إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

على حربهم مع القيعطيّ ويافع مناصفة ، وعلى أن يبقى الحكم في شبام لمنصور بن عمر ، وعلى أن يدفع له من جباية ناصفته الباقية كلّ يوم سبعة ريال ، وبقي الأمر بينهم على وفق ، ولم يسلّموا له ما بقي من ثمن النّاصفة حتّى سفر بينهم النّاس ، ففسحوا له الصّفقة ، وردّوا له خطّ البيع ، وبقيت المنازعات بينه وبين آل كثير على أشدّ ما يكون من قيامها على السّاق والقدم ، ومثلها كان بينه وبين يافع .. فهو كما قال حبيب [في «ديوانه» ٢ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧ من الكامل] :

ما كفّ عن حرب الزّمان ورميه

بالصّبر إلّا أنّه لم ينصر

ما إن يزال بجدّ حزم مقبل

متوطّئا أعقاب ملك مدبر

حتّى ضاقت نفسه ، فباع ناصفة شبام الغربيّة للسّلطان القعيطيّ بعد أن حذّره الحبيب عمر بن محمّد وقال له : إنّ في هذا هلاكك ، قال له : لقد ضاق النّاس ، وواحد ولا جماعة.

وبقي هو وعوض القعيطيّ على المصافاة في العلانية والمكايدة في السّرّ ، ولكن .. ما كل مرّة تسلم الجرّة ، وفي الأثر : «بشّر القاتلين بالقتل». فدعوه في (٣) شعبان من سنة (١٢٧٤ ه‍) ـ وهي سنة الشّراء بنفسها ـ للمشاورة في أمر فضحّوا به وتغدّوه قبل أن يتعشّاهم ، وتمّ ملك شبام للقعيطيّ من ذلك اليوم إلى الآن ، والله وارث الأرض ومن عليها (١).

وأزياء آل شبام شبيهة بأزياء آل صنعاء ، إلّا في تطويل أكمام القمصان ، غير أنّ المتأخّرين من آل شبام غيّروا تلك الأزياء سيرا مع الظّروف.

وبيوت شبام كذلك على شبه بديار صنعاء ؛ فهي متضايقة ، ومنازلها وأزقّتها

__________________

(١) ولا زال أهل شبام يتناقلون أخبار المناصفة وكيف كانت الأحوال آنذاك في شبام ، من انتشار العساكر والجنود في الأزقة ، مع أن القعيطي بنى لجنوده مراكز عند كل مدخل. ويذكرون أن إحدى نساء شبام رأت جنديا يسير في الشوارع فخافت أن يداهم منزلها ، فلما قارب سدة بيتها .. أرسلت عليه حجر الرحى فرضّت رأسه فمات لتوه ، فلم يعد الجنود يسيرون بين البيوت ، بل اكتفوا بأماكنهم في الأطراف والأركان.

٥٤١

ضيّقة ، وجوّها ليس بالنّقيّ ؛ لكثرة مياه المراحيض (١) ، مع أنّ الشّمس لا تتخلّلها لطول ديارها ، فلا تقصر ما بها من الجراثيم.

وقد بلغني أنّ المتوفّاة بالسّلّ من نسائها كثير ، ومن كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط عن الحبيب جعفر بن أحمد الحبشيّ : أنّ جوّ شبام كان طيّبا يشبه جوّ قارّة الصّناهجة ، وإنّما عرض لها الوخم من البواليع ومجاري القاذورات.

وكان لهم تشدّد بليغ في الحجاب ، حتّى إنّ أكثرهنّ لا تخرج إلّا جنازتها من سدة البلاد.

وقد اتّفق أن دخلت ساعة من نهار دار الشّيخ أحمد كويران ، فحدث لي اتّعاظ عظيم ، واقشعرّ جلدي ، وترطّب خدّي ، وذكرت ضيق القبور ، نسأل الله العافية والسّلامة.

وكانت بنت الشّيخ أحمد كويران هذا تحت الشّيخ جمعان بشير ، وقد ابتنى له ولعمّه دارا في جنوبنا ، حيث الفضاء الرّحب والهواء الطلق ، والنّسيم النّقيّ ، ومع ذلك فلا يبعد أن تحنّ إلى دار أبيها ، ومسقط رأسها ؛ فقد قال الأوّل [من الطّويل] :

وقد تعشق الأرض الّتي لا هوى بها

ولا ماؤها عذب ولكنّها الوطن

وكنت حريصا على سؤال الشّيخ جمعان عن ذلك ، ولكنّه كلّما جاءني في الأعياد .. نسيت.

أمّا ديار شبام الّتي تشرف على الفضاء من أطرافها .. فمن أجمل ما يكون ؛ لأنّ المناظر الّتي حواليها جميلة ، والفضاء واسع ، ولا سيّما في أيّام الخصب ، وأثاث الزّروع ، وانتعاش النّخيل ، إلّا أنّ الفضاء يقلّ في الجهة الجنوبيّة (٢) لقرب الجبل ، وأمّا في الثّلاث .. فإلى أبعد من مدّ النّظر.

__________________

(١) كان ذلك في السابق ، أما بعد زمن المؤلف .. فقد أدخلت المواسير والأنابيب ولم تعد المجاري مكشوفة.

(٢) وهي المشرفة على جبل الخبّة والسحيل والبطحاء.

٥٤٢

وقد رأيت في صحيفة تسمى «المستمع» ـ تصدر من عاصمة الجزائر البريطانيّة ـ رسما شائقا ل (شبام) ، كتب تحته : ناطحات السّحاب بحضرموت!

ولا بدع ؛ فقد عرف ملوك حضرموت من الأمم العاربة كيف يبنون نواطح السّحاب قبل أن يسمع النّاس باسم أمريكا بألوف السّنين ، وإنّما سمع اسمها في الأخير ، وأوّل من ذكرها الصّوفيّ الكبير ابن عربيّ ، كما ذكرها بيرم في «تاريخه» ، ولكنّ الإفرنج يريدون أن يستأثروا باكتشافها دونه ؛ غمطا للحقّ ومعاذ الله ، أن يتلثّم.

