت في (ع) مصحّفة : «سنة».
(٢) وردت في (م): «المشتهر».
(٣) وردت في (ع): «بعهد».
(٤) وردت في (ع): «واحضر ولديّ ابنه كمال ...» والصواب ما أثبتناه.
والتجويد ، يوسف سنان جلبي بن عبد الله ، سار محفل (١) بعمارة السّلطان سليم شاه المشار إليها أعلاه. رجل مشتهر بالديانة والعفّة والأمانة والقراءة الحسنة والطريقة المستحسنة ، محب لنا مصافي ، مكافيء بالخير وموافي. في غاية اللطف والحسن (٢) والمروءة وعلو الهمّة ، والله تعالى يغمرنا وإياه والمسلمين بالمغفرة والرحمة آمين.
ومنهم الشيخ العلّامة ، والقدوة الفهّامة المشهور بالفضل (٣) ، والمشتهر بالعلم والعقل ، البالغ في فضائله الثريّا ، والراقي في فضائله مقاما عليّا ، الشيخ شمس الدّين محمد المصريّ (٤) الشهير بمهيّا ، حضر لديّ وسلّم عليّ وتودّد في سلامه ، وتلطّف في مخاطبته وكلامه ، والله تعالى يبلغنا وإياه [١٤٧ ب] والمسلمين الأمل ، ويوفقنا للإخلاص في القول والعمل آمين.
ومنهم القاضي المشهور بالعدل ، المنسوب للعلم والفضل ، ذو الهمّة العليّة الرفيعة ، والفكرة المطبيعة والطبيعة ، المشتهر بحسن الطوية ، عبد الصمد قاضي الزاوية كان ثم شيخ الأشرفيّة ، وقع بيننا وبينه مجالسات ومباحثات ومؤانسات وتذكرت هنا قول بعضهم : [من الخفيف]
ورقيع أراد أن يعرف النحو |
|
بزي العناد لا المستفتي |
قال لي : لست تعرف النحو مثلي |
|
قلت : سلني عنه أجب في الوقت |
قال : ما المبتدا وما الخبر المجرور |
|
أخبر ، فقلت : تنقم يف وعذت |
__________________
(١) لم نهتد إلى معرفة معنى هذا المصطلح العثماني ولعله يرتبط بوظيفة كالتشريفات أو الحجابة. وعند شمس الدّين سامي (قاموس تركي : ١٣٠٢): «المحفل : المقصورة ، المحل المخصص للسّلطان داخل الجامع الشريف».
(٢) وردت في (ع): «والحشم».
(٣) وردت في (ع): «المنسوب للفضل».
(٤) وردت في (ع): «المطري» وهو في الكواكب السائرة (٢ : ٢٥٢) مهيا بن محمد المصري.
ومنهم الشيخ النبيل العريق الأصيل ، محيي الدّين (يحيى بن بركات بن المرجانيّ ، المكّي الأصل ، النيّر الوجه ، الأسود الشاش المشهور بابن قايماز قراباش ، رجل الكمال والكلام ، وصاحب الحال والمقام ، ذو الأذكار المأثورة والأوراد ، [١٤٨ أ] الشائع بين الأروام في أعلى مقامات الاعتقاد ، بيننا وبينه صحبة وخلّة ومحبّة ، وتودد وتردد ، والله تعالى يصلح أحوالنا ، ويبلغنا والمسلمين آمالنا بمنه وكرمه) (١).
ومنهم المقام العالي ، ذو المفاخر والمآثر والمعالي ، الأميري الكبيري العلائي علي ابن المرحوم السعيد الشهيد مولانا السّلطان المؤيد أحمد بن مولانا المرحوم السعيد الشهيد السّلطان الملك الأشرف إينال ، سقى الله عهدهما شآبيب الرحمة والأفضال ، وحرس سعده وثبت مجده ، أحلته هنالك الأقدار ، واطمأنت به في تلك المدينة الدار ، منعزلا عن مداخلة الناس إلّا بالتودّد والتلطّف والإيناس ، حضر مسلّما عليّ ومتودّدا إليّ. وبيننا وبينه مواددات لطيفة ، ومنافثات (٢) ظريفة ، والله تعالى يحرس من كل سوء ذاته الشريفة بمنه وكرمه آمين.
