بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي
المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥
صغيرة ، وبها بساتين وأشجار كثيرة ، وفيها جامع لطيف بالدفوف الثقيلة مفروش ، وبه منبر لعله من الخشب لكنه مستور بالجص المنقوش ، وبه تختات مرتفعة زيادة فيه كالسدّة (١) ، لكنها أكثر من نصفه تسع من المصلين عدّة [٤٦ ب] ، وأقمنا به من ذلك الوقت إلى العصر ، ثم سرنا إلى الخيام بعد أن دعا لنا جماعة ممن حضر الصلاة والإمام ، وخارجه منارة عالية ذات طول مديد ، وهي مفردة في المدينة ترى من خارجها من نحو نصف بريد ، والبرد فيها موجود ، والقطر غير مدفوع ولا مردود ، ولا يدرك بها من الزرع شيء كالقمح وما شابهه ، ولا غير القراصيا من جنس الفاكهة ، وهي شقراء وبعضها شقة بيضاء وشقّة حمراء ، فنزلنا خارج المدينة بمرج أفيح ، فيه للطرف مسرح وللخواطر مسنح ، زكي المرابع (زهي المراتع) (٢) ، يجري إلى جانبه نهر نهاية في العذوبة والخصر ، فارتاحت الأنفس من الحصر والألسن من الخضر ، ونسيت بحلاوة اليوم ما مرّ بالأمس ، وباشرت الملاذ بالحواس الخمس ، فأقمنا بقية ذلك النهار ثم ليلة الجمعة رابع عشر الشهر إلى وقت الاستغفار ، وانقطع منّا فيها لمواصلة السير جماعة ، منهم الشيخي [٤٧ أ] البرهاني ابن جماعة ، ثم سرنا من ذلك المكان وقد : [من الرّمل]
كحّل الفجر لنا جفن الدّجى |
|
وغدا في وجنة الصبح لثاما |
تحسب البدر محيّا ثمل |
|
قد سقته راحة الصبح مداما (٣) |
ولم نزل نسير ونسري ، وننزل منازل لا نعلم اسمها ولا ندري ، حتى سرينا (٤)
__________________
(١) وردت في (ع): «كالشدة».
(٢) ما بين القوسين زيادة من (م).
(٣) البيتان في معاهد التنصيص ٢ : ٥٦ منسوبة لأبي زكرياء المغربي.
(٤) وردت في (ع): «وصلنا».
ليلة الأحد سادس عشر الشهر سروة فوصلنا مدينة قونية (١) ضحوة ، والشمس قد اكتسبت بعد ضعفها قوة ، وانجلت في حللها المذهبة أجمل جلوة ، وارتقت من أوجها ذروة ، وارتفعت عن مشرقها قدر غلوة ، ومن متن برجها صهوة ، وكست الأرض والجبال من روق ضيائها أحسن كسوة ، ومدينة قونية مدينة غرّاء وأرض خضراء ، ذات تربة زكية ، ونفحة ذكية ، ورياض أنيقة ، وأشجار نضرة وريقة ، ومحيا صبيح ، وترتيب مليح ، أسواقها مرضية ، وخاناتها فضيّة ، ومساجدها وضيّة ، وعيشتها رضية ، وزمانها ربيع ، وجنابها رفيع ، ونسيمها وان ، وجنانها دان ، وقاطنها بحبها [٤٧ ب] عان ، وليس لها في مزية الحسن بين البلاد القرمانيّة ثان ، وبها مساجد متعددة ، وعمارات متجددة ، وجامع عتيق ، ذو معهد أنيق ، وبناء وثيق ، ومقام رجل مشهور بالولاية يقال له ملا خنكار (٢) ، يقام عنده وقت كل جمعة يضرب فيه بالدف والمزمار ، ويحيط بها سور عظيم ، ذو بناء قديم ، به شخوص وأشباح ، وجسوم تكاد تنطق لو لا فقدها الأرواح ، وعلى بعض أبوابها (٣) صورة إنسان ، متصلة أقدامه ببعض حجارة البنيان ، فهذا هو المنكر الذي لا نرضاه ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، وهي الآن سرة بلاد (٤) قرمان ، وقد كانت تخت الملك في قديم الزمان ، وقد انتشأ بها جماعة من الصّوفيّة ، ومن أئمة الفقهاء الشّافعيّة والحنفيّة ، ومنهم شيخ الإسلام فخر القضاة والحكام (القاضي علاء الدّين وولده العلّامة محبّ الدّين وشيخ الصّوفيّة الإمام صدر الدّين ، أعاد الله تعالى من بركاتهم علينا وعلى المسلمين) (٥) ، [٤٨ أ] فنزلنا خارجها بمرج من تلك المروج ، به ربيع تمور به الريح وتموج ، وبعض غدران مياه
__________________
(١) قونية : من أعظم مدن الإسلام بالرّوم ، وهي كرسي بلاد قرمان ، وبها قبر أفلاطون الحكيم. انظر : معجم البلدان ٤ : ٤١٥ ، أخبار الدول ٣ : ٤٤١ ، صبح الأعشى ٥ : ٣٥٢.
(٢) ملاخنكار : هو محمد بن محمد بن الحسين ، جلال الدّين الرومي ، فقيه حنفي ، ولد في بلخ ورحل إلى بغداد ثم إلى قونية وبها استقر ، توفي سنة ٦٧٢ ه. (أعلام الزركلي ٧ : ٣٠).
(٣) وردت في (ع): «أنواعها».
(٤) وردت في (ع): «ببلاد».
(٥) ما بين القوسين ساقط من (م) وفي (ع) ترك الناسخ مكانه بياضا.
