المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

إليه بسببنا رسالة ، وأزاح عنه بمعرفتنا الجهالة ، فحييناه بالتحية والسلام ، ودخلنا المدينة بسلام ، وذلك حين نشر الأصيل رداءه المذهب ، وتقوّضت خيام الضياء ومدت سرادقات الغيهب : [من الكامل]

والشّمس تنفض زعفرانا في الرّبا

وتمدّ فوق الماء سيفا مذهبا

ومعلوم أنّ هذه المدينة دار الطمأنينة وقاعدة الرّوم وأم المدائن ومقر الملك ، ومركز دوران الفلك ، ومحطّ الرحال ، ومآل الترحال ، ومعدن الفخار ، وموطن الرؤساء والكبار ، ومنبع الإقبال ، ومربع الآمال ، ومنتهى المقاصد والمطالب ، ومشتهى القاصد والطالب ، ومظهر شموس السعادة ، ومقر جيوش (١) السيادة ، آيات محاسنها لم تزل بألسن السمّار متلوّة ، وعرائس [٦١ أ] بدائعها لم تبرح على أعين النظّار مجلوّة ، من أجلّ ما فتح من البلاد ، وأعظم ما استخلصته يد الصلاح من الفساد ، كم خطبها عظيم من ملوك الزمان ، وأمهرها مواضي المشرفيّة وعوالي المران ، وهي أشدّ ما يكون إباء وأقوى ما يمكن منعه واستعصاء إلى أن قصدها من ادخر (٢) له ذلك الفتح في خبر طويل الشرح ، وهو المرحوم السعيد الشهيد السّلطان محمد خان بن مراد خان ، ووالد السّلطان بايزيد ، بوأهم الله غرف الجنان ، بمزيد العفو والغفران ، وذلك في سنة سبع (٣) وخمسين وثمانمائة ، فذلّت له صعابها ، وخضعت لسطوته رقابها ، ولان جماحها ، وتسنّى انفتاحها ، وأعلن فيها بالتهليل والتكبير ، وصرح فيها بالصلاة على البشير النذير ، وقامت بها قامات المنائر ، وارتفعت فيها درجات المنابر ، وأخرست

__________________

(١) وردت في (م) و (ع): «غروس».

(٢) وردت في (م): «اذخر».

(٣) سقطت سنة الفتح من جميع النسخ وعوضنا ذلك من كتب التاريخ ، وقد تسنّى للسّلطان محمد خان فتح القسطنطينيّة بعد حصار دام أشهر ، وبعد تمام الفتح سمح للمسيحيين بأداء شعائرهم وأعطاهم نصف كنائسهم وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين. انظر : تاريخ الدولة العلية العثمانيّة لمحمد فريد بك ص ٦٠ ، وكتاب محمد الفاتح للدكتور سالم الرشيدي ص ٥٣ ـ

١٢١

النواقيس ، ونطق بالتأذين على رغم إبليس ، وخطّت بها المساجد والمدارس ، وعمرت [٦١ ب] بأوقات الخيرات بعدما كانت دوارس ، ونصب الدّين المحمدي خيامه ، ورفع الشرع الأحمدي على قللها أعلامه ، وبدّلت من الإنجيل بالقرآن ، وعوّضت من الرهبان بعلماء الايمان ، فأصبحت شموس الدّين بآفاقها مشرقة ، وسحب اليقين بجنباتها مغدقة.

وبها من الأئمة الأعلام ، وعلماء الإسلام ، من العرب والعجم والأروام ، ما يتجمّل به الزمان ، ويفتخر به العصر والأوان. ومن الجنود الوافرة والأمم المتكاثرة ما يعزّ به الدّين ويذلّ (١) به الطغاة المعتدين والبغاة المفسدين ، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى بعض من اجتمع بنا من أعيانها وأهليها وقطّانها. وبها من المساجد والجوامع ، التي هي لأنواع الخيرات جوامع ، ما تقرّ به أعين الموحدين ، وتزداد به عبادة المتعبدين ، ومن العمارات العظيمة ذات الصدقات الجسيمة والمبرات العميمة ما هو [٦٢ أ] جار أجره إلى يوم الدّين ، ويشهد لفاعله أنه من المحسنين المهتدين. ومن أجلّها المساجد الإحدى عشرة الفائقة المتقاربة المتلاصقة ، البديعة الحسنة الرائقة ، المنسوبة إلى السّلطان محمد المشار اليه ، أسبغ الله تعالى ملابس رحمته ورضوانه عليه ، وهي المدارس الثمانية (٢) اللاتي مدرسوها أعظم مدرسي الرّوم ، ولكل منهم أجزل أجر وأجل معلوم ، والتاسعة العمارة التي يطعم بها الفقهاء والمتفقهون ، ويحلّها وينزل بها المقيمون والقاطنون ، والمسافرون والظاعنون ، وتجري عليهم الأطعمة صباحا ومساء ، ويعم خيرها من لا يحصى رجالا ونساء ، والعاشرة الجامع المعظّم السامي الرفعة ، المتسع الرقعة ، التي تقال فيه الخطبة ، وتقام فيه الجمعة ، ويجرى في هذه الأماكن من الخيرات ما لا يمكن حدّه ، ولا يحصر عدّه ، [٦٢ ب] والحادية عشرة المارستان (٣) وهو مدرسة على كيفية

__________________

(١) وردت في (ع): «وتذل».

(٢) المدارس الثمان : وهي مجموعة المدارس التي بناها السّلطان محمد الفاتح ؛ بنى أولا أربع مدارس إلى شمال مسجده ، ثم أربعا أخرى جنوبه ، وسميت هذه المدارس الثمان «بمدارس الصحن» ثم أسس ثماني مدارس أخرى للدراسات التمهيدية سميت «تتمة الصحن».

(٣) المارستان : كلمة فارسيّة تعني دار المرضى.

