المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي

المطالع البدريّة في المنازل الروميّة

المؤلف:

بدر الدين محمّد العامري الغزّي الدمشقي


المحقق: المهدي عيد الرواضية
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-635-7
الصفحات: ٣٦٥

١
٢

٣
٤

استهلال

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيء لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي

٥

لتؤسس للظاهرة الإستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها

٦

من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد السويدي

٧
٨

تمهيد

هذا الكتاب الذي نقدمه إلى المكتبة العربية اليوم هو جزء من مشروع «عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين» (١) الذي نعمل عليه في مؤسسة رابطة الشرق والغرب بروتا منذ مدة وهو مشروع متعدد الجوانب والأطراف والأساليب وغايته :

أولا : إبراز رؤيا العرب والمسلمين في القرون الوسطى إلى العالم.

وثانيا : إظهار المناحي المختلفة للثقافات الإنسانية التي عرفها الرحالون والجغرافيون العرب وكتبوا عنها فصولا تصف أوضاعها العمرانية والاجتماعية والدينية وتقاليد أهلها وعاداتهم. فثمة بلدان في أوروبا كالنرويج وبلاد شرقي أوروبا مثلا ستجد في هذه الكتب معلومات كثيرة حول تاريخها لا تجدها في غير ذلك من المصادر.

وثالثا : خدمة التراث العربي الواسع المتعدد المواضيع والأبواب والمداخل ومناحي الإبداع.

كانت النية في بدء عملنا على هذا المشروع أن نترجم إلى اللغة الإنجليزية عددا من كتب الرحلات التي لم تترجم بعد أو التي ترجمت ترجمة قديمة تحتاج اليوم إلى التعديل في ضوء ما توثق من معلومات وأساليب مستحدثة. وكانت المكتبة العالمية وحدها هي المستهدفة في هذا العمل.

غير أني بعد البدء في المشروع استحدثت فرعين آخرين له يخدمان المكتبتين العربية والعالمية في آن واحد :

الأول : هو تقميش ما نجده في كتب الرحلات والجغرافيا حول منطقة واسعة من

__________________

(١) هذا العنوان خاص بمؤسستنا : رابطة الشرق والغرب / بروتا ، فهو الاسم الذي اطلقته أنا على هذا المشروع منذ أواسط التسعينات وأعلنته وعملت عليه مع عدد من الباحثين العرب والأجانب ولا يحق لأي باحث على الإطلاق أن يطلقه على أي كتاب ينشره خارج مشروعنا سواء كان هذا الباحث قد عمل عليه معنا (وعليه فيكون قد تلقى عنه مكافأة طيبة من المنحة التي تسلمها المشروع من الأستاذ عبد المقصود خوجة في جدة) أم أنه كان غريبا عنا أعجبه العنوان فتلقفه دون أن يدرك أن في هذا العمل خرقا مجحفا لقانون النشر العالمي وامتهانا لأصول التعامل بين المثقفين. ثم إن الناشر الذي يرضى بنشر كتاب يعلم أن عنوانه ملك لغير المؤلف الذي يتعامل معه يصبح هو أيضا مسؤولا قانونيا إزاء هذا التصرف.

٩

مناطق العالم الثلاث المعروفة حينئذ (خارج البلدان العربية والإسلامية) وهي أوروبا وإفريقيا السوداء والشرق الأقصى فننشرها باللغتين. وقد أنجزنا الكتاب عن أوروبا باللغة العربية وترجمناه إلى الإنجليزية وسيدفع إلى النشر قريبا.

ثانيا : تحقيق مخطوطات مهمة من كتب التراث الجغرافي بالعربية ثم ترجمتها إلى الإنجليزية فنخدم بهذا المكتبة العربية ثم المكتبة العالمية في نفس الوقت. وقد أقدمت على هذا بثقة لا سيما وقد توفر لهذا العمل باحث متميز كالمهدي الرواضية. وعليه فقد حقق المهدي هذا الكتاب (المطالع البدرية في المنازل الرومية) لبدر الدين محمد العامري الغزي من ثلاث مخطوطات ثم حقق بعده كتابا آخر كتبه باللغة العربية الجغرافي العثماني ابن سباهي زادة وعنوانه «أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك» على أربع مخطوطات واحدة من مكتبة الجامعة الأردنية وثلاث من ثلاث مكتبات في اسطنبول. والكتابان الآن قيد الترجمة إلى الإنجليزية.