يخصب بها روض الحياة ، وتسحب ذيل صفائها على صفاء (١) ذلك المحل وحصاة ، كما قيل : [من الوافر]
وضاحية وردت بها غديرا |
|
يقدّر (٢) من صفاء الماء أرضا |
كأن الوحش حين تغبّ فيه |
|
يقبّل بعضها للشّوق بعضا |
فأقمنا به بقية يوم الأحد ، ثم ليلة الاثنين بالكمال ، ثم عزمنا وجه الصبح المسفر عن سابع عشر شوال ، على الترحّل والانتقال ، والتحوّل والارتحال ، فلم نزل نجوب في فياف ومهامة ، ونجول بين أنهار ومنازه ، ورياض قد تولاها الولي ، ووسمها الوسمي ، وجمشتها نسمات الرياح ، وأظلتها رايات الصباح ، وغازلت كواكب الفجر عيون نرجسها الوقاح ، وباكرت الصبا (٣) تقبيل ثنايا نورها : [من السريع]
من قبل أن ترشف شمس الضحى |
|
ريق الفؤاد من ثغور الأقاح |
إلى أن نزلنا بمرج متسع الساحة ، كبير المساحة ، مرتع النواظر ، [٤٨ ب] ومتنفس (٤) الخواطر ، تسفر كل ناحية منه عن خد روض أزهر ، وعذار نبت أخضر ، وتبسم عن ثغر حباب في نهر كالحباب ، وترفل من الربيع في ملابس سندسيات ، وتهدي نوافح مسكيات ، وتزهى من بهجتها بأحسن منظر ، وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب وأنضر ، فقيّلنا به ذلك النهار ، ونقعنا الغلّة من الماء البارد ، ونفعنا العلة من النسيم المعطار (٥) ، ولم نزل نسير بين تلك الأزهار والأنهار ، في العشايا والأبكار ، حتى
__________________
(١) وردت في (ع): «صفاة».
(٢) وردت في (ع): «بقدر».
(٣) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٤) وردت في (ع): «ومنتفس».
(٥) وردت في (ع): «العطار».
وصلنا ضحوة الأربعاء تاسع عشر الشهر للمدينة البيضاء ، وهي التي تسمى عندهم بآق شهر (١) ، وهي مدينة لطيفة ، حسنة ظريفة ، من أنزه المدن القرمانيّة وهي آخرها ، وألطف البلاد العثمانيّة وأخيرها ، مبيضة كسقيط الثلج ، مصطفّة كبيوت الشطرنج ، ذات مياه خصرة (٢) ، وبساتين خضرة ، عظيمة المنازه ، كثيرة الغلات والفواكه ، يجلب منها الفاكهة إلى ما يحاذيها من البلاد [٤٩ أ] الرّوميّة حتى إلى المدينة العظمى القسطنطينيّة ، ويخترق أرجائها نهر سلسال ، كدمع المهجور إذا سال : [من الطويل]
يظنّ به ذوب اللّجين (٣) فإن بدت |
|
له الشمس أجرت فوقه ذوب عسجد (٤) |
وبها أسواق معمورة ، بالخيرات الموفورة مغمورة ، ومساجد عظيمة ، وحمّامات قديمة ، وعمارة بظاهرها بها مسجد للجمعة معظّم ، منسوبة لحسين باشا الوزير الأعظم ، وتكيّة ينزلها المسافرون ، ويحلّها المتفقهون القاطنون ، وليس لها سور ولا حصار معمور ، وهي من أرخا هذه البلاد لسعة رزقها ونزرة خلقها وكثرة مغلها وقلّة أهلها وكثافة غيطانها وخفة قطانها ، وبها على دون مرحلة بركة كبيرة ، بها بعض مراكب صغيرة ، يصاد بها منها السمك الكبار والصغار ، ويجلب إلى ما حولها من الأقطار ، فنزلنا بها بمصلّى العيد ، وهو منزل بديع غير بعيد ، قد راق فيه الماء ، ورقّ
__________________
(١) آق شهر : مدينة روميّة مشهورة ، تبعد عن قونية نحو ثلاثة أيام شمالا بغرب ، ذكر الرحالة المشهور بكبريت أنّ معناها القرية البيضاء ، كما مرّ بها الرحال الخياري وزار قبر الخواجا ناصر الدّين الملقب بجحا ، وتوسّع في ذكر خبره. انظر : رحلة الشتاء والصيف لكبريت ص ١٩١ ، رحلة الخياري ١ : ٢١٧ ، صبح الأعشى ٥ : ٣٥٢ ، أخبار الدول ٣ : ٣٠٦ ، بلدان الخلافة الشرقية ١٨٤ ، قاموس الأعلام ١ : ٢٦٦.
(٢) وردت في (ع): «حضره».
(٣) اللّجين : الفضة.
(٤) هذا البيت مذكور في رفع الحجب المستورة ١ : ١٢٨ ، ومعاهد التنصيص ٢ : ٩٨. منسوبا لأبي العلاء المعري.
به الهواء ، وسفر له الدهر عن محياه ، وتبسّم له الزهر [٤٩ ب] وحيّاه ، وأحدقت به البساتين أحداق الهالة بالقمر ، والأكمام بالزهر ، وامتدت له بطحته الخضراء امتداد البصر ، وبالقرب من هذه المحلّة والمنزلة ، مقام خجا ناصر الدّين (١) المشهور عندهم بالولاية والوله ، وله عندهم حكايات مضحكة تدل على التغفّل والبله ، نظير ما يحكى عن مصحفة جحا ، وكلاهما من المغفّلين الصلحاء ، فأقمنا بها إلى وسط النهار ، ووقت الزوال والإظهار ، ثم أخذنا نجوب (٢) ونجول في وهاد وتلول ، ووعر (٣) وسهول ، وفياف وقفار ، وربيع وأزهار ، ولم نزل نسري ونسير ليلا ونهارا ، ونجدب بالنجب الفيافي أصالا وأسحارا ، وتغيب عنّا الشموس والأقمار فنتخذ من المشاعل والفوانيس شموسا وأقمارا ، إلى أن وصلنا إلى مدينة قرا حصار (٤) يوم الجمعة حادي عشر الشهر وقت الإبكار ، وقد نشر علم الشمس الأصفر ، وتخلّق الكون بردعها المعصفر ، وأشرق وجهها الأشقر في الآفاق وأسفر ، [٥٠ أ] وهي مدينة مستظرفة بين جبال مستلطفة ، وعلى جبل صغير عال في وسطها قلعة منيعة ، بديعة رفيعة (٥) ، أمينة حصينة ، علية مكينة ، سمية متينة ، سوداء الحجارة وبها (٦) تسمّت المدينة ، وعلى هذه المدينة بساتين كثيرة ومياه غزيرة ، وبظاهرها مرج أريج ، ذو نبت بهيج ، فسيح الرحاب ، رحب الجناب ، كثيرة الكلأ والعشب ، زائد الري والخصب ، يسافر
__________________
(١) ذكره الرحالة المشهور بكبريت عند مروره بآق شهر : «الخواجة ناصر الدين ، صاحب التفسير ، المتوفى سنة ٣٨٦ ه والعامة تزعم أنه جحا الذي يضرب أمثاله في الجد والهزل». (رحلة الشتاء والصيف ١٩١).