نعام

هو واد في شمال شبام ، يفصل بينهما جبل ، تكون قارّة آل عبد العزيز في سفحه الشّرقيّ الجنوبيّ يذهب ذلك الوادي طولا من الشّرق إلى الغرب ، والجبال الّتي تنهر إليه متّصلة بالجبال الّتي تدفع إلى وادي سر ويبهوض ، بينه وبين جعيمه جبيل يسايرها غربا إلى مفتك الدّائرة ، وفي نعام قرى صغيرة ، وهو ممتدّ من الشّرق إلى الغرب ، وأوّل تلك القرى من الشّرق : بامشجع ، لآل ابن سبعين.

ثمّ : المحجر ، وهو الآن لآل مرعيّ ، طائفة من السّاكنين في بلّيل.

وفيه أطلال قديمة ، ترجّح أنّه محجر الزّرقان الّذي فتك فيه المهاجر بن أبي أميّة المخزوميّ وزياد بن لبيد بكندة.

وقد اقتصر «التّاج» و «أصله» على قولهما : (ومحجر الزّرقان موضع بحضرموت ، أوقع فيه المهاجر بن أبي أميّة بن المغيرة بأهل الرّدّة).

وزاد ياقوت [٣ / ١٣٧] على هذا قول المهاجر [من المنسرح] :

كنّا بزرقان إذ يشرّدكم

بحر يزجّي موجه الحطبا

نحن قتلناكم بمحجركم

حتّى ركبتم من خوفنا السّببا

إلى حصار يكون أهونه

سبي الذّراري وسوقها جنبا

٥٤٣

وفي «الأصل» : أنّ كندة انهزمت من واقعة محجر الزّرقان ، ثمّ انحازت إلى النّجير ؛ فإمّا أن يكون في الجهة الغربيّة حصن يقال له : النّجير.

وإمّا أن تكون كندة ذهبت بالهزيمة عريضة ، وهذا هو الأقرب. أمّا محجر الزّرقان .. فما إخاله إلّا هذا. ثمّ : صهيبة ، للصقعان من آل عبد العزيز. ثمّ : مريخ ، لآل عبد العزيز أيضا. ثمّ : الحرية ، لهم وللمسامير. ثم : شرج نعام.

جعيمه

هي واديان ، يقال لأحدهما : الخطّ ، وللثّاني : الدّائرة.

فوادي الدّائرة يذهب إلى الغرب طولا إلى جبال وادي سر ، وشمالا إلى نجد آل كثير.

والخطّ يذهب إلى جهة الشّرق حتّى ينتهي إلى الجبال الّتي تنهر إلى وادي الذّهب.

وفي جعيمه قرى كثيرة ، غير أنّها صغيرة جدّا ، أوّلها من الجهة الغربيّة :

الشّاغي ، لآل بدر بن عبد الله ، وآل الشّرعيّ من آل سعيد. ثمّ : العقيقه ، لآل عوض بن عليّ من آل عبود بن عمر آل عبدات. ثمّ : هشيمه ، لآل سعيد ، ويقال : إنّ مرجع آل سعيد في النّسب إلى سعيد بن عليّ بن عمر ، واسم جدّهم : بدر بن سعيد ، وله أخوان ، وهما : مرعيّ جدّ آل بلّيل ، وجعفر جدّ الدّحادحة. ولسعيد بن عليّ أخوان ، وهما : يمانيّ جدّ آل يمانيّ ، وفلهوم جدّ آل فلهوم ، هكذا يقال.

ولآل سعيد شهرة بالفطنة ، ومن حكّامهم عبود بن بدر بن سلامة بن سعيد ، بلغ من ذكائه أنّ رجلا من آل شبام أكل تمرا هو وامرأته ، ثمّ قال لها : إن لم تميّزي نواي من نواك .. فأنت طالق ثلاثا ، فأعيت على كثير من العلماء ، فسئل عنها ، فقال : تجعل كلّ نواة وحدها ، وتنحلّ اليمين.

وهذه الفتوى هي عين ما يقوله الفقهاء في المسألة ، قال في «المنهاج» [٢ / ٥٦٢ ـ ٥٦٣] : (ولو أكلا تمرا وخلطا نواهما ، فقال : إن لم تميّزي نواك .. فأنت

٥٤٤

طالق ، فجعلت كلّ نواة وحدها .. لم يقع) اه وذكر شرّاحه تفصيلا لا حاجة بنا إليه.

ومن آل سعيد : الشّيخ امبارك بن جعفر بن عمر بن عامر بن بدر بن سعيد بن عليّ بن عمر ، أبيض القلب ، مستوي السّرّ والعلانية.

ومنهم صالح بن محمّد بن بدر ، رجل له فكر ثاقب ، ورأي صائب ، توفّي ببتاوي ، ويأتي في حصن الحوارث ذكر محمّد بن عليّ بن عبود ، ولا يزال في آل سعيد بقيّة صالحة.

وهناك هشيمة أخرى لآل باوزير المشايخ ، ومنصبهم : الشّيخ كرامة بن سعيد.

ثمّ : الخندق ، لآل سعيد والخبارين. ثمّ : توخّري ، مساكن لآل زيمة. ثمّ : لصف ، لآل منيباري. ثمّ : مكان آل حصن.

ثمّ : مطارح ، لآل جعفر بن بدر العوينيّين ، ومقدّمهم : بقيّة العرب الصّميم ، محمّد بن سالمين.

ثمّ : جحورب ، لآل عامر بن محمّد من آل سعيد. ثمّ : الحوطة ، لآل باوزير ، ومنصبهم : الشّيخ سعيد بن عليّ باوزير. ثمّ : الجحي ، لآل جعفر بن بدر وآل سعيد بن عبد الله الوزيريّين ، من أواخرهم : الشّيخ عليّ بن سعيد باوزير ، المتوفّى سنة (١٣٢٤ ه‍) ، كان رجلا صالحا ، سليم الصّدر ، مجاب الدّعوة ، وله نوادر ؛ منها : أنّه كان راكبا مرجعه من عند الصّيعر ، ومعه ولده صالح ، ورجل من آل جوفان يشتكي من ألم العروق ، فقال يخاطب صالح بن عليّ :

يا شيخ صالح ؛ عسى عندك دوا للعروق؟ فأجابه الشّيخ عليّ بقوله : يخرجن منّك ويلحقن الولد لي يسوق ـ لولد يسوق معهم الأغنام الّتي أهديت لهم ـ فمنّ الله على ابن جوفان بالعافية ، وأصيب ذلك الولد بالعروق في الحال.