وليكن هو آخر سردهم ، وخاتمة عدّهم ، وواسطة عقدهم ، وأمّا من دون هؤلاء فجماعة لا يحصى لهم عددا ، ولا يبلغ الضابط لهم أمدا ، وهذا القدر كاف ، وبحصول المقصود واف ، ولنرجع إلى سياق الرحلة المباركة إن شاء الله تعالى فنقول : فلمّا استقر بنا الركاب في مدينة قسطنطينيّة في دار مولانا المشار إليه ، بعد العود من الرحلة الأزنكميدية ، على ما شرح من الأحوال المرضية ، نرتع في رياض مجاورة ومحاورة ، ونكرع في حياض مؤانسة ومذاكرة ، وفد الشتاء بقوته حاشرا عساكره وجنوده ، وناشرا راياته الدكن على الوجود وبنوده ، فأرسلت الرياح نشرا بين يدي الرحمة ، وتتابعت الأنواء والأنداء كقطع ليل مدلهمة ، وتفتّحت أبواب السماء بماء منهمر ، وتفجّرت الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ، ووقع الثلج ، وغمر النهج ، وامتلأ به الفج والمرج ، وستر سواد الأرض ببيض المطارف [١٤٩ أ] وحاد على الربا والوهاد بتالد من ذلك وطارف ، كما قال السري الرفاء : [من البسيط]
__________________
(١) ما بين القوسين بياض في (ع) ، وكتب في (م) على الهامش فذهب أغلبه.
(٢) وردت في (ع): «مباحثات».
أما ترى الثّلج قد خاطت (١) أنامله |
|
ثوبا يزرّ على الدنيا بأزرار |
نار ولكنها ليست بمبدية |
|
نورا وماء ولكن ليس بالجاري (٢) |
فيصبح الناس وصباحهم أبيض ، وجناحهم لا ينهض ، والعروق لا تنبض ، والبروق لا تومض ، والنيران مقرورة ، وشياه (٣) الجليد مطرورة ، والوجوه في عبوس ، والوجود في بؤس ، قد جمدت الأبدان حتى كأنها بلا نفوس ، فأقمنا نكابد من ذلك الحال في تلك الأيّام عيشا مريرا ، واستمرينا أيّاما عديدة نشابه أهل (٤) الجنّة بلا تشبيه في أنّا لا نرى فيها شمسا ولكن (٥) زمهريرا ، ونشرب المياه من كأس كان مزاجها بالثلج كافورا ، ونتخذ النار من البرد جنّة ، ونرضى بها ونحن المؤمنين (٦) بأن تكون لنا جنّة ، ولم يزل البرد مشتد الشكيمة ، ماضي العزيمة ، قد تهدد وتوعّد ، وأبرق [١٤٩ ب] وأرعد ، والأنواء متواردة ، والأنداء متوافدة ، وإن لم تكن متتابعة ، ولا كبقية السنين متزايدة ، فإنّ هذا العام على ما شرح ـ ولله الحمد ـ أقلّ بردا من بقية الأعوام ، كما أجمع عليه من سكن الرّوم من العرب والعجم والأروام ، واستمر جيش الغمام محاصرا ليالي وأيّام ، يجرد بوارقه ، ويخوف بصوت رعده صواعقه ، ويفوق عن قوسه الممدود في الأفق نبل وبله ، ويبعث تحت مدد قطره سرايا سيوله ، فيستولي على الربى بخيله ورجله ، والثلوج قد شابت منها قلب الرجال ، كما شابت بها مفارق الجبال ، إلى أن هزمه الربيع بجنده ، وغلبه بجيوش زهره وشوكة ورده ،
__________________
(١) وردت في (م): «حاكت».