وقد قام المهدي بهذا العمل بدقة وعناية كبيرة عرفتهما عنه منذ البدء فأشكره وأهنئه على نيل «جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي» ٢٠٠٤ على هذا الكتاب وقد استحقها بجدارة.

ولا بد هنا من التوجه بالشكر والعرفان إلى الأستاذ عبد المقصود خوجة صاحب الإثنينية المعروفة في جدة الذي أحب مشروع «عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين» فتبرع له بمنحة غطت عمل التدقيق والترجمة وما يتبع ذلك من مصاريف مباشرة ، جزاه الله على هذا بالخير الوافر.

ويسرني أن أقدم هذا الكتاب إلى المهتمين بمتابعة كتب التراث الجغرافي العربي الغني بالرحلات وبالكتب الجغرافية العديدة. لقد امتلأت المكتبة العربية بهذه الكتب ومع أن عددا طيبا منها قد حقق ونشر إلا أن عدد آخر قد بقي ينتظر التحقيق والتحرير وما يرافقه من تدقيق علمي وتفسير وتعليقات لا يستغني عنها أي كتاب يطمح إلى الانضمام إلى أسرة الكتب الموثقة في التراث العربي الواسع الذي عني بجميع مرافق المعرفة المتاحة لأهل العلم والأدب وطلاب المعرفة في القرون الوسطى.

د. سلمى الخضراء الجيوسي

مديرة مؤسسة «رابطة الشرق والغرب / بروتا»

والمحرر العام

١٠

المقدّمة

مؤلّف الرحلة :

بدر الدّين محمد بن رضي الدّين محمد بن محمد الغزّي العامريّ الدمشقيّ ، أبو البركات (١) ، فقيه شافعي وعالم بالتفسير والأصول والحديث ، ولد في دمشق في رابع عشر ذي القعدة سنة (٩٠٤ ه‍ / ١٤٩٩ م) فحمله والده العالم الفقيه رضي الدّين الغزّيّ إلى الشيخ العارف بالله أبي الفتح محمد بن محمد بن علي الإسكندريّ المزيّ فألبسه خرقة التصوف ، ولقنه الذكر ، وأجاز له وهو دون السنتين ، ثم أخذ العلوم على كثير من شيوخ دمشق ومنهم والده رضي الدّين ، ورافقه في رحلته إلى مصر فأخذ عن كثير من مشايخها واستجاز له والده من الأمام جلال الدّين السّيوطيّ.

وفي عام ٩٢١ ه‍ عاد من القاهرة بصحبة والده فاجتمع عليه طلاب العلم وهو ابن سبع عشرة سنة ، فتصدر للتدريس والإفتاء والتصنيف ، كما تولى

__________________

(١) انظر ترجمته في : درّ الحبب في تاريخ أعيان حلب ٢ / ١ : ٤٣٦ ـ ٤٣٩ ، الكواكب السائرة ٣ : ٣ ـ ١٠ ، وشذرات الذهب ١٠ : ٥٩٣ ـ ٥٩٥ ، وسلافة العصر ٣٨٨ ، البدر الطالع ٢ : ٢٥٢ وهدية العارفين ٢ : ٢٥٤ ، وتاريخ الأدب الجغرافي لكراتشكوفسكي ٢ : ٦٨٥ ـ ٦٨٧ ، وأعلام الزركلي ٧ : ٥٩.