وكان مرة بدار أحد آل فحيثا ، فقال : (الحمد لله ، يا ساتر على كلّ حال) ، فصادف خروج السّيّد حسن بن عبد الله الحدّاد خارجا من بيت الخلا ، فقال :

٥٤٥

(لا صدت نجوه ولا حصّلت ماء في الجحال (١)). فقال الشّيخ عليّ : (اللّوم والله عليهن ما نلوم الرّجال).

ثمّ : رضيمة ، لآل عليّ بن سعيد. ثمّ : شرج مدرك ، لآل جعفر بن بدر العوينيّين. ثمّ : حصن الرّكيّة ، للشّيخ محمّد بن سالمين السّابق ذكره. ثمّ : القطّار ، لآل زيمة. ثمّ : شرج آل القحوم.

ثمّ : العرقوب ، لآل عبود بن عمر آل عبدات. ثمّ : الجدفره ، فيها المسامير وآل الشّرعيّ. ثمّ : الختّ ، مكان آل دحدوح. ثمّ : بالسان ، مكان عوض بن سالم من آل عليّ آل سعيد. ثمّ : روضة آل مهري ، وروضة آل باهديله. ثمّ : صنعنون ، وباخبره ، والسّحيل : مكان آل سعيد.

سحيل آل مهري (٢)

هو واقع في جنوب شبام ، بسفح جبل الخبّة.

وفي أوّل سنة (١٢٨٢ ه‍) اتّفق رأي السّلطان غالب بن محسن وآل كثير على غزو شبام ، وجعلوا سحيل آل مهري مخزن التّموين ، وبعقب ذلك .. اشتعل الحرب ، وبقيت سجالا ، إلّا أنّ جانب القعيطيّ يقوى ، فانعقد الصّلح في القعدة من نفس السّنة ، وسلّم المعيقاب (٣) وحصون آل مهري للقعيطيّ على عشرة آلاف ريال ،

__________________

(١) الجحال ـ مفرده جحلة ـ : زير الماء.

(٢) آل مهري ، أو بن مهري : أسرة تنحدر من سلالة عيسى بن بدر بوطويرق ، من آل كثير. ديارهم بوادي سرّ قرب شبام إلى الجنوب. وإليهم ينسب هذا السحيل الواقع في سفح جبل الخبّة. «المقحفي» (٢ / ١٦٧٦).

(٣) المعيقاب : اسم حصن كان يقع قريبا من الحزم ، وكان يمثل الحدّ بين سلطنتي آل كثير والقعيطي ، وبه جماعة من السادة آل العيدروس من ذرية السيد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن الشيخ الحسين بن عبد الله العيدروس ، ومن ذرية أخيه حسين بن علي ؛ منهم الحبيب العلامة الفقيه حسن بن عبد الله بن حسين العيدروس ؛ المتوفى بمكة سنة (١٢٩٨ ه‍) ، ومنهم حفيده السيد حامد بن محمد بن حسن العيدروس أحد أصدقاء المؤلف ، ذكره في «بضائع التابوت». وبالمعيقاب أيضا آل العيدروس ،

٥٤٦

تسلّمها السّلطان غالب ، وتكدّر لذلك رؤساء آل كثير. وكانت هذه العشرة الآلاف نفقة الجيش الّذي فتح الشّحر في جمادى الأولى من سنة (١٢٨٣ ه‍).

وفي (٢٨) القعدة من السّنة المذكورة كان انهزام السّلطان غالب من الشّحر ، واستيلاء القعيطيّ عليها ، حسبما تقدّم في أخبارها.

الحزم

هو قرية بسفح جبل الخبّة الشّرقيّ الشّماليّ ، وأصلها : أنّ الشّيخ عون بن سعيد من آل روّاس بنى مسجدا في جانبه الشّرقيّ الجنوبيّ ، وبنى عنده سقاية وسقيفة إلى جانبه ؛ ليقيل فيها من ينحدر من شبام بعد قضاء حاجته ؛ لأنّ أهل تلك الأطراف يمتارون من شبام ، وأهلها لا يعرفون قراء الضّيف ، فلا يجد هؤلاء من يفتح لهم بها داره.

وكان أوّل من سكن الحزم وبنى به دارا هو : الحبيب أحمد بن عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الرّحمن بن محمّد بن أحمد بن حسين بن عبد الله العيدروس ، وكان ذلك في سنة (١١٢٧ ه‍) وبقي ـ مع إيثاره الخمول ـ يدعو إلى الله ، ويرشد الحائر ، ويعلّم الجاهل ، ثمّ ظهر ولده عمر بمظاهر المناصب فنسب إليه الحزم ، وقيل : حزم عمر بن أحمد (١).

ومن ذرّيّته : شيخنا الفاضل الجليل عيدروس بن حسين (٢) ، وصفه شيخنا

__________________

يقال لهم : آل شريم ، جدهم السيد محمد بن حسين بن علي بن محمد .. إلخ ، وقد انتشروا في شبام ودوعن وجاوة ومليبار بالهند.

ومن ذرية أخيه السيد أبي بكر بن حسين ، وقد انقرضوا من حضرموت ، وكان منهم السيد عباس بن عبد الله العيدروس بجاوة ، ذكرهم السيد المشهور في «الشمس» (١ / ١١٦).

(١) توفي الحبيب عمر بالحزم سنة (١١٩٩ ه‍) ، ودفن بشبام.

(٢) الحبيب المعمر عيدروس بن حسين بن أحمد بن عمر بن أحمد العيدروس ، ولد بالحزم سنة (١٢٤٤ ه‍) ، وتوفي سنة (١٣٤٦ ه‍) بالهند ، طلب العلم على والده وعمه وعلى علماء شبام ودوعن ، كان من كبار أهل عصره ، صاحب جاه وحشمة. ينظر «صلة الأخيار».

٥٤٧

المشهور في «شمس الظّهيرة» بالشّرف والفضل والصّدارة ، وهو من أعظم المناصب شأنا ، وأثبتهم جنانا ، وأبعدهم مسافة غور عقل ، وكانت له هيئة وهيبة تملآن الصّدور ، وتستلفتان الأنظار ، وكان عالي الهمّة ، أبيّ النّفس ، حميّ الأنف ، يتحمّل الكلف الكثيرة في الإصلاح ، حتّى لزمته بذلك ديون كثيرة ، سافر من أجلها إلى الهند ، واتّصل به كثير من المريدين ، فبقي يتردّد إليها.