(٢) البيتان في يتيمة الدهر ٢ : ١١٨ ومعاهد التنصيص ٣ : ١١٢.
(٣) وردت في (ع): «وشنان».
(٤) وردت في (م) و (ع): «أصحاب».
(٥) وردت في (ع) : ولا.
(٦) وردت في جميع النسخ : «المؤمنون».
وأراح النفس (١) من روعة برده برائحة رائع (٢) عراره ورنده ، وأصبحت السماء صاحية ، والشّمس وإن تسترت (٣) أحيانا مسفرة ضاحية ، وأركان الرفاهية [١٥٠ أ] غير واهية ، ومعالم العافية غير عافية : [من الكامل]
ووجوه هاتيك الرياض سوافر |
|
غيد تزان من المياه بأعين |
والأرض تجلى في رداء أخضر |
|
والجو يبرز في قناع أدكن (٤) |
والربى قد تعممت بملوّنات الأزهار ، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار ، والزمن قد استقبل آذاره ، وخلع في بسيطة عذاره ، وقد أشرق (٥) الجو بإشراق الخمائل والنبات ، وتلك المدينة قد أحدقت بها الأنهار من سائر الجهات ، ونحن نمرح في جهاتها ، وتسرح العين في منتزهاتها ، ونسير في مفترجات تلك الأقطار ، إلى أن قضينا أكمل الأوطار ، وتمتعنا من تلك المنازل الرفيعة بالحدائق الغضيّة والنسيم المعطار ، بحيث تضاحك الورد والبهار ، وتفاوح الرند والعرار ، والطير قد تكلّم ، والعود قد ترنّم. وقد خيّم السرور ، وتضاعفت (٦) بتضاعيف البحر الحبور ، ومضى لنا مع مولانا السّيد [١٥٠ ب] فيه يوم حسن ، وحسن يوم تممت حسنه البدور ووفيت بوفائه النذور : [من السريع]
يوم لنا بالبحر مختصر |
|
ولكل يوم مسرة فضر |
__________________
(١) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع).
(٢) سقطت هذه الكلمة من الأصل.
(٣) وردت في (ع): «سترت تخفرت».
(٤) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٣١ بلا عزو.
(٥) وردت في (ع): «أشرف».
(٦) سقطت هذه الكلمة من (ع).
والسفن تعد وفي العباب بنا |
|
والماء مرتفع ومنحدر |
فكأنما أمواجه عكن |
|
وكأنما داراته سرر (١) |
ومضى لنا يوم آخر في البرّ قد غاب عذاله ، وكملت أوصافه وخلاله ، وتم حسنه وجماله (٢) : [من البسيط]
في رياض من الشقائق أضحت |
|
يتهادى بها نسيم الرّياح |
زرتها والغمام يجلد منها |
|
زهرات تفوق لون الرّاح |
قلت : ما ذنبها؟ فقال مجيبا : |
|
سرقت حمرة الخدود الملاح (٣) |
فنزلنا بها تحت سرحات مؤنقة ، ودوحات مورقة ، متضوّعة بعرف الزهر معبقة ، في أرض سندسيّة اللباس ، ذات مطارف متنوّعة الأجناس ، بين خامات زرع تموج يدافعها موج البحر ، وتلوح طلائها من كتائب الزهر ، فماء الندى مسكوب ، ورواق الظل مضروب ، والريح يصفق والغصن يتثنى والقبّر يصرصر والبلبل [١٥١ أ] يتغنى والحمام ينوح ويندب ، ويشكو من جوى دهره ويعتب ، فتذكرت به نوح الغريب بفقد بلاده ، وتأوهه لنأيه عن أهله وأولاده ، واندفع لسان الحال قائلا في إنشاده ، حاكيا ما
__________________
(١) الأبيات في تاج المفرق ١ : ٢١٨ بلا عزو وباختلاف في الرواية.
(٢) وردت في الأصل : «وجلاله».
(٣) الأبيات في تاج المفرق ١ : ١٨١ ومعاهد التنصيص ٣ : ٧٦ بلا عزو.