(٢) وردت في (ع): «نجور».
(٣) وردت في (ع): «ووعور».
(٤) ذكر ياقوت أنّ قرا حصار اسم لأماكن كثيرة غالبها ببلاد الرّوم ، غير أن هذه التي نزل بها الغزيّ هي التي حددها القرمانيّ : بينها وبين القسطنطينيّة عشر مراحل ، يجلب منها البسط إلى البلاد. انظر : معجم البلدان ٤ : ٣١٥ وأخبار الدول ٣ : ٤٤٢.
(٥) وردت في (ع): «رفيقة».
(٦) سقطت هذه الكلمة من (ع).
النظر فيه ، ويرتاح بمرائيه ، وبها أسواق جميلة ، ومساجد جليلة ، وعمارة حسنة متسعة ، بها مسجد معظم تقام فيه الجمعة ، فجمعنا بها فية الجمعة مع العصر ، وجمعنا بين الإتمام والقصر ، وأول ما شاهدنا في تلك البقعة طرائق الرّوم يوم الجمعة ، وهو أن يصعد المؤذنون المنارة يعلمون بالصلاة ويصلّون ويسلّمون على سيّدنا رسول الله ، ثم لا يصعد بعد ذلك إلّا واحد للأذان ، ثم يشرع المقرئون على السدّة واحد بعد واحد في قراءة القرآن ، وبعد الفراغ من [٥٠ ب] القراءة والختام ينشد منشدا أبياتا بالتركي أو العربي بأواز وأنغام ، فكان ما حفظته مما أنشده يومئذ قوله : [من مجزوء الرمل]
لي حبيب عربيّ |
|
مدنيّ قرشي |
وجهه في نظري |
|
كلّ صباح وعشي |
ثم يصلون السّنّة ثم يصعد الخطيب ويفعل أفعالا كثيرة بعضها (١) مخالفة للسنّة من ذلك عدم الاتكاء على سيف ونحوه ثم تركه السلام ، ثم الخطبة بأواز عال وأنغام ، ثم الدق على درج المنبر بالرجل حالة الهبوط والصعود ، ثم الالتفات يمينا وشمالا في القيام والقعود ، وكان نزولنا خارجها بذلك المرج ، بعد أن أحطنا علما بالدخل منها والخرج. واجتمعنا هناك برجل جاء بعدنا في البحر من أهل الشّام ، فاستخبرناه عن الأهل والأصحاب فأخبرنا بأنهم طيبون وبلّغنا منهم السلام ، فزاد تحريك وجد لم يكن بالساكن (٢) ، وأكد مؤكد (٣) شوق لتلك الأحباب والأماكن ، ففاضت الدموع من الأجفان ، واشتعل القلب بالنيران ، وتمثّلت قول (٤) بعضهم في
__________________
(١) سقطت هذه الكلمة من (م).
(٢) وردت في (ع): «بالشاكين».
(٣) وردت في (ع): «مولد».
(٤) وردت في (ع): «بقول».
هذا الشأن [٥١ أ] : [من البسيط]
يا ساري الليل هل من رامة خبر |
|
فإنني لسواه لست أنتظر |
بالله ربك أخبرني فها كبدي |
|
تكاد من ذكرهم بالوجد تنفطر |
أحباب قلبي وأخواني وأهل مني |
|
روحي إذا طربت والسمع والبصر |
أعندكم أنني من بعد فرقتكم |
|
لا استلذّ بما يهوى له النظر |
ترى أراكم على بانات كاظمة |
|
والعذل قد غاب والأحباب قد حضروا |
ويجمع الله شملا طالما لعبت |
|
به الليالي ولم يسعف به القدر |
ثم رحلنا من ذلك المكان بين الصلاتين والدموع تسقي تلك الأباطح ، والأنفاس تتصعد من لهب الجوانح ، فما سرنا إلّا يسيرا من ذلك المكان حتى مررنا بحمام حامي المياه بغير إسخان ، ولم نزل في حث السير والسرى ، وعصيان الراحة وودع الكرى ، وجول مهامة وبراري ، وجوب فياف وصحاري : [من الكامل]
ألوي الضّلوع من الولوع بخطرة |
|
من شيم برق أو شميم عرار |
وأنيخ حيث دموع عيني منهل |
|
يروي وحيثحشاي موقد نار(٢)[٥١ ب] |
__________________
(١) الأبيات في تاج المفرق ٢ : ١٥٣ ـ بلا عزو.
(٢) البيتان ينسبان للرصافي البلنسي : الديوان ١٣٤ ، ولابن خفاجة : الديوان ١٢٨.