١١

بعض الوظائف الدّينية كمشيخة القراء بالجامع الأموي والتدريس في الشامية الكبرى بدمشق ، وفي كثير من مدارس دمشق ، وكان الناس يرحلون إليه طلبا للعلم والبركة ، ولزم العزلة في أواسط عمره ، لا يأتي قاضيا ولا حاكما ولا كبيرا بل هم يقصدون منزله للتبرّك وطلب الدّعاء. وإذا قصده قاضي قضاة البلد أو نائبها لا يجتمع به إلا بعد الاستئذان والإلحاح في الإذن ، وكان أن قصده نائب الشّام مصطفى باشا فلم يجتمع به إلا بعد مرات ، ومثله درويش باشا نائب الشّام ، وقال له : يا سيدي ما تسمع عني؟ فقال : الظلم!.

وكان صاحب الرحلة كريما محسنا ، جعل لتلاميذه رواتب وأكسية وعطايا ، وكان لا يأخذ على الفتوى شيئا بل سدّ باب الهدّية مطلقا فلم يقبل إلّا من أخصائه وأقاربه ويكافئ أضعافا.

وفي الثاني من شوال سنة ٩٨٤ ه‍ / ١٥٧٧ م مرض مرضته الناهكة ، وبعد أسبوعين توفي ، وشهد جنازته خلق كثير ، ودفن في تربة الشيخ أرسلان خارج باب توما من أبواب دمشق.

مؤلفاته وآثاره :

عرف الغزّيّ بغزارة التأليف ؛ فقد ترك نحوا من مائة وبضعة عشر مصنفا ، جمع ابنه نجم الدّين عناوينها في كتاب مفرد سماه «فهرس مؤلفات الغزّيّ» ، وبلغ عدد مؤلفاته وقت رحلته زهاء سبعين مؤلفا ذكر بعضا منها في ثنايا رحلته.

أما تصانيفه التي لم يرد ذكرها في الرحلة فمنها : التفاسير الثلاثة «المنثور» و «المنظومان» ، وأشهرها «المنظوم الكبير» في مائة وثمانين ألف بيت ، وحاشيته على «شرح المنهاج» للمحليّ ، و «فتح المغلق في تصحيح ما في الروضة من الخلاف المطلق» ، و «شرح خاتمة البهجة» ، و «التذكرة الفقهية» ، و «شرحان على الرحبية» ، و «شرح الصدور بشرح الشذور» ، و «شرح على التوضيح لابن هشام» ، و «شرح شواهد التلخيص» ، و «أسباب النجاح في آداب النكاح» ، و «الدّر الثمين في المناقشة بين أبي حيان والسمين» ، و «رسالة التمانع» ، و «كتاب فصل الخطاب في وصل الأحباب» ، و «منظومة في خصائص النبي

١٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، و «العقد الجامع في شرح الدّرر اللوامع نظم جمع الجوامع» ، و «آداب المواكلة» (١) ، و «رسالة المراح في المزاح» ، و «جواهر الذخائر في الكبائر والصغائر» ، و «آداب العشرة وذكر الصّحبة والأخوة» (٢) إلى غير ذلك من المؤلفات والرسائل.

التعريف بالرحلة :

تعتبر رحلة الغزّيّ عملا أدبيا محكم الوضع في عصر موسوم بانحطاط الحياة الفكرية والثقافية ، لما فيها من مراوحة بين المنثور والمنظوم ، بأسلوب يعتمد على السجع ، وغالبا السجعة المركبة ، وهو أسلوب تفوّق فيه المغاربة والأندلسيون على نظرائهم المشارقة. ولقد نظرت في بعض مؤلفات الغزّيّ المطبوعة فلم يكن هذا أسلوبه ألبتة ، بل خلت كتاباته من أي تصنّع سجعي أو تقيد بديعي حتى اطلعت على رحلة خالد بن عيسى البلويّ الأندلسيّ (ت بعد ٧٦٧ ه‍) المسماة ب «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» فوجدت الغزّيّ قد أخذ نصوصا وعبارات نثرية كثيرة من البلويّ وأدرجها في رحلته ؛ بل إن جلّ الأشعار التي أوردها الغزّيّ كان البلويّ قد استشهد بها ، ولنا أن نورد نصّا لكليهما على سبيل المثال لا الحصر :

يقول البلويّ بعد أن خرج من بجاية (٣) : «ففارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع ، وودعت الجلد عند وداعي لذلك المسجد الجامع ، وسرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الأجارع ، وقد خامرني الفرق ، واستولى على جفني الأرق ، وأولعت بما يولع به المشفق ، وأنفقت دمعي وكل امرئ مما عنده ينفق ، ورحم الله زهيرا المهلبيّ ، فعن حالي عبر بقوله ...» ويورد أبيات المهلبيّ.