وفي إحدى قدماته إلى حضرموت وصل بأنابيب الحديد والآلات الارتوازيّة ، وشرع في حفر بئر لذلك ، تكبّد فيها الخسائر الباهظة ، وانتهى الأمر فيها إلى الفشل.

وقد ورد سيئون في سنة (١٣٢٦ ه‍) لزيارة جدّه المهاجر أحمد بن عيسى فنزل عندي ، وأقام يومين لم يزر فيها شريفا ولا مشروفا ، كنت فيها أنا وأولاده نجري الخيول من العشيّ وهو يتفرّج.

وبعقب ذلك أبحر إلى الهند ، ولم يزل ناشر الدّعوة فيها إلى أن توفّي سنة (١٣٤٦ ه‍) ، وله أولاد منهم : حسين ، ومحمّد ، وأحمد ، وأبو بكر ، وزين.

ومن ذرّيّة السّيّد عمر بن أحمد : الفاضل الفقيه السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ العيدروس ، له نكات ونوادر ، وتعلّق بسيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس ، توفّي بالحزم سنة (١٣٤٧ ه‍) (١).

الدّحقه

هي في جنوب الحزم ، وفيها آل سند ، كان منهم الشّيخ محمّد عامر بن سند ، حرّ كريم ، وعربيّ صميم.

فتى يتّقي أن يخدش الذّمّ عرضه

ولا يتّقي حدّ السّيوف البواتر

__________________

(١) ولد بالحزم في (٢) رجب سنة (١٢٧٩ ه‍) ، وشيخ تخرجه هو الحبيب عيدروس بن حسين السابق الذكر ، والحبيب عيدروس بن عمر الحبشي ، وكان يقيم بالغرفة مددا متطاولة للأخذ عنه ، كما طلب العلم بشبام. ترجم له في «تاريخ الشعراء» (٥ / ٧١ ـ ٧٩) ، وكانت وفاته (٥) شوال من السنة المذكورة.

٥٤٨

ولكنّه بإصراره على مبدئه الكثيريّ لم يجن إلّا خيبة الأمل ؛ إذ ترفّع عن مواساة القعيطيّ ، ولم يظفر بشيء من الكثيريّ ، حتى إنّ خلفه جاء مرّة وافدا من الدّحقه فلم يجد من يسقيه الماء بسيئون ، فعاد أدراجه ينفض مذرويه من ساعته.

ومرجع آل سند في النّسب إلى بني أميّة ، ولكنّه دخل في عداد الفخائذ آل كثير.

وجرت بينهم وبين آل مرعيّ بن طالب حروب لم يزلّ فيها نعلهم ، ولم يمل ركنهم.

السّليل أو السّرير (١)

لكلّ منهما ذكر لا يهمّنا عند ياقوت ، ونقل البكريّ عن ابن إسحاق أنّ واديي خيبر : خلص والسّرير.

والّذي نحن بسبيله على اسم موضع باليمن ، لا أذكر محلّه الآن من «الأصل». وقال ابن خلدون : (السّرير آخر أعمال تهامة من اليمن ، وهي على البحر دون سور ، وبيوتها أخصاص) اه

و (السّليل) أو (السّرير) : فضاء واسع ، في غربيّه شبام ، والجبل الّذي يكون الحزم بسفحه ، فالدّحقه داخلة فيه ، ويمتدّ إلى أسفل حضرموت ، ثمّ إلى سيحوت وبلاد المهرة.

وفي شماله الجبل النّجديّ الّذي أوّله : فرط قبوسه ، وحدّه من الجنوب الطّريق السّلطانيّة.

ومن ورائها : وادي بن علي ، وأوّله فيما يلي الطّريق الّتي إلى جنوبها : حوطة آل أحمد بن زين ، فليست من السّليل ، ولكنّها قاعدة بلاد بني سعد من وادي بن عليّ.

__________________

(١) وهو عند بامطرف : المنطقة المزروعة ذات النخيل ، الواقعة بين مصب وادي بن علي غربا ، وبين مصب وادي شحوح شرقا.

٥٤٩

ويدخل في السّليل كلّ ما كان من قرى آل كثير وحصونهم ، من الحزم إلى محاذاة سيئون في عروضها الشّماليّة ، بل إلى ما وراء ذلك.

ومن أوائل السليل : فرط قبوسه (١) ، وهو مكان مشهور بكثرة الكنوز الحميريّة المدفونة فيه ، وكان الشّيخ عبد الله معروف باجمال (٢) يجزم بها وبكثرتها جدّا ، وله شعر في ذلك أوردناه في «الأصل» ، وذكرها أيضا غيره.

وقال الهمدانيّ في الجزء الثّامن [ص ١١٨ ـ ١٢١] من «الإكليل» : (ذكر بعض حمير عن أسلافه ، عن كعب الأحبار : أنّه أدرك من لقي من عشيرته سطيحا وخبّره أعقاب من لقي شقّا : أنّهما سئلا عن كثير من أخبار اليمن ، فخبّرا بأحداث كثيرة ، منها : أنّهما قالا : باليمن أربع بقاع مقدسة أو مرحومة ، وأربع محرومة أو مشؤومة ، وثمانية كنوز). ثمّ عدّد جميع ذلك ، وذكر أنّ الثّامن من الكنوز : بالحمراء من حضرموت ، وساق خبرا طويلا قال في آخره : (وهذا حديث مرسل ، لم يقع لنا بإسناد ، فذكرناه على حاله) اه

وأهل حضرموت يسمّون ذلك المكان : فرط الحميرا ، كما جاء في شعر الشّيخ باجمّال ، فهو هو.

ومن وراء قبوسة جنوبا : القارة (٣)

وهي كما قال ابن الحائك الهمدانيّ : (هي قرية عظيمة لهمدان ، وفيها حصن) اه (٤)

__________________

(١) قبوسه : تقع شمالي شبام إلى الغرب ، وفيها بئر قبوسه التي يقال : إنها تعود إلى عهد عاد ، فيقال لها : البئر العادية. وآل قبوس أو بن قبوس : أسرة معروفة ؛ منهم جماعة يسكنون الحوطة ، وجماعة في جعيمه. ولعل هذه المنطقة نسبت إليهم.