فلم نزل في حطّ وتر حال ، ووخد وإرقال (١) ، إلى أن وصلنا إلى محلّة ابن أوكي (٢) وقت الضحى العال ، من يوم الأحد ثالث عشرين شوال ، وهو مرج كبير ذو عشب كثير ، قد بسط الغيث به بساطا أخضر ، بحيث لا يكاد شيء من سواد أرضه يرى ، وبجانبه قلعة لطيفة منقورة في جبل عالية الموضع سامية (٣) المكان مرتفعة المحل ، وهو معد لرعي الخيول السّلطانية وتربيتها وإصلاح شأنها وتنميتها ، وبأسفله اصطبلات برسم تلك الخيل (٤) تصان بها وتأوي إليها في الليل ، ثم رحلنا وقت الظهيرة من تلك المحلّة المذكورة ، ولم نزل نسير وقد جدّ المسير ، وحمى الهجير ، وكاد أن يبلغ الغبار الكثير الفلك الأثير ، فلما تضمّخ جيب الأصيل بالعبير ، وسقطت الشمس من الغرب على خبير ، بعد أن عراها من خوف هول (٥) ذلك الحال اصفرار ، وأعقبت من شفقها في الأفاق لون الاحمرار ، وصلنا حينئذ إلى محلّة أرمني بازار ، وهي قصبة حسنة العمارة ، بها [٥٢ أ] مسجد لطيف ومنارة ، فنزلنا بظاهرها منزلا تشتهيه الأنفس وتلتذه (٦) الأعين ، وتسبّح من حسنه الأفواه والألسن ، فسيح الأرجاء ، واسع الأنحاء ، صحيح الهواء ، به أعين زائدة الخصر والعذوبة ، فوق الغاية المطلوبة والحالة المرغوبة ، وبتنا في مقعد هناك معظم عال ، مركب على عين تجري بماء عذب زلال ، فلما ابتسم ثغر الأفق بعد الوجوم ، وفاض نهر المجرة على حصباء النجوم ، نبهنا أيدي المطي عن سنة السكون ، وحركنا منها ما كان مبينا على السكون ، ورحلنا من ذلك
__________________
(١) الوخد والإرقال : الإسراع ، أو أن يرمي البعير بقوائمه كمشي النّعام.(القاموس المحيط ٤١٤ ، ١٣٠٢)
(٢) محلة ابن أوكي : ذكرها القرمانيّ عرضا : «سلطان أوكي» وهي على شاطيء نهر يكي شهر الآتي ذكرها بينكي شهر ، ولعلها هي ذاتها التي مرّ به الرحالة المشهور بكبريت من نواحي ينكي شهر وسمّاها بلدة السّلطان غازي ، سميت باسم فاتحها ، انظر : أخبار الدول ٣ : ٣٧ ورحلة الشتاء والصيف ١ : ١٩٠.
(٣) وردت في (ع): «شامية».
(٤) وردت في (ع): «الخيول».
(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٦) وردت في (ع): «وتليذه».
المكان المركب على العين صبيحة رابع عشرين الشهر ، وهو يوم الاثنين في وهاد وتلال ، وحجارة ورمال ، وغياض وأشجار ، ومياه كالأنهار ، ودربندات هنالك وعرة المسالك بعيدة المدارك ، كثيرة الهبوط والصعود ، والتهائم والنجود ، والغبار يكحل بإثمدة الأبصار ، فيكاد أن يفقدها حاسة الإبصار ، ويدخل في الخياشيم ، فيحول [٥٢ ب] بينها وبين روح النسيم ، ويكسو الأجساد ثيابا لم تعن فيها يد خياط ، ولم يلج فيها سم الخياط ، حتى يدع البياض سوادا ، ويدر على المللونات من قتامة رمادا ، فلم نزل نحثّ مطايا السير والسرى ، ونريق من كاسات العيون طلا الكرى ، ونحن كما قال بديع الزمان ، وعلامّة همدان : [من الطويل]
كأنا على أرجوحة في مسيرنا |
|
لغور بنا تهوي ونجد بنا تعلو |
كأن السّرى ساق كأن الكرى طلا |
|
كأنّا لها شرب كأنّ المنى نقل |
كأنا جياع والمطيّ لنا فم |
|
كأنّ الفلا زاد كأن السّرى أكل |
كأنّ ينابيع الثرى ثدي مرضع |
|
وفي حجرها منّي ومن ناقتي طفل (١) |
حتى وصلنا إلى مدينة (٢) ينكي شهر (٣) ، يوم الثلاثاء خامس عشرين الشهر ، وهي بلدة نضيرة لطيفة صغيرة ، جميلة المنظر ، جليلة المخبر ، ذات أسواق موفورة ، ومساجد معمورة ، وخارجها نهر كبير ، ذو ماء كثير ، عذب زلال نمير ، خضناه وقطعناه ، وركبناه [٥٣ أ] وما رهبناه ، واستصحبناه وما استصعبناه ، وهو يلتوي تحتنا
__________________
(١) الأبيات في معاهد التنصيص ٢ : ٢٣٣.
(٢) وردت في (م) و (ع): «بلدة».
(٣) ينكي شهر : مرّ بها الرحالة المشهور بكبريت وذكرها «ينكي خان» ومعناه : الخان الجديد ، كما ذكرها القرماني عرضا : يكي شهر ، انظر : رحلة الشتاء والصيف ١ : ١٩٠ ، وأخبار الدول ٣ : ٣٧.
التواء الصلال ، وينسل في تلك الأراضي أي (١) انسلال ، ويدور بجوانبها دور الهلال ، ويتراءى بين الشقائق كأنه العذار في الخد الوسيم ، ويلبس درعا محكمة الزرد من نسج النسيم ، كما قيل : [من الرمل]
حاكت الرّيح على الماء زرد |
|
أي درع (٢) لقتال لو جمد (٣) |
فنزلنا بها بعمارة عتيقة ، محكمة وثيقة ، حسنة أنيقة ، وكنّا قد سبقنا القوم في ذلك اليوم ، ثم سرنا (إلى أن نزلنا) (٤) بمرج (٥) فسيح الأرجاء ، واسع الفضاء ، ذو مرعى غزير ، وربيع كثير ، ونهر كبير : [من المتقارب]
وقد غشى النّبت بطحاءه |
|
كبد والعذار بخدّ أسيل |
وقد ولّت الشّمس مجتثّة |
|
إلى الغرب ترنو بطرف كحيل |
كأنّ سناها على نهره |
|
بقايا نجيع بسيف صقيل (٦) |
وبتنا هناك مجاورين لذلك النهر ، ليلة الأربعاء سادس عشرين الشهر ، ثم رحلنا
__________________
(١) وردت في (م): «كل» ، وفي (ع): «كل أي السلال».
