إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

عبد الرّحيم بن عمر باوزير كانت سنة (٧٤٧ ه‍) ، وقد اختطّه قبل وفاته بزمان (١).

وأوّل من بنى بالغيل الأسفل : الشّيخ عمر بن محمّد بن سالم باوزير ، سنة (٧١٦ ه‍) ـ حسبما يأتي عند ذكره.

وكان أمر الغيل لآل باوزير. والعوابثة المذحجيّون ينتمون إليهم بالخدمة ويذبّون عنهم (٢).

وفي أوائل القرن التّاسع : استولت على بعض الأمر فرقة من العوابثة ، يقال لهم : آل عمر باعمر (٣) ، فغلبوا آل باوزير على بعض النّهي والأمر ، وكوّنوا لهم دولة ـ أو شبهها ـ داموا عليها حتّى انقرضوا بالسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ ، على ما فصّلناه ب «الأصل» ، ونزيد هنا ما تلقّيناه بعد عن المعمّرين ومنهم : الشّيخ صالح بن محمّد بن أحمد بن همام صاحب الغيل : أنّ الذي سجنهم القعيطيّ من آل عمر باعمر مئتان ـ عبيدا وأحرارا ـ ثمّ إنّه أطلق سراح العبيد ، وبقي في سجنه مئة وخمسون كلّهم أحرار ، فتمكّنوا من الهرب بعد عامين إلّا أحدهم ؛ إذ لم يقدر على الهرب ، ووصل

__________________

(١) تقول المصادر الّتي بين أيدينا : إنّ الشّيخ عبد الرّحيم بن عمر قدم إلى السّاحل سنة (٧٠٦ ه‍) ، باحثا عن المنطقة الصّالحة للإقامة له ولعقبه من بعده ، فوقع اختياره على البقعة الّتي تدعى الآن بغيل باوزير ، وقد بنى بها أوّل منزل لسكناه غربيّ مسجده الجامع المشهور ، ثمّ حفر في النّاحية الشّمالية للمسجد غير بعيد منه أشهر العيون بها ... إلخ. اه عن «صفحات من التّاريخ الحضرميّ» (١٠٩).

(٢) يذبّون : يدافعون.

(٣) آل عمر باعمر : تقول بعض الرّوايات التّاريخيّة : إنّه في منتصف القرن التّاسع الهجريّ بالتّقريب ، جاءت امرأة من قبيلة العوابثة القاطنين في قارة ابن محركه شماليّ الغيل إلى الشّيخ عبد الرّحيم باوزير ، ومعها طفل رضيع بعد أن توفي والده قبل أن تلده أمّه ، وطلبت من الشّيخ رعايته وكفالته ، فوافق ، وأسماه : عمر بن عمر ، وفقا لاسم والده المتوفّى ، ومع مرور الوقت أصبح هذا الاسم يلفظ (عمر باعمر) ، حسب اللهجة السّيبانيّة.

كبر عمر في رعاية الشّيخ عبد الرّحيم واشتدّ عوده ، فقرّر الرّحيل إلى قرية بضة بدوعن ، واستقرّ بها ، ثمّ تزوّج من إحدى كرائم الأسر هناك. فأنجبت له ولدين هما : شدّاد ، وسعيد. واستمرّ آل عمر باعمر في التّكاثر من هذين الجدّين ، وكثرت ذرّيّتهم وانتشروا حتّى حدود وادي العين ، ليعودوا بعدها إلى غيل باوزير ويستقرّوا بها ويشكّلوا قوّة سكّانيّة متميزة. عن «تاريخ الغيل» (٢٤ ـ ٢٥) ، وعن «تاريخ البكري» (١٥٣).

١٤١

خمسون منهم إلى المكلّا ، فأمنوا عند النّقيب ، وسار الباقون عند صائل البحسني .. فغدر بهم ، وردّهم إلى القعيطيّ ، فأودعهم السّجن ثانيا ، حتّى لم يبق منهم إلّا سبعة أطلقهم ، ولا يزال منهم بالغيل اليوم نحو من خمسة وخمسين رجلا بعائلاتهم ، ونجع كثير منهم إلى السّومال الإيطاليّ ؛ فيه منهم في ماركة ومقدشوه نحو من ثلاث مئة وخمسين رجلا بعائلاتهم ، ولهم في ماركة مسجدان ، وفي مقدشوه مسجد.

