المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

حاز قصب السبق في ميادين العلوم ، وملك أزمّة أفانين (١) المنثور والمنظوم ، حسب البليغ العجز عن أوصافه لو جاء بالزهر الزواهر تزهر (٢) ، أو حاول الشعرى لدى اشعاره قالت علاه إنه لا يشعر ، لا زالت فوائده غررا في جبهات الطروس ، وفرائده دررا تتقلّد بها نفائس النفوس ، ما جرت جياد الأقلام في ميادين الكلام ببديع النظام ، وها أنا ممتثل (٣) أوامره المطاعة فيما أشار إليه حسب الاستطاعة [١٠٥ ب] من الإجازة لريحانة أنسه (٤) ، وثمرة غرسه ، ونور بدره ، وضياء شمسه ، الشّهاب المتوقّد ذكاؤه ، النامي سناه والسامي سناؤه ، شهاب الدّين أبي الفضل أحمد أسعد الله جده ، وحباه فوق ما حبا به أباه وجدّه ، ولأخواته ومن سيحدّث له من الأخوة المأمول وجودهم من منح الله المرجوة ، وقد أجزت له ولهم أن يرووا عني جميع ما التمس مني بشرطه المعتبر عند أهل الأثر ، إجازة عامّة وخاصّة ، وعلى كل فرد مما تجوز عني روايته ناصّة ، وأمّا مولدي (٥) (ففي سحر يوم السبت رابع عشري شهر رمضان المعظّم قدره سنة سبع وستين وثمانمائة بالقاهرة المعزّية حمى الله حماها وحرسها ورعاها : [من الطويل]

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي

وأول أرض مسّ جلدي ترابها (٦)

وقد أدركت بها وبغيرها من العلماء العاملين والأئمة المجتهدين من لم يسمح الدهر بمثاله ، ولم ينسج على منواله ، وكلّهم أجازني بما تجوز له روايته ، وما تصحّ إليه [١٠٦ أ] نسبته ودرايته ، فأول من فتق لساني بذكر الله تعالى من برع أبناء زمانه مجدا

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «أقانين».

(٢) وردت في (ع): «يرهى».

(٣) وردت في (ع): «منشد».

(٤) وردت في (ع): «النسير».

(٥) من هنا بياض في (م) و (ع) بما يعادل ١٦ ورقة من الأصل (من منتصف الورقة [١٠٦ أ] إلى منتصف الورقة [١١٣ ب] وكتب الناسخ في (ع) بالهامش : «كذا وجدته بياضا في الأصل».

(٦) ورد هذا البيت في رحلة الشتاء والصيف ص ١٣٨ بلا عزو.

٢٠١

وجلالا وفضلا وأفضالا ، الشيخ الإمام العلّامة والحبر البحر الفهّام ، صاحب التصانيف المشتهرة ، والتأليف المعتبرة ، شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن برهان الدّين النشائي (١) المالكي قاضي القضاة بالديار المصريّة ، أسبغ الله تعالى ظلاله وختم بالصّالحات أعماله ، ولم أزل في رعايته وتربيته وعنايته وبركته إلى أن فرّق الدهر بيننا بالاغتراب سنة أربع وعشرين وتسعمائة.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة محيي الدّين الكافياجي (٢) الحنفي ، تغمده الله برحمته ورضوانه وعفوه السابل وامتنانه ، أجازني بمؤلفاته ، وكتب بخطه أنها زهاء مائة مؤلّف.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة أمين الدّين الأقصرائيّ (٣) الحنفيّ ، شملته سحائب الرضوان والعفو والغفران.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة قاضي القضاة محبّ الدّين بن الشّحنة الحنفيّ (٤) ، لا زالت سحائب الغفران [١٠٦ ب] هامعة ، وأنوار الرضوان لديه لامعة.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة سيف الدّين الحنفيّ (٥) ، تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته.

__________________

(١) وردت في الأصل : «التتائي» ، والتصحيح من الكواكب السائرة ٢ : ١٦١ وشذرات الذهب ١٠ : ٣١٤ ، ووفاته في سنة ٩٣٧ ه‍.

(٢) في أعلام الزركلي (٦ : ١٥٠) الكافيجي ، وهو محمد بن سليمان بن سعد الرّومي ، توفي سنة ٨٧٩ ه‍. وترجمته في وفيات الأعيان ١ : ٦٨ ، الضوء اللامع ٧ : ٢٥٩ ، مفتاح السعادة ١ : ٤٥٤ ، بغية الوعاة ٤٨ ، شذرات الذهب ٧ : ٣٢٦ ، حسن المحاضرة ١ : ٣١٧.

(٣) هو يحيى بن محمد المتوفى سنة ٨٧٩ ه‍ ، أنظر ترجمته في : حسن المحاضرة ١ : ٤٧٨ ، والضوء اللامع ١٠ : ٢٤٠ ـ ، وشذرات الذهب ٩ : ٤٩٠.