(٢) هو ابن الشيخ معروف بن محمد باجّمال السابق ذكره في شبام توفي الشيخ عبد الله بشبام سنة (١٢٩٢ ه‍) أو بعدها ، وهو شاعر شعبي وأديب بليغ ، له مقامات وأدبيات جميلة. ينظر : «تاريخ الشعراء».

(٣) وتعرف بقارة آل عبد العزيز.

(٤) صفة جزيرة العرب (١٦٩).

٥٥٠

وسكّانها من زمان قديم : آل عبد العزيز ، في عداد آل كثير من قبيلة آل عامر.

والسّيّد أحمد بن عبد الله شنبل لا يطلق لفظ الشّنافر إلّا على آل عبد العزيز ، لكنّ الأمر يتردّد بين هؤلاء والعوامر ، فإنّه كما يقال لأهل القارة : آل عبد العزيز ، كذلك يقال للعوامر : آل عبد العزيز.

وقد ذكر لهم في حوادث سنة (٩١٦ ه‍) أمورا جرت بينهم وبين آل محمّد الكثيريّ في مدوده ، والعوامر أقرب إلى مدوده من أهل القارة ، ويتأكّد ذلك بما سيأتي في تاربه.

ثمّ إنّ قرب القارة من شبام ـ وهما كما مرّ لهمدان ـ يرجّح أنّ سكّانها الآن من آل عبد العزيز هم من أعقاب الهمدانيّين ، كما أنّ آل كثير مصفقون على أنّهم بأسرهم من همدان ، والمؤرّخون متّفقون على أنّهم ـ أعني آل كثير ـ من بني حرام ، وبنو حرام كما قرّره الملك الأشرف من نهد ، فتأكّد أنّ نهد شبام والقارة ومن لفّهم يرجعون إلى نهد همدان ، وأنّ أهل الكسر ومن لفّهم يرجعون إلى نهد قضاعة ، كما يظهر أنّ نهد قضاعة ناقلون إلى حضرموت ، ونهد همدان من أتلاد البلاد.

هذا ما تنصبّ عليه القرائن وتلتئم به أطراف الكلام ويؤكّده الاستصحاب المقلوب (١).

وسيأتي في ريدة الصّيعر ـ آخر الكتاب ـ عن ابن الحائك أنّ فرقة من همدان ، يقال لهم : المحائل ، كانت من كندة ، فلعلّهم أصول آل كثير.

أمّا المهرة والحموم والمناهيل .. فإنّهم وإن كانوا من قضاعة الحميريّين .. فلا يمكننا الجزم بأنّهم من قضاعة دون نصّ صريح ، أو قرائن تتأكّد بها الظّنون.

__________________

(١) الخلاف في نسب آل كثير ، وحاصله :

من يرى أنهم من بني ظنّة ؛ فهم من نسل سبأ بن حمير. ومنهم : الحبيب أحمد بن حسن العطاس ، والأستاذ الشاطري.

ومن يرى أنهم من نهد قضاعة ؛ فمرجعهم في النسب إلى همدان. وهو ما حكاه الهمداني ، والأشرف الرسولي ، والمؤلف.

ينظر : «الأدوار» (٢٣٤) «تاريخ الدولة الكثيرية» ، «المقحفي».

٥٥١

وآل عبد العزيز ثلاث فرق :

آل سويد ، والصّقعان. وآل جعفر بن سويد. وآل عمر بن عليّ.

يبلغ عدد رجالهم بالقارة سبعين رجلا ، وكان من أواخر رؤسائهم : الشّيخ لحمان بن عليّ ، وكان آل عمر بن عليّ قتلوا إباه في حرب بينهم ، ولمّا تراخت وكثر دونها عدد الأيّام .. جرت بينهم الإصلاحات على عاداتهم ، ونهنهت الأحقاد حتّى جاء في اليوم الثامن والعشرين من شعبان أحد آل عمر بن عليّ إلى عند الشّيخ لحمان في طلب الصّلح لرمضان وما بعده فلم يسعفه ، ولمّا خرج من عنده وكاد يصل إلى داره صوّب إليه بندقيّته فأرداه ، وأشاع من عشيّة يومه أنّ رمضان قد دخل ، والعرب قد يتسامح بعضهم بالقتل في اليوم التّاسع والعشرين من الشّهر ويسمّونه الفلتة ، كما بسطت الكلام عليه في «الأصل».

أمّا الثّامن والعشرون .. فلا يستحلّه أحد منهم ، وفي حين دفن المقتول من اليوم التّاسع والعشرين .. استسقى أحد آل مرعيّ ماء ، فشربه أمام النّاس ؛ ليحرّش به على الشّيخ لحمان ، وما زال رئيسا على قومه إلى أن مات فخلفه ولده عبد الله بن لحمان.

ومن آل عبد العزيز الآن : الشّيخ ناصر بن عبد الله ، رجل شهم يسكن السّواحل الأفريقيّة.

وفي حضرموت : الشّيخ سعيد بن محمّد ، شاعر جزل بلسانهم ، وهو الّذي أشار إلى تعيير الشّيخ عبيد صالح بن سالمين بن طالب ، لمّا توارى عن غسل العار الّذي جرّه الشّيخ عليّ بن سالم بن طالب بن يماني عليه وعلى الدّولة وعلى آل عبدات وجماعات من القبائل بقتله الماس وهم يخفرونه جنبا بجنب في سنة (١٣١٩ ه‍) ـ بقوله :

الهيج لي بين العدل ما ثار

سمين والذّروه كبيره

يا ريت له بيعه على جزّار

والّا على منصب عقيره

وإنّما لصق العار بعبيد صالح أكثر من لصوقه بمن سواه وفيهم الدّولة الكثيريّة ؛

٥٥٢

لأنّه أقربهم إلى عليّ بن سالم ، ولأنّه شيخ آل كثير إذ ذاك ، فشأنه فيهم أقوى من شأن السّلطان.

ومن أخبار سعيد بن محمّد هذا أنّه كمن في أحد مساجد الغرفة مع عبدين لهم ، فأردى حمود بن عزّان الفاس في قتيل لهم عند آل الفاس ، وكان حمود هذا خرج من حصنهم متّعدا مع أحد آل خالد بن عمر في حاجة إلى الغرفة ، وكلّ منهما خفير الثّاني ، إلّا أنّ سعيدا أرداه قبل أن يتلاقيا ، ولكنّهما متخافران وما بينهما إلّا قيس السّهم ، فزعم الشّيخ صالح بن محمّد بلفاس أنّها مكيدة من آل خالد ليمهّدوا لصاحبهم الثّأر إذ هم كلّهم من آل عامر وبإثر ذلك اتّقد الشّرّ بينهم ، وهجم آل فاس على بافيّوح وجرى ما هو مفصّل ب «الأصل».

