المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

دورية أفلاكها

دائرة لا تفتر

ما لاح نجم مزهر

وفاح نجم مزهر

فأجابني عن لغزي بقوله : [من مجزوء الرّجز]

يا من غدا مثل اسمه

لما دجى ينّور

ألغزت في شىء غدت

نعماؤه لا تحصر

مرخما حرفه

تلقه نهى لا يقدر

وإن تصحفه يكن

منه بهاء يزهر

وإن أعدت لامه

حباك روض نضر

واعكسه فهو راهب

مما جناه يحذر

وإن حذفت ثالثا

منه عراه بهر

واقلبه فهو الرعب

من قلب جبان ينفر

فهاك حل اللغز من

مقصر يعتذر

واسلم ودم في نعمة

ما لاح ليلا قمر

٢٤١

وكتبت له لغزا أيضا ، فقلت : [من مجزوء الرّجز]

يا أوحد العصر يا

من عليه شكري وقف

ما اسم ثلاث حروف

وإن عكست فحرف

وتارة هو فعل

لذلك الاسم وصف

فأجابني بقوله [١٢٥ ب] : [من مشطور البسيط]

يا من لمجد علاه

بكر المعاني تزف

ألغزت شيئا بديعا له

القلوب ترف

كم مال عن ذي كمال

وللجهول يحف

وكم به جاء فتح

وكم به حل حتف

وإن ترخمه يأتي

له معاني تصف

وإن ترخم وتقلب

يلوح من ذاك حرف

وفاءه أحذف تجده

اسما به جاء عرف

واعكسه تشهده حرفا

والنهي منه يشف

لا زلت ترقى المعالي

ما دام يطرف طرف

٢٤٢

ولم نزل بذلك المكان (١) المذكور ، ننشر من الإنشاء زهر منثور ، وننظم من القصائد درر بحور ، ونحلى من نواشي الطروس بلآليء السطور ، معاقد خصور ولبات نحور ، وأتمتع من ذلك السيّد المولى بمجالسته ، وأتمنع إلّا عن مسامرته ومؤانسته ، وأرتشف من نمير زلال مفاكهة أحاديث أحلى من ارتشاف الرضاب ، وأغترف من بحر علومه فوائد لها عندي اقتضاء واقتضاب : [من الطويل]

أحاديث أحلى في النفوس من المنى

وألطف من مرّ النسيم إذا سرى (٢)

فيا لها من أيام غرر جلت غسقا وتعالت نسقا ، وبثت من [١٢٦ أ] علوم ونشت من منثور ومنظوم ، وذكرت أيامنا بالبلاد الشّاميّة ، التي هي بالمحاسن موشية (٣) ، وبعكوفنا فيها على العلم بكرة وعشية ، فهناك كم من صارفة حرفت وعارفة عرفت وعقيلة عقلت وكلمة رمقت فومقت ومقلت فنقلت ، قد ناب فيها عن والدي هذا السيّد أبا شفيقا وعن أخوتي أخا برّا شقيقا : [من الطويل]

شقيق أخاء لا شقيق أخوة

نسيب صفاء إن ذكرت نسيبا (٤)

بل سيّد ومولى ومالك الرق والولاء ، ومنقذ بشريف فضله وتفضله نفسا أشرفت على البلاء ، يؤنسني في وحشتي تلك مأنسة ، ويقدّمني في كل الأمور على نفسه ، بل هو الروح الروحانيّة والنفس الإنسانيّة ، والقلب لكنه السليم من الانقلاب ، والعين لكنها القريرة بالأحباب ، قد رفعت من صدق الاتحاد الاثنينية بيننا ، ولو لا ملاحظة السيادة والعبودية لقلت له : يا أنا ، استغفر الله تعالى ، بل نلحظ مقام

__________________

(١) من هنا إلى منتصف الورقة [١٢٧ أ] يكثر الشطب وعدم وضوح الخط في (م).

(٢) البيت في تاج المفرق ٢ : ١٣٩ بلا عزو.

(٣) من هنا يظهر اضطراب الناسخ في (ع).

(٤) البيت في تاج المفرق ٢ : ١٣٩ بلا عزو.