(٤) محمد بن محمد ، أبو الفضل توفي سنة ٨٩٠ ه‍ ، وترجمته في : الضوء اللامع ٩ : ٩٩٥ ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ٥ : ٣١٤ ، البدر الطالع ٢ : ٢٦٣ ، أعلام الزركلي ٧ : ٥١.

(٥) هو ابن قطلوبغا محمد بن محمد ، سيف الدين البكتمري محقق الديار المصرية ، المتوفى سنة ٨٨١ ه‍ ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ١ : ٢٢٧ ، الضوء اللامع ٩ : ١٧٣ ـ ١٧٥ ، بغية الوعاة ٩٩.

٢٠٢

ومنهم الشيخ العلّامة قاضي القضاة شمس الدّين محمد الأمشاطيّ الحنفيّ ، أمده الله بمدد الرحمة ، وأسبغ عليه بذلك جلابيب النعمة.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة قاضي القضاة برهان الدّين إبراهيم اللّقانيّ المالكيّ (١) ، لا زالت الرحمة تغشاه ولا تفارق مثواه.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة قاضي القضاة ولي الدّين محمد السّيوطيّ الشّافعيّ ، غشيته سحائب الرضوان ، وضفيت عليه جلابيب الغفران.

ومنهم الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضي القضاة شرف الدّين موسى بن عيد الحنفي (٢) ، وهو السعيد الشهيد ، حباه الله من غفرانه بالمزيد ، قرأت عليه كثيرا ، ووردت من علومه عذبا نميرا.

ومنهم الشيخ الإمام العالم العلّامة سراج الدّين [١٠٧ أ] عمر العبّاديّ الشّافعيّ (٣) ، رحمه‌الله رحمة واسعة ، وأمطر عليه سحائب عفوه الهامعة.

ومنهم الشيخ الإمام العالم العلّامة شمس الدّين أبو عبد الله محمد الجوجريّ الشّافعيّ (٤) ، حفّه الغفران والعفو والامتنان ، أجازني بمروياته ومؤلّفاته ، ومنها شرحه على «المنهاج» ، وشرحه على «الإرشاد».

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة جلال الدّين محمد البكريّ الشّافعيّ (٥) رحمه‌الله ، قال لي من لفظه : أنا عريق في صداقتكم ، فإنني صديق جدّك لأبيك وصديق جدّك

__________________

(١) هو إبراهيم بن محمد ، المتوفى سنة ٨٩٦ ه‍ ، انظر ترجمته الوافية في : الضوء اللامع ١ : ١٦١ ، شذرات الذهب ٩ : ٥٣٩.

(٢) توفي سنة ٨٨٦ ه‍ ، انظر ترجمته في : حسن المحاضرة ٢ : ١٨٧ ، الثغر البسام ٢٢٩ ، الضوء اللامع ١٠ : ١٧٩.

(٣) هو عمر بن حسين بن حسن القاهري توفي سنة ٨٨٥ ه‍ ، انظر ترجمته في الضوء اللامع ٦ : ٨١ ، شذرات الذهب ٩ : ٥١١.

(٤) هو محمد بن عبد المنعم بن محمد ، توفي بمصر سنة ٨٨٩ ه‍ ، انظر ترجمته في : شذرات الذهب ٩ : ٥٢٢ ، الضوء اللامع ٨ : ١٢٣ ، أعلام الزركلي ٦ : ٢٥١.

(٥) توفي سنة ٨٩١ ه‍ انظر ترجمته في : الضوء اللامع ٧ : ٢٨٤ ، أعلام الزركلي ٦ : ١٩٤.

٢٠٣

لأمك ، وممّا أجازني به نكته على المنهاج وحاشيته على الرّوضة.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن قاسم الشّافعيّ (١) ، دامت عليه الرحمة ، وتمّت له بالمغفرة والنعمة ، ومما أجازني به جميع مؤلّفاته.

ومنهم الشيخ الإمام حافظ العصر المسند الرّحلة (٢) المحدّث فخر الدّين عثمان بن محمد الدّيميّ الشّافعيّ (٣) سقى الله تعالى بصوب الرحمة ثراه [١٠٧ ب].

ومنهم الشيخان المسندان المعمران نجم الدّين الصحراوي والهرسانيّ (٤) ، سمعت عليهما «صحيح البخاريّ» كاملا بالجامع الأزهر ، بحق روايتهما له عن العراقيّ عن الحجّار ، وذلك سنة سبع وسبعين وثمانمائة.

ومنهم الشيخ المسند المعمّر المحدّث الرّحلة بدر الدّين حسن بن نبهان (٥) ، تغمّده الله بالرحمة والرضوان ، قرأت عليه جميع «صحيح البخاريّ» في مجالس متعددة في شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثمانمائة ، وأجازني به بحق روايته له عن عائشة بنت عبد الهادي عن الحجّار.

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة برهان الدّين إبراهيم بن ظهيرة الشّافعيّ (٦) ، قاضي مكّة المشرّفة عند قدومه إلى مصر سنة ثمان وسبعين وثمانمائة.