١٢٢

العمارة. وبها امام مراتب وبجوانبها الحجرات المتعلّقة بالمرضى ، وهو من أعجب الأشياء لا يرى أحسن منه بناء ، ولا أبدع إنشاء ، ولا أكمل انتهاء في الحسن وانتماء ، ولا أكثر خيرا ، ولا أحسن شربا وميرا ، وفيه من قناطير الأشربة والأكحال الرفيعة المطيبة ، والأدوية الحسنة المعجبة ، وسائر المعاجين المعمولة على القواعد الطبية والقوانين إلى ما يضاف إلى ذلك من لحوم الطيور والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها ، مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحلّ فيه من غطاء ووطاء ، ومشموم ومدرور وشبه ذلك على ما هو معد على أكمله هنالك ، وقد رتّب على ذلك كلّه من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين والنظّار العارفين والخدّام المتصرفين كل ماهر في معالجته ، موثوق بعدالته ، مسلّم إليه في معرفته [٦٣ أ] ، غير مقصر في تصرفه وخدمته ، ويحصل منه كل يوم من التفرقة على الصادرين والواردين ما لا يدخل تحت ضبط حيسوب ، ولا يحيط به دفتر ولا مكتوب ، وفي مبانيه الرائقة ، وصناعاته الفائقة ، وطرره الرهيبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التي ترفل في ملابس الإعجاب ، وتسحر العقول والألباب ، ما يفتن النفوس ، ويكشف البدور والشموس ، ويعجز عن وصفها خطات الأقلام في ساحة الطروس (١).

وأمّا مسجدها الأعظم أيا صوفيا (٢) الذي كان كنيستها العظمى فهو من (٣) أعظم معاهدها وأجلّ مشاهدها ، يحار النظر فيه ، وينحسر دون تصوّر قوادمه وخوافيه ، ذو أبنية غريبة جميلة ، وأعمدة عجيبة جليلة ، وقبّة عظيمة محيّرة للعقل في التربيع والتسديس والتثمين والتدوير والتقويس ، فكم من بناء داخل بناء وقوس داخل آخر ، وكم من إحكام [٦٣ ب] وضع ، وتحديق صنع ، كاثر بذلك بها (٤) إرم ذات العماد

__________________

(١) من عبارة «المعاجين المعمولة» إلى عبارة «... في ساحة الطروس» بياض في (ع) ، وكتب في (م) على الهامش بخط غير مقروء ذهب التصوير بغالبه.

(٢) معنى أيا صوفيا باليونانية (الحكمة المقدسة) وبنى الكنيسة قسطنطين الأكبر سنة ٣٢٠ م ، ثمّ حولها السّلطان محمد الفاتح إلى جامع سنة ٨٥٧ ه‍ ، وأصبح الآن متحف.

(٣) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع).

١٢٣

وفاخر ، فلا يحيط به نظر ولا تفكّر ، ولا يحكيه عقل ولاتصوّر (١) :[من الطويل]

تجاوز حدّ الوهم واللّحظ والمنى

وأعشى الحجى لألاؤه المتضاوي

فتنعكس الأفكار وهي حواسر

وتنقلب الأبصار وهي خواسي (٢)

وقد كان بها صور أجسام عجيبة الأشكال (٣) والأجرام ، وقد طمس أكثرها وبقي أثرها ، وبها مسجد آخر كان كنيسة أخرى يقال له أيا صوفيا الصغرى ذو أبنية غريبة وأشكال عجيبة ، ولكن ليس كالذي سبق ولا يقاربه ولا يناظره في جلالته ولا يناسبه ، فما كل صهباء خمرة ، ولا كل حمراء جمرة ، ولا كل سوداء تمرة : [من الطويل]

وما كل دار آنست دارة الحما

ولا كل بيضاء الترائب زينب (٤)

وبها من المباني الهائلة ، والأسواق الحافلة ، والمرابع الرائعة ، والمصانع الناصعة ، والقصور الشاهقة ، والمساكن الرائقة ، والمسالك المتسعة ، والربوع المبدعة ، والمرامي العالية [٦٤ أ] والمراقي السامية ، ما تحار فيه الأوهام ، وتكلّ دون وصفه الأقلام : [من الرّجز]

هي القصور البيض لا ما حدّثوا

عن إرم وغيرها من البنا

__________________

(١) وردت في (ع): «تصوير».

(٢) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٢٠ بلا عزو.

(٣) وردت في (ع): «الإشكار».

(٤) البيت في تاج المفرق ١ : ٢٢٠ بلا عزو.

١٢٤

تختطف الأبصار من لألائها

والليل قد ألقى القناع الأدكنا (١)

وبها من المفترجات الظريفة ، والمنتزهات اللطيفة ، والرياض النضرة ، والمروج الخضرة ، والأزهار الزاهرة ، والأشجار الباهرة ، ما هو نزهة النفوس ، ومسرّة العبوس ، وبهجة الخواطر ، وقرّة النواظر ، ومن محاسنها أيضا أنّ بكل بيت منه روضا وبئرا يفيض منها الماء فيضا : [من الكامل]

فالجوّ رقراق الشعاع مفوف

والماء فياض الآتي معسجد

والروض في حلى الربيع كأنما

نطف الغمائم لؤلؤ وزبرجد (٢)

وبها من الآثار القديمة ، والأعمدة العظيمة ، والمعالم الجسيمة ، والمراسم المقيمة ، ما يذهل الألباب ، ويستولي عليها منه (٣) العجب العجاب (٤).

فلما دخلناها في الوقت المذكور ، وركنا إلى الاكتنان [٦٤ ب] والوكور ، نزلنا أولا ، كما أشار مولانا السيّد ، في عمارة المرحوم السّلطان محمد ، شمله الله تعالى برحمته وتغمد ، فشاهدنا منها أعظم مشهد وأكرم معبد ومعهد ، وخيرات تدلّ على رحمة منشئها وتشهد ، وحضر خادم المكان فتفقد مصالحنا وتعهّد ، وأخلى لنا مكانا متسعا فضيا وأفرد ، وفرش لنا فرشا موطا موطد ، وبتنا هناك بأنعم ليلة وأسعد ، على مهاد وطى ووطاء ممهّد ، غير أنّ لواعج الأشواق لا تهمد ، ونيران الفراق لا تنطفىء ولا تخمد ، بل تتزايد ضراما وتتوقّد ، وتتأطد وتتأكّد ، وكلما جمعنا شمل النوم تبدّد ، أو

__________________

(١) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٩٨ بلا عزو.