توجّع منه القلب وتألم ومضمّنا لتضمين بيت أبي كبير الهذلي (١) لعوف ابن محلّم : [من الطويل]
أفي كلّ عام غربة ونزوح |
|
أما للنوى من ونية فيريح |
لقد طلّح البين المشتّ ركائبي |
|
فهل أرينّ البين وهو طليح |
وأرّقني بالروح نوح حمامة |
|
فنحت وذو البثّ الغريب ينوح |
على أنها ناحت ولم تذر دمعة |
|
ونحت وأسراب الدموع سفوح |
وناحت وفرخاها بحيث تراهما |
|
ومن دون أفراخي مهامه فيح |
ألا يا حمام الأيك الفك حاضر |
|
وغصنك ميّاد ففيم تنوح |
لعلّ إلهي أن يمنّ بفضله (٢) |
|
فتلقى عصا التّطواف وهي طريح |
ويسكن قلب دائم خفقانه |
|
وينعم جفن بالبكاء قريح (٣)[١٥١ ب] |
__________________
(١) وردت في جميع النسخ : «الهدى» والصواب ما أثبتناه ، وأبو كبير هذا هو عامر بن الحليس ، شاعر فحل ، أدرك الإسلام وأسلم ، وأبياته التي ضمّنها عوف بن محلّم هي :
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر |
|
وغصنك مياد ففيم تنوح |
أفق لا تنح من غير شيء فإنني |
|
بكيت زمانا والفؤاد صحيح |
(٢) ورد صدر البيت في (م) و (ع): «عسى جود ربي أن يمنّ بجمعنا».
(٣) سقط البيت الأخير من (ع). وهذه الأبيات موجودة في معجم الأدباء. ١٦ : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، وفوات الوفيات ٣ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ورفع الحجب المستورة ١ : ٤٢.
فاستجاب الله سبحانه وتعالى ، وضاعف برّه وفضله ووالى ، وهيّأ أسباب العود إن شاء الله تعالى إلى الوطن ، والرجوع إلى الأهل والسكن ، وذلك أنّا لما خرجنا من الأوكار ، وسرحنا في روضات الجنات بعد ملازمتنا موقد النار ، وانتشرنا في تلك الأرض ، وجمعنا [في اجتماعنا (١)] بالأصحاب بين النافلة والفرض ، اهتم الوزير (٢) بأمرنا غاية الاهتمام ، وأظهر عزم الرجال وكذلك قاضي العسكر وغيره ، الى أن نجح الأمر إن شاء الله تعالى بالتمام ، وحصل المقصود إن شاء الله تعالى على الكمال ، ولله الحمد على توافر نعمائه (٣) وتكاثر امتنانه كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه ، حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه ، يكافئ مزيد كرمه ويوافيه.
ومما حدث في هذه الأيّام أن ورد عليّ كتب (٤) من بلاد الشّام من الأهل والأرقاب والمعارف ، يتضمّن أنّ ابن إسرافيل [١٥٢ أ] قاضي دمشق كتب عروضا بغالب الوظائف ، وذلك من غير معرفة سابقة ، توجب عداوة أو مصادقة ، وإنما ذلك بإيحاء بعض المعاندين ، من الأعداء والحاسدين ، والعجب أن لا نكير من الأصحاب مع الكثرة ، ولا إعانة منهم على المعادين ولا نصرة ، مع سلامة أهل الشّام من أذانا ، وانتفاعهم بتعليمنا وفتوانا ، ولعل ثمّ عذر من الإخوان اختفى علينا الآن ، هذا كلّه مع اقامتي في كل جهة من النواب جماعة ، والقيام بشعائرها ومصالحها حسب الاستطاعة ، وغيبتى في باب السّلطان ، والاعتناء بأموري في بلاد الرّوم من أركان الدولة والأعيان ، فذكرت ذلك لهم فأنكروه وأعظموه جدا وأكبروه ، ثم كتب لي بحمد الله بجميع جهاتي تجديد ، وحكم سلطاني جديد ، وأضيف الى ذلك ما كان أخرج منها عنّا ، ونزع بالعدوان والتدليس منّا ، وازددنا من فضل [١٥٢ ب] الله تعالى جهات أخرى ، فحصل بذلك للمحبين البشرى ، وازداد الشانيؤن خسرا وقهرا ، وكان ذلك بحمد الله تعالى من اللطف الخفي والمن الوفي ، وبالله تعالى استعين واكتفي ،
__________________
(١) زيادة من (م) و (ع).