(٢) وردت في (م): «ذرع».
(٣) البيت في معاهد التنصيص ٢ : ٩٦ منسوبا شطره الأول لابن حمد يس وتمم عجزه الشاعر المشهور بالحجام.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٥) وردت في (م): «بمرج بظاهرها».
(٦) الأبيات لابن خفاجة : ديوانه ٢٠٦ ، ومعاهد التنصيص ٢ : ٩٧.
منه عندما نصل خضاب الليل ، وشمّر [٥٣ ب] زنجيه (١) للهرب من رومي الصباح الذيل ، ولمع صارم الفجر من الشرق كلمعان البرق ، وسرنا في دروب محجرة ، ودربندات مضجرة ، وشعراء بالخوف مشعرة ، وأرض خالية من الأنيس مقفرة ، ومسالك عسرة وعرة ، إلى عقبة ينخفض عنها طرف العقاب ، ويعسكر دونها جيش السحاب ، بها أشجار لا تعدّ ولا تحصى ، ولا يدرك الأدنى منها والأقصى ، فلم نزل نجوب كل مسلك وطريق ، تارة في السعة وتارة في الضيق ، إلى أن وصلنا وقت الضحى الأنيق ، عند تعالى وجه الشمس الشريق ، من يوم الأربعاء إلى مدينة أزنيق (٢) ، وهي مدينة عظيمة (٣) المنظر حسنة المخبر ، ممتعة بالروض الناعم والنسيم الأعطر ، من أحسن البلاد الرّوميّة أزقة وأسواقا ، وأكثرها فوائد وأرزاقا ، وأوضحها بياضا وإشراقا ، وأبدعها اتصالا بالبساتين والتصاقا ، وأملحها مرسى (٤) ، وأمنحها أنسا ، وأينعها روضا ، وأترعها [٥٤ أ] حوضا ، معتدلة الهواء ، سامية البناء ، واسعة الفناء ، ساكنة المساكن ، مكينة الأماكن ، لائحة المباهج ، واضحة المناهج ، صافية الزلال ، ضافية الظلال ، معشبة الشعاب ، عامرة الجناب ، مرنة الرباب ، هامرة السحاب ، سابغة المدارع ، سائغة المشارع ، سافرة المطالع ، وافرة الصنائع ، وهي مخصوصة بعمل الصيني الرّوميّ (٥) وبه تعرف ، وهو ألطف من معمول الصّين وأظرف ، وبها فاكهة كثيرة حسنة ، وقد رأينا بها قراصيا ملوّنة ما بين بيضاء وشقراء
__________________
(١) وردت في (م): «رنجيّه».
(٢) أزنيق : مدينة في بلاد الرّوم قرب شواطىء بحر مرمرة الشرقية ، وهي مدينة أثرية ، وكان اسمها في القديم «نيقية» ، فتحها السّلطان أورخان سنة ٧٣١ ه. وبينها وبين القسطنطينيّة أربع مراحل (٩٠ كم) ، وقد مرّ بها الرحالة كبريت ، قال : «وإليها ينسب الفخار الأزنيقيّ لأنّ بها مصانعه وأحجاره» ، كما أفاض في الحديث عنها الرحالة الخياري ، انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٨٩ ، ورحلة الخياري ١ : ٢٣٥ وأخبار الدول ٣ : ٣٠٦ ، وبلدان الخلافة الشرقية ١٨٢.
(٣) وردت في (م): «غضّة».
(٤) وردت في (ع): «رسى».
(٥) هو الفخار الأزنيقيّ ويعرف أيضا بالقاشانيّ.
وسوداء وحمراء ، وبخارجها بحرة كبيرة ، وبها أسماك كثيرة ، وقد جست خلال هذه المدينة ، وجزت في أماكنها المكينة ، ورأيت العجب من محاسنها الجمّة المستبينة ، فدخلت بها جنّة حفّت من طرقها بالمكاره ، وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره ، ثم نزلنا بظاهرها على نحو نصف ميل ، بمرج أريج وظل ظليل ، قد نسجت به يد السحب بسطا عجيبة التلوين ، غريبة التكوين ، [٥٤ ب] نقوشها تفوق الحبر ، ويكاد يضاهي الزّهر ما فيها من الزهر ، فياله من بلد ومنزل عزيز ، بديع التفويف والتطريف والتطريز :[من الكامل]
كلّ المنازل والبلاد عزيزة |
|
عندي ولا كمنازلي وبلادي (١) |
فأقمنا هناك إلى وقت الظهيرة ، حين قبض النهار ظلّه وبسط حروره (وهجر برده وواصل هجيره) (٢) ، ثم قطعنا مرحلة قصيرة بين أشجار كثيرة ومياه غزيرة ، وبتنا بساحة واد حللنا به ، بين ظفر التوحّش ونابه ، لا تعرف جنوبنا من المضاجع قرارا ، ولا تطعم عيوننا النوم (٣) إلّا غرارا ، إلى أن قضي الليل نحبه ، وغوّر الصبح شهبه ، ففوقنا سهام العزم ، وأطرنا عن زنده شرار الحزم ، وسرنا في دروب ضيقة المناهج ، ودربندات وعرة المدارج ، ومفاوز ومهالك ومسالك يضل فيها السالك : [من السريع]
ومهامة كالبحر لا أثر |
|
للمقتفي فيها ولا سنن (٤) |
لو سار فيها النّجم ضلّ بها |
|
حيران لا شام ولا يمن (٥) [٥٥ أ] |
__________________
(١) هذا البيت في تاج المفرق ٢ : ١٥٤ بلا عزو.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٣) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٤) وردت هذه الكلمة في (ع): «شين».
(٥) البيتان في تاج المفرق ١ : ٢٧٨ بلا عزو.