__________________

(١) المعروف بابن الغرابيلي ، توفي سنة ٩١٨ ه‍ ، انظر ترجمته في : الضوء اللامع ٨ : ٢٨٦ ، أعلام الزركلي ٧ : ٥.

(٢) الرّحلة : من ألقاب أكابر العلماء والمحدثين ، والرّحلة في اللغة ما يرحل إليه ، لقب بذلك لأنه يقصد للأخذ عنه ، انظر صبح الأعشى ٦ : ١٤.

(٣) توفي سنة ٩٠٨ ه‍ ، انظر ترجمته في : الكواكب السائرة ١ : ٢٥٩ ، الضوء اللامع ٥ : ١٤٠ ، أعلام الزركلي ٤ : ٢١٤.

(٤) في (م) و (ع) والكواكب السائرة (٢ : ١٦٢): «الحرستاني» والصواب ما أثبتناه وهو عبد الصمد بن عبد الرحمن ، توفي سنة ٨٧٩ ه‍ ، وترجمته في : الضوء اللامع ٤ : ٢٠٩.

(٥) هو حسن بن محمد بن عمر توفي سنة ٨٨٩ ه‍ ، انظر ترجمته في : الضوء اللامع ٣ : ١٢٧.

(٦) توفي سنة ٨٩١ ه‍ ، انظر ترجمته في : الضوء اللامع ١ : ٨٨ ، شذرات الذهب ٩ : ٥٢٥.

٢٠٤

ومنهم الشيخ الإمام العلّامة [محمد](١) القلشانيّ قاضي الجماعة بتونس المحروسة عند قدومه إلى مصر للحج سنة ثمان وسبعين وثمانمائة تغمّده الله برحمته.

ولنختم من لقيته [١٠٨ أ] من العلماء بمسك ختامها ، ووسطى نظامها الشيخ الإمام العلّامة الحبر البحر الفهّامة محبّ الدّين محمد بن الغرسي خليل البصرويّ (٢) الشّافعيّ ، سقى الله ثراه ، وجعل الجنّة مثواه ، قرأت عليه كثيرا ، وأخذت عنه علما غزيرا ، وأجازني بمروياته ومؤلّفاته ، وخصّني بها ، ودفعها إليّ هي ومسوداته جميعها في مرض موته. ومن تأليفه قطعة على «المنهاج» من أماكن متفرقة ، وقطعة على «الإرشاد» كذلك ، وشرح «ألفية العراقيّ» في علوم الحديث ، وشرح «ألفية البرماويّ» في الأصول ، وشرح «مختصر ابن الحاجب» في الأصول ، وشرح «القواعد الكبرى» لابن بسام ، وشرح «لخزرجيّة» في العروض وهما شرحان كبير وصغير ، وشرح «المنفرجة» وغير ذلك. نفعني الله بمصاحبته وتربيته ورعايته ، فرحمه‌الله رحمة واسعة ، وأمطر عليه سحائب عفوه الهامعة ، هذا ما حضرني من أسماء شيوخي ، وثمّ آخرون مثبتون فيما هو غائب عني الآن. وكلّهم أجازني بمروياته وتأليفاته ومصنفاته وكتب لي خطة [١٠٨ ب] بذلك.

وأمّا ما وقع لي من تأليف ، فإنه شيء يستحى من ذكره ، ويرغب في إخفائه وستره ، بالنسبة إلى ما عند الفقير من العجز والتقصير ، فأعلاها وأجلّها وأغلاها شرح البخاريّ الذي ألفته بالدّيار الرّوميّة سنة خمس وست وتسعمائة ، وشرح آخر مبسوط وصلت فيه إلى صلاة الليل ، وشرح على «مقامات الحريريّ» جاوز النصف ، وقطعة على «الإرشاد» في الفقه ، وشرح «شواهد تلخيص المفتاح» ، وشرح «الخزرجيّة» في العروض ، وإيّاها سودت به وجه الطروس ، وأفنيت به أرطالا كثيرة من النفوس ، مما يسمّى شعرا ، ومما يشبه أن يدعى نثرا ، فهو شيء لا أرضى إثباته ، ولا أستحسن أبياته ، وإن تداولته الأقلام ، وولع برقمه كثير من الأنام ، فمنه : [من السريع]

__________________

(١) بياض في الأصل ، وهو محمد بن عمر بن محمد التونسيّ ، توفي سنة ٨٩٠ ه‍ ، وترجمته في : الضوء اللامع ٨ : ٢٥٧.

(٢) توفي سنة ٨٨٩ ه‍ ، انظر ترجمته في تاريخ البصروي ٩٤ ، والضوء اللامع ٧ : ٢٣٧ ـ

٢٠٥

إن رمت أن تسبر طبع امرئ

فاعتبر الأقوال ثم الفعال

فإن تجدها حسنت مخبرا

من حسن الوجه فذاك الكمال (١)

ومنه : [من الوافر]

عذرت أخا الجهالة مذ رآني

وأولاني جفا منه وذلا [١٠٩ أ]

رأني لا بعيني أدمي

فأدبر معرضا عني وولى

ومنه : [من الكامل]

يا مشتري العبد الرقيق بماله

هلا اشتريت الحرّ إذ هو أجدر

إنّ العبد ليس بشاكر لك نعمة

والحرّ يحمد ما فعلت ويشكر

ومنه : [من الرّجز]

حال المقلّ ناطق

عمّا خفي من عيبه

فإن رأيت عاريا

فلا تسل عن ثوبه (٢)

__________________

(١) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٤ ، شذرات الذهب ١٠ : ٤٨٧.