وآل كثير ثلاث فصائل :

ـ آل عامر : ومنهم آل عبد العزيز هؤلاء وآل عبدات وغيرهم.

ـ وآل عمر : ومنهم آل طالب وآل العاس وآل الفاس وآل فلهوم وغيرهم.

ـ والفرقة الثّالثة فخائذ ، وهم : آل عون ، وآل منيباري ، وآل زيمة ، وآل الصّقير ، ومن لفّهم ، ولهم مشجّر يحفظ أنسابهم ، موجود عند الشّيخ عبد الله بن سالمين بن مرعيّ الآتي ذكره في بلّيل.

وفي شرح البيت (٣٧) من «الأصل» ما يتعلّق بآل كثير ، وأنّهم من بني ظنّة ، وأنّ بني ظنّة من بني حرام ، ولكن ممّا يستدرك عليه : أنّ بالسّلمات (١) من بلاد الجوف ناسا من آل كثير ، يرجعون في النّسب إلى همدان ، يقال لسلطانهم الموجود اليوم : منصّر قوزان.

وقال الهمدانيّ في «الصّفة» [٢٣٢] : (وبلد حرام من كنانة ، وهي : وادي إثمد ، وضنكان ، فالحرّة حرّة كنانة ، والعقد ، وحلي ، وهو مخلاف ، وقصبتها الصّحاريّة موضع رؤساء بني حرام) اه

__________________

(١) منطقة في جنوب مدينة الحزم من بلاد الجوف ، فيها قبائل بني نوف ، وهي واقعة على أكمة مرتفعة.

٥٥٣

وفي موضع آخر «منها» [٢٢٨] ـ بعد أن عدّد مواضع ـ قال : (يسكن هذه البلاد من قبائل نهد : معرّف ، وحرام ـ وهي أكثر نهد ـ وبنو زهير ، وبنو دريد (١) ، وبنو حزيمة ، وبنو مرمّص (٢) ، وبنو صخر ، وبنو ظنّة ـ وظنّة من عذرة ـ وبنو يربوع ، وبنو قيس ، وبنو ظبيان) اه

وبالقارة ناس من آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر بن سالم.

وكان فيها الشّيخ عليّ قيران (٣) ، سائل مدفوع عن الأبواب ، ولكنّه من أهل السّرّ والخصوصيّة ، يسأله أرباب القلوب عن مشكلات صوفيّة ، فيجيبهم عنها بما لا يخطر لأحد على بال ، نازله حال وهو يلقّم بقرة بالأجرة فاندهش عقله ، وألقي على لسانه اسم البقرة المصفرّة ، فبقي يلهج ويوشح بها كلامه.

وفي كتاب «المعمّرين» لأبي حاتم السّجستانيّ : (أنّ النّمر بن تولب رضي الله عنه تعمّر مئتي سنة وخرف وألقي على لسانه : انحروا للضّيف ، أعطوا السّائل) اه

ولعليّ قيران غرائب وعجائب ولمّا مات .. لم يشعر أحد بموته ؛ إلّا بعد ما شرعت الوحوش تأكله ؛ لأنّه أشعث أغبر ، ساقط عن العيون ولكنّه داخل تحت قوله : «ربّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب .. لو أقسم على الله لأبرّه». وكان والدي رضوان الله عليه يبرّه ويطلب دعاءه.

ومن وراء القارة إلى جهة الجنوب حصن الهاجريّ : وهو أوّل حصون آل كثير في شرقيّ شبام.

وفي شرقيّه : حصن قسبل ، لآل سويد ، وله ذكر في التّاريخ.

وفي شرقيّه : مسيال وادي بن عليّ.

وعلى ملتقاه بمسيال سر يكون : القروقر هو حصن لآل خالد بن عمر في شرقيّ

__________________

(١) في «صفة جزيرة العرب» : (دويد).

(٢) في «صفة جزيرة العرب» : (مرمّض) ؛ بالضاد المعجمة.

(٣) الشيخ علي قيران ، مدفون في سفح جبل يقع خلف القارة ، على مسيرة نصف ساعة بالسيارة لوعورة الطريق المؤدية. وهو من أهل القرن الرابع عشر.

٥٥٤

القارّة إلى جهة الجنوب ، ابتنوه في الوقت الأخير على أنقاض أطلال بالية ، يحيط به فضاء واسع ؛ لأنّ النّظر يمتدّ منه جنوبا إلى أن ينقطع أمده دون أقصى وادي بن عليّ ، وغربا إلى أقصى وادي نعام ، وشرقا إلى أقصى حضرموت ، وشمالا إلى فرط قبوسه.

وتحفّ به تربة طيّبة ، تدلّ على سابق عمران ، وخصوبة جناب ، فلهو جدير أن يكون محرّفا عن قراقر الّذي يقول عمرو بن شاش الأسديّ في روضته [من الطويل] :

وأنت تحلّ (الرّوض) (روض قراقر)

كعيناء مرباع على جؤذر طفل (١)

المحترقه

هي واقعة في شرقيّ هدّامه إلى شماله ، وهي المسمّاة في سابق الزّمان : أنف خطم.

وفيها صدر الحكم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين المتنازعين في أرض منها ، حسبما هو مفصّل ب «الأصل».

وفيها كان غدر آل وبر بولاة الحول آل الجرو ؛ فلقد استأصلوهم قتلا في سنة (٦٠٤ ه‍) ، وما أفلت منهم إلّا عشرة.

وآل وبر من همدان ، كانت مساكنهم بالجوف خلف صنعاء ، فنجع هؤلاء إلى حضرموت ، وبه يتأكّد ما تقرّر من الفرق بين نهد قضاعة ونهد همدان ، ووجود الفرقتين بحضرموت.

وكان آل الجرو (٢) أمراء على الحول ، ولهم خيل وحول وقوّة وشوكة ، غير أنّ آل وبر أخذوهم بالحيلة.