٢٤٣

العبودية ونحفظ رتبة السيادة [١٢٦ ب] ونقف على قدم الخدمة بين يديه متأدبين كما هو جاري العادة ، ويكون هذا الموقف إعزازا لا إذلالا ، ولا نتخذ كل وقت سوء الأدب ادلالا ، لا زال مقامه كل وقت شريفا ، وشرفه عاليا على كل شرف منيفا ، وظلّه في الآفاق صافيا وريفا ، وسعده واردا ورائدا من الإقبال منهلا وريفا ، فلم نزل مقيمين هناك بذاك المكان إلى أن عاد السّلطان من جوب تلك البلدان ، وضرب له بظاهر تلك البلدة الخيام ، وكان ذلك أواخر شهر المحرّم الحرام ، واستمر به المقام هناك ثلاثة أيام ، ثم عنّ له الركوب من هناك في البحر المالح لمّا رأى في ذاك من المصالح ، فبطل أعمال الركائب وأعمل ركوب المراكب ، وعدّى الى القسطنطينيّة محل تخت ملكه في القارب ، فما مضى ذلك اليوم وغده حتى ضمّته سراياه وبلده ، ثم تلاحقت به العساكر تترا ، وتألفت (١) مسرعة برا وبحرا ، وكنّا قد سئمنا هناك من المقام ، وإن لم يسأموا منّا أهل [١٢٧ أ] ذلك المقام ، وآل الإكرام منهم الى الإبرام ، وإن لم نبلوا (٢) من صحبتنا أقصى المرام ، فأجمعنا على الرحيل وأزمعنا ، ولم تك هناك الخيل معنا وليس ثمّ محمل ولا مركب غير ما حملنا إليها من ذلك المركب المنسوب إلى الرئيس (٣) لطفي ، وحاله في النذالة والسفاهة (٤) غير مخفي ، وإلّا المركب المنسوب لابنه ماميه ، ساق الله ما يستحقه إليه ، فأرسلنا وراءهما بسبب ذلك ، وذكرنا لهما ما هنالك ، وشرحنا لهما جليّة الخبر ، وقلنا : إن كنتم تهيأتم للسفر وإلّا فهنا مراكب أخر ، وقصدنا تقريب (٥) الرجعة والمضي إلى القسطنطينيّة سرعة ، فقالوا : قد تكاملت أمورنا ولكن اصبروا علينا إلى يوم الجمعة ، فمضت الجمعة ولا حس ولا

__________________

(١) وردت في (م): «وتتابعت».

(٢) وردت في (م) و (ع): «ينلوا».

(٣) وردت في (ع): «السيد».

(٤) وردت في (ع): «الشقاوة».

(٥) وردت في (م) و (ع): «بقريب».

٢٤٤

خبر ، ولا عين لهما ولا أثر ، ولا أسفر وجه واحد منهما (١) ولا حضر ، ونحن في غاية القلق والضجر ، فأرسلنا إليهما وأكّدنا في الحضور عليهما فحضرا واعتذرا ، وذكرا أنّ السفر ولا بدّ يوم (٢) الاثنين ، فجاء ذلك اليوم ولا عين [١٢٧ ب] ولا خبر وليس إلّا الكذب والمين ، ونحن نقول : هما أين؟ هما أين؟ فغضبنا من ذلك وحردنا ، وأكّدنا عليهما بسببه وشدّدنا ، فحضرا وأجمعا ووعدا بأنّ السفر ولا بد يوم الأربعاء ، وأقسما على ذلك وتقطّعا ، فحضر الأربعاء ولم يحضرا ولم يشاهدا ولم ينظرا (٣) ولا خبر منهما ولا مخبر عنهما ، فأيقنّا أن ليس واحد منهما مسلما (٤) ، ثم انقضى ذلك اليوم ومضى ، ونحن نتقلّى على جمر الغضا ، ونمزج الغيظ بالرضى ، وقد ضاق علينا ذلك الفضاء ، وصار صبرنا كأمس مضى.

ومضت بعد ذلك مدّة ، وأيام عدّة ، ثم حضر أحدهما معتذرا ، مستكينا بما جرى مستغفرا ، وعاهد ووعد وذكر بأن يوم الأحد ولا بد يكون السفر ، فانتظر ذلك الأحد أحدّ انتظار ، إلى أن وافى بوعده (٥) ذلك النهار ، ثم مضى يوم الأحد ، ولم يحضر منهما أحد ، ولا أنجز ما عاهد عليه ووعد ، ثم حضرا بعد أيّام ، وقالا : قد استحيينا منكم ونحن نصدقكما الكلام ، فإنّ مركب لطفي لم [١٢٨ أ] يتم ، ومركب ماميه أشرف على التمام ، ويكمل وسقه ولا بدّ يوم الخميس ، (ويحصل من الكروب التنفيس) (٦) ، ويكون نزولكم فيه بخير يوم الجمعة وقت التغليس ، وأقسموا على ذلك قسما لا يفجر (٧) من كان مسلما ، فارتجينا بذلك تنفيس الكروب ، وقلنا قد يصدق الكذوب ، فارتقبنا ذلك رقبى الهلال ، ولم نشكو في انتظاره من الكلال ، فلم

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٢) وردت في (ع): «من».

(٣) وردت في (ع): «ينكرا».

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٥) زيادة في (ع): «في».

(٦) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ع).

(٧) وردت في (م): «يفجره».

