المسالك والممالك

أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الفارسي الإصطخري

المسالك والممالك

المؤلف:

أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الفارسي الإصطخري


المحقق: الدكتور محمّد جابر عبد العال الحيني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة
الطبعة: ١
ISBN: 977-305-734-8
الصفحات: ٢٣٦

وديار العرب هى الحجاز ، الذي يشتمل على مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ونجد الحجاز ، المتصل بأرض البحرين وبادية العراق وبادية الجزيرة وبادية الشام ، واليمن المشتملة على تهامة ، ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن ، فما كان من حدّ السّرّين حتى ينتهى إلى ناحية يلملم ، ثم على ظهر الطائف ممتدا على نجد اليمن إلى بحر فارس مشرقا فمن اليمن ، ويكون ذلك نحو الثلثين من ديار العرب ، وما كان من حد السّرين على بحر فارس إلى قرب مدين ، راجعا فى حدّ المشرق على الحجر إلى جبلى طيّي ، ممتدا على ظهر اليمامة إلى بحر فارس فمن الحجاز ، وما كان من حدّ اليمامة إلى قرب المدينة ، راجعا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فمن نجد ، وما كان من حدّ عبّادان إلى الأنبار مواجها لنجد والحجاز ، على أسد وطيىء وتميم وسائر قبائل مضر فمن بادية العراق ، وما كان من حدّ الأنبار إلى بالس مواجها لبادية الشام على أرض تيماء وبريّة خساف إلى قرب وادى القرى والحجر فمن بادية الجزيرة ، وما كان من بالس إلى أيلة مواجها للحجاز على بحر فارس إلى ناحية مدين ، معارضا لأرض تبوك حتى يتصل بديار طيّئ فمن بادية الشام ، على أن من العلماء بتقسيم هذه الديار من زعم أن المدينة من نجد لقربها منها ، وأن مكة من تهامة اليمن لقربها منها ، وأنا بمشيئة الله وعونه سأذكر ما انتهى إليه علمى ، من مدنها وما تشتمل عليه المدن مما يحتاج إلى علمه ، والمشاهير من ديار العرب بها وجبالها ورمالها ، وجوامع من المسافات المسلوكة بها ، ولا نعلم بأرض العرب نهرا ولا بحرا يحمل سفينة ، لأن البحيرة الميّتة التى تعرف بزغر ـ وإن كانت مصاقبة للبادية فليست منها ، ومجمع الماء الذي بأرض اليمن فى ديار سبأ ، إنما كان موضع مسيل ماء بنى فى وجهه سدّ ، فكان يجتمع فيه مياه كثيرة يستعملونها فى القرى والمزارع ، حتى كفروا بعد أن كان الله جعل لهم عمارات ـ قرى متصلة إلى الشام فسلّط الله عزوجل على ذلك الماء آفة فكان لا يمسك ماء ، وهو قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها)(١) إلى قوله : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)(٢) فبطل ذلك الماء إلى يومنا هذا ، وأما الجداول والعيون والسوانى والآبار فإنها كثيرة.

ونبتدئ من مدن ديار العرب بمكة شرفها الله ، وهى مدينة فيما بين شعاب الجبال ، وطول مكة من المعلاة إلى المسفلة نحو ميلين ، وهو من حدّ الجنوب إلى الشمال ، ومن أسفل جياد إلى ظهر قعيقعان نحو الثلثين من هذا ، وأبنيتها حجارة ، والمسجد فى نحو الوسط منها ، والكعبة فى وسط المسجد ، وباب الكعبة مرتفع عن الأرض نحو قامة وهو مصراع واحد ، وأرض البيت مرتفعة عن الأرض مع الباب ، والباب بحذاء قبّة زمزم ، والمقام بقرب زمزم على خط محاذ للباب ، وبين يدى الكعبة مما يلى المغرب حائط مبنى مدوّر ، وهو من البيت إلّا أنه لم يدخل فيه ، وهو الحجر ، والطواف يحيط به وبالبيت ، وينتهى إلى هذا الحجر من البيت ركنان ، أحدهما يعرف بالركن العراقى

__________________

(١) الآية ١٨ : سورة سبأ.

(٢) الآية ١٩ : سورة سبأ.

٢١

والآخر بالركن الشامى ، والركنان الآخران أحدهما عند الباب ، والحجر الأسود فيه على أقل من قامة ، والركن الآخر يعرف باليمانى ، وسقاية الحاج ـ التى تعرف بسقاية العباس ـ على ظهر زمزم ، وزمزم فيما بينها وبين البيت ، ودار الندوة من المسجد الحرام فى غربيّة ، وهى خلف دار الإمارة مشرعة إلى المسجد ، وهو مسجد قد جمع إلى المسجد الحرام وكان فى الجاهلية مجتمعا لقريش ، والصّفا مكان مرتفع من جبل أبى قبيس ، وبينها وبين المسجد الحرام عرض الوادى الذي هو طريق وسوق ، ومن وقف على الصفا كان بحذاء الحجر الأسود ، والمسعى ما بين الصفا والمروة ، والمروة حجر من جبل قعيقعان ، ومن وقف عليها كان بحذاء الركن العراقى ، إلا أن الأبنية قد سترت ذلك الركن عن الرؤية ، وأبو قبيس هو الجبل المشرف على الكعبة من شرقيّها ، وقعيقعان هو الجبل الذي من غربى الكعبة ، وأبو قبيس أعلى وأكبر منه ، ويقال إن حجارة البيت من قعقعان ، ومنى (١) على طريق عرفة من مكة ، وبينها وبين مكة ثلاثة أميال ، ومنى شعب طوله نحو ميلين وعرضه يسير ، وبها أبنية كثيرة لأهل كل بلد من بلدان الإسلام ، ومسجد الخيف فى أقل من الوسط مما يلى مكة ، وجمرة العقبة فى آخر منى مما يلى مكة ، وليست العقبة التى تنسب إليها الجمرة من منى ، والجمرة الأولى والوسطى هما جميعا فوق مسجد الخيف إلى ما يلى مكة ، والمزدلفة مبيت للحاجّ ومجمع للصلاة إذا صدروا من عرفات ، وهو مكان بين بطن محسّر والمأزمين ، وأما بطن محسّر فهو واد بين منى والمزدلفة ، وليس من منى ولا من المزدلفة ، وأما المأزمان فهو شعب بين جبلين يفضى آخره إلى بطن عرنة ، وهو واد بين المأزمين وبين عرفة ، وليس من عرفة ، وعرفة ما بين وادى عرنة إلى حائط بنى عامر إلى من أقبل على الصّخرات ، التى يكون بها موقف الإمام وعلى طريق عقبة (٢) ، وحائط بنى عامر (٣) نخيل عند عرفة ، وبقربه المسجد الذي يجمع فيه الإمام بين الصلاتين الظهر والعصر ، وهو حائط نخيل وبه عين ، وينسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز ، وليس عرفات من الحرم ، وإنما حدّ الحرم إلى المأزمين ، فإذا جزتهما إلى العلمين المضروبين فما وراء العلمين من الحلّ ، وكذلك التّنعيم الذي يعرف بمسجد عائشة ليس من الحرم والحرم دونه ، وحدّ الحرم نحو عشرة أميال فى مسيرة يوم ، وعلى الحرم كله منار مضروب يتميّز به من غيره ، وليس بمكة ماء جار ، إلا شىء بلغنى بعد خروجى عنها أنه أجرى إليها ، من عين كان عمل فيها بعض الولاة ، فاستتم فى أيام المقتدر أمير المؤمنين ، ومياهم من السماء وليست لهم آبار تشرب ، وأطيبها بئر زمزم ، ولا يمكن الإدمان

__________________

(١) قال الهمدانى فى صفة جزيرة العرب ص ١٧٥ (منى بمكة غير منونة من منى الأديم عطنه ومنى منون من ديار غنى قريب من طخفة). وذكر عدم تنوين منى مكة فى مواضع مختلفة من هذا الكتاب.

(٢) فى م حصن وكذلك فى المخطوطتين ب ج وفى ابن حوقل ص ٢٩ ط. سنة ١٩٣٨ ، وبالرجوع إلى معجم البلدان لياقوت نجده يذكر حضن على أنها جبل وفى موضع آخر ، والظاهر أن الكلمة محرفة والتصحيح عن ابن رسته فى الإعلاق النفسية ص ٥٥ قال [وذرع الطريق ـ طريق العقبة ـ من العلم الذي على الجدار إلى العلم الآخر الذي بحذائه سبع وستون ذراعا ...] وهو الطريق الذي يعنيه الاصطخرى.

(٣) يقول ياقوت إنه بستان ابن معمر ونسبته إلى عبد الله بن عامر بن كريز غير صحيحة (راجع بستان بن معمر فى معجم البلدان)

٢٢

على شربه ، وليس بجميع مكة ـ فيما علمته ـ شجر مثمر إلا شجر البادية ، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل ، وأما الحرم فلم أر ولم أسمع أن به شجرا مثمرا ، إلا نخيلات رأيتها بفخّ ونخيلات يسيرة متفرقة ، وأما ثبير فهو جبل مشرف يرى من مني والمزدلفة ، وكانت الجاهلية لا تدفع من المزدلفة إلا بعد طلوع الشمس إذا أشرقت على ثبير ، وبالمزدلفة المشعر الحرام ، وهو مصلى الإمام يصلى به المغرب والعشاء والصبح ، والحديبية بعضها فى الحلّ وبعضها فى الحرم ، وهو مكان صدّ فيه المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام ، وهو أبعد الحلّ إلى البيت ، وليس هو فى طول الحرم ولا فى عرضه إلا أنّه فى مثل الزاوية للحرم فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم.