(٢) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٣٩ بلا عزو.

(٣) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٤) ترك المؤلف هنا في مسودته (م) بياضا مقدار ورقة.

١٢٥

عقلنا نادّه تفلّت وتشرّد ، والقلب كلما آلمه القلق رفع عقيرته وأنشد : [من البسيط]

هل إلى أن تنام عيني سبيل

إنّ عهدي بالنوم عهد طويل (١)

وقد توارد على القلب تقلقان ، أنتجهما (٢) تحرقان ، وأوجبهما تشوقان ، أحدهما إلى الأهل والأولاد والأوطان (٣) ، والثاني إلى مشاهدة مالك الروح والجنان والفؤاد السيّد الكريم عبد الرحيم (٤) ، والثاني [٦٥ أ] أغلب وللأرق أجلب وللب أسلب ، إذ لا يقاس الشاهد بالغائب ، ولا يلتحق أفراد الجمع بقوة الواحد ، ولا الداني الدار بالبعيد المزار : [من الوافر]

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام (٥)

وقد طال ذلك الليل مع قصره وعسعس ، وسألته عن صبحه فقال لو كان حيا لتنفس ، كما قال المنشد وهو ابن منقذ (٦) رحمه‌الله تعالى : [من الكامل]

ولربّ ليل تاه فيه نجمه

قضيته سهرا فطال وعسعسا

وسألته عن صبحه فأجابني

لو كان في قيد الحياة تنفّسا

__________________

(١) البيت في معاهد التنصيص ٤ : ٢٣١ منسوبا إلى إسحاق الموصليّ.

(٢) وردت هذه الكلمة في (ع): «التجا» وفي (م): «انتجا».

(٣) سقطت هذه الكلمة من (ع).

(٤) السيد عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي (ت ٩٦٣ ه‍) ، تقدّم التعريف به في مطلع الرّحلة.

(٥) البيت مذكور في تزيين الأسواق ص ٣٢ بلا عزو ، وفي : الحلة السيراء (١ : ٥) وتاج المفرق (٢ : ١٥٤): «إذا دنت الديار من الديار».

(٦) أبياته في معاهد التنصيص ١ : ٢٦٥.

١٢٦

فلما تنفّس الصباح بعد ما أيسناه ، وتحققنا أنّه في قيد الحياة ، وأظهر نوره في الآفاق وسناه ، وانجاب طيلسان الليل ، وشمّر للفرار من النهار الذيل ، وستر كافور الفجر مسك الغياهب ، وظهرت الشمس المنيرة على الأنجم الثواقب ، قصدت منزل مولانا المشار إليه ، للسلام عليه والمثول بين يديه ، فوجدته قد جدّ (١) به ذلك المرض ، وأثر في جسمه بعد ذلك الجوهر العرض ، وأثقله حمل عبئه [٦٥ ب] وبهض ، فلما رآني اجتهد في القيام ونهض ، فتلاقينا بالتقبيل والعناق ، وتهادينا تحف الأشواق ، وتشاكينا روعة الفراق ، وحنّ كل منّا حنين المغرم المشتاق ، وحمدنا الله تعالى على ما منّ به من التلاق ، وتسابقت شهب الدموع من الآماق ، وتراكضت جارية في جوانب الأحداق ، وتراكمت من العيون سحبها ، وقضى من النحيب نحبها ، وأنشدت لبعضهم : [من الطويل]

ولما وقفنا للسلام تبادرت

دموعي إلى أن كدت بالدمع أغرق

فقلت لعيني هل مع الوصل عبرة

فقالت ألسنا بعده نتفرق (٢)

ولبعضهم : [من الكامل]

ووقفت بين تأمل وتململ

يبد والسرور على فؤادي الجازع

حيران لا أدري لقرب رائق

أذري (٣) المدامع أم لبعد رائع (٤)

__________________

(١) وردت في (ع): «جدّد».

(٢) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١١ بلا عزو.

(٣) وردت في الأصل : «أبدي» ، وأثبتنا ما في (م) و (ع).

(٤) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١١ بلا عزو.

١٢٧

ثم جدّد البكاء بالانتحاب الزائد ، لفراق شيخ الإسلام الوالد ، فحرّك لواعج أحزان لم تفتر ولم تهمد ، وأضرم نيران أشجان لم تنطف ولم تخمد ، فأخذ كل منّا من ذلك حظه وبلغ منه نصيبه ، واسترجعنا [٦٦ أ] وحوقلنا (١) من تلك المصيبة ، وتوجّعنا وتألّمنا من رشق سهامها المصيبة ، ثم أخذنا نجول في ميادين مذاكرة ، ونخوض في بحار محاورة ، ونستخرج كمائن محادثة ، ونستفتح خزائن منافثه ، ونجتلي أبكار أفكار ، ونجتذب أهداب (٢) آداب ، ونقيد شوارد فوائد وأوابد فرائد ، فمضى لنا من ذلك يوم : [من الوافر]

أشفّ من الليالي في صفاء

وأحلى من معاطاة الكؤوس

فلما استوت شمس ذلك اليوم ، ومالت الرؤوس وقت القيلولة للنوم ، خرجنا من عنده للسلام على صاحبنا وصديقنا وحبيبنا الشيخ الأوحد والإمام الأمجد ملا حاجي جلبي عبد الرحيم بن علي بن المؤيد (٣) ، هو صدر من صدور أئمة الدّين ، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين ، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين ، حامل لواء المعارف ، ومحرز التالد منها والطارف ، محافظ على الكتاب والسّنّة ، قائم بأداء الفرض والسّنّة ، حامل لأعباء صلاح الأمة ، باسط للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة (٤) ، ذو أوراد وأذكار يعمّر بها [٦٦ ب] مجالسه ، وأحوال وأسرار يغمر بها مجالسه ، وجدّ في العبادة ، وجهد في الزهادة ، ومواظبة صيام ، وملازمة قيام : [من الكامل]

__________________

(١) الاستراجاع قول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ، والحوقلة قوله : «لا حول ولا قوة إلّا بالله».