(٢) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٤ وشذرات الذهب ١٠ : ٤٨٧.

٢٠٦

ومنه : [من الوافر]

أحبّ من البرية كل سمح

قريب المستقى سهل القياد

إذا ناداه مفتقر لبر

أجاب نداه قبل صدى المنادي

ومنه : [من الهزج]

إذا ما كنت في قوم غريبا

فخاطبهم بقول يستطاب

ولا تأسف إذا فاهوا بفحش

غريب الدار تنبحه الكلاب (١)

ومنه : [من الطويل]

كثير من الخلّان يبدي تملقا

وفي قلبه دافن الشر موبق

كبحر أجاج لا يسوغ مذاقه

يريك صفاء قاعه وهو مغرق

ومنه : [من البسيط]

يا من بنى داره لدنيا

عاد بها الربح منه خسرا

لسان أحوالها ينادي

عمّرت دارا بهدم أخرى (٢)

__________________

(١) البيتان في معاهد التنصيص ١ : ٩.

(٢) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٤ وشذرات الذهب ١٠ : ٤٨٧.

٢٠٧

ومنه : [من الكامل]

يا منكرا فعل الجميل

إذ مت بأعظم خزية

لم لا تكون مذمما

وفعلت فعلتك التي [١٠٩ ب]

ومنه : [من السريع]

أرى الدهر يسعف جهّاله

فأوفر حظّ به الجاهل

وانظر حظي به ناقصا

أيحسبني أنني فاضل (١)

ومنه : [من الطويل]

إذا ما تصدّى ظالم للأذى

فكن على ما تبدى منه أجر صابر

ودعه وما يلقاه من شؤم بغيه

وكله إلى فعل الجدود العواثر

ومنه : [من السريع]

إن يقعد الجاهل فوقي ولم

يرع ذمام العلم والأصل

فالشمس يعلو زحل أوجها

وهي على الغاية في الفضل (٢)

__________________

(١) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٥.

(٢) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٥ ، ومعاهد التنصيص ٣ : ٧١.

٢٠٨

وأمّا القصائد المطوّلات ، فقد تفضّل مولانا المشار إليه بكتابة كثير منها ، فلا حاجة إلى الإطالة بذكر شيء منها ، وقد آن أن أحبس عنان القلم عن الجري في هذا المضمار ، وأكفكف من غلوائه خيفة العثار ، وأن أوصف بمهذار أو مكثار ، وهو يسأل العفو عمّا بهذه الأليفاظ من الزلل ، وإصلاح ما غشيها من الخلل ، لا زال من رقم باسمه ، وزبر برسمه. سعيد الحركات ، مزيد البركات ، رفيع الدرجات ، دائم المسرات ، ما دامت الأرض والسموات ، قال ذلك وكتبه العبد الفقير ، المعترف بالعجز [١١٠ أ] والتقصير ، عبد الرّحيم بن عبد الرّحمن بن أحمد العبّاسيّ الشّافعيّ ، غفر الله ذنوبه ، وستر في الدارين عيوبه ، وذلك يوم السبت سابع عشر شوال المبارك سنة سبع وثلاثين وتسعمائة بمدينة القسطنطينيّة المحروسة ، الحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقد اعتنى بحاجتنا مولانا قاضي العسكر المنصور أتمّ اعتناء ، فعاجلنا سفر السّلطان ، أدام الله إسباغ ظله على الأكوان إلى مدينة بروسا (١) المحمية ، فنوينا الإقامة بمدينة القسطنطينيّة لهذه القضية ، فاستمرينا في منزل مولانا السيّد المشار إليه ، أدام الله إسباغ ظلّه عليه ، نتملّى بمشاهدة طلعته البهيّة ، ونتحلا بسماع ألفاظه العليّة ، ونحن لا نملّ من المقام ، ونرى أشهرنا كأنها أيام ، إلى أن فشا الطاعون بالبلدة ، وقاسى الناس من أهواله كل شدّة ، وفقد جمع من الأحباب ، [١١٠ ب] فتعوّذنا بالله من ذلك المصاب ، ولم يصر المقام بها من المستطاب ، فعزم مولانا السيّد المشار إليه على السفر منها إلى بعض البلاد الخالية من الكدر ، وأن يستصحبنا معه ولا بدّ في ذلك السفر ، فاستخرنا الله تعالى في ذلك والسلوك معه حيث شاء من المسالك.