ويقول بدر الدّين الغزّيّ وقد همّ بالخروج من حلب (٤) : «ثم سرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الأجارع ، وقد فارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع ، وودعت الجلد عند

__________________

(١) طبع بتحقيق الدكتور عمر موسى باشا. دمشق : دار ابن كثير ، ١٩٨٧ م.

(٢) طبع بتحقيق علي حسن علي عبد الحميد ، بيروت ، عمان : المكتب الإسلامي ، دار عمار ، ١٩٨٧.

(٣) تاج المفرق ١ : ١٥٧.

(٤) انظر ص ٧٦ ـ ٧٧ من هذه الرحلة.

١٣

وداعي تلك المجامع والجوامع ، وقد خامرني الفرق ، واستولى على جفني الأرق ، وأولعت بما يولع به المشفق ، وأنفقت دمعي وكل امرئ بما عنده ينفق ، ورحم الله زهيرا المهلبيّ ، فعن حالي عبر بقوله ...» ويورد أيضا أبيات المهلبيّ.

والجدير بالإشارة هنا أن لسان الدّين ابن الخطيب (ت ٧٧٦ ه‍) أثار شكوكا كثيرة حول رحلة البلويّ مؤداها اتهامه إياه بسرقة كتاب البرق الشّامي للعماد الأصفهانيّ ، وهذا الاتهام يراه محقق الكتاب تأثرا لا غير (١). ونرى أن الغزّيّ امتلك نسخة من رحلة البلويّ فأعجب بحسن الصوغ وبديع السجع فأحبّ أن يظهر ذلك في كتابه.

وأيا كان الأمر فالرحلة ذات قيمة تاريخية إذ كثيرا ما يتطرّق المؤلف إلى بعض الأحداث التي حدثت خلال وجوده في مكان ما ، فعند إقامته بالقسطنطينيّة يذكر الغزّيّ خبر انشغال الدولة وأرباب الديوان بختان أولاد السّلطان ، ويورد خبر سفر السّلطان إلى مدينة بروسا ، ثم تفشي الطاعون في عام ٩٣٧ ه‍ ، كما نجد أن الغزّيّ يتابع ما يستجد من أحداث في موطنه من ذلك خبر عزل القاضي ابن الفرفور والحجز على أملاكه وسجنه إلى غير ذلك من الأحداث.

والرحلة تعدّ مصدرا مهما من مصادر التراجم لما تضمنته من أسماء علماء وأدباء وأعيان وأمراء التقى بهم الغزّيّ خلال رحلته ، وبعض هذه التراجم عزيزة ، لم نجد فيما بين أيدينا من مصادر من تطرّق إليها. إضافة إلى أمانة الغزّيّ عند الترجمة لأحد الأعلام في إيراد الآراء المختلفة من ذلك قوله في ترجمة ابن بلال : «أخبرنا أصحابنا الشموس الثلاثة ابن الخناجريّ وابن قنبر والسيد ابن النويرة والبدر ابن النصيبيّ وغيرهم أن المشهور بحلب بابن بلال رجل جاهل لا يعرف شيئا ...» إلى أن يقول : «ورأيت من خالفهم في ذلك كلّه وقال إنه من حملة العلم وأهله ...» ، وأثبت نجله نجم الدّين الغزّيّ في كتابه الكواكب السائرة جلّ الذين ذكرهم والده أو التقى بهم ، وعن نجم الدّين هذا استقى ابن العماد في كتابه شذرات الذهب كثيرا من تراجم أعيان القرن العاشر الهجري.