__________________

(١) العيناء : البقرة الوحشيّة. جؤذر ـ بفتح الذّال وضمّها ـ : البقرة الوحشيّة أيضا. الطّفل : المولود.

(٢) ومن أعلام آل الجرو المتقدمين : الشيخ عوض بن أحمد الجرو ، سبط الفقيه الإمام محمد بن عمر بحرق ، عاش في القرن العاشر ، وله كتاب هام في التاريخ والأنساب يسمّى : «الفرج بعد الشدة في إثبات فروع كندة». ومن آل الجرو جماعة بشبام ؛ منهم : الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم الجرو ، الملقب أبو البلاد ، توفي بشبام سنة (١٤٠٧ ه‍) ، ومنهم جماعة بالحوطة ونواحيها.

٥٥٥

وآل الجرو وآل باحلوان إخوة من أمّ وأب ، ونسبهم في كندة ، ولا يزال منهم جماعة ، بحوطة آل أحمد بن زين من حضرموت ؛ منهم :

صديقنا الشّيخ عليّ بن عمر الجرو ، كان تاجرا ، ولكن عليه آثار الشّهامة التي يظهر بها سرّ انتسابه إلى الملوك حتّى في صوته الأجشّ ، وكلامه الجزل ، توفّي بحوطة آل أحمد بن زين في حدود سنة (١٣٦٠ ه‍).

وكان أبوه من أهل الصّدق الصّالحين ، وكذلك كان أخوه عبد الله بن عمر الجرو ، ولعبد الله هذا ولد اسمه : صالح ، ذكيّ أديب ، وفيّ الذّمام ، صادق الكلام ، مرضيّ الخلائق ، محمود الشّيم ، له تجارة بعدن.

وعلى مقربة من هذا المكان كانت الواقعة الهائلة ، المسمّاة : (حادثة المحائل) بين القعيطيّ والكساديّ من جهة ، وآل كثير وسلطانهم من الأخرى في سنة (١٢٨٥ ه‍).

بحيره

هي في شرقيّ القروقر ، وهي قسمان :

جانبها القبليّ لآل محمّد بن عمر ، من فصيلة آل عامر تغلب عليهم البساطة والسّلامة ؛ فهم أسلم آل كثير اليوم جانبا ؛ لأنّهم يمشون بسوق الطّبيعة ، ولا يزيد عدد رجالهم اليوم عن عشرين.

وجانبها الشّرقيّ : لآل كدّه من آل عامر أيضا ، ولا يزيد عدد رجالهم عن عشرة.

وكان فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عيدروس بن سالم بن عمر بن الحامد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم ، ولكن استأثرت بهم الغرب والمنايا ، ولم يبق منهم باقية إلّا النّساء (١).

وكان ينتابها الشّيخ عتيق باجبير ، وهو رجل تقيّ نقيّ ، صادع بالحقّ ، آمر

__________________

(١) بل لا زال منهم جماعة بها.

٥٥٦

بالمعروف ، ناه عن المنكر ، كثيرا ما يجابه الجائرين بقول الحقّ ، لا يهاب ولا يداهن ، وكان مع ذلك مضحاكا مزّاحا ، وله دالة عظمى على الأكابر.

وأصله من الحوطة ، وله بها مسكن صغير ؛ مرّ الحبيب حسن بن صالح البحر تحته مرّة فناداه : يا حسن ؛ ألا تحبّ أن تزور الملك ـ يعني نفسه ـ في قصره؟ فقال له : بلى.

ولمّا عزم على الدّخول ـ وكان الباب قصيرا ـ .. قال له : طأطىء رأسك كما هي العادة في الدّخول على الملوك ، ففعل ، ثمّ قدّم له طاسة من الفخّار تفهق (١) بالماء ، وقال له : اشرب ؛ فإنّ هذا كأس الملك ، وسيّد الوادي يمتثل كلّ ما يقول بصدر مشروح وخاطر مبسوط.

ولعتيق هذا نوادر :

منها : أنّه أراد أن يختبر أهل بلاده بحيره ، وكان إمامهم وخطيبهم ومعلم أولادهم ، فقال لهم : إنّ لي شغلا يوم الجمعة بشبام ، وأنتم بالخيار :

إمّا أن تكفوا أنفسكم بغيري يقوم بالواجب.

وإمّا أن تتركوها.

وإمّا أن نقدّمها يوم الخميس؟ فاختاروا هذه ، فجمّع لهم يوم الخميس.

وقال في الدّعاء : لكم الهجّ والرّجّ والحصا المدحرج ، فقالوا : آمين!

وقد رأيت في بعض التّواريخ أنّ عمرو بن العاصي أشار على معاوية أن يختبر طواعية أهل الشّام بتقديم الجمعة ، فرضوا ، وصلّاها بهم يوم الثّلاثاء.

وكان ذلك أيّام خروجهم إلى صفّين ، ففي ذلك أسوة ليست بالحسنة.

ومنها : أنّ أحد أعيان السّادة آل أحمد بن زين الحبشيّ طلب إليه أن يذهب معه إلى هينن ، فرضي على شرط أن يعقبه على الفرس إذا تعب ، وأن لا يأكل إلا ويده معه.

__________________

(١) تفهق : تمتلىء.

٥٥٧

فلم يف السّيّد بالشّرط ، فركب فرسه على غفلة منه ، وأقبل على الحوطة يصيح بنعيه ، فصلّوا عليه ، واقتسموا تركته ، ولبست ثياب الحداد امرأته!

ولمّا أقبل السّيّد يقضم الإرمّ عليه من الغيظ ، عازما على قتله لأخذه الفرس .. وجد أنّ الأمر أدهى وأمرّ ، ولكنّ عتيقا لاذ بالمنصب فأدخله بين عياله حتّى سوّيت المسألة.