__________________

(١) تقدم الحديث عنها وذكرها الغزيّ قبلا : «برصاه». وهي بروسة : إحدى مدن تركيا الواقعة على بحر مرمرة على مسافة (٢٠) كم وعن إستانبول نحو (٢٨٠ كم) ، وقد فتحها السّلطان العثماني أورخان في جمادى الأولى سنة ٧٢٦ ه‍ وجعلها عاصمة الدولة العثمانيّة الأولى (أخبار الدول ٣ : ٤٢٠ ، المنح الرحمانية ١٩ ، بلدان الخلافة الشرقية ١٨٩).

٢٠٩

ذكر الرحلة الأزنكمودية

ثم لمّا سافر السّلطان ، وتعطّل من قضاء الأشغال المهمّة الديوان ، وكان الهواء قد تغيّر ، والجو بالوخم قد تكدّر ، وظهر الوباء ونشا ، وكثر الطاعون وفشا ، وتحوّل النسيم سموما ، وصارت المياه سموما ، وانقلب زلالها حميما ، ومن يتبرد بها محموما ، ولا يسأل حميم حميما ، فوصفت لنا بلدة أزنكمود (١) بلطافة الهواء ، وعذوبة الماء ، وقلّة الوباء ، وطيب البقعة ، وارتفاع الرقعة ، وتناهي الرفعة ، وسلامة الطبائع ، وسعة المرابع والمراتع ، وكثرة المنازه وأنواع الفواكه ، فاستخرنا الله تعالى في السفر [١١١ أ] إليها والحلول لديها ، إلى أن يعتدل الزمان ويعود السّلطان. فتوجهنا إليها صحبة المولى السيّد المشار إليه ، أسبغ الله تعالى نعمه عليه ، وخرجنا من المدينة ، ونزلنا في السفينة ضحى يوم الاثنين المكرّم ثاني عشر شهر الله المحرّم سنة سبع وثلاثين وتسعمائة من هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وركبنا ذلك البحر وما رهبناه ، واستصحبناه وما استصعبناه ، وسرنا فيه في أطيب هواء ، وأحسن استواء ، وقد سكن هائجه وركد مائجه ، وصلح مزاجه وحسن علاجه ، وتلك تجاريه المشية تتبختر تبختر الجارية الناشية ، وتنساب في الجناب كالحباب ، وتأتي من الحركة في صورة السكون بالعجب العجاب ، فتحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب ، ثم سكن الريح حتى كأنه ميت ، وصار البحر كأنه قعب لبن أو زيت : [من الطويل]

قد كان بحرا قبل ذلك زاخرا

فغدا بذلك وهو برّ مقفر (٢)

وكان النهار قد قضى ، ووفى دينه وقضى ، وذهب مهرولا ومضى ، وأشرف القمر

__________________

(١) أزنكمود أو أزنكميد وهو اسم تركي ، وبالعربية نقمودية وتسمى حاليا أزميد ، وهي مدينة على ساحل البحر بينها وبين القسطنطينيّة أربع مراحل ، فتحها الملك أورخان ان السّلطان عثمان. انظر : أخبار الدول للقرماني ٣ : ٣٠٧.

(٢) البيت في تاج المفرق ١ : ١٩٥ بلا عزو.

٢١٠

وأضاء ، فأرسينا حينئذ بالقرب من ساحل قرية يقال [١١١ ب] لها قزل اضا (١) ، فبتنا هناك والليل مزهر السراج ، لابس من نور القمر أبيض الدّيباج ، وقد رقّ ذلك البحر وراق ، وحلا وصفا وإن كان مرّ المذاق ، وأشرقت جنباته غاية الإشراق:[من المتقارب]

كأن الشعاع على متنه

فرند مصفحة سيف صدي

وأشبه إذ درجته الصبا

برادة تبر على مبرد

فلما هبّت بعد سكونها الصبا ، وهبّ من نومه الصباح ، واستتر نور القمر واختفى ، وبدا نور الفجر ولاح ، نشر من المركب بنوده ، وقلّد شراعه وأحكم شدوده ، ثمّ رحلنا وسرنا ، وأشرع ذلك الشراع فأشرعنا ، وخفقّ ذلك الجناح فطرنا ، فلم نزل نسير وذلك المركب يكاد يطير وذلك البحر : [من الكامل]

تتكسر الأمواج فيه فتنثني

بيد الصبابة مبيضة أعطافها

فكأن شهب الخيل قد غرقت به

فطفت على أمواجه أعرافها (٢)

فلما انتصف ذلك النهار ، ظلمنا ذلك البحر وجار ، وكان أمسى مس القرين بعد أن كان نعم الجار ، ثم أزبد ورغا ، وتعدّى وطغى ، وعتا مفسدا [١١٢ أ] وبغى ، ورام ما لم ينله وبغى ، واشتدت به الرياح وعصفت ، وأتت به الأمواج من كل جانب واختلفت ، واضطرب وتكسّرت وانقصفت ، وصار السير به في حكم الحرمة بعد

__________________

(١) قزل أضا : وهي إحدى الجزر القريبة من مدينة إستانبول ، وتقع في بحر مرمرة ، وكان الأصل التركي لهذه الجزر يعرف باسم «قزيل آطه لر» ويعني «الجزر الحمراء»(قاموس الأعلام ١ : ٢٢١ ، ٥ : ٣٦٥٩)

(٢) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١٧ بلا عزو.