ومنهم : الشّيخ سالم بن عبد الله بن سالم بن مساعد بن عمر باعمر ، وهو عالمهم ومدرّس مسجدهم بمقدشوه.

ومنهم في براوة من السّومال الإيطاليّ أيضا نحو مئتي رجل ، عالمهم : الشيخ محمّد بن عبد الله بن شدّاد ، وهو من أخصّ أصحاب السّيّد عليّ بن أبي بكر بن محمّد النّضيريّ وولده عيدروس الآتي ذكرهما في قارّة الصّناهجة.

ومنهم بماركة : الشيخ سعيد بن أحمد بن مساعد ، من تلاميذ الشّيخ محمّد بن عمر بن سلم ، توفّي في حدود سنة (١٣٥٣ ه‍).

ومنهم بها : الشيخ محمّد بن عبد الله بن مقداد.

ومرجع العوابث في النّسب (١) إلى عوبثان بن زاهر بن مراد بن مذحج.

وقد جرت بينهم وبين السّلطان محمّد بن عبد الله أخي بدر بوطويرق (٢) حوادث في سنة (٩١٩ ه‍) ، وقتل منهم اثنين وثلاثين ظلما (٣).

ثمّ ساكنهم في الغيل آل همام (٤) من يافع ، فغلبوهم بسطوة عشائرهم على شيء من أمر الغيل (٥).

__________________

(١) للتّوسّع ينظر : «أدوار التّاريخ» (٣٧١) ، و «حضرموت» (١٥١ ـ ١٥٢). والعوابثة أقسام ؛ منهم : آل باعنس ، وآل بازور ، وآل الحيق ، وآل عمر باعمر.

(٢) السّلطان محمّد بن عبد الله بن جعفر الكثيريّ ، تولّى سنة (٩١٠ ه‍) بعد أبيه ، وتوفّي بالشّحر سنة (٩٧٥ ه‍) كما في «تاريخ الشّحر» لبافقيه (٣٨٨).

(٣) «تاريخ شنبل» (٢٥٢) ، «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (٣١) ، وفيه أنّه قتلهم بظفار.

(٤) وهم من قبائل يافع السّفلى.

(٥) قدم آل همام في أوائل القرن الحادي عشر الهجريّ تقريبا واستقرّوا في النّاحية الشّماليّة من الغيل ،

١٤٢

وفي سنة (٩٤٣ ه‍) : ابتدأ السّلطان بدر بعمارة حصن غيل باوزير (١).

وقد أنجب الغيل كثيرا من العلماء.

وجاء في ترجمة السّيّد عليّ بن أبي بكر ، المتوفّي سنة (٨٩٥ ه‍) من «المشرع» [٢ / ٤٧٠ ـ ٤٧٥] أنّه : (رحل إلى الشّحر والغيل ، ومكث هناك أربع سنين ، يقرأ على الفقهاء : آل باهارون ، وآل باعمّار ، والفقيه محمّد بن عليّ باعديلة ، والعلّامة إبراهيم بن محمّد باهرمز ، والفقيه محمّد بن أحمد باغشير ، وعبد الله بن محمّد باغشير (٢) ، والشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن باوزير) اه

وفي «البرقة» : أنّ الشيخ العالم العامل الزّاهد الورع ، عفيف الدّين عبد الله بن عبد الرّحمن باوزير كتب الإجازة لمؤلّفها أربع مرّات.

وفي سنة (٩٠٣ ه‍) : توفّي بها الفقيه العارف بالله الشّيخ محمّد بن أحمد باجرفيل الدّوعنيّ.

وقد أورد سيّدي الأستاذ الأبرّ إجازة (٣) منه للشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر بافضل التّريميّ ، عدّ فيها بعض مشايخه ؛ كالشّيخ أبي بكر العدنيّ ابن عبد الله العيدروس ، عن شيخه عبد الله بن أحمد باهراوه ، عن شيخه فضل بن عبد الله بافضل ، عن شيخه أبي بكر بن محمّد عبّاد.