(٢) وردت في (م) و (ع): «أهذاب».

(٣) توفي سنة ٩٤٤ ه‍ ، وترجم له نجل صاحب الرحلة في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٧ ، والشقائق النعمانيّة ٢٥٨ ـ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٦٤.

(٤) وردت في (ع): «الراحمة».

١٢٨

يقضى بنفع الناس سائر يومه

ويجفوه في جنح الظلام مضاجع

فينفكّ عنه يومه وهو ذاكر

وينفكّ عنه ليله وهو راكع (١)

فبادرته بالسلام عليه ، والذهاب إليه ، لعلمي بأنه ضعيف البنية ، قديم السنّ عسر المشية ، فقابلني بالرحب والترحيب ، وعانقني معانقة الحبيب الحبيب ، وترحّم على شيخ الإسلام وبالغ في الثناء وابتهل في الدّعاء ، ولم يدع شيئا من أنواع الإكرام وأصناف الاحترام وأجناس التلطف في الكلام ، فلم أر أحسن من لقائه ، ولا أزين من ولائه ، ولا أجلى من محادثته ، ولا أحلى من منافثته ، فلم أدر أأرد أم أرود ، وافد على مجالس جود أو مجال سجود ، وقد كان هو اجتمع بشيخ الإسلام في بلاد الشّام حين قدمها قافلا من الحجاز ، وفاز بمشاهدته كل مفاز ، فأكرمه وواخاه وخالله ووالاه ، [٦٧ أ] وشهد كل منهما في الآخر أنه ولي الله ، فلبثنا عنده وقتا نجوب في أرجاء المؤانسة (٢) ونجول ، ثم ودّعناه ومضينا إلى محل النزول ، وأرسل هو خلف شخص من أكابر الرّوم ، ليعلم صاحبنا الوزير بالقدوم ، فأعاد الجواب بأنّه فرح بذلك وسرّ به ، وابتهج غاية الابتهاج بسببه ، وأن ميعاد الاجتماع به يوم الجمعة بكرة أو يوم الخميس عشية لتنقضي ضيافة السّلطان بسبب مهم ختان أولاده للأمراء والينكجرية (٣) ، وهذا المشار إليه هو الهمام المرتضى والحسام المنتضى ، حسنة الأيام وغيث الأنام ، غمام الندا الهاطل ، وحمام العدا العاجل ، ناظم شمل الفريق ، وفاتح باب الأزمة والضيق ، جامع أشتات المعالي ومحرز شرط الكمال ، فلم يصلح إلّا له المقر الكريم العالي الأميري الكبير الوزير المشير العالم العادل الفاضل الكامل المهدي

__________________

(١) البيتان في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٦ ، وفي تاج المفرق ٢ : ٣٧ بلا عزو.

(٢) وردت في (ع): «المواقيت».

(٣) الينكجرية : كلمة تركية معناها : الإنكشارية أو الجيش الجديد. انظر : لطف السمر (هوامش المحقق) ١ : ١٠٨.

١٢٩

المشيدي (١) الذخري (٢) العضدي ، زعيم جيوش الموحدين ، عاضد الغزاة والمجاهدين ، آصف الدهر وفريد العصر ووجيد المصر وفخر القطر ، [٦٧ ب] وسم العداة وآفة الجزر ، ومالك بيض الطروس وسمر السطور بالبيض والسمر ، عين الوزراء العظام ، ورأس الأمراء الفخام ، وأشدّهم بأسا وأقواهم جأشا ، مولانا الوزير المعظّم والمشير المفخم إياس باشا (٣) : [من البسيط]

ذو عزمة كالتماع البرق واقدة

تجىء من نصره بالعارض الهطل

لو لا السعود التي نيطت بهمته

لكنت أنسبها بعدا إلى زحل (٤)

أدام الله سعده ، وحرس بعين العناية مجده ، ما دارت الأفلاك وسبحت الأملاك ، وهو ممن له محبة واعتقاد تام ، في سيّدي الوالد شيخ الإسلام ، وقد حضر إلى عند الوالد حين كان بكلربكي (٥) بالشّام متخشّعا متواضعا طالبا للبركة والدّعاء ، راغبا في اللحظ والإمداد ، ملتمسا للصحبة والوداد ، ولم تزل الصحبة بيننا وبينه من ذلك الزمان ، والمكاتبات تتردد بيننا وبينه في كل حين وأوان ، فوفينا له بما وعد به وشرطه ،

__________________

(١) المشيدي : من ألقاب أكابر أرباب السيوف كنواب السّلطنة ونحوهم ، وهو نسبة إلى المشيد من التشييد وو رفع البناء. انظر : صبح الأعشى ٦ : ٢٨.

(٢) الذخري : من ألقاب أرباب السيوف أيضا وربما أطلق على غيرهم. انظر : صبح الأعشى ٦ : ١٤.

(٣) إياس باشا الوزير كان كافلا لدمشق ، وكانت سيرته حسنة ، توفي في القسطنطينية سنة ٩٤٦ ه‍ ، وترجمته في : الكواكب السائرة ٢ : ١٢٥.

(٤) البيتان في تاج المفرق ٢ : ١١٢ بلا عزو.