٢١١

الإباحة ، فألقينا المراسي وقت العصر بوسط الباحة ؛ لكي يحصل لنا من تلك الحال الراحة ، فما ازداد القلب إلّا خوفا وفرقا ، والعين إلّا سهادا وأرقا ، والحلق إلّا غصة وشرقا ، والفؤاد إلّا اضطرابا وقلقا ، وقد أثارت الريح من الموج حنقا ، ومشت عليه خببا وعنقا ، فأعادته كالبنان ، وأصارت المركب فوقه يتلاعب كقضيب البان ، حتى آليت ألّا أودعها تحية ، ولا يورثني هبوبها أريحيّة.

وبتنا ليلة الأربعاء بين تلك الأمواج ، ونحن في غاية الاضطراب والارتجاج ، وأقمنا بذلك المحل إلى أن قوضت خيام الليل ورحل ، وسل صارم الفجر من قرابه ، وتجلّى النهار في جوهري أهابه ، وأسفر من المشرق وجه الشمس يوح ، فجرت بنا السّفينة في موج كالجبال كجري سفينة نوح. [١١٢ ب] ومما جربنا فيه الفكر في هذا الحال ، وجرى به اللسان فنطق وقال ، أبيات على وجه المطارحة ، وهي لتلك الأحوال شارحة ، وفي تلك الميادين سارحة ، فقلت بيتا ثم بيتا إلى آخرها : [من الرّمل]

لي :

أزبد البحر هياجا ورغى

وتعلّى وتعدّى وطغى

له :

قلت لمّا جدّ فينا عزمه

وجميل الصبر منّا استفرغا

لي :

وبنا قد أنشبت أظفاره

ولنا كشّر نابا قد شغا

له :

وبغى إصلاح ما يحملنا

بفساد الحال لمّا أن بغا

٢١٢

لي :

ربنا سخّره وأصرف شره

وأنلنا من حباه المبتغى

له :

وانثر الريح رخاء سجسجا

وأعد ظلّ الأماني مسبغا

لي :

وأرحنا من أذى مركبه

فهو عن مقصدنا قد روّغا

له :

وتوانا عن منايا لاهيا

عن هوان بلبان مضغا

لي :

بحبال جرّها في موجه

في جبال مدّها لن يفرغا

له :

وبإيعاد عظيم قد هذا

وهو في لج عباب دلفا [١١٣ أ]

لي :

فبسلم قد لقينا حربه

وهو قد شبّ لنا نار الوغا

٢١٣

له :

فهو أعمى ما رآنا أبكم

لم يجبنا بل أصم ما صغى

لي :

لشهي الأكل قد أحرمنا

ولصافي شربنا ما سوّغا

له :

ورجاء القلب في اللطف غدا

واثقا في دفع ضرّ بلغا

ولم نزل نسير ونمور في مواسط تلك البحور ، طورا في الصعود وطورا في الحدور ، إلى أن رجع البحر إلى المواددة والمصافاة ، بعد تلك القسوة والمجافاة ، ووافى بريح طيبة أحسن موافاة) (١) ، فما كان إلّا سويعات يسيرة وأشرفنا على البلدة ، واستبشرنا بالفرج بعد الشدّة ، ثم أكملنا أبيات المطارحة بعد مدّة ، فقلت : [من الرّمل]

فاستجاب الله منّا وكفى

شر شيطان الأسى إذ نزغا

له :

وحبانا بره في برّه

وإلى ما يبتغي قد بلّغا

__________________

(١) من منتصف الورقة [١٠٦ أ] من الأصل إلى هنا بياض في (م) و (ع).

٢١٤

لي :

فنعمنا في رياض الأنس في

رفعة مع خفض عيش رفغا

له :

فله الحمد على ما خصّنا

من هبات ظلّها قد أسبغا

لي :

وعلى المختار منه دائما

صلوات كل حين تبتغى [١١٣ ب]

وعلى الآل مع الأصحاب ما

أفل النجم دجى أو بزغا

ثمّ أرسينا بمرساها (١) عندما انطبق جفن الظلام (٢) على عين الشمس ومضى اليوم مضي أمس ، وكان استقرارنا بتلك البلد الأنيس منتصف المحرم ليلة الخميس ، فحللنا منها المحل المودود (٣) وحللنا بها المشدود والمعقود ، وجددنا بمعاهدها العهود ، ووفا لنا الدهر بالعود إليها الوعود ، فتبدّل الكدر بالصفاء ، وأيام الجفاء بليال الوفاء ، ونزلنا في بيت صاحبنا الحاج مصلح الدّين مصطفى ، فوجدناه غائبا في تطلّب عبد له قد أبق ، وركب في الفرار (٤) طبقا عن طبق ، فتلقانا أهله وأولاده بالترحيب والتأهيل والتكريم والتبجيل ، وأنزلونا بغرفة لطيفة حسنة مرتفعة ، فتركنا هنالك ما معنا من الأسباب

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «وكان حلولنا بمرساها».