ومن مشايخ باجرفيل : الشّيخ سعيد بن عبد الله بابصيل ، يروي عن أبي بكر بن عبد الله بن سالم ، عن الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد.

__________________

ونصبوا بها منازلهم الّتي عرفت بحصون آل همام. وهم أوّل من قدم إلى حضرموت من قبائل يافع. «تاريخ الغيل» (٢٦).

(١) «تاريخ الطّيّب بافقيه» حوادث سنة (٩٤٣ ه‍) (ص ٢٣٨).

(٢) آل باغشير بالغين المعجمة : غير آل باقشير ، الآتي ذكرهم في بور.

(٣) وهي برمّتها في «عقد اليواقيت» (٢ / ١٢٠).

١٤٣

ومن مشايخه أيضا : الشّيخ محمّد بن مسعود باشكيل ، عن ابن كبّن (١) ، وعن عمر بن أبي بكر بانقيب ، عن عليّ بن عمر باعفيف.

ومن مشايخه أيضا : الشّيخ محمّد بن عثمان باوزير وغيرهم.

وفي الحكاية (٣٩٨) من «الجوهر» [٢ / ١٦٢] : (أنّ الفقيه أبا بكر باقتيل كان يقرأ تفسير القرآن على الشّيخ عمر المحضار بمسجد غيل باوزير). ولا يزال بالغيل حتّى الآن ناس من آل بافتيل.

ومن أهل الغيل : الشّيخ الجليل محمّد بن أحمد باحميش ، كما ذكره السّخاويّ في «الضّوء اللّامع» [٧ / ١٢٤] ؛ إذ كان ترجم له فيه. ولا يزال بها وبالشّحر جماعة منهم.

ولا بأس أن نعدّ العلّامة الكبير الشّيخ محمّد بن أحمد بافضل (٢) من علماء الغيل ؛ لأنّه ولد بتريم سنة (٨٤٠ ه‍) ، ونشأ بالغيل المذكور ، واشتغل في الفقه على باعديلة (٣) ، ثمّ دخل إلى عدن يقصد القاضي محمّد بن أحمد باحميش ، ولمّا مات .. جلس مجلسه ، واقترن بامرأته. وكانت وفاته بعدن سنة (٩٠٣ ه‍).

قال السّيّد الشّريف محمّد بن عمر الطّيّب عمدة الفتوى بعدن : (وكان بينهما من التّوادّ والتّناصف ما هو مشهور ، وفضائل أكثر من أن تحصر ، وأشهر من أن تذكر ، ومن مؤلّفاته : «العدّة والسّلاح في أحكام النّكاح» لا مستغنى عنه لمن يتصدّى لعقود الأنكحة ، وله شرح «المدخل» و «البرماويّة» ، وكتاب على تراجم البخاريّ بيّن فيه

__________________

(١) هو الإمام محمّد بن سعد بن كبّن الطّبريّ العدنيّ ، المولود بها سنة (٧٧١ ه‍) ، والمتوفّى بها سنة (٨٤٢ ه‍) ، له مشيخة كبيرة ، ومن أجلّ شيوخه الإمام محمّد بن سعد باشكيل ، والحافظ محمّد بن الجزري ، وغيرهما ، وقد خرّج له الحافظ النّجم ابن فهد المكيّ أربعينا موصولة الأسانيد ، توجد بخط مؤلفها في مكتبة الحرم بمكّة المكرّمة.

(٢) صاحب المصنّفات الشّهيرة المباركة ؛ منها : «العدّة والسّلاح في أحكام النّكاح» ، وهو متداول بين أهل العلم ، وعليه شرحان ، أحدهما للإمام عبد الله بن عمر بامخرمة ، والآخر للفقيه الإمام محمّد بحرق ، وله مصنّفات أخرى. ينظر : «صلة الأهل» ، و «النّور السّافر».

(٣) اسمه : محمّد بن عليّ.

