المسالك والممالك

أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الفارسي الإصطخري

المسالك والممالك

المؤلف:

أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الفارسي الإصطخري


المحقق: الدكتور محمّد جابر عبد العال الحيني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة
الطبعة: ١
ISBN: 977-305-734-8
الصفحات: ٢٣٦

١
٢

٣
٤

فهرس اجمالى

كلمة المحقق من ص ٧ إلى ص ١١

مقدمة المؤلف من ص ١٥ إلى ص ١٩

فصول الكتاب ديار العرب من ص ٢٠ إلى ص ٢٨

بحر فارس من ص ٢٩ إلى ص ٣٢

ديار المغرب من ص ٣٣ إلى ص ٣٨

ديار مصر من ص ٣٩ إلى ص ٤٢

أرض الشام من ص ٤٣ إلى ص ٤٩

بحر الروم من ص ٥٠ إلى ص ٥١

أرض الجزيرة من ص ٥٢ إلى ص ٥٥

العراق من ص ٥٦ إلى ص ٦١

خوزستان من ص ٦٢ إلى ص ٦٦

بلاد فارس من ص ٦٧ إلى ص ٩٦

بلاد كرمان من ص ٩٧ إلى ص ١٠١

بلاد السند من ص ١٠٢ إلى ص ١٠٧

أرمينية والران وأذربيجان من ص ١٠٨ إلى ص ١١٤

الجبال من ص ١١٥ إلى ص ١٢٠

الديلم من ص ١٢١ إلى ص ١٢٧

بحر الخزر من ص ١٢٨ إلى ص ١٣٢

مفازة خراسان من ص ١٣٣ إلى ص ١٣٨

سجستان من ص ١٣٩ إلى ص ١٤٤

خراسان من ص ١٤٥ إلى ص ١٦٠

ما وراء النهر من ص ١٦١ إلى ص ١٩٢

أقاليم ما وراء النهر :

خوارزم من ص ١٦٨ إلى ص ١٧٣

بخارى من ص ١٧٣ إلى ص ١٧٦

السغد من ص ١٧٧ إلى ص ١٨٢

أشروسنة من ص ١٨٢ إلى ص ١٨٤

الشاش وإيلاق من ص ١٨٤ ١٨٧

دراسة لمصورات الكتاب من ص ١٩٦ إلى ص ٢٠٥

فهرس الموضوعات من ص ٢٠٧ إلى ص ٢١٢

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

حفز النجاح السياسى العظيم ، الذي ظفرت به الدولة الإسلامية فى القرن الثانى للهجرة ، رجالها إلى اقتحام ميادين جديدة ، ميادين تعزز هذا النصر السياسى والحربى الذي كان يبعث الهيبة فى القلوب ، ميادين تغزو العقول وتعمل بقوة تفوق قوة السيف ؛ اتجهت الدولة الإسلامية إلى تراث الأمم السابقة لها تأخذ منها ما يتلاءم وذوقها فى الحياة وما يتفق ومنطقها فى الدراسة ، لتبنى أسس هذا المجد العقلى الذي تطمح إليه ؛ ترجم المترجمون عن الفارسية واليونانية والسوريانية ترجمات أشرقت بعدها نهضة علمية تبشر بسلطان عظيم ، أخذت هذه النهضة العلمية تشع فى كثير من نواحى النشاط العقلى ، إذ ساهم العقل الإسلامى مساهمة دفّاعة فى هذه النهضة ، كان من أثرها هذا الفضل الذي اعترفت به البشرية ، والذي أتاح لتيار الحضارة أن يأخذ سبيله فى مجراه. فى مطلع هذه النهضة نشأ علم البلدان وهو المعروف فى اصطلاحنا الحديث بالجغرافية الوصفية.

قام علم البلدان وكانت الحياة العملية تتطلع إليه فى شوق وفى إلحاح ، ذلك لأن التجارة كانت تريد منه أن يكون لها هاديا ومرشدا فى دولة مترامية الأطراف واسعة الأرجاء مختلفة الشعوب والأجناس والألسنة ، كانت تريد أن تعرف سبلها ومسالكها ومن تعطى وما تأخذ ، ولقد وجدت فى هذا العلم مبتغاها ، فأقبل عليه التجار والناس يطلبونه من أصحابه ، فظفر بتأييد أتاح له أن يتطور تطورا سريعا ، تطورا جعل علم البلدان فى أوائل القرن الرابع الهجرى علما كامل المعالم والأسس.

ولقد أتاح الله لهذا العلم أفذاذا ، جابوا البلاد وتحملوا المشاق ، وعرفوا مسالكها وطرقها وناسها ، ووقفوا على طبيعة البلاد التى زاروها وحياة أهلها الاجتماعية ، ودوّنوا ما رأوا وما خبروا وما سمعوا ، حريصين أن يبيّنوا ما رأوا وما سمعوا ، فخرجت كتبهم نورا يهدى ، ومرشدا لا يضل ولا يضلل ، وحظى بالذكر من بين هؤلاء ابن خرداذبه والجيهانى وأبو الفرج قدامة بن جعفر وأبو زيد البلخى وغيرهم ، ولقد بلغ من أهمية كتاب ابن خرداذبه وكتاب الجيهانى أنّ ابن حوقل كان يحرص كل الحرص على أن يرافقاه فى حلّه وترحاله ، قال : [وكان لا يفارقنى

٧

كتاب ابن خرداذبه وكتاب الجيهانى وتذكرة أبى الفرج قدامة بن جعفر](١). ظلت هذه الكتب تستحوذ عليه حتى لقى الإصطخرى فى بغداد ، فأخذ كتابه واستغنى به عن غيره من الكتب.