(٢) وردت في (ع): «الكلام».

(٣) وردت في (ع): «المورود».

(٤) وردت في (ع): «أنوار».

٢١٥

والأمتعة ، وأقمنا هنالك في أنزه مكان إلى وقت الصلاة من يوم الجمعة ، فصلّيناها في مسجد البلد الجامع ، وهو مسجد متسع لكل أهل البلدة جامع ، إذ لا جمعة بها في سواه ، ولا خطبة فيما عداه ، [١١٤ أ] فوجدناه مسجدا عتيقا فضيا أنيسا أنيقا ، ذا أبنية متينة وعمارة مكينة (١) ، وهو مرتفع في أعلى المدينة ، يصعد إليه ويرقى في أطول طريق وأرفع مرقى ، وأمّا خطيبه ففي الأسمال (٢) غاية ، وفي الإعجام آية ، وفي التبديل والتحريف نهاية ، مع ما يضاف إلى ذلك كما قيل من سوء الاعتقاد وتبديل القرآن كالنطق بالظاء مكان الضاد ، وذكره أحاديث لا نعرفها ، وصدور ترّهات (٣) منه لا نقدر نصفها ، فقضينا ببطلان تلك الصلاة ، وقضيناها ظهرا ولا قوة إلّا بالله ، ولما قضيت الصلاة انتشرنا في أرض تلك البلدة وأضافنا من الأصحاب بها عدّة ، فلم نزل نجوب (٤) في أطرافها ، ونجول في أكنافها ، ونتفرج في مفترجاتها ، ونتنزه في متنزهاتها ، وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت ، وبيّنت (٥) من صنعة الله وصبغته ما بيّنت ، فغدت تتبرّج في ملابس عبقرية ، وتتأرّج بأنفاس عنبرية ، وتشمخ على غيرها من البلدان (٦) بارتفاعها ، وتفتخر [١١٤ ب] على مجاوريها بحصانتها وامتناعها ، وتزهو بطيب هوائها ومائها ، وتسمو بجدّة رونقها وقدم بنائها (٧) ، وتستحل طيب فواكهها ، وتستجل عرائس منازهها (وتقسم بعلو هضابها أن لا تفوز الثريا برشف رضابها) (٨) وقد استدار بها البحر استدارة السوار بالزند ، وألبس ذلك الجسم حلل العرار والرند ، وركب خلائق الوهد على ذلك النجد ، وكتب بخضاب الربيع على نقاء ذلك النهد ،

__________________

(١) وردت هذه العبارة في (ع): «ذا أبنية مثبتة ، وعمارة مكفّتة».

(٢) وردت في (ع): «الأعمال».

(٣) وردت في (ع): «برهان».

(٤) وردت في (ع): «نحول».

(٥) وردت في (ع): «نبتت».

(٦) وردت في (م): «الأراضي».

(٧) وردت في (ع): «نباتها».

(٨) ما بين القوسين ساقط من (ع).

٢١٦

ثم آب الحاج مصطفى من غيبته ، وقرب المسافة من أوبته ، وحيّانا بسلامه وتحيته ، ثم أعادنا إلى منزله وعقوته (١) ، بعد أن عقد في قسمه علينا وأليّته ، (فعدنا إليه) (٢) وحللنا لديه في تلك الغرفة المذكورة آنفا ، فشاهد منها مشارقا للإنس ومشارفا ، وهو يهدي إلينا من تحف هداياه لطائفا ، وقد أحاط بنا من سائر الجهات بستان ذو أفياء وأفنان ، (وزهور مدبّجة الألوان) (٣) ، وعرائس مسرحات زاهية ، وعرائش كرمات عالية ، ذات قطوف دانية ، [١١٥ أ] ونسيم معطار ، وحفيف أشجار ، وتغريد أطيار ، من شحرور وهزار (٤) ، يهيج كل منها لوعة الصب النازح الدار ، ويضرم في قلبه من أشواقه لاعج النار ، ويطير بقلبه أنّى طار ، كما قال في الإنشاد ابن حصن كاتب المعتضد ابن عباد : [من الطويل]

وما هاجني إلّا ابن ورقاء هاتف

على فنن بين الجزيرة والنّهر

مفستق طوق لا زورديّ كلكل

وموشى الطّلى أحوى القوادم والظفر

أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ

وصاغ (٥) على الأجفان طوقا من التبر

حديد شبا المنقار داج كأنّه

شبا قلم من فضة مدّ في حبر

توسّد من فرع الأراك أريكة

ومال على طيّ الجناح مع النحر

__________________

(١) العقوه : الساحة والمحلة جمعها عقاء.

(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٤) وردت في (م): «من شحرور وعندليب وهزار».

(٥) وردت في (ع): «وضاع».