٢٤٥

نزل بذلك الحال حتى حلّ ذلك الوقت وحال ، ومضى يوم الجمعة بالتمام والكمال ، وتصرّمت بعده عدّة ليال ، فتزايد الكرب ، وذاب من نار الانتظار القلب ، وضنى الجسد والفؤاد ، من خلف الميعاد بعد الميعاد ، فذكرنا (١) ذلك لقاضي البلد ، فأحضرهما وتوعد ، وأنكر عليهما وتهدد ، وبالغ في ذلك وشدّد ، وأبرق في إيعاده وأرعد ، فقالا : لا عذر لنا بعد اليوم ، ولا إنكار ولا لوم ، ويوم الثلاثاء من كل بدّ يركب القوم ، ويأخذ مركبنا في السير والعوم ، وحلفا على ذلك وعاهدا ، وبالغا في أيمانهما وعهودهما وأكدا ، [١٢٨ ب] فحضرا يوم الثلاثاء يحثّان في المسير احتثاثا ، ويظهران أنهما لا يبديان للعهد انتكاثا ، وقالا : لم يوافق هذا النهار ريح موافق ولا رزكار (٢) ، وبعد يومين تنصلح الرياح غاية الانصلاح ، ويحصل رزكار موات (٣) للرواح ، وفي يوم السبتّ يكون السفر على البت ، فجاء السبت وانصرم ، واتقدّ جمر (٤) القلب واضطرم ، ثم مضى يوم الأحد ولم يحضر منهما أحد ، فلمّا كان ضحى يوم الاثنين حضر أحد الاثنين واعتذر بما لن ينفعه ، عذرا ما كان أصقعه (٥) ، وقال : نرسل في الغد صندلا (٦) لنقل الأسباب والأمتعة ، فلم نصدقه من كثرة ما كذب ، وأقمنا جدّه مقام اللعب ، فلمّا انجلى (٧) وجه الصباح وتهلل ، ظهر لنا من بعد ذلك الصندل (٨) ، ففرحنا به فرحنا بالمواسم ، وانتظرنا وصوله للثغر وثغر كلّ منا باسم ، وما علمنا أنّ هذا الفرح يعقبه بؤس ، وهذا البشر بديله عبوس ، فأنزلنا فيه في تلك الساعة

__________________

(١) وردت في (ع): «فذكر».

(٢) رزكار وروزكار : كلمة تركية بمعنى ريح ورياح ، انظر : شمس الدين سامي : قاموس تركي ص ١٣١٧.

(٣) وردت في الأصل : «موافق» وما أثبتناه من (م) و (ع).

(٤) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

(٥) وردت في (ع): «أضعفه».

(٦) الصندل : بمعنى زورق أو قارب صغير ، سمّي بهذا الاسم لأنّه كان يصنع من خشب الصندل. انظر : شمس الدين سامي : قاموس تركي ص ٨٣٣.

(٧) وردت في (م) و (ع): «انحل».

(٨) وردت في الأصل : «هذا».

٢٤٦

الأسباب والأمتعة والجماعة [١٢٩ أ] على أنّنا نبكر لهم صباحا ، ونركب معهم غدوا ورواحا ، فأمطرت السماء تلك الليلة مطرا غزيرا ، صار منه الوادي غديرا ، واستمر يوم الأربعاء ثم ليلة الخميس معا ، ثم أسفر وجه الخميس ووجه الجوّ في غاية التعبيس ، وعيون المزن ذارفة ، وسقف الأفق واكفة ، والقلوب من ذلك راجفة واجفة ، الى أن تعالى النهار ، وكاد جرف الصبر ينهار ، فكف حينئذ الوبل ، وتنازل الى مرتبة الطل ، والشّمس من خلل السحاب تظهر كالحسناء في النقاب أو مثل عذراء تبرز وتستتر بالخباء ، أو كما قال الشريف ابن طباطبا : [من الوافر]

متى أبصرت شمسا تحت غيم

ترى المرآة في كفّ الحسود

يقابلها فيكسبها غشاء

بأنفاس تزايد في الصّعود (١)

فعزمنا على الرحيل ، والتجوّل في برد الأصيل ، وخرجنا وقت العصر من تلك المدينة ، قاصدين في زعمنا الركوب في السفينة ، وذلك يوم ثامن عشرين صفر ختم بالخير والظفر ، وأخذنا في السير والترحال ، والقلب في غاية الأوجال من تلك الأوحال والأحوال ، فلمّا وصلنا إلى قرب [١٢٩ ب] الساحل التي السفينة به ، تلقّونا الجماعة (٢) ، ومالوا بنا إلى قرية هناك بقربه يقال لها ينكيجه باللغة الرّوميّة ، ومعناه الجديّدة بالتصغير في اللغة العربيّة ، وقالوا لنا : استريحوا هنا في هذا المكان ، وعرّفنا الجماعة أنّه كذب في قوله ومان ، فنزلنا هناك ببيت عال من الدفوف ، متخرّق الحيطان والسقوف ، تتناوح به رياح الجنوب والشمال ، من العلو والسفل واليمين والشمال ، فلم نزل بذلك المكان ثلاثة عشر يوما ، لا نجد بالنهار راحة ولا نذوق بالليل نوما ، ونحن في أسوء الأحوال ، وأشدّ الأوجال ، من تلك الأمطار والأوحال ، وقد اشتد البرد ، وبلغ الجدّ وفرغ الجهد ، ووقع الثلج على الجبال حوالينا ، ووصلت

__________________

(١) البيتان في محاضرات الأدباء ٢ : ٥٣٨ ، ومعاهد التنصيص ٢ : ١٠٤.