أما في الجانب الجغرافي والعمراني فالرحالة كثيرا ما يوغل في وصف المواضع

__________________

(١) انظر مقدمة رحلة البلويّ المسماة : «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» ص ١ : ١٠٣ ـ ١١٠.

١٤

والأماكن والمساجد والعمائر التي مرّ بها وزارها ، وما بها من المزارات والمقامات ، بل قد يعرج بالحديث إلى تاريخ البناء أو العمارة أو تاريخ فتح مدينة من المدن التي زارها ، وقد وجدنا أن الغزّيّ انفرد بذكر مواضع كثيرة لم يتطرّق إليها غيره من الرحالة الذين قصدوا بلاد الرّوم كالرحالة ابن بطوطة والخياريّ وكبريت.

هدف الرحلة :

لم يشأ الغزّيّ الإفصاح عن السبب الحقيقي الذي دفعه للقيام بهذه الرحلة ، غير أنه ألمع إلى أن ثمة عارضا حدث له بدمشق الشّام اقتضى منه السفر إلى بلاد الرّوم (١). وفي موضع آخر عند ترجمته لقادري جلبي قاضي قضاة العساكر الأناظولية يقول : «.. وإنما كان كلام الباشا معه بسببي وتحريضه عليه بما يتعلّق بي بسبب كتابة براءات بتجديد ما بيدي من الجهات وشؤون أخرى لا تبرز ، وقد انقضى كل منها بحمد الله وتنجز» (٢). فالهدف إذن رفع مظلمته وشكايته عن عزله من وظيفة دون وجه حق. ولعل كثير من الرحالة الذين قصدوا القسطنطينيّة في تلك الفترة وما بعدها كان مرامهم التظلّم إلى السّلطان ، منهم الرحالة الخياريّ الذي أوضح في مقدمة رحلته أن الغاية من سفره التظلّم للسّلطان بوظيفة تدريس بأحد المعاهد العلمية سلبت منه دون وجه حق (٣).

النسخ المعتمدة في التحقيق :

* النسخة الأم : وهي أكمل النسخ وأجملها خطّا ، محفوظة في مكتبة كوبرلو باستانبول برقم (١٣٩٠) ومصورة على شريط ميكروفيلم محفوظ في مركز الوثائق

__________________

(١) انظر ص ٢٢ من الرحلة.

(٢) انظر ص ٢٦٧ من الرحلة.

(٣) انظر رحلة الخياري ١ : ٢٨.

١٥

والمخطوطات بالجامعة الأردنية برقم (١١٨٥). وتتكون هذه النسخة من (١٨٣) ورقة من القطع الكبير ، وبكل لوحة ورقتان ، أوب. وبالورقة (١٣) سطرا ، وفي كل سطر (١٢) كلمة تقريبا. والأوراق مؤطرة وهي بخط جميل خال من الخرم والطمس. وناسخها هو عبد اللطيف الشافعيّ من أهل القرن الحادي عشر ، حيث كتب على طرّة الكتاب أنه سافر إلى بلاد الرّوم سنة ١٠٤٢ ه‍ ، وكتبت هذه النسخة بالحبر الأسود ، وعناوين فصولها بلون آخر لعله أحمر أخفاه التصوير.

* النسخة الثانية : ورمزنا لها بالحرف (م) ، وهي مسودة المؤلف وبخطّه ، محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني برقم (٣٦٢٦) ومصورة على شريط ميكروفيلم محفوظ في مركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية برقم (١٠٢٥). وتتكون من (٧١) ورقة من القطع المتوسط ، وبكل لوحة ورقتان ، وبالورقة نحو (٢٣) سطرا ، وفي كل سطر (١٦) كلمة تقريبا ، وهي بخط عسر القراءة يكثر فيه الشطب والطمس وكثرة الهوامش ، ويختلط فيها الشعر بالنثر ، وفي الثلث الأخير من هذه النسخة تكثر الكلمات غير المقروءة اهتدينا إلى قراءتها من النسخ الأخرى.