تضيق من رؤيتها الصدور ، وتنفر من وحشتها النفوس غاية النفور ، كثيرة الأشجار ، وغالبها لا ثمار له ولا أزهار ، وهناك مكان يعرف باغش تنكز ومعناه بحر الشجر ، لا يصدق وصفه عقل ويكفي شاهد البصر ، وقلت : [من مجزوء الوافر]
عهدنا البحر من ماء |
|
ولم نعهده من شجر |
ونيس العقل يقبل ذا |
|
ك ويكفي (١) شاهد البصر |
شهدنا فيه أمواجا |
|
من البلّوط والشّمر |
ومن أثل ومن ضال |
|
ومن أرز بلا ثمر |
وأجودها إذا اعتبرت |
|
بلا نفع ولا ضرر |
به سفن ركبناها |
|
لنقضي نهمة السّفر |
من الخيل السوابح فيه |
|
بالآصال والبكر |
تسير بها مجاديف |
|
القوائم سرعة البصر |
سنابكها لها شرر |
|
كقدح الزند بالحجر [٥٥ ب] |
إذا أدجت بعثيرها |
|
أعاضت عن سنا (٢) القمر |
__________________
(١) وردت في (م): «لو لا».
(٢) سقطت هذه الكلمة من (ع).
فلم نزل نغوص في عبابه ، ونرقى على ثبجه رقى حبابه ، ونخلط بدكّ الحوافر جنادله بترابه ، هذا وحكم الحرّ لم ينسخ ، وإهابه لم يسلخ ، والريح تهب سموما ، وتهدي إلى القلوب سموما (١) ، والغبار متراكم متراكب ، تكاد أن لا تبين معه الشمس فكيف الكواكب ، مع أن الشمس ليس لها في ذلك المحل مواكب ، ولا محامل (٢) ولا مراكب ، ولا تبلغ من تلك الأشجار إلّا رؤوس المناكب ، ولا تنسج عليها إلّا كنسيج العناكب ، فما قطعناه إلّا بعد جهد جهيد ، وتعب شديد ، وعناء ما عليه من مزيد ، ثم لم نزل نقطع مسالك ضيّقة ومتسعة ، ومناهج منخفضة ومرتفعة ، نصعد على التهائم ونغور في النجود ، ونسلك كل مسلك لم يكن بالمعمور ولا بالمعهود ، ولا كان مسلكا إلّا للذئاب واللصوص والأسود ، إلى أن وصلنا ضحوة يوم الجمعة المشهود ، إلى بلدة أزنكميد (٣) ويقال لها [٥٦ أ] أزنكمود ، ثم نزلنا خارجها بنحو نصف ميل لكي نستريح ونقيل ، ونخفف عنّا (٤) ذلك العبء الثقيل ، بمكان خضر الأرجاء والنواحي ، بهج المرابع والضواحي ، وفيه ماء جار ، وأشجار جوز كبار ، فقوي فيه الحرّ واشتد ، واحتدم واحتدّ ، واعتدى واعتدّ ، وتمادى وامتدّ ، وتنفست في ذلك المكان الجحيم ، وصار الماء أبرد منه ماء الحمام كأنما سيق من الحميم.
فبينما الناس في التهاف والتهاب ، واضطرام واضطراب ، وغرق من العرق ، وحرق من الحرق ، وقد تستروا بظل فروع الأشجار والورق ، واتخذوا أغصانها من سهام الشمس درق ، وإذا بالحمزاويّ قد عزم على الرحيل والمسير ، فضجّ من ذلك الصغير والكبير ، واستنجد بي بعضهم في التواني قليلا والتأخير ، لتنكسر سورة ذلك السعير ، وكنت قد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المنام قبل ذلك الوقت بيسير ، فقلت
__________________
(١) وردت في (ع): «سموها».
(٢) وردت في (م): «مطايا».
(٣) أزنكميد وأزنكمود : وهو اسم تركي ، وبالعربيّة نقمودية ، وتسمى حاليا أزميد. وهي مدينة على ساحل البحر بينها وبين القسطنطينيّة أربع مراحل ، فتحها الملك أورخان ابن السّلطان عثمان ، انظر : أخبار الدول للقرماني ٣ : ٣٠٧ ، وبلدان الخلافة الشرقية ١٩٠.
(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع) ، وفي (م): «ونخفف عنّا بعض ...».
لهم : لا خوف إن شاء الله تعالى ولا حذر ، ولا ضرّ ولا ضرار ولا ضرر ، فإنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مصاحب [٥٦ ب] لنا في السفر ، فلمّا سرنا هبّت الرياح ، فتنفست من تلك (١) الكرب الأرواح ، وعاودها الروح والارتياح ، وكان هبوبها من طلائع الرحمة ، ومقدّمات كشف الغمّة ، ثم أبرقت السماء فسلّت مذهب نصولها ، ورعدت فضربت مبشّر طبولها ، وجعل السحاب (٢) يعبىء كتائبه ، والرباب يرتّب مواكبه ، ثم ترادف البرق والرعد ، وأنجز بالإغاثة بالغيث الوعد ، ثم صوّب صوب الغمام سهامه ، ثم لبس الجو لحرب المحل لأمه (٣) ، فلم يبق قطر إلّا وقد نفذت فيه تلك السهام ، ولا أفق إلّا وقد علاه من خيوط الودق (٤) مثل القتام ، ثم تتابع رشق القطر ، واتصل الهمل والهمر ، وسالت الأودية كالأنهار (٥) ، وجرت السيول تحت أرجلنا متواترة التيّار ، وانشقت السماء بصاعقة ، لم تزل القلوب منها وجلة خافقة ، وسقطت في البحر كالشهاب في سرعة مروق النشاب ، ثم لم تلبث السماء أن أقلعت ، والأرض أن شربت ماءها وبلعت ، [٥٧ أ] والسحب أن تكشفت وتقشعت ، وعاد الفصل (٦) إلى طبعه ، ورجع الوقت إلى وضعه ، وكان النهار قد عزم على الرحيل ، ورفل في برد الأصيل : [من الكامل]
وبدا لنا ترس من الذّهب الذي |
|
لم ينتزع من معدن يتعمّل |
مرآة تبر لم تشن بصياغة |
|
كلا ولا جليت بكفّ الصّيقل (٧) |
__________________
(١) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع).