(٢) وردت في (ع): «تلقانا ماميه والجماعة».

٢٤٧

سهامه (١) إلينا ، وقلنا الحمد لله اللهم حوالينا ولا علينا ، وهذان النذلان يعدانا بمواعيدهما المعروفة ، ويجريان من الكذب على عوائدهما المألوفة ، ويعاهدان ثم يخلفان ، ويكذبان [١٣٠ أ] فيما عليه يحلفان ، فلم تزل تلك دعواهم ، أضعف الله قواهم ، وضاعف بلواهم وأبعدهم وأخزاهم (وعاملهم بعدله وجزاهم) (٢) ، فما أجرأهم على النفاق وأجراهم ، فبينا أنا أقاسي من ذلك حزنا وحربا ، وأتنفس الصّعداء غموما وكربا ، وألاقي من تلك الأهوال وصبا ونصبا ، وأكاد أتميز غيظا وغضبا (وقد بلغ السيل في الحالين الزبا) (٣) ، وضاق الخناق ، واشتد الوثاق ، وتزايد الإغراق والإحراق ، وبلغ إلى حدّ لا يستطاع وصفه ولا يطاق ، فما راعني إلّا البشرى بوصول خيلنا ، وسوقها من فضل الله سوقا لنا ، فاستخرت الله تعالى في السفر في البحر وصمّمت ، وعزمت عليه وعزّمت وجزمت ، وكان قد تنجّز أمر ماميه حقيقة في تلك الساعة ، وعزم على الركوب في سفينته السيّد ومن معه من الجماعة ، وعرض علينا ماميه الركوب فيها عرض الكرماء فأنشدته : [من البسيط]

ما أنت نوح فتنجيني سفينته

ولا المسيح أنا أمشي على الماء (٤)

وممّا جرى على اللسان فيه وفي أبيه ما أنشدته على البديه ، وهو قولي [١٣٠ ب] : [من الرّجز]

إنّ يقل المريض ثلث مالي

لا نذل النساء والرجال

نصرفه في الحال إلى ماميه

لكن أبوه يدعي عليه

__________________

(١) وردت في (ع): «سمومه».

(٢) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٤) ورد هذا البيت في رحلة الشتاء والصيف لكبريت ١٣٢ ، وفيه أنّ الشاعر الحصري كتب هذا البيت للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وكان قد بعث إليه بخمسمائة دينار يتجهز بها إليه.

٢٤٨

يقول هذا خلقي وطبعي

فالمال أستحقه بالشرع

حينئذ يقول ماميه له

لقد خبرت فرعه وأصله

وقد حويت كثره وقله

وقد وردت عله ونهله

وقد بقي لي دائما جبلّه

وخصلة طبعية وخلّه

فالمال أستحقه من دونكا

فلا تمدنّ إليه عينكا

فعند ذا يغضب لطفي منه

ولم يزل معنفا بلعنه

يقول أنت غاصب حقوقي

في كل وقت مظهرا عقوقي

يقول ماميه إذا طلبت

حقي فما أن لك قد عققت

يقول لطفي كيف قلت حقي

وذلك الوصف أتم خلقي

ألست من يوعد ثم يحلف

خمسين ألف قسم ويخلف

قال ابنه لقد رأوني أكذبا

منك بإجماع وألعن أبا [١٣١ أ]

وقد تركبت عليك الحجّة

وظهرت منها لي المحجّة

إنّ العقوق يقتضي استحقاقي

إذ هو من نذالة الفساق

٢٤٩

فما ذكرته هو الدليل

قد قام لي عليك يا جهول

وأنت إن كذبت إذ واعدتا (١)

فللذي فعلت ما وصلتا

ألست قد نبذت بالعراء

السيّد الشريف ذا العلاء

عين الأماثل (٢) ورأس الناس

عبد الرحيم السيّد العبّاس

مع كبر المقدار والسن ولم

أرع له الحقوق أصلا والذمم

ومعه ذاك الغريب الشّامي

مع أنه المفتي بأرض الشّام

فشاط لطفي عند ذا القول وقال

من بعد أن آلمه ذاك المقال

أليس تزعم بأنك ابني

فقد أخذت ذا الطباع عني

وقد نقلته جميعا مني

فإنه قبلك كان فني

وثم عندي منه أصناف (٣) أخر

وثم أوصاف لدي تدّخر

وأنت لم تدر سوى ما قد ظهر

ولستتعلم الذي عندي (٤) استتر[١٣١ ب]

__________________

(١) ورد صدر البيت في (م): «وأنت إن كذبت في ما قلتا» ، وفي (ع): «وعدتا».

(٢) وردت في (م): «الأكابر».

(٣) وردت في (م): «أنواع».

(٤) وردت في (ع): «عنك».