يرى الدارس لهذه الفترة من تاريخ علم البلدان أنّ هذا العلم قد تطور على يدى رجلين يعدّان من النوابغ هما أبو زيد البلخى والجيهانى ، حتى ليمكن أن يقال إن مخالفتهما أمر كان ينبغى أن يبرّر ، خالفهما المقدسى فى كتابه أحسن التقاسيم ، خالف الجيهانى ـ الذي كان يسمى ما بين دجلة والفرات بابل ـ فى هذه التسمية وسمّى الإقليم العراق ، وبيّن ذلك فى قوله : [.. ألا ترى الجيهانى ابتدأ بذكر هذه النواحى وسماها إقليم بابل ... وقد شققنا الإسلام طولا وعرضا فما سمعنا الناس يقولون إلا هذا إقليم العراق وأكثر الناس لا يعلمون أين بابل](٢) ، وخالف أبا زيد البلخى فى تقسيم المشرق وبيّن هذا فى قوله : [وقد جعله أبو زيد ثلاثة أقاليم خراسان وسجستان وما وراء النهر وأما نحن فجعلناه واحدا ذا جانبين يفصل بينهما جيحون](٣) ، يتضح مما سقناه حقيقة هى ما لهذين الرائدين أبى زيد البلخى والجيهانى من مكانة سامية عند رواد علم البلدان ، هذه المكانة الممتازة هى التى جعلت النساخ يضعون على كتاب الاصطخرى فى هذا العصر المبكر ، الاصطلاح الذي جاء به أبو زيد البلخى وهو صور الأقاليم إلى جانب عنوان الكتاب الأصلى ، الأمر الذي أشكل على دائرة المعارف الإسلامية فنسبت كتاب الاصطخرى لأبى زيد البلخى أو جعلته معوّلا عليه ، وهذه شبهة ليس لها سند أو دليل ، وقد أطلقها كاتب مادة الاصطخرى دون أن يؤيد دعواه بأية حجة تسوّغ قوله ، ولئن كانت هذه الدعوى غير مؤيدة بالبرهان ، ومن ثم فهى تستحق الإهمال ، لكن لا يفوتنا أن نشير إلى أن صحة نسبة الكتاب إلى الاصطخرى يقوم عليها الدليل من الكتاب نفسه ومن المعاصرين ، ففى حديث الاصطخرى عن فارس يشير إلى رسالة ألّفها ، قال : [وقد ذكرت فى الرسالة ما يعلم من قرأها موضع كل كورة برساتيقها ومواضع المدن بها إن شاء الله تعالى] ، ويشهد ابن حوقل أنه لقى الاصطخرى أبا اسحاق الفارسى فى بغداد وأخذ منه كتابه لتصحيحه كما زعم ، قال : [ولقيت أبا اسحاق الفارسى وقد صوّر هذه الصورة لأرض الهند فحلطها وصوّر فارس فجوّدها وقد كنت صورت أذربيجان التى فى هذه الصفحة فاستحسنها والجزيرة فاستجادها وأخرج التى لمصر فاسدة وللمغرب أكثرها خطأ وقال قد نظرت فى مولدك وأثرك وأنا أسألك إصلاح كتابى هذا حيث ضللت فأصلحت منه غير مشكل وعزوته إليه](٤) ، والواضح من قول ابن حوقل وضوحا لا يقبل الشك ولا الجدل أنّ للاصطخرى كتابا وأنه أصلحه كما زعم ، وأن هذا الكتاب منسوب للأصطخرى ، زد على ذلك أن ياقوت الحموى فى معجم البلدان ينقل

__________________

(١) ابن حوقل ص ٢٣٦ ليدن.

(٢) ص ١١٥ ، ص ١١٦ ليدن.

(٣) ص ٢٣٦ ليدن.

٨

عن الاصطخرى ويسند النقل لصاحبه ؛ فليس بعد هذه الأدلة شبهة فى نسبة الكتاب لصاحبه. أما قول ابن حوقل انه أصلحه فمع أنه لا يطعن فى نسبة الكتاب إلا أنه يشير إلى توهين ما فيه من بيانات ، والحق أن ابن حوقل ينقل عن الاصطخرى بالنص واللفظ ، وهو يلجأ إلى هذه الدعوى لتبرير هذا النقل ، وأبسط عرض لكتاب ابن حوقل على كتاب الاصطخرى يدل دلالة واضحة على هذه الحقيقة ، أما تعويل الاصطخرى على أبى زيد البلخى فليس هذا بعيب فى الكتاب ، لأن هذا العلم كان فى بدئه ويعتمد الخلف دائما على السلف كما اعتمد ابن حوقل على الاصطخرى. أما إضافة النساخ (صور الأقاليم) إلى عنوان الكتاب فهى مسألة تجارية يبتغون من وراء شهرة أبى زيد رواج منسوخاتهم لكتاب الاصطخرى ، هذا فضلا عن أن هذا اصطلاح عام لا يميز كتابا عن كتاب مثله مثل اصطلاح (المسالك والممالك) لا يدل وضعه على كتاب أنه مأخوذ منه.

والآن من هو الاصطخرى؟ هو أبو القاسم إبراهيم بن محمد الفارسى ، المشهور بالفارسى فى أيامه ، وبالاصطخرى فيما بعد نسبة إلى بلده ، وهو رجل ـ فيما يبدو ـ لم يكن ذا نباهة فى عصره ، لذلك أغفلت ذكره الكتب التى تؤرخ الرجال ، ومن هنا لا ندرى سنة ولادته ، وإن كانت من المؤكد فى النصف الثانى من القرن الثالث ، ولا ندرى سنة وفاته وإن كنا نعلم أنها فى القرن الرابع ، ذلك لأن ابن حوقل التقى به فى بغداد فى أواخر حياته أى فى سنة ٣٢٥ ه‍ ، كما يتبين ذلك من قوله أنه كان فى بغداد سنة ٣٢٥ ه‍ (ص ٢٤٥ ـ ليدن) ؛ ودراسة كتاب الاصطخرى والأشخاص الذين يشير إليهم يدلان على أن سنة وفاته كانت حوالى منتصف القرن الرابع ، ذلك لأنه يشير إلى أبى المظفر محمد بن لقمان بن نصر بن أحمد بن أسد السامانى ، الذي كان ـ فيما يبدو ـ حاكم سمرقند أيام نوح بن نصر السامانى أو أيام ابنه عبد الملك (توفى سنة ٣٥٠ ه‍) على أحوط احتمال.