(٢) وردت في (م): «الغمام».
(٣) اللأمة : الدّرع.
(٤) الودق : المطر.
(٥) وردت في (ع): «وسالت الأودية بقدرها ...».
(٦) وردت في (ع): «الفضل».
(٧) وردت في (ع): «الصقيل».
تسمو إلى كبد السماء كأنما |
|
تبغي هناك دفاع خطب معضل |
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت |
|
وقفت كوقفة سائل عن منزل |
ثم انثنت تبغي الحدور كأنها |
|
طير أشفّ مخافة من أجدل (١) |
فوصلنا حينئذ إلى خان وسيع ، في مرج وربيع ، وعشب مخصب مريع ، وعيون جارية ، وبالقرب منه أطلال بالية ، وعروش خالية ، وآثار أسوار عالية ، وقصور مستهدمة ، تدلّ على أنها كانت مدينة معظّمة ، فنزلنا هناك ولم يحصل ـ بحمد الله ـ من ذلك المطر كبير ضرر ، ولا عظيم أثر ، بل خفف حرّ القلوب ، وأزال تلك الكروب ، ولبّد المسالك والفجاج ، من التراب الثائر والعجاج ، فبتنا بذلك المحل بعد أن [٥٧ ب] تفقّدنا الأحمال ، وأصلحنا الأحوال وذلك ليلة السبت تاسع عشرين شوال ، فلمّا تفرّى (٢) عن وجنة الأفق عذار الغيهب ، وتتوّج كسرى المشرق بالتاج المذهب ، عزمنا على الترحال ، وشددنا على الدواب الأحمال ، ثم سرنا فوصلنا إلى بلدة كثكثيبزه وقت الزوال ، وقد بلغت الشمس من مرتقاها درجة الكمال ، واستقامت مقيمة ميزان الاعتدال ، وهي بلدة عامرة ذات خيرات غامرة ونعم ظاهرة (وأمم متكاثرة) (٣) ، وبها أسواق متّسعة ، وعمارة تقام فيها الجمعة ، عظيمة الآثار مزدهاة ، عديمة الأنظار والأشباه ، منسوبة لمصطفى باشا الوزير ، رحمهالله ، وبظاهرها مرج أفيح ، للناظر فيه مسرح ، وللخاطر مسنح ومشرح : [من الكامل]
ولقد نزلت به وكف ربيعه |
|
في نسج حلة نوره يتأنق |
__________________
(١) الأبيات موجودة في نهاية الأرب ١ : ٤٦ وتاج المفرق ٢ : ١٥٠ بلا عزو.
(٢) وردت في الأصل وفي (م): «تغرى» وما أثبتناه من (ع) بمعنى : انشق وتسير.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ع).
وشذا خيوط المزن يرسلها الحيا |
|
إبرا وأكمام النبات تفتق |
فأقمنا بذلك البلد بقية اليوم ثم ليلة الأحد ، فلمّا أسفر نهاره ، [٥٨ أ] وحمدت آثاره وتكلّم عصفوره وترنّم هزاره ، وفاخر شيحه بعرفه عراره ، حييناه بصلاة الصبح ، وأملنا من الله الصلاح والنجح ، وفارقناه غير مذمم ، ويممنا (١) إن شاء الله تعالى خير ميمم ، وما زلنا ذلك النهار نساير السبيل حيث سار ، ونأخذ تارة اليمين وتارة اليسار ، بين جنات معروشات وغير معروشات ، وأراض موشات بالربيع منقوشات ، وبطاح وأدواح ، ومروج فساح ، وانبساط (٢) وانشراح ، وبسيط له اتساع وانفساح ، ومياه لها على درر الحصباء انسحاب وانسياح ، وروضات يعترى ويعترض إليها اهتزاز وارتياح ، ووجنات جنات ريقها ندا وثغورها أقاح : [من الطويل]
وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت |
|
جداول ماء فوقها تتفجر (٣) |
كما سبحت تبغي النجاة أراقم |
|
على روضة فيها الأقاح منور (٤) |
إلى أن تداعى بنيان النهار في الانهيار ، فوافتنا الرحمة من سائر الأقطار ، بوافر الغيث ومديد الأمطار ، فاستبشرنا وحقّ لنا الاستبشار [٥٨ ب] ودخلنا حينئذ مدينة أسكودار ، وداعي الفلاح يدعو إلى الصلاة الوسطى ، فازداد القلب بذلك سرورا
__________________
(١) وردت في (م) و (ع): «وأممنا».
(٢) زيادة في (م): «وصبا وانبساط».
(٣) وردت في الأصل و (ع): «تنفجر».
(٤) البيتان في تاج المفرق ١ : ١٤٩ بلا عزو.