٢٥٠

وكنت قد نويت أني أنفعك

ببعض ما عندي ولست أمنعك

فإنّ عندي منه ما لن يفرغا

قط وما بلغت هذا المبلغا

قال له ماميه بل عرفت ما

عندك باديا وما قد تكتما

ثم اكتسبت الضعف من سواكا

غير الذي اقترحته من ذاكا

فالآن قدري فيه فوق قدرك

هذا وما بلغت نصف عمرك (١)

فسل من الأنذال عن مقالي

يعترفوا بالمقام العالي

فذل لطفي حين قال ذلك

وصار وجهه كليل حالك

ثم أتاه بكلام حسن

وبمقال لين لا خشن

وقال يا ابني يا أخا المروة

ويا أبا الرجلة والفتوة

والقصد بالمروة النذالة

والقصد بالفتوة السفالة

قد فقت فيهما جميع الخلق

وقد سلخت خلقي (٢) وخلقي

فانت يا قرّة عيني مني

فقد تيقنت بأنك ابني

__________________

(١) في (م) : شطري البيت معكوسين.

(٢) وردت في (ع): «خلقتي».

٢٥١

فاسمع (١) كلامي وارع لي تعليمي

وارفع مقامي واسع في تكريمي [١٣٢ أ]

فقال : كلا لست أعطي حقي

أو بعضه لأحد في الخلق

وإن تكن أبي فمن كمال (٢)

سفالتي منعك من ذا المال

فعند ذا رفع كل أمره

لبعض من له بذاك خبره

قال هما كفرسي رهان

أو كشريكي شركة العنان

فإن هذين بلا محاله

رأسان قدوتان في النذالة

وإنني والله لست أعلم

أيهما في ذلك المقدّم

إن قلت ماميه ففيها (٣) أمة

أو قلت لطفي فهو نذل الأمة

فإنّ هذا الذل مع أصالته

أعظم حجة على سفالته

وذلك الجفاء من ماميه

نذالة ظاهرة عليه

والصلح قالوا سيّد الأحكام

وهو اعتماد سائر الحكّام

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «فاعرف».

(٢) وردت في الأصل : «كمالي».

(٣) وردت في (م): «ففيه».

٢٥٢

والرأي أن تصطلحا وتقسما

جميع ذا الموصى به بينكما

فأنتما أنذل هذي الأمّة

فافترقا على رضى بالقسمة

ومما قلته في لطفي العنيد ، ونحن في ذلك الحال الشديد ، [١٣٢ ب] الذي ما عليه من مزيد : [من مجزوء الرّمل]

عامل الله بعدل

أنذل الأقوام لطفي

وتولانا بفضل

وتلافانا بلطف

ثم ركبت من ذلك المكان ، أنا ومن معي من الصبيان ، وصحبنا معنا ما قلّ من الأمتعة ، وتركنا بقيتها في المركب مودعة ، وودعنا مولانا السابق في الذكر المتقدّم بالذكر وداعا استولى على القلب واستعلى على الفكر ، وفارقته بالجسم والقلب له مصطحب ، وأنا ضاحك من ودع ذلك المحل ومن وداع ذلك الحال منتحب ، وتذكرت بوداع ذلك الصاحب الحبيب ، وداع كل صاحب وحبيب ، وبهذا الفراق والنأي القريب فراق كل ناء قريب ، وأنا أتململ بين نار قلب في نهاية الاضطرام ، وماء طرف منسجم غاية الانسجام ، وأتمثّل بقول علي بن هشام : [من البسيط]

يا موقد النار يذكيها فيخمدها

قرّ الشتاء بأرواح وأمطار

قم فاصطل النار من قلبي مضرّمة

بالشوق من مهجتي ياموقد النار[١٣٣ أ]

ويا أخا الذود قد طال الظماء بها

ما يعرف الرّيّ من جدب وإقتار

٢٥٣

ردّ بالعطاش (١) على عيني ومحجرها

تروي العطاش بدمع واكف جاري

يا مزمع البين لا كان الرحيل فإن

كان الرحيل فإني غير صبّار

إن غاب شخصك عن عيني فلم تره

فإنّ ذكرك مقرون بإضمار (٢)

ذكر العود إلى القسطنطينيّة

وما جرى بعد ذلك من الأمور المرضيّة

وكان رحيلنا من ذلك المكان الذي مرّ ذكره وتقدّم ، يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول المكرّم بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسرنا والسماء متسترة بأجنحة الفواخت ، والطرف من خوف ما يحصل من نؤها باهت ، ولم نزل نسير ونلتهم الأرض التهام الضمير ، ونرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير ، ونجول في وداة وأشجار ، ونحوب في مياه كالأنهار ، إلى أن انهار جرف بناء ذلك النهار ، ونحن نصل السير بالسّرى ، ونعاصى عاذل الكرى ، واليباب يخفضنا إلى بطون وهاده ، ويرفعنا إلى ظهور نجاده ، والليل قد أرفلنا في بجاده [١٣٣ ب] وجلّلنا برداء سواده ، والقمر قد حجبه الغيم في أفقه ، فلم يظهر من غربه ولا شرقه ، وعوّض عنه بسناء برقه ، والرذاذ (٣) يلطم الجباه ، ويهجم على العيون والأفواه ، وذيل الوحل على الأرض منسبل ، وستره على بطحائها منسدل ، (وسلطان النوم عن الطرف ينعزل وعلى وصليه إلى المقل منفصل) (٤) والإعمال في السير متصل ، وكل منا بحالة الخائف

__________________

(١) وردت في (ع): «ردنا العطاش».