ومرّة : دعا آل أحمد بن زين من الحوطة إلى سيئون في رمضان للإفطار والعشاء عنده في أيّام الخريف ، ولمّا تتامّوا في البيت بعد أن نفخ القرب وأشعل النّار في المطبخ .. أغلق الدّار عليهم ، وركب أحد خيلهم إلى الحوطة حيث استجار بالمنصب ـ وكان أحدهم يتظاهر بالشّجاعة ـ فتصور له بصورة منكرة ، يوهم أنّه جنّيّ ، وتسوّر عليه الجابية وصاح في وجهه ، فخرج السّيّد عريانا ، فلاقاه مع جماعة أعدّهم له ، وقال له : أين الشّجاعة الّتي تدّعيها؟

ومرّة : نادى سيّد الوادي الحبيب حسن بن صالح البحر بصلح ما بين قبائل آل كثير بأسرها ، ولمّا فرغ المنادي من ذلك .. قام عتيق ينادي ويقول : حسن بن صالح عقد صلح بين القبائل على المساكين ؛ ليتفرّغوا لهم ويفعلوا فيهم ما يشاؤون من التّعدّي والجور ، فأمر البحر المنادي أوّلا بأن يقول : ومن تعرّض لمسكين .. فهو خارج عن الصّلح.

وكان النّاس إذ ذاك يوفون الكلام ويبلغون الذّمام ، فمرّت الأيّام بسلام.

وله من الجرأة على العلماء والكبراء في الممازح ما لا يحصى.

فلله منه جانب لا يضيعه

وللهو منه والبطالة جانب (١)

وأخباره في المعنى لا يرقى إليها الحصر ، ولا تنالها الأعداد.

__________________

(١) البيت من الطّويل.

٥٥٨

هدّامه

في شرقيّ بحيره وغربيّ المحترقه ، لآل كدّه ، لا يزيد عدد رجالهم بها الآن عن ثمانية.

حواليها كانت الحادثة الكبرى بين آل جعفر بن طالب من جهة وآل كدّه ، وآل محمّد بن عمر من الجهة الأخرى ، وفيها كان قتل عائظ بن سالمين بن عبد الله بن سعيد ، في جماعة من أصحابه ، وأشار إلى ذلك باعطوة بقوله في رثائه :

جبل عرض له جبل من دون هدّامه

وتعاطبوا بالجنابي والرّصاص السّود

وسبب تلك الحادثة أنّ أحد آل كدّه أخذ عذق خريف من نخل آل جعفر بن طالب ، فقتلوا واحدا أو اثنين من آل كدّه ، فغضب من قتل رجالهم في عذق ، وأصبح برجاله على شعب آل جعفر بن طالب ، فخرجوا عليهم ، فانسحب آل كدّه بانتظام ، وسقط منهم اثنان ، ولمّا بلغوا المسيال .. أراد عائض الرّجوع ؛ لأنّه قد ملك ، فما أراد أن يسجح ، لا سيّما وقد أصاب الغرض ، فأراد أن يطفىء ، ولكن عيّره بعض أصحابه وقال له : تريد القهوة عند غصون؟ وهي امرأته ، وكانت من آل عبدات ، فتقدّم بهم وكان آل كدّه تمنّعوا بكوت لهم وبأكوام من الرّمل ، فحمل آل طالب بالسّلاح الأبيض.

وأراد سيّدي عبد الله بن حسن بن صالح البحر أن يخرج بلوائه وطبوله ليحجز بينهم السّيّد عبد القادر بن حسن البحر ، فدعا عائض وما خرج .. إلا وقد جاءت الطّامّة والخرائب أنّ أحد آل كدّه ـ واسمه هو يديّ تماسك هو وعائض بن صالح بن سالمين ، وأثخن كلّ صاحبه ، وحمل هو يديّ إلى القارّة بآخر رمق ، ولمّا دخل عليه النّاس .. سأل عن عائض ، فقالوا : نحن نسألك عن نفسك وأنت تسأل عن عدوّك؟! قال : أمّا أنا .. فكم من بدويّة ستأتي بمثلي وأفضل ، أمّا عائض .. فقد عقمت النّساء أن تلد مثله ، فقالوا له : هلك.

قال : طاب الموت ؛ لأنّ آل كثير سيموتون من بعده ، ثمّ لم يلبث أن فاضت روحه .. فرحمة الله على أهل الإنصاف ؛ فإنّه عندي أكبر من قبولة عائض ، ولجدير بالنّساء أن لا يعقمن من مثل هويديّ المذكور.

٥٥٩

مسيلة آل كدّه (١)

هي واقعة في شرقيّ القروقر إلى الجنوب ، فيها حصن للشّيخ سعيد بن عوض بن كدّة وهو حصن رفيع منيع ، إذا أنير أعلاه بالكهرباء .. ذكّرك بقول البحتريّ [في «ديوانه» ١ / ٤١ من الكامل] :

عال على لحظ العيون كأنّما

ينظرن منه إلى بياض المشتري

وبما أنّ هذا من عيون الأشعار وفرائدها. فقد تولّع الشّريف الرّضيّ باختلاسه ، فقال [في «ديوانه» ٢ / ٢١٦ من البسيط] :

عال على نظر الأعداء يلحظهم

لواحظ الصّقر فوق المربأ العالي

وقال من أخرى (٢) [من البسيط] :

عال على نظر الأعداء يلحظهم

لواحظ الصّقر فوق المربأ العلل

ثمّ كان الشّيخ سعيد ليّن الجانب ، سهل الأخلاق ، بعيدا من الشّرّ ، يحبّ قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، لا يردّ مقترضا قطّ ، ثمّ إن أعاد له ما اقترضه .. وثق به ، واستمرّ على قضاء حاجته عند كلّ طلب ، وإن لم يردّ .. كانت الفيصولة بدون مطالبة فيما عنده.

مات آخر سنة (١٣٦٠ ه‍).

وقد خلّف عدّة أولاد غائبين ، وما كان حاضرا عنده يوم توفّي إلّا ولدان ، أحدهما صغير ، والآخر هو : محمّد بن سعيد ، وكان من أوفى الخلق ذمّة ، وأصدقهم لهجة ، وأوفاهم عهدا ، ولكنّها لم تطل مدّته ، بل مات وشيكا بعد والده في سنة (١٣٦٢ ه‍) ، فاستولى على أموالهم رجل تواطأ مع قاضي سيئون ووزيرها ، وأرضاهم حتّى أثبتوا رشد ولد الشّيخ سعيد الّذي ذكرنا أنّه صغير ، والحال أنّ بينه وبين

__________________

(١) آل كدّه ـ بضم الكاف فتشديد الدال المكسورة ـ : فخيذة من آل عامر من بطون آل كثير ، ومنهم جماعة بالمهرة يسكنون محيفيف.

(٢) لم نعثر في «الديوان» المطبوع على هذا البيت في قصيدة غير التي ذكرناها.

٥٦٠