وأما المدينة فهى أقل من نصف مكة ، وهى فى حرّة سبخة الأرض ، ولها نخيل كثيرة ، ومياه نخيلهم وزروعهم من الآبار ، يستقون منها العبيد ، وعليها سور ، والمسجد فى نحو من وسطها ، وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد فى شرقيه قريبا من القبلة ، وهو الجدار الشرقى من المسجد ، وهو بيت مرتفع ليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة ، وهو مسدود لا باب له ، وفيه قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غشّى بمنبر آخر ، والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر ، ومصلى رسول الله الذي كان يصلى فيه الأعياد فى غربى المدينة داخل الباب ، وبقيع الغرقد خارج باب البقيع فى شرقى المدينة ؛ وقباء خارج المدينة على نحو من ميلين إلى ما يلى القبلة ، وهو مجمع بيوت للأنصار يشبه القرية ؛ وأحد جبل فى شمالى المدينة ، وهو أقرب الجبال إليها على مقدار فرسخين ، وبقربها مزارع فيها ضياع لأهل المدينة توازى (١) العقيق فيما بينها وبين الفرع ، والفرع من المدينة على أربعة أيام فى جنوبيّها ، وبها مسجد جامع ، غير أن أكثر هذه الضياع خراب ، وكذلك حوالى المدينة ضياع كثيرة وأكثرها خراب ، والعقيق واد من المدينة فى قبليها على أربعة أميال فى طريق مكة ، وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق.

وأما اليمامة فإنّ مدينتها دون مدينة الرسول ، وهى أكثر تمرا ونخلا من المدينة ومن سائر الحجاز. وأما البحرين فإنها من ناحية نجد ، ومدينتها هجر وهى أكثر تمورا ، إلا أنها ليست من الحجاز ، وهى على شط بحر فارس ، وهى ديار القرامطة ، ولها قرى كثيرة وقبائل من مضر ذوو عدد قد احتفّوها ، وليس بالحجاز مدينة بعد مكة والمدينة أكبر من اليمامة ، ويليها فى الكبر وادى القرى ، وهى ذات نخيل كثيرة وعيون ، والجار فرضة المدينة وهى على ثلاث مراحل من المدينة على شط البحر ، وهى أصغر من جدّة ، وجدّة فرضة أهل مكة على مرحلتين منها على شط البحر ، وهى عامرة كثيرة التجارات والأموال ، ليس بالحجاز بعد مكة أكثر مالا وتجارة منها ، وقوام تجارتها بالفرس.

__________________

(١) فى المخطوطين ب ، ج بوادى.

٢٣

والطائف مدينة صغيرة نحو وادى القرى ، إلا أن أكثر ثمارها الزبيب ، وهى طيبة الهواء وأكثر فواكه مكة منها ، وهى على ظهر جبل غزوان. وبغزوان ديار بنى سعد وسائر قبائل هذيل ، وليس بالحجاز ـ فيما علمته ـ مكان هو أبرد من رأس هذا الجبل ، ولذلك اعتدل هواء الطائف ، وبلغنى أنه ربما جمد الماء فى ذروة هذا الجبل ، وليس بالحجاز مكان يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع فيما علمته.

والحجر قرية صغيرة قليلة السكان ، وهى من وادى القرى على يوم بين جبال ، وبها كانت ديار ثمود ، الذين قال الله فيهم : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ)(١) ورأيت تلك الجبال ونحتهم ، الذين قال الله عنهم : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ)(٢) ، ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا فى أضعاف جبال ، وتسمى تلك الجبال الأثالب ، وهى جبال فى العيان متصلة ، حتى إذا توسّطتها رأيت كل قطعة منها قائمة بنفسها ، يطوف بكل قطعة منها الطائف ، وحواليها رمل لا يكاد يرتقى إلى ذروة كل قطعة منها أحد إلا بمشقة شديدة ، وبها بئر ثمود التى قال الله فى الناقة : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٣).

وتبوك بين الحجر وبين أول الشام على أربع مراحل نحو نصف طريق الشام ، وهو حصن به عين ونخيل ، وحائط ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقال إنّ أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب كانوا بها ، ولم يكن شعيب منهم ، وإنما كان من مدين. ومدين على بحر القلزم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل ، وهى أكبر من تبوك ، وبها البئر التى استقى منها موسى عليه‌السلام لسائمة شعيب ، ورأيت هذه البئر مغطاة قد بنى عليها بيت ، وماء أهلها من عين تجرى لهم ، ومدين اسم القبيلة التى كان منها شعيب ، وإنما سميت القرية بهم ، ألا ترى أنّ الله يقول : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً)(٤). وأما الجحفة فإنها منزل عامر ، وبينها وبين البحر نحو من ميلين ، وهى فى الكبر ودوام العمارة نحو من فيد ، وليس بين المدينة ومكة منزل يستقل بالعمارة والأهل جميع السنة إلا الجحفة ، ولا بين المدينة والعراق مكان يستقل بالعمارة والأهل جميع السنة مثل فيد ، وفيد فى ديار طيّئ ، وجبلا طيئ منها على مسيرة يومين (٥) ، وفيها نخيل وزرع قليل لطيئ وبها ماء قليل ، يسكنها بادية من طيئ ، ينتقلون عنها فى بعض السنة للمراعى ، وجبلة حصن فى آخر وادى ستارة ، ووادى ستارة بين بطن مرّ وعسفان عن يسار الذاهب إلى مكة ، وطول هذا الوادى نحو من يومين ، لا يكون الإنسان منه فى مكان من بطن هذا الوادى لا يرى فيه نخلا ، وعلى ظهر هذا الوادى واد مثل هذا يعرف بساية وآخر يعرف بالسائرة ، وبجبلة كانت وقعة لبنى تميم فى بكر بن وائل ، وفى جرف منها قيل هلك لقيط بن زرارة أخو حاجب.

__________________

(١) الآية ٩ : سورة الفجر.

(٢) الآية ١٥٥ : سورة الشعراء.

(٣) الآية ١٤٩ : سورة الشعراء.

(٤) الآية ٨٥ : سورة الأعراف. ٨٤ : هود

(٥) تضيف ب ، ج على مسيرة يومين من فيد.

٢٤

خيبر حصن ذات نخيل كثيرة وزروع ، وينبع حصن بها نخيل وماء وزروع ، وبها وقوف لعلي بن أبى طالب عليه‌السلام يتولاها أولاده ؛ والعيص حصن صغير بين ينبع والمروة ، والعشيرة حصن صغير بين ينبع والمروة ، تفضّل تمورها على سائر تمور الحجاز ، إلا الصّيحانى بخيبر والبردى والعجوة بالمدينة ، وبقرب ينبع جبل رضوى ، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية ، ورأيته من ينبع أخضر ، وأخبرنى من طاف فى شعابه أن به مياها كثيرة وأشجارا ، وهو الجبل الذي زعم طائفة يعرفون بالكيسانية ، أن محمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب حى مقيم به ، ومن رضوى يحمل حجر المسنّ إلى سائر الآفاق ، وبقربه فيما بينه وبين ديار جهينة وبلىّ وساحل البحر ديار للحسنيّين ، حزرت بيوت الشعر التى يسكنونها نحوا من سبعمائة بيت وهم بادية مثل الأعراب ، ينتقلون فى المراعى والمياه انتقال الأعراب ، لا تميّز بينهم فى خلق ولا خلق ، وتتصل ديارهم مما يلى المشرق بودّان ؛ وودّان هذه من الجحفة على مرحلة ، وبينها وبين الأبواء ـ التى هى على طريق الحاج فى غربيّها ـ ستة أميال ، وبها كان فى أيام مقامى بها رئيس الجعفريين ، أعنى أولاد جعفر بن أبى طالب ، ولهم بالفرع والسّائرة ضياع كثيرة وعشيرة وأتباع ، وبينهم وبين الحسنيّين حروب ودماء ، حتى استولت طائفة من اليمن يعرفون ببنى حرب على ضياعهم ، فصاروا حزبا لهم فضعفوا ؛ وتيماء حصن أعمر من تبوك وهى فى شمالى تبوك ، وبها نخيل وهى ممتار البادية ، وبينها وبين أول الشام ثلاثة أيام ، ولا أعلم فيما بين العراق واليمن والشام مكانا إلا وهو فى ديار طائفة من العرب ، ينتجعونه فى مراعيهم ومياههم ، إلا أن يكون بين اليمامة والبحرين وبين عمان من وراء عبد القيس برية خالية من الآبار والسكان والمراعى ، قفرة لا تسلك ولا تسكن ، فأما ما بين القادسية إلى الشّقوق ـ فى الطول وفى العرض من قرب السّماوة إلى حدّ بادية البصرة ـ فسكانها قبائل من بنى أسد ، فإذا جزت الشقوق فأنت فى ديار طيّىء ، إلى أن تجاوز معدن النّقرة فى الطول وفى العرض من وراء جبلى طيّىء محاذيا لوادى القرى ، إلى أن تتّصل بحدود نجد من اليمامة والبحرين ، ثم إذا جزت المعدن عن يسار المدينة فأنت فى سليم ، وإذا جزته عن يمين المدينة فأنت فى جهينة ، وفيما بين مكة والمدينة بكر بن وائل فى قبائل من مضر من الحسنيّين والجعفريين وقبائل من مضر ، وأما نواحى مكة فإن الغالب على نواحيها مما يلى المشرق بنو هلال (١) وبنو سعد فى فبائل من هذيل ، وفى غربيّها مدلج وغيرها من قبائل مضر. وأما بادية البصرة فإنها أكثر هذه البوادى أحياء وقبائل ، وأكثرها تميم حتى يتصلوا بالبحرين واليمامة ، ثم من ورائهم عبد القيس ؛ وأما بادية الجزيرة فإن بها أحياء من ربيعة واليمن ، وأكثرهم كلب اليمن ، وفى قبيلة منهم يعرفون ببنى العليص خرج صاحب الشام ، الذي فلّ جيوش مصر وأوقع بأهل الشام ، حتى قصده المكتفى بنفسه إلى الرّقة فأخذه ؛ وبادية السماوة من دومة الجندل إلى عين التمر ، وبريّة خساف من بادية الجزيرة ، وبريّة خساف فيما بين الرقة وبالس عن يسار الذاهب إلى الشام ، وصفّين

__________________

(١) فى ب ، ج بنو هذيل.