(٥) البكلربكية : كما تقدّمت الإشارة إليها هي الولاية أو الإمارة ، والبكلربكي أمير الأمراء وهو لقب يطلق على بكوات الصناجق. انظر : البرق اليماني ـ المقدمة ـ ص ٥٧ ولطف السمر (هوامش المحقق) ١ : ٢٢٨ ، وزبدة كشف الممالك ١١٢ ـ.

١٣٠

واجتمعنا به بكرة الجمعة في بستانه بر (١) الغلطة ، فحصل منه غاية التعظيم ، ونهاية التبجيل والتكريم ، وتلقاني [٦٨ أ] إلى خارج الدار ، وهو مظهر للسرور والاستبشار ، فبادر كل منّا لصاحبه وسابق ، وصافح واستلم والتزم وعانق ، وحيّا بأطيب السلام ، ووانس بأعذب الكلام ، وسألني عن جماعة من أهل الشّام ، وترحّم وترضّى على سيّدي شيخ الإسلام ، وتألم لفراقه وتوجّع ، وحوقل لتلك المصيبة واسترجع (٢) ثم قال : هو باق وسره ما فات ، فإن من خلّف مثلك ما مات ، فإنك نعم الخلف ، كما كان رحمه‌الله نعم السلف ، ونعتني بالعلم والفضل التام ، وشهّرني بذلك عند الخاص والعام (٣) ، وسألني ابتداء منه فيما لنا من الحاجات والأشغال ، لتقضى بإذن الله تعالى على أكمل الأحوال ، والله تعالى هو المأمول (٤) ، في المقاصد كلّها والمسؤول ، في قضاء الحاجات جلّها وقلّها ، وسألني عن محل النزول فقلت له الآن في عمارة السّلطان محمد ويريد مولانا السيّد أن ينزلنا عنده ؛ فقد أخلى لنا مكانا حسنا وأفرد ، فقال : [٦٨ ب] تقدّمنا السيّد وسبق ، وإلّا فنحن كنا بذلك أحق. وحصل منه من التواضع والرقة ما لا يعبر عنه ولم يصدر في حق أحد غيرنا منه. ولله تعالى الحمد أهل الثناء والمجد ، ثم اجتمعت به ببيته بالمدينة ثاني مرّة ، فبالغ في الإكرام والمبرّة ، وأظهر غاية البشر والمسرّة ، وأهديت له مهاداة الأحباب ، مصحفا معظّما بخطّ ابن البوّاب ، وبردة لطيفة ، وسبحة بلّور ظريفة ، فقابل ذلك بالإقبال والقبول والتقبيل ، وأنزل منزلة الكثير ذلك النزر القليل ، وقرأ في المصحف في أماكن عدّة ، ثم قرأ بعض أبيات من البردة ، وسألني عن معناها ، فأجبته بأجوبة ارتضاها ، وسألني : هل المعوذتان من القرآن قطعا أو هما من قبيل التعوّذ؟ فقلت له :

__________________

(١) وردت في (ع): «بين» ، والغلطة على ما ذكر ابن بطوطة هي القسم الثاني من القسطنطينيّة ، والقسم الأول يدعى اصطنبول يفصل بينهما نهر يسمى أبسمي ، والغلطة بالعدوة الغريبة من النهر وهو خاص بنصارى الافرنج يسكنونه. انظر : تحفة النظّار ٢ : ٢٥١.

(٢) الحوقلة هي قول : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ، والاسترجاع قول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».

(٣) وردت في (ع): «العالم».

(٤) وردت في (ع) مصحفة : «المأمور».

١٣١

هما من القرآن قطعا. وأمّا ما نقل عن ابن مسعود أنّه أسقطهما من مصحفه وأنكر كونهما قرآنا ؛ فعنه أجوبة منها أنّ هذا النقل لم يصح عن ابن مسعود كما قال الفخر الرّازيّ وابن حزم في المحلّى وغيرهما ، وعليه شيخ الإسلام [٦٩ أ] محيي الدّين (١) النوويّ ، ومنها أنّه إنّما أنكر كتابتهما لا كونهما قرآنا ، لأنّه كانت السّنّة عنده أن لا يكتب في المصحف إلّا ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإثباته فيه ، ولم يجده كتب ذلك ولا سمعه أمر به ، وعليه القاضي أبو بكر وغيره ، واستحسنه ابن حجر وردّ الجواب الأول بصحة النقل عن ابن مسعود بإسقاطهما من مصحفه من طريق أحمد وابنه وابن حبّان والطبرانيّ وغيرهم ، ومنها أنّه لم يستقر عنده القطع بأنهما من القرآن ، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك ، وحاصله أنهما كانتا متواترتين في عصره ، لكنهما لم تتواترا عنده لا أنهما تواترا بعد ذلك ، لما يلزم عليه من أنّ القرآن أو بعضه ليس بمتواتر في الأصل ، وهذا الجواب لابن الصبّاغ وهو حسن. وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن : ظن ابن مسعود أنّ المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما فأقام على ظنه ، ولا نقول إنّه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون (٢) والأنصار [٦٩ ب] ، ومما يؤيد قوله رواية الدارقطنيّ والبزار عنه أنّه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : إنما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتعوّذ بهما فأعجبه ذلك جدا وسألني في كتابته ، ثم عنّ لي كتابة شرح مختصر لطيف على البردة ، فكتبته في مدّة يسيرة ، وسميته «الزّبدة» ، وآخر على آية الكرسي محرّر مطوّل ، ففرغ في مدّة يسيرة وتكمل ، وبيّضت للوزير نسخة بالأوّل ، ففرح بها غاية الفرح ، وسرّ كثيرا وانشرح ، ثم اجتمع به قاضي العسكر قادري جلبي (٣) ، فكلّمه

__________________

(١) سقط اللقلب من (م) و (ع).

(٢) وردت في (ع): «المهاجرين».