والاصطخرى مؤلف ذو منهج يميزه عن غيره ، أما مذهبه فى التأليف فيتبين من قوله على سبيل المثال فى إقليم الجبال : (فأما الرىّ فإنا ضممناها إلى الدليم وإن كانت قائمة بنفسها ، لأن اتصالها بها اتصال واحد وليس بينهما حاجز يستحق به الانفراد عنها فمرة من الجبال ومرة من عمل خراسان) ، ومن قوله أيضا فى ما وراء النهر : (وقد كان فى التقدير أن نصور نصف خوارزم فى صورة خراسان ونصفها فى صورة ما وراء النهر غير أن الغرض فى هذا الكتاب معرفة هذه الأقاليم ومدنها ، فاخترت أن تكون خوارزم مجموعة فى الصورة وجعلتها فى صورة ما وراء النهر فأبلغ بذلك غرضى من غير تكرار فى الصورتين) فأنت ترى أنه مؤلف له خطة مرسومة يسير على نهجها ، يخضع لها ولا يقبل التقسيم الإدارى الذي دعت إليه ظروف غير جغرافية ، تراه يجعل المنطقة وحدة ولا يجزئها إلا إذا جزّأتها الطبيعة ، وهو مؤلف دقيق بالنسبة إلى عصره ، وتتبين ذلك واضحا من قوله على سبيل المثال : (وأما النيل فإن ابتداء مائه لا يعلم وذلك أنه يخرج من مفازة من وراء أرض الزنج لا تسلك حتى ينتهى

٩

إلى حد الزنج) ، فهو يرفض الخرافات التى تجعل النيل ينبع من الجنة ، ويتضح ذلك أيضا فى حديثه عن الديلم (وفى حماقات الأولين أن الضحاك مقيد بها) ، وفى ختام حديثه عن اليمن فى قوله : (ويحكى عن الغيلان بها من الأعجوبة ما لا أستجيز حكايته) ، فمن هذه الأمثلة تراه رجلا يبحث عن الحقيقة وفق ما يهديه إليه عقله ، ويرفض الجرى وراء الخرافات قدر المناهج المتاحة لعصره ، وهو بعد ذلك أمين فى التأليف يذكر المحاسن والمساوئ وإن كانت فى قومه الفرس ، قال فى فصله عن فارس : (وقد انتحل قوم من الفرس ديانات خرجوا بها من المذاهب فدعوا إليها وانتصبوا لها ، لو لا إهمال أمرهم ضرب من العصبية وباب من التحامل فنذكر المحاسن ولا نذكر غيرها).

والقارئ لكتاب الاصطخرى يلاحظ فى وضوح أن منهجه فى التأليف يقوم على أسس ثلاثة ، أولاد المشاهدة والوصف وفق الرؤية ، وتجد ذلك واضحا فى حديثه عن إقليم ما وراء النهر وديار ثمود وغيرهما ، وثانيا تحرى الدقة جهد الطاقة مخالفا غيره تارة ومتفقا تارة أخرى ، وثالثا سماع الأخبار والاقتصاد فى روايتها ، ولقد بيّن ذلك فى مقدمة كتابه قائلا : (فقد يوجد فى الأخبار ولا يتعذر على من أراد تقصّى شىء من ذلك من أهل كل بلد ، ولذلك تجوّزنا فى ذكر المسافات والمدن وسائر ما نذكره) ، وليس معنى هذا أنه استغنى عن النقل ، وإنما معناه أنه تحرى الاقتصاد فى الرواية ، وأثبت ما هو ضرورى ومكمل لكتابه ، مما رآه متفقا ومنهجه فى الصحة والمنطق والتصوير.

ولا يخفى على الباحث أن الرجل أنفق السنين الأخيرة من حياته مؤلفا لهذا الكتاب ، وأنت ترى ذلك واضحا بين ثنايا كتابه ، تراه فى بلاد العرب فى أوائل القرن الرابع ، كما يتبين ذلك من قوله : (وليس بمكة ماء جار إلا شيء بلغنى بعد خروجى عنها أنه أجرى إليها من عين كان عمل فيها بعض الولاة فاستتم فى أيام المقتدر أمير المؤمنين) ، وهذا يشير ـ وفقا لمهجه ـ أنه بدأ فى تأليف كتابه فى أوائل القرن الرابع الهجرى ، وأنه ظل يضيف إليه نتيجة مرحلته فى الأقطار الإسلامية حتى حوالى منتصف القرن الرابع ، كما يدل على ذلك قوله : (فوقعت فتنة بسمرقند فى أيام مقامى بها وأحرق الباب وذهبت الكتابة وأعاد ذلك الباب أبو المظفر محمد بن لقمان بن نصر ابن أحمد بن أسد كما كان من حديد من غير تلك الكتابة.) ، ومن هذا ندرك أن الرجل لم يأخذ فى تأليف الكتاب إلا بعد نضجه واختزان كثير من التجارب وغربلة ما سمع من أخبار ، وأنه ثمرة جهد وعلم كلفاه نصف قرن تقريبا.

ومع ذلك فلا عجب أن يكون لكتاب الاصطخرى أهمية تدعو إلى الاحتفال به ، أهمية تدفع النساخ أن يقوموا بنسخه وتوزيعه ، ولكن عدم شهرة الرجل فى زمانه كانت عاملا يعوق رواجه ، ومن ثمّ ظل محدود

١٠

الشهرة ، لا يحتفل به إلا العارفون لفضله مثل ياقوت الحموى ، الذي ينقل عنه فى كتابه معجم البلدان.