٢٥

أرض من هذه البادية بقرب الفرات ما بين الرقة وبالس ، وهو الموضع الذي كانت به حرب معاوية وعلىّ صلوات الله عليه ، والحرب تنسب إليها ، ورأيت هذا الموضع من بعد ، وأخبرنى من رأى به قبر عمّار بن ياسر رضى الله عنه ، وبيت المال الذي كان يجمع فيه الفىء لعلى بن أبى طالب صلوات الله عليه.

وأما بادية الشام فإنها ديار لفزارة ولخم وجذام وبلىّ وقبائل مختلطة من اليمن وربيعة ومضر ، وأكثرها يمن ، والرمل المذكور بالحجاز هو الرمل الذي عرضه من الشقوق إلى الأجفر ، وطوله من وراء جبلى طيّىء إلى أن يتّصل مشرقا بالبحر ، وهو رمل أصفر ليّن اللمس ، يكاد بعضه يحكى الغبار.

وأما تهامة فإنّها قطعة من اليمن وهى جبال مشتبكة ، أولها مشرف على بحر القلزم ، مما يلى غربيّها ، وشرقيّها بناحية صعدة وجرش ونجران ، وشماليتها حدود مكة ، وجنوبيها من صنعاء على نحو من عشر مراحل ، وقد صورت جبال تهامة فى صورة ديار العرب ؛ وبلاد خيوان تشتمل على قرى ومزارع ومياه معمورة بأهلها ، وهى مفترشة وبها أصناف من قبائل اليمن ، ونجران وجرش مدينتان متقاربتان فى الكبر بهما نخيل ، ويشتملان على أحياء من اليمن كثيرة ، وصعدة أكبر وأعمر منهما ، وبها يتخذ ما كان يتخذ بصنعاء من الأدم ، ويتّخذ بنجران وجرش والطائف أدم كثير ، غير أن أكثر ذلك يرتفع من صعدة ، وبها مجتمع التجار والأموال ، والحسنىّ المعروف بالزيدى بها مقيم ، وليس بجميع اليمن مدينة أكبر ولا أكثر أهلا ومرافق من صنعاء ، وبلغنى أنها من اعتدال الهواء بحيث لا يتحوّل الإنسان عن مكان واحد شتاء وصيفا عمره ، وتتقارب بها ساعات الشتاء والصيف ، وبها كانت ديار ملوك اليمن فيما تقدّم ، وبها بناء عظيم قد خرب ، فهو تلّ عظيم يعرف بغمدان كان قصرا لملوك اليمن ، وليس باليمن بناء أرفع منه. والمذيخرة جبل للجعفرى ، بلغنى أن أعلاه نحو عشرين فرسخا ، فيها مزارع ومياه ونباتها الورس (١) ، وهو منيع لا يسلك إلا من طريق واحد حتى تغلب عليه القرمطىّ ، الذي كان خرج باليمن يعرف بمحمد بن الفضل ، وشبام جبل منيع جدا فيه قرى ومزارع وسكان كثيرة ، وهو مشهور من جبال اليمن. ويرتفع من اليمن العقيق والجزع ، وهما حجران إذا حكّا خرج منهما الجزع والعقيق ، لأن وجه الحجر كالغشاء ، وبلغى أنهما يكونان فى صحارى فيها حصى فيلتقط من بين الحجارة. وعدن مدينة صغيرة ، وإنما شهرتها لأنها فرضة على البحر ، ينزلها السائرون فى البحر ، وبها معادن اللؤلؤ. وباليمن مدن كثيرة هى أكبر منها وليست بمشهورة. وبلاد الإباضية بقرب خيوان ، وهى أعمر بلاد تلك النواحى مخاليف ومزارع وأغزرها مياها ، وحضرموت فى شرقى عدن بقرب البحر ، وبها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف ، وحضرموت فى نفسها مدينة صغيرة ولها أعمال عريضة ، وبها قبر هود النبي عليه‌السلام ، وبقرمها بلهوت بئر عميقة لا يكاد يستطيع أحد أن ينزل

__________________

(١) نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه العمرة للوجه ؛ وهو يستخدم فى الصباغة أيضا قال صاحب اللسان ورست الثوب صبغته بالورس (اللسان).

٢٦

إلى قعرها. وأما بلاد مهرة فإن قصبتها تسمى الشّحر ، وهى بلاد قفرة ألسنتهم مستعجمة جدا ، لا يكاد يوقف عليها ، وليس ببلادهم نخيل ولا زرع ، وإنما أموالهم الأبل ، وبها نجب من الأبل تفضل فى السير على سائر النجب ، واللّبان الذي يحمل إلى الآفاق من هناك ؛ وديارهم مفترشة ، وبلادهم بواد نائية ، ويقال إنها من عمان.

وعمان مستقلة بأهلها ، وهى كثيرة النخيل والفواكه الجرميّة (١) من الموز والرمّان والنبق ونحو ذلك ، وقصبتها صحار وهى على البحر ، وبها متاجر البحر وقصد المراكب ، وهى أعمر مدينة بعمان وأكثرها مالا ، ولا تكاد تعرف على شاطىء بحر فارس بجميع بلاد الإسلام مدينة أكثر عمارة ومالا من صحار ، وبها مدن كثيرة ، وبلغنى أنّ حدود أعمالها نحو من ثلاثمائة فرسخ ، وكان الغالب عليها الشراة ، إلى أن وقع بينهم وبين طائفة من بنى سامة ابن لؤى ـ وهم من كبراء تلك النواحى ـ حروب ، فحرج منهم رجل يعرف بمحمد بن القاسم السامى إلى المعتضد فاستنجده ، فبعث معه بابن ثور ففتح عمان للمعتضد ، وأقام بها الخطبة له ، وانحاز الشراة إلى ناحية لهم تعرف بنزوة ، وإلى يومنا هذا بها إمامهم وبقية ما لهم وجماعتهم ؛ وعمان بلاد حارة جدا ، وبلغنى أن بمكان منها بعيد عن البحر ربما وقع ثلج دقيق ، ولم أر أحدا شاهد ذلك إلا بالإبلاغ ، وبأرض سبأ من اليمن طوائف من حمير وكذلك بأرض حضرموت. وأما ديار همدان وأشعر وكندة وخولان فإنّها مفترشة فى أعراض اليمن ، وفى أضعافها مخاليف وزروع ، وبها بواد وقرى تشتمل على بعض تهامة وبعض نجد اليمن من شرقى تهامة ، وهى قليلة الجبال مستوية البقاع ؛ ونجد اليمن غير نجد الحجاز ، غير أن جنوبى نجد الحجاز يتصل بشمالىّ نجد اليمن ، وبين البحرين وبين عمان بريّة ممتنعة ؛ وباليمن قرود كثيرة ، بلغنى أنها تكثر حتى لا تطاق إلا بجمع عظيم ، وإذا اجتمعت كان لها كبير تتبعه مثل اليعسوب للنحل ، وبها دابة تسمى العدار ، بلغنى أنها تطلب الإنسان فتقع عليه ، فإن أصابت منه ذلك تدوّد جوف الإنسان فانشق ، ويحكى عن الغيلان بها من الأعجوبة مالا أستجيز حكايته.

وأما المسافات بديار العرب فإنّ الذي يحيط بها : من عبّادان إلى البحرين نحو من ١٥ مرحلة ، ومن البحرين إلى عمان نحو من شهر ، ومن عمان إلى أرض مهرة نحو من شهر ، وإلى حضرموت من مهرة نحو من شهر ، ومن أقصى حضرموت إلى عدن نحو من شهر ، ومن عدن إلى جدة نحو من شهر. ومن جدة إلى ساحل الجحفة نحو من ٥ مراحل ، ومن ساحل الجحفة إلى الجار نحو من ٣ مراحل ، ومن الجار إلى أيلة نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن أيلة إلى بالس نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن بالس إلى الكوفة نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن الكوفة إلى البصرة نحو من ١٢ مرحلة ، ومن البصرة إلى عبادان نحو من مرحلتين ، فهذا هو الدور الذي يحيط بها.

__________________

(١) الجرم ـ الحر فارسى معرب والجمع جروم ، وأرض جرم توصف بالحر ، وفواكه الجروم هي فواكه المناطق الحارة. والجرم نقيض الصرد يقال هذه أرض جرم وتلك أرض صرد وهما دخيلان فى الحر والبرد (راجع اللسان).