(٣) هو المولى عبد القادر بن محمد الحميدي ، المعروف بقادري جلبي ، عمل في التدريس ثمّ عيّن قاضيا في بروسة سنة ٩٢٧ ه‍ ، وبعدها بعامين عيّن قاضيا في مدينة إستانبول ، واستمر حتى عام ٩٣٠ ه‍ حيث عيّن قاضيا لعسكر الأناضول «أناضولي قاضي عسكر» واستمر حتى عزله سنة ٩٤٤ ه‍. (انظر ترجمته في : الشقائق النعمانية ٢٦٤).

أمّا منصب قاضي العسكر فهو الذي كان يعين للفصل بين الجند في أوقات الحرب والسلم.

١٣٢

وأكّد عليه بسببي وقال : كل (ما هو) (١) متعلّق به فهو متعلّق بي ، وأمره بالاعتناء بشأني من كل الوجوه ، وقال : ليس لي صديق في الشّام إلّا هذا الرجل وأبوه ، وأمرني بالاجتماع بالقاضي المشار إليه للمعرفة به والسلام عليه ، فأكرم غاية الإكرام ، وبالغ في التعظيم والاحترام ، ووعد بقضاء الأشغال (٢) على التمام ، وصار بيننا وبينه صحبة ومودّة ومحبة ، واجتمعت بمولانا الوزير ، والمدبر [٧٠ أ] المشير ، قسيم المشار إليه ، وتاليه وعاضده ومواليه ، المقر الكريم العالي المولوي الأمير الكبير الزعيم المشير الذخري العضدي الممهدي (٣) الموطدي ، فخر الملوك والسّلاطين ، ذخر الفقراء والمساكين ، آصف الزمان وفريد الأوان ، ضالة الناشىء الناشد ، وبغية القاصي العاضد ، وحديقة (٤) الرأي الرائد ، غيث الندى الغائث ، وليث الوغا اللايث ، مولانا قاسم باشا الوزير الثالث : [من البسيط]

خلّى له عن طريق المجد حاسده

ومرّ (٥) ساحل صوب العارض الهطل

حلم وعزم ورأي محصد وندا

سبحان جامع هذا الفضل في رجل (٦)

فأهّل غاية التأهيل ، وبالغ في الإكرام والتبجيل ، والتمس ما لنا من الضرورات والمهمات ، ليسعى في قضائها على أكمل الحالات ، والله تعالى هو المأمول والمقصود والمسؤول. وصار بيننا وبين المشار إليه صداقة ومحبّة ومودّة ومؤانسة وصحبة ، والله

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).

(٢) وردت في (ع): «الاشتغال».

(٣) وردت في (ع): «المجتهدي».

(٤) وردت في (ع): «وحدقة».

(٥) وردت في (ع): «ومن».

(٦) البيتان في تاج المفرق ٢ : ٦٢ بلا عزو.

١٣٣

تعالى يعاملنا وإياه بخفي ألطافه [٧٠ ب] ووفي عونه وإسعافه بمنه وكرمه آمين) (١).

هذا كلّه وأرباب الدولة مشتغلون بمهم الختان ، المتعلّق بأولاد مولانا السّلطان ، وليس ثمّ موكب ولا ديوان ، واستمر ذلك مدّة وأيّاما عدّة ، استوعبت غالب شهر ذي القعدة ، فلما انفتح الديوان مفتتح ذي الحجة الحرام ، اهتم الوزير بحاجتنا غاية الاهتمام ، والتمس منا كتابة ورقة بما نطلبه ، وما نحن بصدده ، فكتبناها فسلّمها هو لقاضي العسكر بيده ، وأكّد عليه بسبب ذلك ووصّى ، فبادر (٢) ذلك سفر السّلطان إلى مدينة برصاه (٣) وصحبه إبراهيم باشا الوزير الأعظم ، ثم كان عودهما في أواخر شهر المحرّم ، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما جرى بعد ذلك من بلوغ المرام ، ثم العود الى بلاد الشّام إن شاء الله تعالى ، ولنلتفت الآن الى سياق التنقلات فى المنازل (٤) الرّوميّة والتفضلات الرحيميّة ، فأقول :

لمّا نزلت بعمارة السّلطان محمد ، وانفردت بذلك المكان المفرد ، وصرت بين أهل تلك المدينة [٧١ أ] كالشامة البيضاء فى الثور الأسود ، أعاني الغربة وأقاسي الكربة ، لا أجد مألفا ولا صديقا ولا أنيسا ولا شفيقا ولا رفيقا رفيقا ، فاستوحش قلبي ، وطاش لبي ، وزاد كربي ، وعظم خطبي ، وضاق صدري ، وقلّ صبري ، وترادفت عليّ هموم ، وتواردت لديّ غموم ، من ذلك فراق الوالدة والأولاد والأهل ، وارتكاب (٥) خطّة أمر لم يكن بالهين ولا بالسهل ، ودخولي في أمر لم أعتده ، وشأن لم آلفه ولم

__________________

(١) ما بين القوسين ورد في (ع) باضطراب ، ولعل الناسخ لم يستطع قراءة النص فرسم الكلمات بأشكالها وفي (م) ورد ما بين القوسين في الهامش.

(٢) وردت في (ع): «فنادر».

(٣) برصاه أو برصه أو بورصا : يقال لها اليوم بروسه إحدى مدن تركيا الواقعة شرق بحر مرمرة على بعد (٢٠) كم وعن إستانبول حوالي (٢٨٠) كم ، وقد فتحها السّلطان العثماني أورخان في جمادي الأولى سنة ٧٢٦ ه‍ وجعلها عاصمة الدولة العثمانية الأولى ، وذكر القرمانيّ أنها ذاتها عمّورية التي فتحها المعتصم. انظر : أخبار الدول ٣ : ٤٢٠ ـ ، المنح الرحمانية ١٩ ، بلدان الخلافة الشرقية ١٨٩.

(٤) وردت في (ع): «المنازلات».

(٥) وردت في (م): «وارتكابي».