١٤٤

مناسبة التّرجمة للحديث ، وله رسالة في الرّبع المجيّب ، وله «مختصر الأنوار» ، واختصار «قواعد الزركشيّ» قال الطّيّب بامخرمة : وغالب ظنّي أنّه مجدّد قرنه ، ودفن بتربة حافّة البصّالين بعدن) اه

ومن أهل الغيل : الفقيه الجليل محمّد بن مسعود باشكيل (١) ـ السّابق ذكره في مشايخ باجرفيل ـ وقد رحل إلى عدن ، وبها كانت وفاته.

ومنهم : الفقيه أحمد بارعيّة ، تلميذ العلّامة ابن حجر الهيتميّ ، وله منه مكاتبات كثيرة نافعة ، لا يزال مشايخنا يوصون بقوله من أثناء إحداها : (فبالله عليك .. ثمّ بالله عليك .. أن تجعل جلّ وقتك ليلا ونهارا في البحث في الفقه والتّحقيق ، والتّأمّل والتّدقيق ، مع نشره بين طالبيه وغيرهم) أو ما هذا معناه.

ومن «خلاصة الأثر» للمحبّي [٤ / ٤٤٢] : (أنّ آل بامزروع وآل بامطرف قنازلة ، وهم فخذ من كندة).

وسيأتي لبعض القنازلة ذكر في قرية الواسطة ، الواقعة في شمال العجز من أسفل حضرموت.

وقد نجع آل بامطرف من ريدة الصّيعر إلى الهجرين ، وتفقّروا ، وتركوا السّلاح ، إلّا أنّ آل مساعد ـ على القول بأنّهم منهم ـ عادوا إلى حمله ، كما يعرف ممّا سيأتي في الهجرين ، ثمّ افترقوا في البلدان ، واختلطوا في الأعمال ، حتّى لقد كان جماعة منهم بمدودة خوّاصون (٢) ونجّارون.

وأوّل من نجع من الهجرين إلى الغيل من آل بامطرف : الشّيخ عبد الرّحمن بن أبي بكر ، وكان صاحب يسار ، فاشترى بالغيل أطيانا كثيرة تسقى من معيان الحرث (٣)

__________________

(١) المولود بالغيل سنة (٨٠٤ ه‍) ، والمتوفّى بعدن سنة (٨٧١ ه‍) ، إمام جهبذ علّامة ، له مصنّفات شاهدة بعلوّ كعبه ؛ منها : «شرح على المنهاج» في الفقه ، سلك فيه مسلكا غريبا لم يعهد مثله ، ترجم له السّخاوي في «الضّوء».

(٢) الخوّاص : الّذي يبيع الخوص ، والخوص : ورق النّخل.

(٣) المعيان : بالدّارجة الحضرميّة يقصد به : عين الماء ، أو النّبع.

١٤٥

الّذي اشتراه أيضا ، ووقف جميع ذلك على البطن الأعلى ثمّ الأعلى من ذريّته.

ولمّا استولى القعيطيّ على أموال آل عمر باعمر .. كان معيان الحرث في جملة ما أخذ فيها ، وبانقطاع الماء أو قلّته عن أوقاف الشّيخ عبد الرّحمن بامطرف .. كادت تتلاشى غلاله.

وفي سنة (١٠٧١ ه‍) : كان القاضي بالغيل أحد ذرّيّة الشّيخ عبد الرّحمن بامطرف ، وكان العلّامة أحمد بن محمّد مؤذّن باجمّال يصفه بالتّهوّر في قبول الأهلّة ، وهو أوّل من تولّى القضاء منهم ، ثمّ تولّاه الفقيه محمّد بن عليّ بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر بامطرف ، وكانت ولايته سنة (١١٠٠ ه‍).

وممّن تولّاه منهم : الشّيخ بو بكر بن محمّد بامطرف ، وكانت ولايته بالمكلّا سنة (١٢٦١ ه‍) ، أيّام النّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ ، وله : «فتاوى» موجودة لدى الشّيخ عبد القادر بامطرف الموجود بالمكلّا الآن ، وهو والد الشّيخ محمّد عبد القادر بامطرف (١) ، الكاتب الأوّل بإدارة المستشار بسيئون ، وهو ولد نبيه ، سهل الخلق ، بعيد الغور (٢) ، يحبّ المطالعة والبحث.