(٢) وردت في (ع): «الورى».
(٣) وردت في (ع): «آلائه».
(٤) كذا وردت ولعلها : «كتاب».
ومما جرى على الجنان فنطق به اللسان قولي : [من الكامل]
حاولت من دهري الأمان فراغا |
|
فأريته عمّا طلبت فراغا |
ويئست من أهليه أجمعهم فما |
|
أرجو مراء منهم حنى أو راغا |
والصبر عنهم قد سلكت سبيله |
|
وعلى الحشا أفرغته إفراغا |
كم قد شرقت بغصّة منهم وما |
|
لاقيت ممّا قد غصصت مساغا |
غصبوا الثعالب طبعهم فتراهم |
|
لا يسأمون عن المراد رواغا |
وكأنهم صبغوا بحالك لؤمهم |
|
طبعا يزيد مدى الزمان صباغا |
ولجأت للرحمن فيما أبتغى |
|
فبلغت مما أرتجيه بلاغا |
وأنالني باللطف حظا وافرا |
|
وعليّ أسبغ ظلّه إسباغا |
وأراحنى بعد العناء بمنّه |
|
فضلا وأبلغني المنى إبلاغا [١٥٣ أ] |
فله تعالى الحمد مني ما اهتدى |
|
قلب الى سبل الهدى أو زاغا |
هدانا الله إلى سبل الهدى ووقانا ، وحمانا من الضلال والردى وكفانا (بمنه وكرمه كيد الحساد ومكر العدا آمين) (١)
__________________
(١) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
ذكر الرجوع الى الوطن والأوبة بعد طول مدّة هذه الغيبة
ثم لما انقضت بحمد الله تعالى جميع الأشغال ، وانتظمت بعون الله سائر الأحوال ، ومنّ الله تعالى بالظفر ، شرعنا مسرعين في أهبّة السفر ، وذلك السيّد الكريم والولي الحميم في تعاطي حاجاتي بنفسه مهتم على أتم لأحوال وأكمل الأمور ، وبمفارقتي له مغتم ، وببلوغ أربي مسرور ، إلى أن كمل الاستعداد وتهيأت الرفقة والزاد.
وأسرج جواد الأوبة ، وتقوّضت خيام الغيبة ، وحم يوم الفراق ، واحتدم ذلك التلاق ، وأضرمت تلك الأعلاق ، وأعدّت الركاب ، وحضر للوداع جميع الأصحاب ، وتحقّق السير عن ذلك الحمى ، وأشأم حاد كان بالأمس أتهما ، وأجريت الدموع ، وطلق الهجوع ، وأضرمت نيران الزفرات الأكباد والضلوع ، [١٥٣ ب] : [من الكامل]
ومدت أكفّ للوداع فصافحت |
|
وكادت عيون للفراق تسيل (١) |
فيا لساعات التوديع ما أشدّ كربها وأحدّ عزمها ، وأكثرها إلهابا للخلد ، وذهابا بالجلد ، وذوابا للجلد والجسد ، وممّا قلته : [من البسيط]
يا قاتل الله قلبي كم أحمله |
|
ما لا يطيق لقد رثت علائقه |
في كل يوم له خل يودعه |
|
مع الزّمان ومحبوب يفارقه |
وأنشدت ذلك السيّد الحبيب ، وأنا وهو منتحب ومفارق لجسماني ولقلبي مصطحب : [من مجزوء الرّجز]
__________________
(١) البيت في تاج المفرق ١ : ٢٧٥ بلا عزو.