١٣٤

أرتده وأعهده ، وكنت سمعت من متمعلقين بالشّام بأنّ هؤلاء الأروام (١) لا يعرفون مقدار أحد ، ولا يلتفتون إلى من صدر أو ورد ، فزادني ذلك فرقا ، وأكسبني وسواسا وقلقا ، فألقى الله سبحانه على الجنان ، ما نطق به اللسان ، وأبان عنه البيان ، وجرى به البنان ، فقلت : [من الطويل]

إلى الله في كل الأمور توسّلي

بهادي الورى المختار أشرف مرسل

محمد المبعوث من آل هاشم

إلى الخلق بالدين القويم المكمل[٧١ ب]

لقد خصّ بالإرسال حقا بآخر

كما خصّ في الإنشاء خلقا بأول

رفعت إليه قصتي من حوادث

وهى جلدي منها وقلّ تحمّلي

ألا يا رسول الله أني عائذ

بجاهك من خطب عراني مجلّل

فراق لأولادي وأمي وعشرتي

وأهلي وأصحابي وداري ومنزلي

وتشتيت شملي في البلاد وغربتي

بغير شفوق لي عليه معوّلي

وقصدي لحاجات أروم قضاءها

سريعا وأخشى أنها لا تعجّل

ويخفق من إخفاقها القلب سيدي

ويؤنسه علمي بأنك موئلي

وخوفي من كيد الحسود ومكره

ومن قصده بغيا إصابة مقتلي

__________________

(١) وردت في (ع): «الأورام».

١٣٥

ومن ذلّ نفسي عند إعراض مدبر

وفتنة تعظيم لإقبال مقبل

وكثرة تردادي لباب محجّب

ومن رؤيتي غير الإله وفعله

عزيز إليه كلّ وقت توصلي

لدي (١) كل حال مجمل ومفصّل

فقوتي منها الله ثم وسيلتي

محمد الهادي النبي المفضّل

فليس على غير الإله توكلي

وليس بغير الهاشمي توسلي [٧٢ أ]

فببركة التوجّه إلى الله الملك العلام ، والتوسّل بنبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، لم يقابلنا أحد من الأكابر إلّا بغاية الإكرام والتعظيم والتبجيل والاحترام ، والله تعالى هو المأمول في نجاح المطالب وبلوغ المآرب ، إنه سبحانه لا يخيب من توكّل عليه ، والتجأ في كل أموره إليه ، وكان من تمام السعد والتوفيق ، الانتماء إلى جناب الجناب (٢) الكريم العريق ، الصّديق الصديق ، بل الشقيق الشفيق ، بل الركن الوثيق ، والسيّد على التحقيق ، ذي الحسب الصميم الظاهر ، والنسب الكريم الطاهر ، والجلال الباهي الباهر ، والجمال الزاهي الزاهر ، والكمال المتجلّي في أعلى كمالات المظاهر ، والفضل الذي تطفّل الفاضل على موائده (٣) ، واستسقى من نمير موارده ، والبيت الذي نمي على قواعد الدّين بل نمي الدّين على قواعده ، فقام على أرفع أركان وأثبت أساس ، وارتفع بالفضل على سائر الناس ، كيف وبانيه عمّ النبي صلّى الله عليه

__________________

(١) وردت في (ع): «لذي».

(٢) الجناب : من ألقاب أصحاب السّيوف والأقلام ، وقيل هو أعلى ما يكتب للقضاة والعلماء من الألقاب. انظر : صبح الأعشى ٥ : ٤٩٥.

(٣) وردت في (ع): «فوائده».

١٣٦

وسلّم أبو الفضل العبّاس ، فهو [٧٢ ب] ابن عمّ من ختمت به الرسالة والنبوة ، وعمّته بركة العمومة الزاكية والبنوّة ، السيّد الكريم والسند العظيم الإمام بدر الدّين أبو الفتح عبد الرحيم (١) ، فأنزلني بمنزل جوار منزله ، وأنهلني من صافي منهله ، وأغدق عليّ سبب فضله وتفضله ، فأقمنا بذلك المنزل حينا من الدهر نحو شهر ونصف شهر ، ثم انتقلنا إلى مكان نفيس لطيف حسن أنيس ، أخلاه لنا داخل داره ، بالقرب من مكانه الّذي هو مقيم به وجواره ، فلم نزل مدّة مقامنا في حماه وجواره ، فكان لنا جارا كجار إبي دواد (٢) ، وغمرتنا منه بوالغ نعم وسوابغ أياد ، وأنالنا من شمول لطفه ولطف شمائله ما برّد الكبد وأثلج الفؤاد ، ومن القرب إلى حضرته ما خفّف عن القلب حرّ نيران البعاد ، أخالني بمجالسته جليس القعقاع بن شور (٣) ، وأقتطف من مؤانسته أنيق ثمر وأعبق نور ، وأجتني من مفاكهاته الجنيات ما هو ألذ من فاكهة الجنات ، وأتحلّى بزلال بحره (٤) المتدفّق الجاري ، [٧٣ أ] وأتجلّى بعقد نظمه الفائق على الدّرر بل الدراري ، وأجمع من زهر منثوره ما فاق عرار نجد ، وسما على شذا البان والرند ، وأربى على عرف النرجس والورد ، وأنبسط في داره تبسّطي في داري وأبلغ ،

__________________

(١) السيد عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي (ت ٩٦٣ ه‍) وتقدّم التعريف به في مطلع الرّحلة.

(٢) أبو دواد هو جارية بن الحجاج الإياديّ من شعراء الجاهلية ، ويقال أنه مدح الحارث بن همّام فأعطاه عطايا كثيرة ، ثم مات ابن لأبي دواد وهو في جواره فوداه ، فمدحه أبو دواد ، فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلّا وداه ، ولا يذهب له مال إلّا أخلفه ، فضربت العرب المثل بجار أبي دواد ، وفيه يقول قيس بن زهير

أطوّف ما أطوّف ثم آوي

إلى جار كجار أبي دواد

انظر : الأغاني ١٦ : ٢٥٧.