٢٧

وأما طرقها : فإن من الكوفة إلى المدينة نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن المدينة إلى مكة نحو ١٠ مراحل ؛ وطريق الجادة من الكوفة إلى مكة أقصر من هذا الطريق بنحو من ٣ مراحل ، إذا انتهى إلى معدن النقرة عدل عن المدينة ، حتى يخرج إلى معدن (١) بنى سليم إلى ذات عرق حتى ينتهى إلى مكة. وأما طريق البصرة فهو إلى المدينة نحو من ١٨ مرحلة ، ويلتقى مع طريق الكوفة بقرب معدن النّقرة ، وأما طريق البحرين إلى المدينة فنحو من ١٥ مرحلة ، وأما طريق الرّقة إلى المدينة فنحو من نحو ٢٠ مرحلة ، وكذلك من دمشق إلى المدينة نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن فلسطين إلى المدينة نحو من ٢٠ مرحلة ، ومن مصر إلى المدينة على الساحل نحو من ٢٠ مرحلة.

ولم نفرد لمصر والمغرب طريقا لأنه يلتقى بأيلة مع طريق أهل فلسطين ، فيصير الطريقان سوى ، وهو أول حد البادية ، وإنما يتفرق قبل دخول البادية ، ولأهل مصر وفلسطين إذا جاوزوا مدين طريقان : أحدهما إلى المدينة على بدا وشغب ـ قرية بالبادية كان بنو مروان أقطعوها الزّهرى المحدّث وبها قبره ـ حتى ينتهى إلى المدينة على المروة ، وطريق يمضى على ساحل البحر حتى يخرج بالجحفة ، فيجتمع بها طريق أهل العراق ودمشق وفلسطين ومصر ؛ وأما طريق البصرة والرّقة ، فهما لا يسلكان وقد تعطّلا ، وسائر الطرق مسلوكة. ومن عدن إلى مكة نحو شهر ، ولها طريقان : إحداهما على ساحل البحر وهو أبعد ، والآخر يأخذ على صنعاء وصعدة وجرش ونجران والطائف حتى ينتهى إلى مكة ، ولهم طريق على البوادى وتهامة هو أقرب من هذين الطريقين ، إلّا أنّه على أحياء اليمن ومخاليفها ، تسلكه الحواس (٢) منهم. وأما أهل حضرموت ومهرة فإنّهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادّة التى بين عدن وبين مكة ، والمسافة منهم إلى الاتصال بهذه الجادّة ما بين عشرين مرحلة إلى خمسين مرحلة. وأما طريق عمان فهو طريق يصعب سلوكه فى البرية ، لكثرة القفار بها وقلة السكان ، وإنما طريقهم فى البحر إلى جدة ، فإن سلكوا على السواحل من مهرة وحضرموت إلى عدن ـ أو إلى طريق عدن ـ بعد عليهم ، وقلّ ما يسلكونه ، وكذلك ما بين عمان والبحرين فطريق شاق ، يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم بها ، وأما ما بين البحرين وعبّادان فغير مسلوك وهو قفر ، والطريق فيها على البحر ، ومن البصرة إلى البحرين نحو من ١٨ مرحلة فى قبائل العرب ومياههم مسلوك عامر (٣) ، غير أنه مخوف.

فهذه جوامع المسافات التى يحتاج إلى علمها ، فأما ما بين ديار العرب لقبائلها من المسافات فقلّ ما تقع الحاجة لغير أهل البادية إلى معرفتها.

__________________

(١) مكان ، تكنه سليم. قال الهمدانى فى صفة جزيرة العرب س ١٣١. المعدن معدن سليم وسليم تسكن شرقى المدينة.

(٢) الشجعان. فى ب ، ج الحراس.

(٣) فى ب ج على بر.

٢٨

بحر الفارس

وسنذكر بعد ديار العرب بحر فارس ، فإنّه يشتمل على أكثر حدودها ، ويتصل بديار العرب منه وبسائر بلدان الإسلام ونصوّره ، ثم نذكر جوامع ممّا يشتمل عليه هذا البحر ، ونبتدئ بالقلزم على ساحله مما يلى المشرق ، فإنّه ينتهى إلى أيلة ، ثم يطوف بحدود ديار العرب ، التى ذكرناها وبيّناها قبل هذا إلى عبّادان ، ثم يقطع عرض دجلة وينتهى على الساحل إلى مهروبان ثم إلى جنّابة ، ثم يمرّ على سيف فارس إلى سيراف ، ثم يمتد إلى سواحل هرمز وراء كرمان إلى الدّيبل وساحل الملتان وهو ساحل السند ، وقد انتهى حدّ بلدان الإسلام ، ثم ينتهى إلى سواحل الهند حتى ينتهى إلى سواحل التبّت فيقطعها إلى أرض الصين ؛ وإذا أخذت من القلزم غربيّها على ساحل البحر سرت فى مفاوز ، من حدود مصر حتى تنتهى إلى مفاوز هى للبجة ، وبها معادن الذهب ، إلى مدينة على شط البحر يقال لها عيذاب ثم يمتد على بلد الحبشة ، وهى محاذية لمكة والمدينة حتى يحاذى قرب عدن ، ثم يقطع الحبشة ويتصل بظهر بلد النوبة حتى ينتهى إلى بلدان الزنج وهى من أوسع تلك الممالك فيمتد على محاذاة جميع بلدان الإسلام ، وقد انتهى مسافة هذا البحر ، ثم تعرض فيه جزائر وأقاليم مختلفة ، إلى أن يحاذى أرض الصين.

وقد صوّرت هذا البحر وذكرت حدوده مطلقا ، وسأصف ما يحيط به وما فى أضعافه جملا ، يقف عليه من قرأه إن شاء الله. أما ما كان من هذا البحر من القلزم إلى ما يحاذى بطن اليمن فإنه يسمى بحر القلزم ، ومقداره نحو ثلاثين مرحلة طولا ، وعرضه أوسع ما يكون غير مسير ثلاث ليال ، ثم لا يزال يضيق حتى يرى من بعض جنباته الجانب الآخر ، حتى ينتهى إلى القلزم ، ثم يدور على الجانب الآخر من بحر القلزم ، وبحر القلزم مثل الوادى به جبال كثيرة قد علا الماء عليها ، وطرق السفن بها معروفة لا يهتدى فيها إلا بربان ، يتخلّل بالسفينة فى أضعاف تلك الجبال بالنهار ، فأما بالليل فلا يسلك ، وماؤه صاف ترى تلك الجبال فيه ، وفى هذا البحر ما بين القلزم وأيلة مكان يعرف بتاران ، وهو أخبث ما فى هذا البحر من الأماكن ، وذلك أنه دوّارة ماء فى سفح جبل ، إذا وقعت الريح على ذروته انقطعت الريح على قسمين ، فتنزل الريح على شعبين فى هذا الجبل متقابلين ، فتخرج الريح من كلا هذين الشعبين فتتقابل فيثور الماء ، وتتبلّد كل سفينة تقع فى تلك الدوّارة باختلاف الريحين وتتلف فلا تسلم واحدة ، وإذا كان للجنوب أدنى مهب فلا سبيل إلى سلوكه ، ومقدار طوله

٢٩

نحو ستة أميال ، وهو الموضع الذي غرق فيه فرعون ، وبقرب تاران موصع يعرف بجبيلات ، يهيج وتتلاطم أمواجه باليسير من الريح ، وهو موضع مخوف أيضا ، فلا يسلك بالصبا مغرّبا وبالدبور مشرّقا ، وإذا حاذى أيلة ففيه سمك كثير مختلف الألوان ، فإذا قابل بطن اليمن سمى بحر عدن إلى أن يجاوز عدن ثم يسمى بحر الزنج ، إلى أن يحاذى عمان عاطفا على فارس ، وهذا بحر يعرض حتى يقال إن عبره إلى بلد الزنج سبعمائة فرسخ ، وهو بحر مظلم أسود لا يرى مما فيه شىء ، وبقرب عدن معدن اللؤلؤ يخرج ما يرتفع منه إلى عدن وإذا جزت عمان إلى أن تخرج عن حدود الإسلام ، وتتجاوزه إلى قرب سرنديب يسمى بحر فارس ، وهو عريض البطن جدا ، فى جنوبه بلدان الزنج ، وفى هذا البحر هوّارات كثيرة ومعاطف صعبة ، ومن أشدها ما بين جنابة والبصرة ، فإنّه مكان يسمى هور جنّابة ، وهو مكان مخوف لا تكاد تسلم منه سفينة عند هيجان البحر ، وبها مكان يعرف بالخشبات ، من عبّادان على نحو ستة أميال ، على جرى ماء دجلة إلى البحر ، ويرقّ الماء حتى يخاف على السفن الكبار ، إن سلكته أن تجلس على الأرض إلا فى وقت المدّ ، وبهذا الموضع خشبات منصوبة قد بنى عليها مرقب يسكنه ناظور ، يوقد بالليل ليهتدى به ويعلم به المدخل إلى دجلة ، وهو مكان مخوف إذا ضلت السفينة فيه خيف انكسارها لرقة الماء ، وبحذاء جنّابة مكان يعرف بخارك وبه معدن اللؤلؤ ، يخرج منه الشيء اليسير ، إلا أن النادر إذا وقع من هذا المعدن فاق فى القيمة غيره ، ويقال إن الدرّة اليتيمة تقع من هذا المعدن ، وبعمان وبسر نديب فى هذا البحر معدن لؤلؤ ، ولا أعلم معدنا للؤلؤ إلا ببحر فارس ، ولهذا البحر مدّ وجزر فى اليوم والليلة مرتان ، من حد القلزم إلى حد الصين حيث انتهى ، وليس لبحر المغرب ولا لبحر الروم ولا لسائر البحار مدّ ولا جزر غير بحر فارس ، وهو أن يرتفع الماء قريبا من عشرة أذرع ، ثم ينضب حتى يرجع إلى مقداره ، وفى هذا البطن من البحر الذي نسبناه خصوصا إلى فارس جزائر ، منها لافت وخارك وأوال وغيرها من الجزائر المسكونة ، وبها مياه عذبة وزرع وضرع ، فهذه جوامع من صفة هذا البحر من حدود الإسلام.