* النسخة الثالثة : ورمزنا لها بالحرف (ع) وهي محفوظة في أكاديمية العلماء الرّوس برقم ٧٩٩B ومصورة على شريط ميكروفيلم محفوظ في مركز الوثائق والمخطوطات بالجامعة الأردنية برقم ١٢٥٩. وتتألف من (١١٢) ورقة من القطع الكبير ، بكل لوحة منها ورقتان ، وفي كل ورقة (٢١) سطر ، وبالسطر الواحد (٩) كلمات تقريبا ، وهي بخط واضح وجميل ، كتبها خليل بن زين الدّين الإخنائيّ ، وقد انتهى من نسخها في العشرين من شهر ربيع الثاني سنة ١٠٦٦ ه‍ ، ولعل ناسخها نقل من مسودة المؤلف (المتقدمة) مباشرة لأنه غالبا ما يقوم برسم الكلمات وفق ما جاءت ، عندما تستعصي عليه قراءتها ، فتأتي بصورة كلمات محرّفة لا معنى لها ، وقد أشرنا إلى المواطن التي يضطرب فيها الناسخ في مواضعها من الرحلة.

منهج التحقيق :

اتبعنا في تحقيق هذا الكتاب الأصول العلمية المتبعة في التحقيق ، على وجه يبرز

١٦

هذا العمل كما أراد له مؤلفه أن يكون ، بصورة لا تزاحمها كثرة التعليقات والشروحات ، فبعد استيفاء قراءة النصّ بعناية ، ومقابلته على النسخ الأخرى المعتمدة في التحقيق وإثبات فروقها ؛ عمدنا إلى تقويم النصّ بإصلاح الأخطاء النحوية والإملائية مع الإشارة في الهامش إلى ما هو وارد في النسخ الأخرى ، أما الكلمات التي يكتبها النّساخ في ذلك العصر بتخفيف الهمزة إلى ياء أو بإهمال الهمزة نهائيا خصوصا إذا ما جاءت في آخر الكلمة ؛ فقد التزمنا الكتابة الحديثة دون إثقال الهوامش بالتنويه لذلك.

ووضعنا أرقام مخطوطة الأصل بين حاصرتين ؛ ليتسنى للباحث مراجعة المخطوط إذا ما أراد ، كما أشرنا إلى المصادر التي أخذ عنها المؤلف ، وأشرنا إلى تواريخ وفيات الأعلام الذين ترجم لهم الغزّيّ دون التوسّع بترجمتهم ، واكتفينا بذكر مصادر التراجم ما وسعنا الجهد في ذلك.

أما بالنسبة للمواضع والأمكنة الواردة في الكتاب فقد حاولنا ـ ما أمكن ـ التعريف بها بشكل مختصر مع الإحالة إلى المصادر الجغرافية ، ومن مرّ بها من الرحالة ليسهل على الباحثين الرجوع إليها والاستزادة.

كذلك شرحنا ما استغلق من المصطلحات والألفاظ اللغوية ، خاصة العثمانيّة منها ، بشكل يزيل اللبس ولا يثقل الهوامش ، وأشرنا إلى المصادر والمعاجم التي أخذنا عنها.

والحمد لله أولا على ما يسّر لإنجاز العمل ، ولا بد لي في الختام من توجيه الشكر إلى العلامة الأستاذ إبراهيم شبوح الذي حبّب إليّ ـ بتواضعه الجم وعلمه الغزير ـ تعاطي هذا النوع من التحقيق ، وللدكتورة هند أبو الشعر ، وللأستاذ الباحث أحمد صدقي شقيرات الذي زودني ببعض الخرائط والمصادر التركية. وللأستاذ عثمان عياصرة ، ولموظفي مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية ، على كريم عونهم ومساعدتهم. ونرجو من الله تعالى أن يخرج هذا العمل بالشكل الذي يخدم تراثنا الإسلامي ولا يسئ إليه ، لتعم به الفائدة والنفع.

والله الموفق ،

١٧

١٨

١٩

٢٠