وكتاب الاصطخرى نشر أول ما نشر ـ فى عصرنا الحديث ـ مختصرا فى نسخة بالزنكوغراف ، عن نسخة مخطوطة سنة ٦٩٠ ه‍ ، نقلها الدكتور مولر (Dr.J.H.Moeller) فى سنة ١٨٣٩ م ، ووضع لها مقدمة باللاتينية ، ثم نشره دى جويه المستشرق المشهور من خمس مخطوطات رمز لها A.B.C.D.E. وذلك سنة ١٨٧٠ م ، وظل الكتاب رغم مرور هذا الزمن الطويل ورغم ما فيه من زلات لا يفكر أحد فى إعادة طبعه ، ظل الأمر كذلك حتى نشطت لهذا الأمر إدارة الثقافة العامة.

وهذه النسخة التى أقدمها هى ثمرة المراجعة على مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم ١٩٩ جغرافيا ، وعلى مصورتين لمخطوطتين محفوظتين بدار الكتب المصرية ، إحداهما برقم ٢٥٦ جغرافيا والأخرى نسخت سنة ٨٧٨ ه‍ برقم ٢٥٧ جغرافيا ، ولقد رمزت للأولى بحرف (ا) وللثانية بحرف (ب) وللثالثة بحرف (ج) ، كما رمزت لنسخة دى جويه المنشورة بحرف (م) للتمييز بين المخطوط وبين المطبوع.

والمخطوط ا قد كانت فى حوزة المرحوم على باشا مبارك ، وأهديت لدار الكتب المصرية ، وهى مكتوبة على ورق ثقيل من القطع الكبير وبخط نسخ ، وعلى كل صفحتين متقابلتين مكتوب (وقف الأتابك) وهى ناقصة مع الأسف الشديد ، ونبهت على هذا النقص فى موضعه ، كما أن بها تمزيقا وخروقا وترقيعا ، وناسخها غير معروف وتاريخ نسخها غير معروف أيضا ، ولكنها ليست أحدث من المخطوطة ج بأية حال من الأحوال لتشابه الخط ، ويمتاز ناسخها بخصلة فريدة هى أنه كثيرا ما يجعل للباء أو التاء التى فى أول الكلمة رأسا مستغنيا بها عن النقط ، كما أنه يمتاز بوضع فواصل بعد كل جزء من الحديث كامل ، وهذه المخطوطة ـ بعد ذلك ـ قريبة الشبه بمخطوطة دى جويه المرموز لها بحرف C ، أما المصورتان ب ، ج فتشبهان.A.B من مخطوطات دى جويه ، والملاحظ أن إحدى هاتين المخطوطتين منقولة عن الأخرى ، أو على الأقل كلتاهما مأخوذتان عن نسخة واحدة. والنظرة الفاحصة للمخطوطات جميعا يستدل منها على أنها ترجع إلى أصول ثلاثة ، فالمخطوطة اC ترجعان إلى أصل واحد رغم ما بينهما من اختلاف ، والمخطوطات ب ج B A ترجع إلى أصل واحد ، أماD فهى ترجع إلى أصل ، وهذا الاختلاف هو ثمرة الرغبة فى إرضاء القارئ ، ولقد حاولت جهدى أن أصل إلى نص الاصطخرى مستعينا بالمخطوطات على ضوء كتاب ابن حوقل ، لأنه كما ذكرنا يكاد يكون صورة أخرى لكتاب الاصطخرى.

أما بعد فهذا كتاب الاصطخرى فى صورته الجديدة ، أرجو أن أكون قد أديت واجبى نحوه ، فإن جاء محققا للغرض من إعادة نشره شكرت ربى على التوفيق وإلهام الصواب ، وإن كانت الأخرى فالخير ابتغيت ، والله يهدى من يشاء

القاهرة فى فبراير سنة ١٩٥٨

دكتور محمد جابر الحسينى

١١
١٢

[الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي

وعلى آل محمد وسلّم ، ونسأل الله التوفيق وخاتمة السعادة]

١٣
١٤

أول الكتاب

الحمد لله مبدى النعم وولى الحمد ، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد ، أما بعد فإنى ذكرت فى كتابى هذا أقاليم الأرض على الممالك ، وقصدت منها بلاد الإسلام بتفصيل مدنها ، وتقسيم ما يعود بالأعمال المجموعة إليها ، ولم أقصد الأقاليم السبعة التى عليها قسمة الأرض ، بل جعلت كل قطعة أفردتها مفردة مصوّرة ، تحكى موضع ذلك الإقليم ، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن ، وما فى أضعافه من المدن والبقاع المشهورة والبحار والأنهار ، وما يحتاج إلى معرفته من جوامع ما يشتمل عليه ذلك الإقليم ، من غير أن استقصيت ذلك كراهة الإطالة ، التى تؤدى إلى ملال من قرأه ، ولأن الغرض فى كتابى هذا تصوير هذه الأقاليم ، التى لم يذكرها أحد علمته ؛ أما ذكر مدنها وجبالها وأنهارها وبحارها والمسافات وسائر ما أنا ذاكره فقد يوجد فى الأخبار ، ولا يتعذر على من أراد تقصّى شىء من ذلك من أهل كل بلد ، فلذلك تجوّزنا فى ذكر المسافات والمدن وسائر ما نذكره ، فاتخذت لجميع الأرض التى يشتمل عليها البحر المحيط الذي لا يسلك صورة ، إذا نظر إليها ناظر علم مكان كل إقليم مما ذكرناه ، واتصال بعضه ببعض ، ومقدار كل إقليم من الأرض ، حتى إذا رأى كل إقليم من ذلك مفصّلا علم موقعه من هذه الصورة ، ولم تتسع هذه الصورة التى جمعت سائر الأقاليم لما يستحقه كل إقليم فى صورته ، من مقدار الطول والعرض والاستدارة والتربيع والتثليث ، وسائر ما يكون عليه أشكال تلك الصورة ، فاكتفيت ببيان موقع كل إقليم ليعرف مكانه ، ثم أفردت لكل إقليم من بلاد الإسلام صورة على حدة ، بيّنت فيها شكل ذلك الإقليم وما يقع فيه من المدن ، وسائر ما يحتاج إليه علمه ، مما آتى على ذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى.