وسأصف ما على سواحله صفة جامعة ، نبتدئ منها بالقلزم ثم تنتهى إلى جنباته إن شاء الله. وأما القلزم (١) فإنّها مدينة على شفير البحر ، وينتهى هذا البحر إليها ، وهى فى عطف هذا البحر فى آخر لسانه ، وليس بها زرع ولا شجر ولا ماء ، وإنما يحمل لهم من آبار ومياه بعيدة منهم ، وهى تامة العمارة بها فرضة مصر والشام ، ومنها تحمل حمولات الشام ومصر إلى الحجاز واليمن وسواحل هذا البحر ، وبينها وبين فسطاط مصر مرحلتان ، ثم ينتهى على شط البحر فلا تكون بها قرية ولا مدينة ، سوى مواضع فيها ناس مقيمون على صيد من هذا البحر

__________________

(١) هى مدينة السويس.

٣٠

وشىء من النخيل يسير ، حتى ينتهى على تاران وجبيلات ، وما حاذى جبل الطور إلى أيلة ؛ وأيلة هذه مدينة صغيرة عامرة ، بها زرع يسير ، وهى مدينة اليهود الذين حرّم الله عليهم صيد السبت ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وبها فى يد اليهود عهد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وأما مدين وما انتهى على هذا البحر فى عطوف اليمن إلى عمان والبحرين إلى عبّادان فقد وصفناه فى صفة ديار العرب ، وأما عبّادان فإنها حصن صغير عامر على شط البحر ، ومجمع ماء دجلة ، وهو رباط كان فيه محارس للقطريّة وغيرهم من متلصّصة البحر ، وبها على دوام الأيام مرابطون ، ثم تقطع عرض دجلة فتصير على ساحل هذا البحر إلى مهروبان من حدّ فارس ، ويعرض فيها أما كن تمنع من السلوك إلا فى الماء ، وذلك أن مياه خوزستان تجتمع إلى دورق وحصن مهدى وباسيان فتتصل بماء البحر ؛ ومهروبان مدينة صغيرة عامرة وهى فرضة أرّجان ، وما والاها من أدانى فارس وبعض خوزستان ، ثم ينتهى البحر على الساحل إلى شينيز (١) ، وهى مدينة أكبر من مهروبان ، ومنها يرتفع الشينيزى (٢) الذي يحمل إلى الآفاق ، ثم ينتهى إلى جنّابة ؛ وجنّابة هذه مدينة أكبر من مهروبان ، وهى فرضة لسائر فارس خصبة شديدة الحرّ ، ثم ينتهى على الساحل إلى سيف البحر إلى نجيرم ، وهذا السيف ما بين جنّابة ونجيرم ، به قرى ومساكن ومزارع متفرقة مفترشة شديدة الحرّ ، ثم ينتهى إلى سيراف (٣) وهى الفرضة العظيمة لفارس ، وهى مدينة عظيمة ليس بها سوى الأبنية شىء ، حتى يجاوز على جبل يطلّ عليه ، وليس بها ماء يجمد ولا زرع ولا ضرع ، وهى أغنى بلاد فارس ، ثم يتجاوز على الساحل فى مواضع منقطعة تعترض بها جبال ومفاوز ، إلى أن ينتهى إلى حصن ابن عمارة ، وهو حصن منيع على هذا البحر ، وليس بجميع فارس حصن أمنع منه ، ويقال إن صاحب هذا الحصن هو الذي قال الله فيه (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(٤) ، وينتهى على ساحل هذا البحر إلى هرمز ، وهى فرضة كرمان ، مدينة غرّاء كثيرة النخل حارة جدا ، ثم تسير على شطّه إلى الدّيبل ، وهى مدينة عامرة وبها مجمع التجار ، وهى فرضة لبلد السند ، وبلد السند هو المنصورة وأراضى الزطّ وما والاها إلى الملتان ، ثم ينتهى على ساحل بلدان الهند إلى أن يتّصل بساحل تبت ، وينتهى إلى ساحل الصين ، ثم إلى الصين ثم لا يسلك بعده.

وإذا أخذت من القلزم غربىّ هذا البحر ، فإنه ينتهى إلى بريّة قفرة ، لا شىء فيها إلى أن يتصل ببادية البجة ، والبجة قوم أصحاب أخبية شعر ، أشد سوادا من الحبشة فى زى العرب ، لا قرى لهم ولا مدن ولا زرع ، إلا ما ينقل إليهم من مدن الحبشة واليمن ومصر والنوبة ، وينتهى حدّ هم إلى ما بين الحبشة وأرض النوبة وأرض مصر ، وينتهى إلى معادن الذهب ، ويأخذ هذا المعدن من قرب أسوان مصر على نحو من عشر مراحل ، حتى

__________________

(١) فى ب ، ج تستر.

(٢) فى ب ، ح التسترى.

(٣) فى ب ، ج شيراز.

(٤) الكهف : ٧٩.

٣١

ينتهى إلى حصن على البحر يسمى عيذاب ، ويسمى مجمع الناس بهذا المعدن العلّاقى (١) ، وهو رمال وأرض مبسوطة لا جبل بها ، وأموال هذا المعدن ترتفع إلى أرض مصر ، وهو معدن ذهب لا فضة فيه ، والبجة قوم يعبدون الأصنام وما استحسنوه ، ثم يتصل ذلك بأرض الحبشة وهم نصارى ، وتقرب ألوانهم من ألوان العرب بين السواد والبياض ، وهم متفرقون فى ساحل هذا البحر إلى أن يحاذى عدن ، وما كان من النمور والجلود الملمّعة وأكثر جلود اليمن ـ التى تدبغ للنعال ـ تقع منها إلى عدوة اليمن ، وهم أهل سلم ليسوا بدار حرب ، ولهم على الشط موضع يقال له زيلع ، فرضة للعبور إلى الحجاز واليمن ، ثم يتصل ذلك بمفازة بلد النوبة ، والنوبة نصارى ، وهى بلدان أوسع من الحبشة ، وبها من المدن والعمارة أكثر مما بالحبشة ، ويخترق نيل مصر فيما بين مدنها وقراها ، حتى يتجاوز ذلك إلى رملة من أرض الزنج ، ثم يتجاوزه إلى برارى يتعذر مسلكها ، ثم ينتهى هذا البحر حتى يتصل بأرض الزنج مما يحاذى عدن ، إلى أن يمتد على البحر وتتجاوز محاذاتها جميع حدّ الإسلام ، ويدخل فيما حاذى بعض بلدان الهند لسعته وكثرته ، وبلغنى أن فى بعض أطراف الزنج صرودا فيها زنج بيض ، وبلد الزنج هذا بلد قشف قليل العمارة قليل الزروع ، إلا ما اتصل بها من مستقر الملك.

__________________

(١) ورد فى البلدان لليعقوبى (ليدن سنة ١٨٩١) ص ٣٣٤ عن هذا الموضع ما يأتى :

ووادى العلاقى كالمدينة العظيمة به خلق من الناس وأخلاط من العرب والعجم أصحاب المطالب ، وبها أسواق وتجارات ، وشربهم من آبار تحفر فى وادى العلاقى ، وأكثر من بالعلاقى قوم من ربيعة من بنى حنيفة من أهل اليمامة ، انتقلوا إليها بالعيالات والذرية ، ووادى العلاقى وما حواليه معادن للتبر ، وكل ما قرب منه يعتمل فيه الناس ، لكل قوم من التجار وغير التجار وغير التجار عبيد سودان ، يعلمون فى الحفر ثم يخرجون التبر كالزرنيخ الأصفر ثم يسبك.

٣٢

ديار المغرب

وأما المغرب فهو نصفان يمتدان على بحر الروم ، نصف من شرقيّه ونصف من غربيّه ، فأما الشرقى فهو برقة وافريقية وتاهرت وطنجة والسوس وزويلة وما فى أضعاف هذه الأقاليم ، وأما الغربى فهو الأندلس ، وقد جمعتهما فى التصوير.

فأما الجانب الشرقى فإنّ الذي يحيط به من شرقيّة حدّ مصر بين الاسكندرية وبرقة من حدّ بحر الروم ، حتى يمضى على ظهر الواحات إلى بريّة تنتهى إلى أرض النوبة ، وغربيّه البحر المحيط ممتدا على حدّه ، وشماليه بحر الروم الذي يأخذ من البحر المحيط ، يأخذ من حدّ مصر على ما يحاذى برقة إلى طرابلس المغرب ، ثم إلى المهديّة ثم إلى تونس ثم إلى طبرقة ثم إلى تنس ثم إلى جزيرة بنى مزغنا (١) ، ثم إلى ناكور ثم إلى البصرة ثم إلى أزيلة ثم إلى السوس الأقصى ، ثم يمتد على بريّة ليس وراءها عمارة ، وجنوبيّه رمل من حد البحر المحيط حتى يمتد من وراء سجلماسة إلى زويلة ، ثم يمتد إلى ظهر الواحات من أرض مصر ، وأما الأندلس فإنّه يحيط به مما يلى البحر المحيط من حدّ بلد الجلالقة ، على كورة يقال لها شنترين ، ثم إلى أخشنبة ثم إلى أشبيلية ثم إلى سدونة ثم إلى جزيرة جبل طارق ثم إلى مالقة ثم إلى بجّانة ثم إلى بلاد مرسية ثم إلى بلاد بلنسية ثم إلى طرطوشة ثم يتصل ببلاد الكفر مما يلى البحر ببلاد الافرنجة ، ومما يلى البر ببلاد علجسكس ثم ببلاد بسكونس ثم ببلاد الجلالقة حتى ينتهى إلى البحر.