ويعجبني منه أنّه لم يقلّد الأجانب في شيء من أزيائهم وعاداتهم ، مع انقطاعه إليهم وشدّة اختلاطه بهم ، وكان بمعيّة النّاسك العلّامة سيف الإسلام : الحسين ابن الإمام ، يترجم له في وفادته إلى الجزائر البريطانيّة ، وكان يحدّثنا عنه بما يشنّف

__________________

(١) محمّد بن عبد القادر بامطرف ، المؤرّخ الأديب ، مولده بالشّحر في (١٢) شعبان (١٣٢٣ ه‍) ، تلقّى دراسته الأوليّة بمدرسة مكارم الأخلاق بالشّحر ، والقانونية بعدن ، وواصل دراساته العليا بجامعة كامبردج بلندن ، والخرطوم بالسّودان. تدرّج في وظائف متعدّدة ؛ منها : مترجم ، ومستشار ، وسكرتير للدّولة القعيطيّة ، فالكثيريّة. له عدّة مصنّفات أدبيّة وتاريخيّة ، طبع منها (١٤) كتابا ، وله دواوين شعر لم تطبع ، ومسرحيّات أدبيّة.

منح وسام المؤرّخ العربيّ من اتّحاد المؤرّخين العرب ، كما نال وسام الآداب والفنون عام (١٩٧٧ م). توفّي رحمه الله بالمكلّا في (١٧) ذو القعدة (١٤٠٨ ه‍). «مدرسة مكارم الأخلاق ، ثمانون عاما من الجهد والعطاء» (ص ٤٥).

(٢) الغور : قعر كلّ شيء ، وبعيد الغور : دقيق الاستنباط.

١٤٦

الأسماع ، ولكنّه متى وقف به الحال بين نصرة مظلوم ورضا وزير الدّولة المحليّة .. آثر الثّاني تمكينا لمركزه بسيئون.

وقد رأى عين الذّئب (١) في المكرّمين : عمر محيرز ، ومصطفى رفعت (٢). وهو يكره الرّجوع إلى المكلّا ؛ إذ كان وزيرها اتّهمه بتهمة برّأه الله منها ، وظهر له تحاملهم عليه ، فحقدها عليهم ، ولم يبرح يكيد لدولة القعيطيّ بكلّ ما في وسعه. وكثير من أهل المكلّا يجعلون الفشل القعيطيّ في مسألة الحدود راجعا إلى تلقينه الكثيريّ الحجّة.

توفّي الشّيخ بو بكر بن محمّد بامطرف بالغيل سنة (١٢٨٤ ه‍).

وممّن تولّى القضاء منهم : الشّيخ عوض بن سعيد بامطرف ، تولّاه بالشّحر في عهد آل بريك ، وتوفّي سنة (١٢٨٧ ه‍).

والقاضي الابتدائيّ في المكلّا لهذا العهد هو عبد الله بن عوض بامطرف.

ومن أواخر علماء الغيل : الشّيخ محمّد بن عمر بن بكران بن سلم (٣) ، كان ركنا

__________________

(١) يقال : فلان رأى عين الذئب ، كناية عامية بمعنى : رأى ما يعتبر به من النكال فتجنبه تهيبا.

(٢) عمر محيرز من أهالي المكلا ، ومصطفى رفعت من عدن ، وكلاهما كانا كاتبين في مكتب المستشار البريطاني في المكلا. وكان محيرز يسّرب أخبار المستشار إلى بعض أقاربه ، ويقوم بنشر الدعايات ضده ، فنكّل بهما انجرامس.