ففصّلت بلاد الإسلام عشرين إقليما ، وابتدأت بديار العرب فجعلتها إقليما ، لأن فيها الكعبة ومكة أمّ القرى وهى واسطة هذه الأقاليم ، ثم أتبعت ديار العرب ببحر فارس لأنه يكتنف أكثر ديار العرب ، ثم ذكرت المغرب حتى انتهيت إلى مصر فذكرتها ، ثم ذكرت الشام ثم بحر الروم ثم الجزيرة ثم العراق ثم خوزستان ثم فارس ثم كرمان ثم المنصورة وما يتصل بها من بلاد السند والهند والإسلام ، ثم أذربيجان وما يتصل بها ، ثم كور الجبال ثم الديلم ثم بحر الخزر ثم المفازة التى بين فارس وخراسان ثم سجستان وما يتصل بها ثم خراسان ثم ما وراء النهر. فهذه صورة الأرض عامرها والخراب منها وهى مقسومة على الممالك. وعماد ممالك الأرض أربعة ، فأعمرها وأكثرها خيرا وأحسنها استقامة فى السياسة وتقويم العمارات فيها مملكة إيرانشهر ، وقصبتها إقليم بابل وهى مملكة فارس ، وكان حدّ هذه المملكة فى أيام العجم معلوما ، فلما جاء الإسلام أخذ من كل مملكة بنصيب ،

١٥

فأخذ من مملكة الروم الشام ومصر والمغرب والأندلس ، وأخذ من مملكة الهند ما اتصل بأرض المنصورة والملتان إلى كابل وطرف أعلى طخارستان ، وأخذ من مملكة الصين ما وراء النهر ، وانضاف إليه هذه الممالك العظيمة ، فمملكة الروم تدخل فيها حدود الصقالبة ومن جاورهم من الروس والسّرير واللّان والأرمن ومن دان بالنصرانية ، ومملكة الصين تدخل فيها سائر بلدان الأتراك وبعض التبّت ومن دان بدين أهل الأوثان منهم ، ومملكة الهند تدخل فيها السند وقشمير وطرف من التبّت ومن دان بدينهم ، ولم نذكر بلد السودان فى المغرب والبجة والزنج ومن فى أعراضهم من الأمم ، لأن انتظام الممالك بالديانات والآداب والحكم وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة ، وهؤلاء مهملون لهذه الخصال ، ولا حظّ لهم فى شىء من ذلك فيستحقون به إفراد ممالكهم بما ذكرنا به سائر الممالك ، غير أن بعض السودان المقاربين لهذه الممالك المعروفة يرجعون إلى ديانة ورياضة وحكم ، ويقاربون أهل هذه الممالك مثل النوبة والحبشة ، فإنّهم نصارى يرتسمون بمذاهب الروم ، وقد كانوا قبل الإسلام يتصلون بمملكة الروم على المجاورة ، لأن أرض النوبة متاخمة لأرض مصر والحبشة على بحر القلزم ، وبينها وبين أرض مصر مفازة فيها معدن الذهب ، ويتصلون بمصر والشام من طريق بحر القلزم ، فهذه الممالك المعروفة ، وقد زادت مملكة الإسلام بما اجتمع إليها من أطراف هذه الممالك.

وقسمة الأرض على الجنوب والشمال : فإذا أخذت من المشرق من الخليج الذي يأخذ من البحر المحيط بأرض الصين ، إلى الخليج الذي يأخذ من هذا البحر المحيط من أرض المغرب بأرض الأندلس ، فقد قسمت الأرض قسمين ، وخط هذه القسمة يأخذ من بحر الصين حتى يقطع بلد الهند ووسط مملكة الإسلام ، حتى يمتد إلى أرض مصر إلى المغرب ، فما كان فى حدّ الشمال من هذين القسمين فأهله بيض ، وكلما تباعدوا فى الشمال ازدادوا بياضا ، وهى أقاليم باردة ، وما كان مما يلى الجنوب من هذين القسمين فإنّ أهله سود ، وكلما تباعدوا فى الجنوب ازدادوا سوادا ، وأعدل هذه الأماكن ما كان فى الخط المستقيم وما قاربه ، وسنذكر كل أقليم من ذلك بما يعرف قربه ومكانه من الإقليم الذي يصاقبه. فأما مملكة الإسلام فإنّ شرقيها أرض الهند وبحر فارس ، وغربيّها مملكة الروم وما يتصل بها من الأرمن واللّان والرّان والسرير والخزر والروس وبلغار والصقالبة وطائفة من الترك ، وشماليّها مملكة الصين وما اتصل بها من بلاد الأتراك ، وجنوبيّها بحر فارس ؛ وأما مملكة الروم فإن شرقيّها بلاد الإسلام ، وغربيّها وجنوبيّها البحر المحيط ، وشماليّها حدود عمل الصين ، لأنّا ضممنا ما بين الأتراك وبلد الروم من الصقالبة وسائر الأمم إلى بلد الروم ، وأما مملكة الصين فإنّ شرقيّها وشماليها البحر المحيط ، وأما جنوبيّها فمملكة الإسلام والهند ، وأما غربيّها فهو البحر المحيط ، إن جعلنا يأجوج ومأجوج وما وراءهم إلى البحر من هذه المملكة ، وأما أرض الهند فإن شرقيها بحر فارس ، وغربيّها وجنوبيّها بلاد الإسلام ، وشماليّها مملكة الصين ، فهذه حدود هذه الممالك التى ذكرناها. وأما البحار فإنّ أعظمها بحر فارس وبحر الروم ، وهما خليجان