فأمّا برقة فإنّها مدينة وسطة ليست بكبيرة ، وحواليها كورة عامرة كبيرة ، وهى فى مستو من الأرض خصبة ، ويطيف بها من كل جانب بادية يسكنها طوائف من البربر ، وقد كان يخرج إليها عامل من مصر ، إلى أن ظهر المهدى عبيد الله المستولى على المغرب ، فاستولى عليها وأزال عمّال مصر ، وأما طرابلس المغرب فهى من عمل افريقية ، وهى مدينة مبنية من الصخر على ساحل بحر الروم ، خصبة واسعة الكورة حصينة جدا ، وأما المهديّة فإنّها مدينة صغيرة استحدثها عبيد الله المستولى على المغرب ، وسماها بهذا الاسم ، وهى على البحر ، وعبيد الله تحوّل إليها من القيروان ، وهى من القيروان على يومين. وتونس مدينة كبيرة خصبة واسعة المياه والزروع ، وهى أول

__________________

(١) فى أحسن التقاسيم للمقدسى ص ٢١٧ جزيرة بنى زغنارى.

٣٣

عدوة الأندلس ، يعبر منها ولا يعبر من دونها ، إلا من المدن التى تلى المغرب ، لأنها أول مدينة تحاذى الأندلس ، وما دونها محاذ لبلاد الافرنجة. وطبرقة مدينة صغيرة وبيّة بها عقارب قاتلة نحو عقارب عسكر مكرم ، وبها فى البحر معدن المرجان ، وليس يعرف فى الأرض معدن للمرجان إلا بها ؛ وأما تنس فهى مدينة كبيرة ، وهى عدوة إلى الأندلس أيضا ، إلا أنها وبيّة ؛ وجزيرة بنى مزغنّا مدينة عامرة ، يحف بها طوائف من البربر ، وهى من الخصب والسعة على غاية ما تكون المدن ؛ وناكور على شط البحر مدينة كبيرة ، يعبر منها أيضا إلى بجّانة ، وهى مدينة حصينة خصبة ، والبصرة مدينة كبيرة واسعة خصبة ، وهى بحذاء جزيرة جبل طارق ، وبينها وبين الجزيرة المذكورة عرض البحر اثنا عشر فرسخا ، وأزيلة مدينة كبيرة على شط البحر المحيط ، وهى خصبة كثيرة الخير ، وهى أقصى المعابر إلى الأندلس ، والسّوس الأقصى اسم المدينة إلا أنها كورة عظيمة ، ذات مدن وقرى وسعة وخصب ، ويحتف بها طوائف من البربر ، وأما البصرة وأزيلة فهما من إقليم طنجة ، وطنجة هى كورة عظيمة ، تحيط بمدن وقرى وبواد (١) للبربر كثيرة ، ومدينتها العظمى التى هى القصبة تسمى فاس ، وهي المدينة التى بها يحيى الفاطمى ، ولم يفتحها عبيد الله الخارج بالمغرب إلى حين تصنيف هذا الكتاب ، وأما ناكور وجزيرة بنى مزغنّا فى مدن وقرى كثيرة فقريبة من تاهرت الأعلى ؛ ومدينة كورة تاهرت اسمها تاهرت ، وهى مدينة كبيرة خصبة واسعة البريّة والزروع والمياه ، وبها الإباضيّة وهم الغالبون عليها [وسجلماسة مدينة وسطة من حدّ تاهرت ، إلا أنها منقطعة لا يسلك إليها إلا فى القفار والرمال ، وهى قريبة من معدن الذهب ، بينها وبين أرض السودان وأرض زويلة ، ويقال إنه لا يعرف معدن للذهب أوسع ذهبا ولا أصفى منه ، إلا أنّ المسلك إليه صعب ، والاستعداد شاق جدا ، وهى من مملكة عبيد الله ، ويقال إن كورة تاهرت بأسرها من افريقية ، إلا أنها مفردة بالاسم والعمل فى الدواوين ، وسطيف مدينة كبيرة بين تاهرت وبين القيروان ، وهى حصينة ولها كورة تشتمل على قرى كثيرة وعمارة متصلة ، وسكانها كتامة قبيلة من البربر ، بهم ظهر عبيد الله ، وكان أبو عبد الله المحتسب الداعى إلى عبيد الله مقيما بينهم ، حتى تمهّد أمره بهم ، والقيروان هى أجلّ مدينة بأرض المغرب ، خلا قرطبة بالأندلس فإنها أعظم منها ، وهى المدينة التى كان يقيم بها ولاة المغرب ، وبها كان مقام الأغلب وبنيه إلى أن أزال ملكهم أبو عبد الله المحتسب ، وخارج القيروان أبنية كانت معسكر آل الأغلب ومقامهم بها كان ، وتسمى الرّقّادة ، إلى أن استحدث عبيد الله المهديّة على شط البحر ، فأقام بها وانتقل عن رقّادة ، وأما زويلة فإنها من حدّ المغرب ، وهى مدينة وسطة لها كورة عريضة ، وهى متاخمة لأرض السودان ، وبلدان السودان بلدان عريضة إلا أنها قفرة قشفة جدا ، ولهم فى جبال لهم عامة ما يكون فى بلاد الإسلام من الفواكه ، إلا أنهم لا يطعمونه ، ولهم أطعمة يتغذون بها من فواكه ونبات ، وغير ذلك مما لا يعرف فى بلدان الإسلام ، والخدم السود الذين يباعون فى بلدان

__________________

(١) فى م : البربر.

٣٤

الإسلام منهم ، وليس هم بنوبة ولا بزنج ولا بحبشة ولا من البجة ، إلا أنهم جنس على حدة أشد سوادا من الجميع وأصفى ، ويقال إنه ليس فى أقاليم السودان من الحبشة والنوبة والبجة وغيرهم إقليم هو أوسع منه ، ويمتدون إلى قرب البحر المحيط مما يلى الجنوب ، ومما يلى الشمال على مفازة ينتهى إلى مفاوز مصر من وراء الواحات ، ثم على مفاوز بينها وبين أرض النوبة ، ثم على مفاوز بينها وبين أرض الزنج ، وليس لها اتصال بشىء من الممالك والعمارات إلا من وجه المغرب ، لصعوبة المسالك بينها وبين سائر الأمم ، وهذه جوامع ما يحتاج إلى معرفته من شرقى البحر من المغرب.

وأما الغربى من المغرب فهو الأندلس ، والأندلس بلدان عريضة كثيرة المدن خصبة واسعة ، ومدينتها العظمى تسمى قرطبة ، وهى من الأندلس فى وسطها ، والذي يحيط بالأندلس البحر المحيط ، ثم يطوف بحر الروم بها إلى أرض افرنجة ، فيأخذ من مدينة شنترين إلى أخشنبة ثم إلى إشبيلية ثم إلى سدونة ثم إلى الجزيرة ثم إلى مالقة ثم إلى بجّانة ثم إلى بلاد مرسية على مدينة لقنت إلى بلاد بلنسية ثم إلى طرطوشة وهى آخر المدن التى على البحر ، ثم يتصل من جهة البحر ببلاد الافرنجة ، ومن جهة البرّ يتصل ببلاد علجسكس ، وهى بلاد حرب من النصارى ، ثم يتصل ببلاد بسكونس وهم أيضا نصارى ، ثم يتصل ببلاد الجلالقة وهم نصارى أيضا ، فينتهى من الأندلس حدّان إلى دار الكفر وحدّان إلى البحر ، وهذه المدن التى ذكرناها على الشط كلها مدن كبار عامرة ، والأندلس فى أيدى بنى أمية ما افتتحت لبنى العباس ولا قدر عليها عبيد الله ، ولما زالت دولة بنى مروان ، عبر إليها من أزيلة المغرب إلى جزيرة جبل طارق بعض بنى أمية فتغلّب عليها ، فهى فى أيديهم إلى وقت تصنيفنا هذا الكتاب. ومن مشاهير مدن الأندلس جيّان وطليطلة ونفزة وسرقصطة ولا ردة ووادى الحجارة وترجالة وقورية وماردة وباجة وغافق ولبلة وقرمونة ومورور واستجة وريّة ، وهي كلها مدن عظام ، وليس فيها ما يقارب قرطبة فى العظم والكبر ، وأكثر أبنيتها من حجارة ، وهى أبنية جاهلية لا تعرف فيها مدينة محدثة إلا بجّانة ، فإنّها محدثة فى حدّ بلاد يقال لها البيرة وشنترين التى على البحر المحيط بها يقع العنبر ، ولم نعلم ببحر الروم والبحر المحيط موضع عنبر إلا بشنترين وشىء وقع فى أيام مقامى بالشام بسواحل الروم ، وتقع بشنترين فى وقت من السنة من البحر دابّة ، تحتك بحجارة على شط البحر فيقع منها وبر فى لين الخز ، لونه لون الذهب لا يغادر منه شيئا ، وهو عزيز قليل فيجمع وتنسج منه ثياب ، فتتلوّن فى اليوم ألوانا ، ويحجر عليها ملوك بنى أمية ، ولا ينقل إلا سرا ، وتزيد قيمة الثوب عن ألف دينار لعزّته وحسنه ؛ ومالقة سكانها عرب ، وبها السّفن (١) الذي تتخذ منه مقابض السيوف ؛ وجزيرة جبل طارق منها افتتح الأندلس فى أول الإسلام ، وجبل طارق جبل عامر حصين بالقرى والمدن ، وهو آخر المعابر بالأندلس ؛

__________________

(١) جلد خشن غليظ كجلود التماسيح يكون على قوائم السيوف (اللسان).