٢١٧

ولما رأى دمعي مراقا أرابه

بكائي فاستولى على الغصن النضر

وحثّ (١) جناحيه وصفّق طائرا

وطار بقلبي حيث طار ولا أدري (٢)

ولم نزل هناك ليالي وأياما آمنين ، وأعيان المدينة يهرعون إلينا مسلّمين وداعين وملتمسين للدّعاء ومؤمنين ومعظّمين ومبجّلين ومكرّمين ، [١١٥ ب] ونحن في لذّة عيش ، سالمين من الكدر والطيش ، لو لا ما يعترضه من تذكر البلاد ، والتألم لمفارقة الأهل والأولاد ، فكان كلّما هنئ العيش تنغّص ، وكلّما ازداد الأنس تنقّص ، وكلما هممنا ببسط وانشراح أدركنا بسيط هم وأتراح ، كما قيل : [من البسيط]

منغص العيش لا يأوي إلى دعة

من كان ذا بلد وكان ذا ولد

والساكن النفس من لم ترض همتّه

سكنى بلاد ولم يشكو (٣) إلى أحد (٤)

ولو لا ما منّ به تعالى من مجالسة مولانا السيد ليلا ونهارا ، وتملينا بطلعته السعيدة عشيا وأبكارا ، وتحلينا بدرر ألفاظه ومؤانسته مساء وأسحارا ، لتفتت القلب جدادا وانفطر الكبد انفطارا ، فكنت أرتاح بروح مؤانسته ارتياح اللهفان للنسيم البليل ، وأشفى بمكالمته كلم القلب العليل ، وأروى برؤيته ما به من الغليل ، وأدخل في الليل حالة السكون بقلب خافق فيه من الأدواء دخيل ، وأتلقى المنام بطرف شحيح بالكرى بخيل ، وكلما فتشت للأوطان في [١١٦ أ] فكري ذنبا أجعله سببا

__________________

(٢) وردت في (ع): «وحب».

(١) الأبيات موجودة في : المغرب في حلى المغرب ١ : ٢٥١ وتاج المفرق ١ : ٢٣٩ ـ

(٣) وردت في (م) و (ع): «يشكر».

(٤) البيتان لسهل بن مالك الأزدي الغرناطي وموجودة في نفح الطيب ٢ : ١١٢.

٢١٨

للسلو أو عيبا أركن به إلى الراحة والهدوء قال الاختبار لا سبيل إلى ذلك ، وجعل يعرض عليّ من حسناتها ما جلى به ظلام الليل الحالك (١) ، ولو لا أني أرجع إلى جميل الصبر بعد الذهاب ، وأعلل النفس بتنفس الكرب بقرب الإياب ، لأمسيت أثرا بعد عين ، ولكنت أحد من قتله يوم البين : [من الكامل]

البين جرّعني نقيع الحنظل

والبين أثكلني وإن لم أثكل

ما حسرتي (٢) أن كنت أقضي إنما

حسرات قلبي أنني لم أفعل

نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى

ما الحبّ إلّا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل (٣)

وهذه عادة الأيّام (٤) في اعتقاب تجميعها بتفريقها ، وإسراقها كل نفس بريقها ، لا تجمع شملا (٥) إلّا شتّته ، ولا تصل حبلا إلّا بتّته ، من أطاعها عصته ، ومن داناها أقصته ، ومن وصلها قطعته ، ومن نزع إليها نزعته ، ومن أرضاها أغضبته وأحرجته ، ومن سكن (٦) دارها أزعجته وأخرجته ، بصّرنا الله تعالى بمعايبها ، وأعاذنا من بلاياها ومصائبها بمنه وكرمه آمين ، إنّه أرحم الراحمين. [١١٦ ب]

ومما فتح الله به في تلك البيوت من الأبيات ، ولو لا تقريض السيّد المولى لها لما

__________________

(١) وردت في (ع): «الهالك».

(٢) وردت في (ع): «يا حسرتي».

(٣) الأبيات لأبي تمام ، انظر ديوانه ص ٤٠٧.

(٤) وردت في (ع): «الدنيا».

(٥) وردت في (ع): «سهلا».

(٦) وردت في (ع): «شكر».

٢١٩

استحقت الإثبات ، قولي : [من الكامل]

أترى لمغرى بالغرام مواسي

أم من سقام شفه من آسي

أو من دواء عله يشفيه أو

من رقية تحميه من وسواس

إني ومن يهواه إمّا هاجر

أو مبعد أو ساكن الأرماس

وزمانه قد عظه بنوائب الأني

اب بل وضوارس الأضراس

شوق وحزن واغتراب مع ضنى

جسد وبعد الدار والإفلاس

وببعضها يفنى الحمول فكيف مع

تحميل ذي الأنواع والأجناس

فالروح فيه (١) في السياق وجسمه

بال وفي الأحشاء حز مواسي

والعظم عار ليس يمسكه سوى

جلد ومن لهب الجوانح كاسي

والقلب ذاب فماؤه دمعا جرى

ودخانه يجري مع الأنفاس

والطرف طول الليل لم يطرف وإن

يغمض فيرجع حاسرا كالخاسي

يجري على متن النجوم بسرعة

والنجم كالمشدود بالأمراس [١١٧ أ]

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «منه».

٢٢٠