١٦

متقابلان يأخذان من البحر المحيط ، وأعظمها طولا وعرضا بحر فارس ، والذي ينتهى إليه بحر فارس من الأرض من حدّ الصين إلى القلزم ، فإذا قطعت من القلزم إلى الصين على خط مستقيم كان مقداره مائتى مرحلة ، وذلك أنّك إذا قطعت من القلزم إلى أرض العراق فى البرّية كان نحوا من شهر ، ومن العراق إلى نهر بلخ نحوا من شهرين ، ومن نهر بلخ إلى آخر الإسلام فى حدّ فرغانة نيفا وعشرين مرحلة ، ومن هناك إلى أن تقطع أرض الخزلجيّة كلها فتدخل فى عمل التّغزغز نيف وثلاثون مرحلة ، ومن هذا المكان إلى البحر من آخر عمل الصين نحو من شهرين ؛ فأما من أراد قطع هذه المسافة من القلزم إلى الصين فى البحر طالت المسافة عليه ، لكثرة المعاطف والتواء الطرق فى هذا البحر ، وأما بحر الروم فإنّه يأخذ من البحر المحيط فى الخليج الذي بين المغرب وأرض الأندلس ، حتى ينتهى إلى الثغور الشامية ، ومقداره فى المسافة نحو من سبعة أشهر ، وهو أحسن استقامة واستواء من بحر فارس ، وذلك أنّك إذا أخذت من فم هذا الخليج أدّتك ريح واحدة إلى آخر هذا البحر ، وبين بحر القلزم ـ الذي هو لسان بحر فارس ـ وبين بحر الروم على سمت الفرما أربع مراحل ، غير أن بحر الروم يجاوز الفرما إلى الثغور بنيف وعشرين مرحلة ، وقد فصّلنا فى مسافات المغرب ما يغنى عن إعادته ، فمن مصر إلى أقصى المغرب نحو من مائة وثمانين مرحلة ، فكان ما بين أقصى الأرض من المغرب إلى أقصاها من المشرق نحوا من أربعمائة مرحلة ؛ وأما عرضها من أقصاها فى حدّ الشمال إلى أقصاها فى حدّ الجنوب فإنّك تأخذ من ساحل البحر المحيط حتى تنتهى إلى أرض يأجوج ومأجوج ، ثم تمرّ على ظهر الصقالبة ، وتقطع أرض بلغار الداخلة والصقالبة ، وتمضى فى بلاد الروم إلى الشام حتى تخرج من الشام وأرض مصر والنوبة ، ثم تمتدّ فى برّية بين بلاد السودان وبلاد الزنج حتى تنتهى إلى البحر المحيط ، وهذا خط ما بين جنوبىّ الأرض وشماليّها ؛ فأما الذي أعلمه من مسافة هذا الخط فإنّ من ناحية يأجوج إلى ناحية بلغار وأرض الصقالبة نحوا من أربعين مرحلة ، ومن أرض الصقالبة فى بلد الروم إلى الشام نحوا من ستين مرحلة ، ومن أرض الشام إلى أرض مصر نحوا من ثلاثين مرحلة ، ومنها إلى أقصى النوبة نحوا من ثمانين مرحلة حتى تنتهى إلى هذه البرّية ، فذلك مائتان وعشر مراحل كلها عامرة ؛ وأما ما بين يأجوج ومأجوج والبحر المحيط فى الشمال ، وما بين برارىّ السودان والبحر المحيط فى الجنوب فقفر خراب ، ما بلغنا أنّ فيه عمارة ، ولا أدرى مسافة هاتين البرّيتين إلى شط البحر المحيط كم هى ، وذلك أن سلوكهما غير ممكن لفرط البرد الذي يمنع من العمارة والحياة فى الشمال ، وفرط الحرّ المانع من الحياة والعمارة فى الجنوب ؛ وأما ما بين الصين والمغرب فمعمور كلّه ، والأرض كلها مستديرة والبحر المحيط محتفّ بها كالطوق ، ويأخذ بحر الروم وبحر فارس من هذا البحر ؛ فأما بحر الخزر فليس يأخذ من هذا الخليج وإنما هو بحر لو أخذ السائر على ساحله من الخزر على أرض الدّيلم وطبرستان وجرجان والمفازة على سياه كوه لرجع إلى مكانه الذي سار منه ، من غير أن يمنعه مانع إلا نهر يقع فيه ، وأما بحيرة خوارزم فكذلك. وفى أعراض بلاد الزنج ومن وراء أرض