(٢) الأبيات في ربيع الأبرار ٣ : ١٣٥ وكتاب الزهرة ١ : ٣٢٠ بلا عزو ، وهي مما ينسب لمجنون ليلى. انظر : ديوانه ص ٩٧.

(٣) ترك مكان هذه الكلمة بياضا في (ع).

(٤) ما بين القوسين ساقط من الأصل ، وشطب في (م).

٢٥٤

الوجل ، إلى أن اهتدينا بعد أن كدنا نضل ، إلى المنزل المعروف بدل ، وهو منزل إلى جانب البحر بين تلال في مضيق ، ومنها ينزل في المعديّة إلى قرب أزنيق (١) فيقرب على الناس الطريق ، وبها عمارة لابن هرسك للقاطنين والواردين ، وعند المعديّة على الدرب خان للمسافرين ، وبظاهره عين ماؤها معين ، يصب في حوض كبير لورود الواردين ، فنزلنا بذلك الخان ، إلى أن آن وقت الفجر وحان ، ونحن لا نهجع ، ولا يستقر لنا مضجع ، ودمعنا ودمع الغمام ذارف ، وسقف الخان والسماء واكف ، فبتنا بليلة نابغية وأحزان يعقوبية وتصبرات أيّوبية ، لا نجد [١٣٤ أ] من تلك البأساء ملجأ ولا مقيلا ، ونلقي من أعيننا وأعين المزن بالليل قبل النهار سبحا (٢) طويلا ، فعندما تجلّى وجه السحر ، وذبح لضيف الصباح مطيّة الظلام ونحر ، خف القطر وقل ، وتنازل من الوبل إلى الطل ، فأخذنا في الترحال ، وركبنا متون تلك الأوحال ، وسمونا مع الماء سموّ حبابه حالا على حال. ولم نزل نقطع مهامه وقفار ، ونجوز في أودية كالبحار ، يندهش بزمع فيها البصر ويحار ، إلى أن وصلنا إلى كيكثبزة (٣) ضحوة النهار ، فما ملنا إلى النزول ولا عجنا ، ولا عوّلنا على غير المسير ولا عرّجنا ، واستمر السير ذلك النهار جميعه والسحاب لا يكفكف دموعه ، والشمس متسترة بخدرها لا تبرح خوف ذلك الزلق من وكرها ، والأرض لا تثبت الرجل من كثرة الوحل على ظهرها ، وتلك الجياد ترسف فيه كالراسف في الأقياد ، وقد ضنى من ذلك القلب والفؤاد ، والثياب منقوشة بأيدي الخيل من العاتق إلى الذيل ، ووافانا [١٣٤ ب] (في

__________________

(١) أزنيق : تقدّم التعريف بها ، وهي مدينة تركية قرب شواطىء بحر مرمرة الشرقيّة ، وهي مدينة أثرية ، كان اسمها في القديم «نيقية» ، وهي من فتوح السلطان أورخان غازي ، مرّ بها الرحالة المشهور بكبريت ، والرحالة الخياري (انظر :رحلة الشتاء والصيف ١٨٩،رحلة الخياري ١ : ٢٣٥ ، أخبار الدول ٣ : ٣٠٦).

(٢) هكذا وردت في الأصل وفي (م) ، ووردت في (ع): «شيئا».

(٣) كيكثبزة : لم نهتد إلى تحديد موضعها ولعلها هي ذاتها قيبزة أو كيبزة التي ذكرها الرحالتان كبريت والخياري. انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٨٨ ، ورحلة الخياري ١ : ٢٣٧.

٢٥٥

ذلك النهار) (١) جماعة ممن كان صحبنا في الطريق ، وممن عدّ في ذلك الفريق ، واتّسم لنا بسمة الرفيق ، راجعا كل منهم إلى بلده ، مؤملا لقي أهله وولده ، فحمّلناهم أطيب السّلام إلى أحبابنا بأرض الشّام ، وقد فنى القلب تحرقا وثوب الصبر تمزقا وتذكرنا مرارة الفراق (٢) وحلاوة اللقاء ، فتزايد من الجوانح الالتهاب ، ومن الدموع الانسراب والانسكاب ، ولم يمكننا لهم إذ ذاك كتابة كتاب ، وتمثّلت بقول أبي حيّان (٣) بوّاه الله تعالى غرف الجنان : [من الخفيف]

لم أؤخر عمّن أحبّ كتابي

لقلى فيه أو لترك هواه

غير أني إذا كتبت كتابا

غلب الدّمع مقلتي فمحاه

وأنشدتهم والقلب في شغل شاغل ، والدمع من العينين سائل ، للصلاح الإربليّ نديم الملك الكامل (٤) :

بالله عليك أيها المرتحل

بلغ عني أحبتي ما فعلوا

قل مات فإن قالوا متى قل لهم

من يوم فراقكم أتاه الأجل [١٣٥ أ]

وأنشدتهم والفؤاد مستعر ، والدمع منتثر ، وعلى الخدين (٥) منتشر ، والقلب لا

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

(٢) وردت في (ع): «الوالد».