٣٥

وطليطلة مدينة فى جبل عال ، بناؤها من حجارة قد وثّقت بالرصاص ، وحواليها سبعة أجبل كلها عامرة منيعة مسكونة ، وحولها نهر عظيم يقارب فى الكبر دجلة ، واسم هذا النهر تاجه ، يخرج من بلد يقال لها شنتبريّة (١) ، ووادى الحجارة مدينة هى وما حواليها من المدن والقرى تعرف بمدن بنى سالم ، وريّة كورة عظيمة خصيبة ، ومدينتها أرجدونة ومنها كان عمر بن حفصون ، الذي خرج على بنى أمية بها ؛ وفحص البلّوط كورة خصبة واسعة ومدينتها غافق ، وقورية مدينة كانت كبيرة إلا أنها خربت بعصبية وقعت بينهم ، فاستعان أحد الفريقين بالجلالقة النصارى حتى خرّبوها ؛ وماردة من أعظم مدن الأندلس ، وكذلك طليطلة ، وهما ممتنعتان ليس بهما عامل لبنى أمية ، إلا أنه يخطب بهما لهم ؛ وشنترين كورة عظيمة ومدينتها قلمرية ، وثغور الجلالقة ماردة ونفزة ووادى الحجارة وطليطلة ، ومدينة الجلالقة مما يلى ثغور الأندلس يقال لها سمّورة ، وعظيم الجلالقة بمدينة يقال لها أبيط ، هى بعيدة عن بلدان الإسلام ، وليس فى أصناف الكفر الذين يلون الأندلس أكثر عددا من الأفرنجة ، ويقال لملكهم قارله ، غير أن الذين يلون المسلمين منهم أقل من سائر أجناس الكفر ، لدخولهم فى البحر ، والحاجز الذي بينهم وبين الأفرنجة من بلدان الشرك من غيرهم ، ثم الجلالقة يتلونهم فى الكثرة ، وأقلهم عددا البسكونس وهم أشد شوكة ، والذين يتلون البسكونس من ثغور الأندلس سرقسطة وتطيلة ولاردة ، ويليهم قوم من النصارى يقال لهم علجسكس أقلهم غائلة ، وهم الحاجز بينهم وبين الافرنجة.

والبربر الذين هم بأرض الأندلس وسائر المغرب صنفان ، صنف يقال لهم البتر ، وصنف يقال لهم البرانس ، فنفزة ومكناسة وهوارة ومديونة من البتر وهم بالأندلس ، وكتامة وزناتة ومصمودة ومليلة وصنهاجة من البرانس. فأما زناتة فأوطانها بناحية تاهرت ، وأما كتامة فأوطانها بناحية سطيف ، وسائر البربر الذين هم من البرانس فمفترشون فى سائر المغرب من شرقى بحر الروم ، وأما نفزة ومكناسة (٢) فهم بالأندلس بين الجلالقة وبين مدينة قرطبة ، وأما هوارة ومديونة فهم سكان شنتبرية. وبكورة البيرة حرير كثير يفضل ويقدّم على غيره ، وبالأندلس معادن كثيرة من الذهب ، وبها معادن فضة بناحية البيرة ومرسية ، وبقرب قرطبة بموضع يقال له كرتش وتفسيره بالعربية ديار ، وبناحية تطيلة سمّور كثير.

وزويلة بلد فى وجه أرض السودان ، وهؤلاء الخدم السود أكثرهم يقع إلى زويلة ، وأرض المغرب ما كان منها فى شرقى بحر الروم بقرب الساحل فتعلوهم سمرة ، وكلما تباعدوا فيما يلى الجنوب والمشرق ازدادوا سوادا ، حتى ينتهوا إلى بلد السودان ، فيكون الناس بها أشد الأمم سوادا ، ومن كان فى غربى بحر الروم بالأندلس فهم بيض زرق ، وكلما ازدادوا وتباعدوا إلى ما يلى المغرب والشمال ازدادوا بياضا ، حتى يقطع عرض الروم كله إلى ظهر الصقالبة ،

__________________

(١) تزيد المخطوطتان ب ، ج : هى قلعة تسمى اليوم شتورة فى ب وشقورة فى ج.

(٢) فى ب ، ج كتامة.

٣٦

فكلما ازدادوا وتباعدوا ازدادوا بياضا وزرقة وحمرة شعر ، إلا أن طائفة منهم يرجعون إلى سواد شعر وعيون وهم صنف من الروم من الجلالقة ، ويقال إن أصلهم من الشام ، كما أن طائفة بخر شنة من أرض الروم يرجعون إلى سواد شعر وعيون ، يزعمون أنهم من العرب من غسّان ، وقعوا إليها مع جبلة بن الأيهم.

وبين المغرب وبلد السودان مفاوز منقطعة ، لا تسلك إلا من مواضع معروفة ، وكان ملوك أفريقية وبرقة أولاد الأغلب ، الذي كان قد أنفذ فى أول أيام بنى العباس ، ليكون فى وجه إدريس بن إدريس ، وملوك طنجة أولاد إدريس بن إدريس ، وبينهم وبين أفريقية تاهرت الشراة ، وهم الغالبون عليها. وملوك الأندلس بنو أمية ، ما خطب لبنى العباس بها إلى يومنا هذا ، ويخطبون لأنفسهم وهم من أولاد هشام بن عبد الملك ، وصاحبهم فى وقت تصنيف هذا الكتاب هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، وأول من عبر منهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان فى أول ولاية بنى العباس فتغلّب عليها ، وبقيت الإمارة فى أولاده إلى وقت تصنيفنا هذا.

والغالب على مذاهب أهل المغرب كلهم مذاهب الحديث ، وأغلبها عليهم فى الفتيا مذهب مالك بن أنس. والذي يقع من المغرب الخدم السود من بلاد السودان ، والخدم البيض من الأندلس ، والجوارى المثمنات ، تأخذ الجارية والخادم من غير صناعة على وجوههما (١) بألف دينار وأكثر ؛ وتقع منها اللبّود المغربيّة والبغال للسرج والمرجان والعنبر والذهب والعسل والزيت والسّفن والحرير والسمّور.

وأما المسافات بالمغرب فإن من مصر إلى برقة ٢٠ مرحلة ، ومن برقة إلى طرابلس مثلها ، ومن طرابلس إلى القيروان مثلها ، فذلك من مصر إلى القيروان ٦٠ مرحلة ، ومن القيروان إلى سطيف ١٦ مرحلة ، ومن سطيف إلى تاهرت ٢٠ مرحلة ، ومن تاهرت إلى فاس ٥٠ مرحلة ، ومن فاس إلى السوس الأقصى نحو ٣٠ مرحلة ، فمن القيروان إلى السوس الأقصى ١١٦ مرحلة ، فجميع المسافة من مصر إلى أقصى المغرب فى شرقى بحر الروم نحو ٦ أشهر ، وحجّاج أقصى المغرب يخرجون قرب المحرم ، فيذهب فى سفرهم واستراحتهم عامة السنة حتى يلحقوا الحج ، ومن القيروان إلى زويلة نحو شهر ، ومن القيروان إلى المهدية مسيرة يومين ، ومن القيروان إلى تونس ٣ مراحل ، ومن تونس إلى طبرقة نحو ١٠ مراحل ، ومن طبرقة إلى تنس نحو ١٦ مرحلة ، ومن تنس إلى جزيرة بنى مزغنّا (٢) ٥ أيام ، ومن تاهرت إلى ناكور ٢٠ مرحلة ، ومن تاهرت إلى سجلماسة نحو ٥٠ مرحلة ، ومن فاس إلى البصرة ٦ مراحل ، ومن فاس إلى أزيلة ٨ مراحل ، ومن القيروان إلى سجلماسة فى البرية نحو

__________________

(١) جمالهما.

(٢) عند المقدسى فى أحسن التقاسيم ص ٢٤٦ جزيرة بنى زغناى.

٣٧

من ٨٠ مرحلة ، وفى العمارة ١٢٠ مرحلة (١). فهذه جوامع المسافات فى المغرب فى شرقى بحر الروم.