(٣) المسالك والممالك

١٧

الروم خلجان وبحار ، لم نذكرها لقصورها عن هذه البحار وكثرتها ، ويأخذ من البحر المحيط خليج حتى ينتهى فى ظهر بلد الصقالبة ، ويقطع أرض الروم على القسطنطينية حتى يقع فى بحر الروم ، وأرض الروم حدّها من البحر المحيط على بلاد الجلالقة وافرنجة ورومية وأثيناس إلى القسطنطينية ، ثم إلى أرض الصقالبة ، ويشبه أن يكون نحوا من مائتين وسبعين مرحلة ، وذاك أن من حدّ الثغور فى الشمال إلى أرض الصقالبة نحوا من شهرين. وقد بيّنا أن من الثغور إلى أقصى المغرب مائتين وعشر مراحل ، والروم المحض من حد رومية إلى حدّ الصقالبة ، فأما ما ضممنا إلى بلد الروم من الافرنجة والجلالقة وغيرهم فإن لسانهم مختلف ، غير أن الدين والملك (١) واحد ، كما أن فى مملكة الإسلام ألسنة مختلفة والملك واحد ؛ وأما مملكة الصين فإنّها نحو من أربعة أشهر فى ثلاثة أشهر ، فإذا أخذت من فم الخليج حتى تنتهى إلى دار الإسلام مما وراء النهر فهو نحو من ثلاثة أشهر ، وإذا أخذت من حدّ المشرق حتى تقطع إلى حدّ المغرب فى أرض التبت ، وتمرّ فى أرض التغزغز وخرخيز وعلى ظهر كيماك إلى البحر فهو نحو من أربعة أشهر. ولمملكة الصين ألسنة مختلفة ، فأمّا الأتراك كلها من التغزغز وخرخيز وكيماك والغزيّة والخزلجيّة فألسنتهم واحدة ، يفهم بعضهم عن بعض ، فأما أرض الصين والتبّت فلهم لسان مخالف لهذه الألسنة ، والمملكة كلها منسوبة إلى صاحب الصين المقيم بخمدان ، كما أن مملكة الروم منسوبة إلى الملك المقيم بالقسطنطينية ، ومملكة الإسلام منسوبة إلى أمير المؤمنين ببغداد ، ومملكة الهند منسوبة إلى الملك المقيم بقنّوج. وديار الأتراك متميزة ، فأمّا الغزيّة فإنّ حدود ديارهم ما بين الخزر وكيماك وأرض الخزلجية وبلغار ، وحدود دار الإسلام ما بين جرجان إلى فاراب وأسبيجاب ، وأما ديار الكيماكيّة فإنهم من وراء الخزلجية من ناحية الشمال ، وهم فيما بين الغزية وخرخيز وظهر الصقالبة ، ويأجوج هم فى ناحية الشمال ، إذا قطعت ما بين الصقالبة والكيماكية ، والله أعلم بمكانهم وسائر بلادهم ؛ وأما خرخيز فإنّهم ما بين التغزغز وكيماك والبحر المحيط وأرض الخزلجية ؛ وأما التغزغز فإنهم ما بين التبّت وأرض الخزلجية وخرخيز ومملكة الصين ؛ وأما الصين فإنّهم ما بين البحر والتغزغز والتبّت ، والصين نفسه هو هذا الإقليم ، وإنما نسبنا سائر بلاد الأتراك إليها في المملكة ، كما نسبنا سائر مملكة الروم إلى أرض رومية والقسطنطينية ، وكما نسبنا سائر ممالك الإسلام إلى إيرانشهر ـ وهو أرض بابل. وأرض الصقالبة عريضة طويلة نحو من شهرين فى مثلها ، وبلغار الخارجة هى مدينة صغيرة ليس فيها أعمال كثيرة ، واشتهارها لأنها فرضة لهذه الممالك ، والروس قوم بناحية بلغار فيما بينها وبين الصقالبة ، وقد انقطعت طائفة من الأتراك عن بلادهم ، فصاروا فيما بين الخزر والروم يقال لهم البجناكيّة ، وليس موضعهم بدار لهم على قديم الأيام ، وإنما انتابوها فغلبوا عليها ؛ وأما الخزر فإنّه اسم لهذا الجنس من الناس ، وأما البلد فإنه مصر يسمى إتل ، وإنما سمى باسم النهر الذي يجرى عليه

__________________

(١) فى م : المملكة.

١٨

إلى بحر الخزر ، وليس لهذا المصر كثير رساتيق ولا سعة ملك ، وهو بلد بين بحر الخزر والسرير والروس والغزيّة ؛ وأما التبّت فإنها بين أرض الصين والهند وأرض الخزلجيّة والتغزغز وبحر فارس وبعضها فى مملكة الهند ، وبعضها فى مملكة الصين ، ولهم ملك قائم بنفسه ، يقال إن أصله من التبابعة والله أعلم. وأما جنوبى الأرض من بلاد السودان فإن بلد السودان الذي فى أقصى المغرب على البحر المحيط بلد مكنّف ، ليس بينه وبين شىء من الممالك اتصال ، غير أن حدا له ينتهى إلى البحر المحيط ، وحدا له إلى برّية بينه وبين أرض المغرب ، وحدا له إلى برية بينه وبين أرض مصر على ظهر الواحات ، وحدا له ينتهى إلى أن البرّية التى قلنا إنّه لا يثبت فيها عمارة لشدة الحر ؛ وبلغنى أن طول أرضهم نحو من سبعمائة فرسخ فى نحوها ، غير أنها من البحر إلى ظهر الواحات أطول من عرضها ؛ وأما أرض النوبة فإنّ حدا لها ينتهى إلى أرض مصر ، وحدا لها إلى هذه البريّة التى بين أرض السودان ومصر ، وحدا لها إلى أرض البجة ، وبرارى بينها وبين القلزم ، وحدا لها إلى هذه البريّة التى لا تسلك ؛ وأما أرض البجة فإن ديارهم صغيرة ، وهى ما بين الحبشة والنوبة ، وهذه البرية التى لا تسلك ؛ وأما الحبشة فإنها على بحر القلزم ، وهو بحر فارس ، فينتهى حدّ لها إلى بلاد الزنج ، وحدّ لها إلى البرية التى بين النوبة وبحر القلزم ، وحدّ لها إلى البجة والبرية التى لا تسلك ؛ وأما أرض الزنج فإنّها أطول من أرض السودان ، ولا تتصل بمملكة غير الحبشة ، وهى بحذاء اليمن وفارس وكرمان إلى أن تحاذى أرض الهند ؛ وأما أرض الهند فإنّ طولها من عمل مكران فى أرض المنصورة والبدهة وسائر بلد السند إلى أن تنتهى إلى قنّوج ، ثم تجوزه إلى أرض التبّت نحو من أربعة أشهر ، وعرضها من بحر فارس على أرض قنوج نحو ثلاثة أشهر ؛ وأما مملكة الإسلام فإنّ طولها من حدّ فرغانة حتى تقطع خراسان والجبال والعراق وديار العرب إلى سواحل اليمن نحو من خمسة أشهر ، وعرضها من بلد الروم حتى تقطع الشام والجزيرة والعراق وفارس وكرمان إلى أرض المنصورة على شط بحر فارس نحو من أربعة أشهر ، وإنما تركنا أن نذكر فى طول الإسلام حدّ المغرب إلى الأندلس ، لأنها مثل الكم فى الثوب ، وليس فى شرقى المغرب ولا فى غربيها إسلام ، لأنّك إذا جاوزت مصر فى أرض المغرب كان جنوبىّ المغرب بلاد السودان ، وشمالىّ المغرب بحر الروم ثم أرض الروم ، ولو صلح أن يجعل طول الإسلام من فرغانة إلى أرض الأندلس لكان مسيرة ثلاثمائة وعشر مراحل لأن من أقصى فرغانة إلى وادى بلخ نيّفا وعشرين مرحلة ، ومن وادى بلخ إلى العراق نحوا من ستين مرحلة ، ومن العراق إلى مصر نحوا من خمسين مرحلة ، وقد بيّنا فى مسافات المغرب أن من مصر إلى أقصاه مائة وثمانين مرحلة ، وقصدت فى كتابى هذا تفصيل بلاد الإسلام إقليما إقليما حتى يعرف موقع كل إقليم من مكانه ، وما يجاوره من سائر الأقاليم ، ولم تتسع هذه الصورة التى جمعت سائر الأقاليم لما يستحقه كل إقليم فى صورته ، من مقدار الطول والعرض والاستدارة والتربيع والتثليث وما يكون عليه أشكالها ، غير أنّا بيّنا لكل إقليم مكانا يعرف به موضعه ، وما يجاوره من سائر الأقاليم ، ثم أفردنا لكل إقليم منها صورة على حدة ، فبيّنا فيها شكل ذلك الإقليم ، وما يقع فيه من المدن ، وسائر ما يحتاج إلى علمه ، مما نأتى على ذكره فى موضعه إن شاء الله.