(٣) الشّيخ الفقيه العلّامة محمّد بن عمر بن سلم ولد علّامة عصره وفريد مصره بالشّحر في حارة تسمى : حارة عيديد ، من أسرة عرفت بالنّبل والفضل ، ونسب آل ابن سلم في العقيليّين كما يقول بعض المؤرّخين. تلقّى مبادىء العلوم على يد شيخه الفقيه الشّيخ ناصر بن صالح ابن الشيخ عليّ ـ اليافعيّ ـ ولازمه مدّة طويلة ، وكانت وفاة الشّيخ ناصر سنة (١٣٠٠ ه‍). سافر الشّيخ محمّد إلى مصر لطلب العلم ، ودرس في الأزهر الشّريف ، ويخمن الأستاذ سعيد باوزير أنّ رحلته ابتدأت سنة (١٣٠٦ ه‍) ، وكانت عودته سنة (١٣١١ ه‍) ؛ أخذا من تاريخ الإجازة الّتي حصل عليها من الأزهر. وبعد عودته من مصر .. خرج إلى وادي حضرموت ، ولقي به عددا من الشّموس المضيئة ، على رأسهم سيّدنا الإمام عيدروس بن عمر الحبشيّ ، والإمامان : أحمد بن حسن العطّاس ، وعليّ بن محمّد الحبشيّ. وقام المترجم بتأسيس رباط العلم بغيل باوزير سنة (١٣٢٠ ه‍) ، وتخرّج من تحت يده كبار العلماء والمرشدين ، والفقهاء والقضاة. وقد انبعث عن هذا الرّباط أكبر حركة علميّة فقهيّة عرفتها السّواحل الحضرمية على مرّ أزمانها ، وكلّ الموجودين اليوم من علماء السّاحل الحضرميّ يدينون بالولاء العلميّ لصاحب التّرجمة ، وإليه ترجع أسانيدهم وطرق أخذهم. توفّي الشّيخ محمّد بن

١٤٧

ركينا من أركان العلم ، له وفادات إلى حضرموت ، ثافن (١) فيها العلماء ، وأخذ فيها عن مسند حضرموت ـ بل اليمن ، بل الدّنيا ـ سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر الحبشيّ ، ولعلّ ذلك في حدود سنة (١٣١١ ه‍).

وكان معه في تلك القدمة ابن له منوّر القلب ، صافي السّريرة ، مستوقد الذّكاء ، يحفظ عدّة من المتون على صغر سنّه ، ولكنّه نغّص شبابه فمات عبطة (٢) مرجعه من حضرموت.

ويقال : إنّ سبب موته انبهار قلبه ممّا رأى من الأشعّة النّورانيّة على غرر السّادة الأجلّاء بحضرموت ؛ كالسّادة عبد الله بن عمر بن سميط ، والأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر ، وعبد الله بن حسن البحر ؛ إذ كان رآهم مجتمعين في حفل مشهود فانشقّت مرارته ، فعظم عليه وجد أبيه.

والشّيخ محمّد بن عمر بن سلم هو مؤسّس رباط الغيل ، وكانت وفاته سنة (١٣٢٩ ه‍) ، وابنه أحمد الآن من مشاهير الرّواق اليمانيّ بالأزهر الشّريف.

وآل ابن سلم بيت علم وصلاح ، منهم : الشّيخ عليّ بن سلم ، تلميذ سيّدنا عبد الله باعلويّ المتوفّى سنة (٧٣١ ه‍).

وفي الغيل المذكور جماعة من أعقاب السّيّد أبي نميّ بن عبد الله بن شيخ بن عليّ المندرج ابن فدعق بن محمّد بن عبد الله بن امبارك بن عبد الله وطب ، منهم الآن :

الفاضل السّيّد محسن بن جعفر بونميّ (٣) ، فقيه ذكيّ بحّاثة ، تولّى القضاء بالمكلّا والغيل مرّات.

__________________

عمر بن سلم في (٦) محرم (١٣٢٩ ه‍) ، عن أربعة وخمسين عاما رحمه الله تعالى. ينظر «صفحات من التّاريخ الحضرميّ» (٢٠١ ـ ٢١٣).

(١) ثافن : لازم.

(٢) يقال : مات فلان عبطة .. أي شابّا سليما لم تصبه علّة.