وبسطا ، وأجبناه بصلاتها من غير توان ولا إبطاء ، وأسكودار (١) بلدة لطيفة حسنة ظريفة فسيحة الأرجاء (٢) ، صحيحة الهواء ، ضوؤها صيقل ، ومجتلاها جميل ، ونسيمها أرج النشر (٣) عليل ، يمتد أمامها بسيط أنضر ، وبساط أخضر ، قد أجرى الله فيه مذانب الماء تسقيه وتحتف بها بساتين ملتفّة الأشجار يانعة الثمار ، والبحر الأعظم القسطنطينيّ ينساب بين يديها ، وينعطف عليها ، ويحنو إليها ، ويعنو خاضعا لديها ، وبها مساجد وضيّة ، وعمارات فضيّة ، وأسواق حسنة ، وخانات مستحسنة ، ومنها يركب في المعدّية (٤) إلى المدينة العظمى القسطنطينيّة ، فعدّى الحمزاويّ بالخزانة ومن معه من القوم بعد العصر من ذلك اليوم ، واستخرت الله تعالى في الإقامة بها بقية اليوم ، وهو يوم الأحد ثم من تلك الليلة إلى الغد ، [٥٩ أ] فنزلت بمن معي بعمارة هناك على الساحل ، وأرحنا الأبدان والرواحل ، فتلقّانا خادمها بالتأهيل والترحيب ، وأنزلنا في مكان بها متسع رحيب ، فلمّا أسفر وجه الصباح وحيعل (٥) داعي الفلاح واستنار وجه المحجة بعد ما كان بسواد الليل منتقبا ، وابتهجت الأنفس بقدوم فجر كان مرتقبا ، وتخلّق الكون بردع الشمس ، وحمد ظهورها في ذلك اليوم كما حمد (٦) بالأمس ، ورد علينا مشرف شريف ، وكتاب عال منيف ، من مولانا وسيدنا المقر الكريم الإمام العلّامة شيخ المسلمين السيّد عبد الرحيم (٧) ، مضمونة الاعتذار عن عدم تلقيه بحمى شديدة بنافض تعتريه ، وأنه هيّأ لنا منزلا ، ولكن ننزل في عمارة
__________________
(١) أسكدار : مدينة كبيرة على بحر مرمرة ، وهي أحد أقسام (أحياء) مدينة القسطنطينيّة ، وكانت مركزا هاما من مراكز التصوف في الدولة العثمانية. مرّ بها الرحالة المشهور بكبريت وكذلك الرحالة الخياري ، انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٨٧ ، رحلة الخياري ١ : ٢٣٩ ، المنح الرحمانية ١٥٥.
(٢) وردت في (ع): «الأرجاه» ، ولعل الناسخ نقل الفاصلة هاء.
(٣) وردت في (ع): «النسيم».
(٤) من الوسائل المستعملة في عبور الممرات المائية من قوارب وصنادل.
(٥) الحيعلة هي قول : حيّ على الفلاح في الأذان.
(٦) وردت في (ع): «كما حمدنا».
(٧) هو السيد عبد الرحيم العباسي (ت ٩٦٣ ه) ، تقدم التعريف به في مطلع الرحلة.
السّلطان محمد أولا ، حتى يجتمع (١) بالوزير مولانا إياس باشا ، ثم يستأذنه في النزول بذلك المكان أو حيث ما شاء ، وصدّر الرسالة بقوله : الحمد لله ، وهو على جمعهم إذ يشاء قدير : [من الطويل]
وقد يجمع الله الشّتيتين بعد ما |
|
يظنّان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا (٢) |
مرحبا بالحبيب ابن الحبيب [٥٩ ب] السيّد ابن السيّد الحبر الأريب ، ذي المجد والمفاخر المأثورة ، والجد والمناقب المشهورة ، إمام المؤمنين وشيخ المسلمين :[من الرّجز]
قدمت خير مقدم تحمده |
|
ويمن طالع كذا تشهده |
يا خير من خلف عن خير خلف |
|
ما زلت تحيى ما حيا سحب درف |
قرّت ببقياك عيون البشر |
|
كما لها درّت عيون البشر |
زيّنك الإله ذو الجلال |
|
بحلية الجمال والكمال |
ليس يرى لمجدك انصرام |
|
ما كرت الشهور والأعوام |
ففعلنا كما أشار ، وصعدنا المعدّية عصر ذلك النهار ، وهو يوم الاثنين مستهل شهر ذي القعدة ، تفاؤلا بأن الحظ قد أبرز سعده ، والسعد قد أنجز وعده ، وأنّ الوقت لنا إن شاء الله تعالى في إقبال ، ونجاح سعي وبلوغ آمال ، فلما ارتقينا من ذروتها أعلاها
__________________
(١) وردت في (م): «نجتمع».
(٢) هذا البيت لمجنون ليلى من قصيدته المسمّاة بالمؤنسة انظر ديوانه ص ٢٠٣. وقد ضمّن كثير من الشعراء هذا البيت في أشعارهم.
قلنا لأصحابنا (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(١) ، ثم أرخي شراعها ، ورفعت مرساها ، وسارت بنا في ذلك [٦٠ أ] البحر العباب ، تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب ، وتمثّلت بما قال بعض أهل الآداب (٢) : [من الوافر]
تأمّل حالنا والجوّ طلق |
|
محياه وقد طفل المساء |
وقد جالت بنا عذراء حبلى |
|
يجاذب مرطها ريح رخاء |
ببحر كالسّجنجل في صفاء |
|
تعاين وجهها فيه السماء (٣) |
ولم نزل نسير ونحن جلوس ، وهي تتبختر بنا تبختر العروس ، وتجول بنا خلال ذلك البحر وتجوس ، تارة بإبطاء وطورا بإسراع ، وحينا بمجاديف وآونة بأشراع ، وذلك البحر قد راق نعتا ، ورق وصفا ، والأمواج به تعطف صفا وتنقصف قصفا ، وتأتي خاضعة إلى البرّ فتقبّل منه كفا ، وتتيه آونة فتنعطف عنه عطفا ، وتثنى عن الإمام به عطفا ، وتستحي تارة فتبدي له تملقا ولطفا ، إلى أن أرسينا بمرسى قسطنطينيّة العظمى ، ذات المحل الأسمى والحمى الأحمى ، فتلقّانا الأمين سنان جلبي (٤) أمين الصقالة ، وعظّمنا [٦٠ ب] وأجلّنا (٥) غاية العظمة والجلالة ، وأحلّنا منزلته وحلاله (٦) ، وكان مولانا السيّد أسبغ الله ظلاله ، وختم بالصّالحات أعماله ، قد أرسل
__________________
(١) سورة هود آية ٤١.
(٢) وردت في (ع): «الأدب».
(٣) الأبيات في رفع الحجب المستورة ١ : ١٣٥ منسوبة لابن سارة الإشبيلي.
(٤) چلبي : لقب تعظيم بمعنى سيد كان شائعا بين العثمانيين ، انظر : البرق اليماني (المقدمة) ٧٦ ، لطف السمر ١ : ٢٥.
(٥) سقطت هذه الكلمة من (ع).
(٦) وردت في (ع): «وجلاله».