١٩

ديار العرب

وابتدأت بديار العرب لأن القبلة بها ومكة فيها وهى أم القرى ، وبلد العرب وأوطانهم التى لم يشركهم فى سكناها غيرهم ، والذي يحيط بها بحر فارس من عبّادان ، وهو مصب ماء دجلة فى البحر ، فيمتد على البحرين حتى ينتهى إلى عمان ، ثم يعطف على سواحل مهرة وحضرموت وعدن ، حتى ينتهى على سواحل اليمن إلى جدّة ثم يمتد على الجار ومدين حتى ينتهى إلى أيلة ، وثمّ قد انتهى حينئذ حدّ ديار العرب من هذا البحر ، وهذا للكان من البحر لسان يعرف ببحر القلزم ، ينتهى إلى تاران وجبيلات (١) إلى القلزم فينقطع ، فهذا هو شرقى ديار العرب وجنوبيّها وشىء من غربيها ، ثم يمتد عليها من أيلة إلى مدينة قوم لوط والبحيرة الميّتة التى تعرف ببحيرة زغر ، إلى الشراة والبلقاء وهى من عمل فلسطين ، وأذرعات وحوران والبثنيّة والغوطة ونواحى بعلبك وذلك من عمل دمشق وتدمر وسلمية وهما من عمل حمص ، ثم الخناصرة وبالس وهما من عمل قنّسرين ، وقد انتهينا إلى الفرات ، ثم يمتد الفرات على ديار العرب حتى ينتهى إلى الرّقة وقرقيسيا والرّحبة والدّالية وعانة والحديثة وهيت والأنبار إلى الكوفة ومستفرغ مياه الفرات إلى البطائح ، ثم تمتد ديار العرب على نواحى الكوفة والحيرة على الخورنق وعلى سواد الكوفة إلى حد واسط ، فتصاقب ما قارب دجلة عند واسط مقدار مرحلة ، ثم تمتد على سواد البصرة وبطائحها حتى تنتهى إلى عبّادان ، فهذا الذي يحيط بديار العرب ، فما كان من عبّادان إلى أيلة فإنه بحر فارس (٢) ، ويشتمل على نحو ثلاثة أرباع ديار العرب ، وهو الحد الشرقى والجنوبى وبعض الغربى ، وما بقى من الحد الغربى من أيلة إلى بالس فمن الشام ، وما كان من بالس إلى عبّادان فهو الحد الشمالى ، فمن بالس إلى أن تجاوز الأنبار من حدّ الجزيرة ، ومن الأنبار إلى عبّادان من حد العراق ، ويتصل بأرض العرب بناحية أيلة برّية تعرف بتيه بنى اسرائيل ، وهى بريّة وإن كانت متصلة بديار العرب فليست من ديارهم ، وإنما هى برية بين أرض العمالقة واليونانيّة وأرض القبط ، وليس للعرب بها ماء ولا مرعى ، فلذلك لم ندخلها فى ديارهم ، وقد سكن طوائف من العرب من ربيعة ومضر الجزيرة حتى صارت لهم ديارا ومراعى ، فلم نذكر الجزيرة فى ديار العرب ، لأن نزولهم بها ـ وهى ديار فارس والروم ـ فى اضعاف قرى معمورة ومدن لها أعمال عريضة ، فنزلوا على حكم (٣) فارس والروم ، حتى إن بعضهم تنصّر ودان بدين الروم مثل تغلب من ربيعة بأرض الجزيرة ، وغسّان وبهراء وتنوخ من اليمن بأرض الشام.

__________________

(١) عند ابن حوقل (ديار العرب) جبيلان وفى صفة جزيرة العرب الهمدانى ص ١٢٧ (ط. القاهرة ١٩٥٣) جبلات.

(٢) على اعتبار أن بحر القلزم (البحر الأحمر) امتداد لبحر فارس حول ديار العرب ، وسيتحدث المؤلف بعد ذلك فى باب مستقل عن بحر فارس ويسمى المياه باسمائها.

(٣) فى م خفارة والتصحيح عن المخطوطتين ب ، ج والمخطوطة التى رمز إليها دى جوية بحرف A.

٢٠