وأما مسافات الأندلس فإن قصبتها قرطبة ومنها إلى أشبيلية ٣ مراحل ، وإلى استجة مرحلة على سمت القبلة ، ومن قرطبة إلى سرقسطة ١٠ أيام ، وإلى تطيلة ١٣ يوما ، ومن تطيلة إلى لاردة ٤ مراحل ، ومن قرطبة إلى طليطلة ٦ أيام ، ومن طليطلة إلى وادى الحجارة يومان ، ومن قرطبة إلى مكناسة ٤ أيام ، ثم إلى هوارة مثلها ، ثم إلى نفزة ١٠ أيام ، ومن نفزة إلى مدينة سمّورة ٤ أيام ، ومن قرطبة إلى قورية ١٢ يوما ، ومن قورية إلى ماردة ٤ أيام ، ومن قورية إلى باجة ٦ أيام ، ويأخذ فى طريق ماردة مما يلى أخشنبة ، فمن قرطبة إلى أشبيلية إلى باجة إلى ماردة إلى قورية إلى قلمرية مدينة شنترين العظمى ، ومن باجة إلى شنترين ١٢ يوما ، وإلى أقصى (٢) ، كور شنترين ٥ أيام ، ومن قرطبة إلى فحص البلّوط يومان ، إلى مدينتها المعروفة بغافق ، ومن فحص البلوط إلى لبلة ١٤ يوما ، وأشبيلية على طريق سدونة ، ومن قرطبة إلى قرمونة ٤ أيام ، ومن قرمونة إلى أشبيلية ٣ أيام ، ومن استجه إلى مورور مرحلة ، ومن مورور إلى سدونة يومان ، ومن مورور إلى جبل طارق ٣ أيام ، ومن استجة إلى مالقة ٧ أيام ، ومالقة شرقى قرطبة واستجة قبليّها ، ومن استجة إلى أرجدونة ٣ مراحل ، ومن قرطبة إلى بجّانة ٦ أيام ، ومن قرطبة إلى مرسية ١٤ يوما ، ومن قرطبة إلى مدينة بلنسية ١٨ يوما ، ومن طرطوشة إلى بلنسية ٥ مراحل ، ومن مرسية إلى بجّانة ٦ أيام ، ومن بجّانة إلى مالقة نحو ١٠ أيام ، ومن مالقة إلى جزيرة جبل طارق ٤ أيام ، ومن الجزيرة إلى سدونة ٣ أيام ، ومدينة سدونة قلسانة ، ومنها إلى أشبيلية ٤ أيام ، وإلى قرمونة ٣ أيام.

فهذه جوامع المسافات بالأندلس ، وقد أتينا على جوامع ما أردناه من المغرب ، وتتلوه أرض مصر فى حدّ بلاد الإسلام راجعا إلى المشرق.

__________________

(١) فى ب ، ح ١١٠ مرحلة.

(٢) فى ب ، ح : من.

٣٨

ديار مصر

وأما مصر فإنّ لها حدا يأخذ من بحر الروم بين الإسكندرية وبرقة ، فيأخذ فى برارىّ حتى ينتهى إلى ظهر الواحات ، ويمتد إلى بلد النوبة ، ثم يعطف على حدود النوبة فى حدّ أسوان ، إلى أرض البجة من وراء أسوان ، حتى ينتهى إلى بحر القلزم ، ثم يمتد على بحر القلزم ويجاوز القلز على البحر إلى طور سينا ، ويعطف على تيه بنى اسرائيل ويمتد حتى ينتهى إلى بحر الروم فى الجفار خلف رفح والعريش ، ويمتد على بحر الروم إلى أن ينتهى إلى الإسكندرية ، ويتصل بأول الحدّ الذي ذكرناه.

المسافات بمصر : من ساحل بحر الروم حيث ابتدأناه إلى أن يتصل بأرض النوبة من وراء الواحات نحو ٢٥ مرحلة ، ومن حدّ النوبة مما يلى الجنوب على حدود النوبة نحو ٨ مراحل ، ومن القلزم على ساحل البحر إلى أن ينعطف على التية ٦ مراحل ، ومن حدّ البحر على حدّ التيه إلى أن يتصل ببحر الروم نحو ٨ مراحل ويمتد على البحر إلى أول الحدّ الذي ذكرناه نحو ١٢ مرحلة ، وطولها من أسوان إلى بحر الروم نحو ٢٥ مرحلة ، وبها بحيرة فيها جزائر مسافتها نحو مرحلتين فى مثلها ، فهذه جملة مسافاتها.

وأما صفة مدنها وبقاعها : فإن مدينتها العظمى تسمى الفسطاط ، وهى على النيل فى شرقيّة شمالىّ النيل ، وذلك أن النيل يجرى مؤرّبا بين المشرق والجنوب ، والبلد كله على جانب واحد ، إلا أن فى عدوة النيل أبنية قليلة تعرف بالجزيرة ، وهى جزيرة يعبر من الفسطاط إليها على جسر فى سفن ، ويعبر من هذه الجزيرة إلى الجانب الآخر على جسر آخر ، إلى أبنية ومساكن على الشط الآخر يقال لها الجيزة ، والفسطاط مدينة كبيرة نحو الثلث من بغداد ؛ ومقداره نحو ثلثى فرسخ ، والفسطاط على غاية العمارة والخصب ، وبالفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليهم محالّها ، مثل ما بالكوفة والبصرة إلا أنها أقل من ذلك ، وهى سبخة ومعظم بنائهم بالطوب طبقات ، وأكثر السفل بها غير مسكونة ، وربما بلغت طبقات الدار الواحدة ثمانى طبقات ، إلا فى طرف منها يسمى الموقف فإنّه أصلب قليلا ، وبها بناء مفترش وذلك بالحمراء على شط النيل ، وبها مسجدان للجمعة : بنى أحدهما عمرو بن العاص فى وسط الأسواق ، والآخر بأعلى الموقف بناه أحمد بن طولون ، وخارج مصر أبنية بناها أحمد بن طولون تكون زيادة على ميل ، كان يسكنها جنده تسمى القطائع ، كما كان بناء آل الأغلب خارج القيروان ـ الرقّادة ،

٣٩

وبها نخيل وثمار كثيرة ، وزروعهم على ماء النيل ، تمتد فتعمّ (١) المزارع من حد أسوان إلى حدّ الاسكندرية وسائر الريف ، فيقيم الماء من (٢) عند ابتداء الحرّ إلى الخريف ، ثم ينصرف فيزرع ثم لا يسقى بعد ذلك ، وأرض مصر لا تمطر ولا تثلج ، وليس بأرض مصر مدينة يجرى فيها الماء (٣) دائما غير الفيوم ، والفيوم هذه مدينة وسطة ، يقال إن يوسف النبي عليه‌السلام اتخذ لهم مجرى يدوم لهم فيه الماء ، وقوّم بحجارة وسماء اللّاهون. وأما النيل فإنّ ابتداء مائه لا يعلم ، وذلك أنه يخرج من مفازة من وراء أرض الزنج لا تسلك ، حتى ينتهى إلى حدّ الزنج ، ثم يقطع فى مفاوز وعمارات أرض النوبة ، فيجرى على عمارات متصلة إلى أن يقع فى أرض مصر ، وهو نهر يكون عند امتداده أكبر من دجلة والفرات إذا جمعا ، وماؤه أشد عذوبة وحلاوة وبياضا من سائر أنهار الإسلام ، وفى هذا النهر يكون التمساح والسقنقور وسمكة يقال لها الرعّادة (٤) ، لا يستطيع أحد أن يقبض عليها وهى حيّة ، حتى يرتعش وتسقط من يده ، فإذا ماتت فهى كسائر السمك ، وأما التمساح فإنه دابّة من دوّاب الماء مستطيل الرأس ، طول رأسه يكون نحوا من نصف طول بدنه ، وله أنياب لا يعض على دابة ما كانت من سبع أو جمل إلا مدّه فى الماء ، وربما خرج من الماء فمشى فى البر ، وليس له فى البر سلطان ولا يضر أحدا ، وجلده يشبه السّفن الذي تتخذ منه مقابض السيوف ، لا يعمل السلاح (٥) فيه إلا تحت يديه ورجليه (٦) ومكان الإبط ، وأما السقنقور فإنه صنف من السمك ، إلا أن له يدين ورجلين ، ويتعالج به للجماع ، ولا يكون فى مكان إلا فى النيل. وعلى حافات النيل من حدّ أسوان إلى أن يقع فى البحر مدن وقرى منظومة متكاثفة ، وأسوان هذه ثغر النوبة إلا أنهم مهادنون ، وبصعيد مصر جنوبى النيل معدن الزبرجد فى بريّة منقطعة عن العمارة ، ولا يعلم فى الأرض معدن له غير هذا ، وفى شمالى النيل جبل بقرب الفسطاط يسمى المقطّم ، فيه وفى نواحيه حجر الخماهن ، ويمتد هذا الجبل إلى النوبة ، وعند هذا الجبل بحذاء الفسطاط قبر الشافعى فى جملة المقابر. وأما الاسكندرية فهى مدينة على شط البحر ، كثيرة الرخام فى الفرش والأبنية والعمد ، وبها منارة قد أسّست فى الماء من صخر رفيع السمك جدا ، تشتمل على زيادة من ثلثمائة بيت ، لا يصل المرتقى إليها إلا بدليل. ويسمى ما علا من النيل عن الفسطاط الصعيد ، وما تسفّل منه الريف ، ومن حدّ الفسطاط فى جنوبى النيل أبنية عظيمة يكثر عددها ، مفترشة على سائر الصعيد (٧) ، وبحذاء الفسطاط على نحو من فرسخين منها أبنية عظيمة ، أكبرها اثنان ارتفاع

__________________

(١) فى ب ، ح فتغمر.

(٢) هنا يبدأ المخطوط ا وهو الجزء الباقى منه.

(٣) تزيد المخطوطة ا فى غيض النيل.

(٤) فى ا الرعاد وهذا النوع من السمك لا يزال معروفا بهذا الاسم إلى الآن.

(٥) فى ا : لا يعمل السيف ولا السلاح فيه ...

(٦) فى ا : تحت إبطه ويديه ورجليه وبطنه.

(٧) بعد هذه الكلمة فى م (تدعى الأهرام. وواضح أنها إضافة من الناسخ هذا بالإضافة إلى أنهما غير موجودتين فى المخطوطات ا ، ب ، ح ولذلك حذفناهما.

٤٠