(٣) هو محمد بن يوسف بن علي أبو حيان النحوي ، توفي سنة ٧٤٥ ه‍ وأبياته في نفح الطيب ٢ : ٥٧١ ، وتاج المفرق ١ : ٢٣٠.

(٤) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١٣٤.

(٥) وردت في (ع): «الخديد».

٢٥٦

يسكن ولا يقر ، لبعضهم : [من الخفيف]

أيها الرّاكب الميمّم أرضي

بلغن بعضي السّلام لبعضي

إنّ جسمي كما تراه بأرض

وفؤادي ومالكيه بأرض

قد قضى الله بيننا بفراق

فعسى باجتماعنا سوف يقضي (١)

حقق الله رجاءنا وتقبّل دعاءنا بمنه وكرمه آمين.

ثمّ فارقتهم والجوانح ملتهبة والدموع منسربة ، وأنا ألتفت إليهم مرّة بعد أخرى ، وأجرّ رجلي جرا وهلم جرا ، إلى أن غابوا عن البصر ، وعاد عيانهم إلى الأثر ، وحديثهم إلى الخبر ، ثمّ تذكّرت قدومهم إلى البلاد ، وإخبارهم عني عند سؤال الوالدة والأولاد ، فأنشدت : [من الطويل]

كأني بأمي لا عدمت حنوها

إذا جاء من أرضي إلى أرضها قفل

يعمهم من نجوها كل ساعة

تسائلهم عني وعن حالتي الرسل

يقولون أين البدر أين محلّه

إلى ماانتهى لم لاأتى هل لهشغل [١٣٥ ب]

أضامت به حال أطالت له يد

أأخره نقص أقدمه فضل

يقولون قد نال الأماني جميعها

وعمّا قليل سوف يجتمع الشمل

__________________

(١) الأبيات موجودة في نفح الطيب ٣ : ٣٨ ، ٥٤ وجذوة المقتبس ١ : ٣٨ منسوبة لعبد الرحمن الداخل ، وفي كتاب المغرب في حلى المغرب ١ : ١٠٣ منسوبة لمعاوية بن صالح القاضي.

٢٥٧

وقد نشرت في الخافقين علومه

ومقدار سموا وقيمته تعلوا

ناشدتهم بالله ألا صدقتم

لديّ أجدّ ما تقولون أم هزل (١)

ولم نزل نسير ، ونقطع حجّة ذلك الوحل الكثير ، إلى أن حان وقت الأصيل ، فبدت الشمس مصفرة كلون العليل ، ونزل ذلك الوبل إلى مرتبة الطل ، وشمّر قليلا ذيله المهطل ، لكنه ما أهمل همله ولا أبطل ، ولا أنعزل عن عمله ولا تعطّل ، ووصلنا إلى قرية القرطل : [من الكامل]

والشّمس قد مدّت أديم شعاعها

في الأرض تجنح غير أن لم تذهب

خلت الرّذاذ برادة من فضّة

قد غربلت من فوق نطع مذهب (٢)

والقرطل قرية لطيفة ، تلاصق ساحل البحر ، وسيفه يضرب ماؤه في حيطانها ، ويدخل أحيانا إلى بعض بيوتها وأوطانها ، [١٣٦ أ] وسكّانها نصارى قد أكتسبوا ذلّة وصغارا ، وألبسوا من هواء ذلك البحر نحولا وصفارا ، وبها سمك كثير ، وخان متسع كبير ، وهو مسّبل للمسافرين ، وبالقرب منه عين ماء معين ، وبظاهرها مزارع (٣) وبساتين ، وقد مررت بها على بستان ذي فنون أفنان ، فحيّاني بوجه مشرق ، وحباني برداء مغدق ، وأنعشني بشذا رند معبق ، وأدهشني بأصوات أطيار تنطق ، حتى كأن بكل عود عودا يخفق : [من الطويل]

__________________

(١) من عبارة «ثم فارقتهم والجوانح ملتهبة» إلى هنا بياض في (ع) ، وكتبت هذه الأبيات على الهامش في (م) فذهب التصوير بغالبها.

(٢) البيتان في نهاية الأرب ١ : ٨٢ وجذوة المقتبس ١ : ٢٧٣ منسوبة للأسعد بن بلّيطة.

(٣) وردت في (ع): «مراع».