(٣) القعقاع بن شور الذهليّ تابعي من الأجواد ، يضرب به المثل في حسن المجاورة ، قيل : كان يجعل لمن يجالسه نصيبا من ماله ، ويعينه على عدوه ، ويشفع له في حوائجه ثم يذهب إليه بعد المجالسة شاكرا. انظر : أعلام الزركلي ٥ : ٢٠١.

(٤) وردت في (ع): «نحره».

١٣٧

وأتنعّم في ظلال جواره بأخفض عيش وأرفع وأرفغ (١) ، وأتفيأ من ظلاله أورف ظل وأسبغ ، فألفى منه ركنا عظيما ، ومأوى كريما ، وأبا برا رحيما ، فكان حكاية بعض ذلك الحال ما أنشده طفيل الغنويّ (٢) ، فقال : [من الطويل]

جزى الله خيرا جعفرا حين أزلقت (٣)

بنا نعلنا في الواطئين فزلّت

أبو أن يملّونا ولو أنّ أمّنا

تلاقي الذي يلقون منا لملّت

هم خلطونا في النفوس (٤) وألجأوا

إلى حجرات أدفأت وأظلّت

وقد كتبت عنه أشياء تفوق الحصر ، وكتب عني أشياء قصد بها حصول الرفعة والجبر ، فمّما كتبته عنه واستفدته منه مؤلّفه «شرح المقامات» ، وهو عجيب في بابه ، ولم يكمل إلى الآن. و «شرحه على الخزرجيّة» ، وهو جامع حسن ، وشرحه على شواهد التلخيص المسمّى «بمعاهد التنصيص» ، وقد لخصته في منزله في مختصر سميته «تقريب المعاهد» ، وغير ذلك من مؤلفاته ومروياته ، وحكى لي عن بعض مشايخ (٥) الكبار أنّ العالمة المحدّثة فاطمة بنت المنجا التّنوخيّة كانت متزوجة برجل دونها في الفضل ، ثم تغاضبا وتفارقا فلامها بعض تلامذتها على فراقه ، فأنشدت : [من الكامل]

__________________

(١) الرفاغة : طيبة العيش وسعته.

(٢) وردت في جميع النسخ مصحفة : «العنزي» ، والصواب ما أثبتناه وهو طفيل بن عوف بن كعب ، شاعر جاهلي توفي نحو ١٣ ق ه. انظر : طبقات الشعراء ٢٢٣ ـ ، معاهد التنصيص ١ : ٢٣٣.

(٣) وردت في (ع): «أزلفت».

(٤) وردت في (م) و (ع): «بالنفوس».

(٥) وردت في (ع): «مشايخه».

١٣٨

لما رأيت الودّ منه قد انقضى

وأراد حبل الوصل أن يتمزّقا

فارقته ونفضت من يده يدي

وقرأت لي وله وأن يتفرّقا [٧٣ ب]

ونقل بلفظه وقرأته بخطّه ما حكى أنّ الرشيد أجرى الخيل يوما بالرّقّة ، فوقف متلوّما حتى طلعت ، فإذا في أولها فرسان في عنان ، فتأملها فقال : فرسي والله ، ثم تبيّن وقال : وفرس ابني عبد الله ، فجاء الفرسان أمام الخيل ، فرسه السابق وفرس المأمون المصلّي فسرّ بذلك. قال الأصمعي : فقلت للفضل يا أبا العبّاس هذا من أيّامي فاحتل بأن توصلني (١) فقال : يا أمير المؤمنين إنّ الأصمعي قد أعدّ في أمر الفرسين شيئا يزيد به سرور أمير المؤمنين ، فقال هات يا أصمعي. قلت : يا أمير المؤمنين كنت وابنك اليوم وفرساكما كما قالت الخنساء (٢) ، وقد قيل لها كدت تفضّلين أخاك على أبيك : [من الكامل]

جارى أباه فأقبلا وهما

يتعاوران ملاءة الحضر

وهما كأنّهما وقد برزا

صقران قد حطّا على (٣) وكر

حتى إذا جدّ الجراء وقد

ساوت هناك العذر بالعذر

وعلا هتاف النّاس أيّهما؟

قال المجيب هناك لا أدري

__________________

(١) وردت في (ع): «يوصلني».

(٢) الديوان ١٠٨ ، وشرحه ٥٥ والوافي بالوفيات ١٠ : ٣٩٣.

(٣) وردت في (م) و (ع): «إلى».

١٣٩

برقت صفحة وجه والده

ومضى على غراته يجري

أولى فأولى أن يساويه

لو لا جلال السّنّ والكبر

قيل لأبي عبيد : ليس هذا في مجموع شعرها ، فقال : العامة أسقط من أن [٧٤ أ] يجاد عليها بمثل هذا قولها ملاءة الحضر ، يعني به غبرة الفرسين اللذين أثاراهما جعلتهما كأنهما يرتديان بها ويتجاذبانها.

ونقل أن عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين كانتا تحت مصعب بن الزبير فحجّتا معا ومحملاهما متعادلان ، فأنشد حادي عائشة : [من الرّجز]

عائش يا ذات الحمال (١) السّتين

لا زلت مذ عشت كذا تحجّين

فأجابه حادي سكينة : [من الرّجز]

عائش ما ذي ضرّة تشنوك (٢)

لو لا أبوها ما اهتدى أبوك

فقالت عائشة لحاديها : أكفف ، والقصّة مشهورة (٣).

وحكى لي عن الشيخ العلّامة زين الدّين الأسديّ أنّه حكى له عمّن نقل عن قاضي القضاة صدر الدّين المناويّ أنه قرأ قول الخنساء (٤) في أخيها : [من الوافر]

__________________

(١) في الأغاني (١١ : ١٣٠): «البغال».

(٢) في الأغاني (١١ : ١٣٠): «تشكوك».

(٣) هذه القصة مثبتة في الأغاني ١١ : ١٣٠.

(٤) في الديوان ١١٩ ، وشرحه ٦٢.

١٤٠