٢٥٨

وما كنت أدري قبل ذلك والهوى

فنون بأن الرّوض يهوى ويعشق (١)

فحرّك سواكن أحزان ، وأثار كمائن أشجان ، وأذكرني بالأهل والأوطان ، فترادفت لي زفرات وحنين ، وتتابعت مني عبرات وأنين ، وتمثّلت بقول بعض المغرمين :

تالله لقد سمعت بالدوح أنين

ورقاء تنادي بنحيب وحنين

الإلف مجاوري وهذا كلفي

ماحال(٢)قرين قدنأى عنهقرين(٣) ١٣٦ ب]

ثم بتنا بذلك الخان ، والنوم لا تألفه العينان ، ولا يعرف طريقا للأجفان ، والغرام للقلب مقلق ، والبكاء للكبد مغلق (٤) ، ولواعج الجوانح مع وجود ذلك البرد تحرق ، وقد اجتمع هناك من أدمع العين والغمام نهر مغدق بل بحر مغرق ، وذلك الليل بأذيال الوجود متعلّق ، ولعهوده أن لا يفاجئه الصباح متوثّق ، والصباح في نومه مستغرق ، أو مقيّد في قعر سجن لا فاك له منه ولا مطلق ، أو ميّت ثوى فحواه لحدّ (٥) مطبق ضيّق (٦) ، ولم نزل نستشم رائحة أجناده (٧) (ونستنشق ، ونسأل عنه) (٨) كل مغرّب ومشرّق ، إلى أن سطع نوره المشرق ، وتهلل وجهه من المشرق ، ونحن نكذب

__________________

(١) البيت في تاج المفرق ١ : ٢١٦ بلا عزو.

(٢) وردت في (ع): «حان».

(٣) البيتان للضياء بن ملهم المقدسي موجودة في تاج المفرق ٢ : ١٣٤.

(٤) وردت في (ع): «مفلق».

(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٦) سقطت هذه الكلمة من الأصل.

(٧) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٨) ما بين القوسين ساقط من الأصل.

٢٥٩

ولا نصدق ، فحين ظهر دليله وبان ، وقام بوجوده البرهان ، ترحّلنا من ذلك الخان ، وفارقنا ذلك المكان ، وسرنا نقتفي البيداء ، ونعتلي كل ثنية جرداء ، والشمس محجوبة عن الأبصار ، والمطر تجلبه إلى تلك الأمصار من جنود السحاب أنصار ، ومن [١٣٧ أ] بعوث الرياح إعصار ، والنفوس منحصرة من ذلك غاية الانحصار ، فلما تعالى النهار ، انبثق ريق (١) بناء ذلك الغيم عن مائه وانهار ، وأرسل إلى الأرض مطرا كالأنهار ، فصيّر كل قرارة حفيرا ، وغادر كل ربوة غديرا ، وخطّ كل طريق خطا ، وجعل كل جانب شطا ، وكثرت بالأوحال الأوجال ، ولم يبق للنفوس في ميادين الصّبر مجال ، ولم نزل نسير على تلك الأحوال ، وأكفّنا مرفوعة بالدّعاء والابتهال ، إلى أن وصلنا بلدة أسكودار (٢) وقت الزوال ، فذهب ذلك الكرب وزال ، ثم نزلنا في المعديّة قاصدين المدينة العظمى قسطنطينيّة ، ولما (فرغنا من الأرض وصحوها ومسراها وممشاها) (٣) وضمت إلينا تلك السفينة ودخلناها قلنا لمن معنا (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٤) فرحمنا الله بريح موافق مستقيم تسخر لنا به ذلك البحر ، فامتطينا بركوبها مطاه ، [١٣٧ ب] وتذلل لنا فصفعنا بأجنحتها قفاه ، ولم تزل تسير بنا ونحن قعود ، وقد خدمتنا في هذه الخطرة السعود ، وأنجزت لنا ببلوغ المقصود الوعود ، فوصلنا أصيل ذلك اليوم إلى الساحل ، وانطوت بحمد الله شقة تلك المراحل.

ثم دخلنا المدينة ، وحصلت إن شاء الله تعالى الطمأنينة ، وكان استقرارنا بالمنزل الذي أفرده لنا السيّد وتفضّل ، وذلك النهار الذي هو يوم الخميس ثاني عشر الشهر قد تحوّل ، والليل الذي هو مسفر عن يوم الجمعة قد عوّل ، والقلب يصبو لمنازله ولا كأوّل

__________________

(١) هكذا وردت في جميع النسخ ولعل صوابها «رتق».

(٢) تقدم التعريف بها ، وهي مدينة كبيرة على بحر مرمرة ، وهي أحد أقسام (أحياء) مدينة القسطنطينيّة ، وكانت مركزا هاما من مراكز التصوف في الدولة العثمانية (رحلة الشتاء والصيف ١٨٧ ، رحلة الخياري ١ : ٢٣٩ ، المنح الرحمانية ١٥٥).

(٣) ما بين القوسين ساقط من الأصل ، وكتب في (م) على الهامش.

(٤) سورة هود آية ٤١.

٢٦٠