(٣) السّيّد محسن بن جعفر بونمي ، مولده بغيل باوزير سنة (١٣٠٦ ه‍) ، وكان من أوائل الطّلبة الملتحقين برباط الغيل عند افتتاحه سنة (١٣٢٠ ه‍) ، وكان من أبرزهم استفادة وحرصا على دروس العلّامة ابن سلم ، فتوسّعت معلوماته الفقهيّة واللّغويّة ، إلى شغفه بالقراءة والمطالعة ، حتّى لا يكاد يرى إلّا وفي يده كتاب. وكان ينفق على شراء الكتب بسخاء نادر ، ويبحث عن القيّم منها والجيّد ، فكان يحوز على مكتبة عامرة بشتّى العلوم والفنون. وصار بعد ذلك مرجعا للفتوى والاستشارات

١٤٨

وهو الآن مدير رباط الغيل ، وهو أفقه رجال السّاحل وبما أنّ مدارسهم ـ على ما ذكرنا من نظامها ـ محدودة المعارف .. فما إلّا عليه يتخرّج من يرشّحونه للقضاء ـ وفيهم كثرة ـ إلّا أنّه لا يعامل بمقتضى ما يستحقّ ؛ فإنّ مرتّبه الشّهريّ لا يبلغ المئة الرّوبيّة ، مع أنّ عائلاته (١) تقارب الأربعين نفسا.

غير أنّ الشّيخ الفاضل سعيد القدّال يعرف له فضله ، ويسعى في ترفيهه ، ولقد صدق الّذي يقول : (إنّما يعرف ذا الفضل ذووه).

وكان بالغيل جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الرّحمن بن محمّد عيديد ، لا أدري أيوجد الآن به أحد منهم ، أم لا؟

وكانت بالغيل مدرسة للسّيّد محمّد بن جعفر العطّاس ، وهو رجل غزير العلم والعبادة ، صحيح التّقوى والزّهادة ، وكان له إخوان فتح الله عليهم أبواب الرّزق بجاوة ، فبعثوا له برسالة مع خمس مئة ريال فرانصة .. فأمر أحد تلاميذه بالجواب ، وشكرهم على الرّسالة ، وفرحه بعافيتهم ، وإرجاع الدّارهم إليهم ، والإشارة بأن يتابعوا الرّسائل بدون صلة ماليّة ، فلم ير التّلميذ ردّها ، بل أرسلها إلى من يشتري بها مالا للسّيّد محمّد بحريضة ، وهكذا يفعل بما تواتر بعدها من الصّلات ، حتّى اجتمع

__________________

القضائيّة ، وأناط المجلس العالي برئاسة الشّيخ عبد الله عوض بكير ـ بصاحب التّرجمة مهمّة تخريج القضاة وتدريبهم ، فكان ممّن تخرّج على يديه في (كورسات القضاء) وفيما يلي بعض أسماء أعلام أولئك القضاة على حسب ترتيبهم :

فمن الكورس الأوّل : القاضي سعيد بن عليّ بامخرمة ، وعبد الله عوض بامطرف ، والسّيّد مصطفى بونميّ ابن المترجم. ومن الكورس التالي : السّيّد عبد الله محفوظ الحدّاد ، والشّيخ عبد القادر الحاج ، وعبد الله بن عليّ بامخرمة ، وسالمين بن سرور. ومن الكورس التالي : الشّيخ سعيد بالرّعيّة ، والسّيّد عليّ المديحج ، وسالم بامخرمة. ومن الكورس التالي : السّيّد محمّد رشاد البيتي ، وسعيد علي سلومة. ومن الكورس التالي : السّيّد حسين المديحج ، والسيد أحمد عيديد ، وسعد باشكيل. هذا ما ذكره العلامة السّيّد رشاد البيتي حفظه الله ، وقد نسي بعضهم. وكانت وفاة السّيّد محسن .. بغيل باوزير في شعبان (١٣٧٩ ه‍) ، ودفن بجوار ضريح شيخه ابن سلم. «شذور من منجم الأحقاف» (١٠٦ ـ ١٠٨).

(١) عائلاته : من يعولهم وينفق عليهم ، وهو بهذا يشير إلى أنّ السّيّد محسنا كان يعيل أكثر من أسرة ؛ إذ كان متزوجا بأربع نسوة ، وله من كلّ واحدة نسل مبارك.

١٤٩

له من ذلك مال دثر (١) ، وكلّما جاءت رسالة .. قرأها عليه ، وكفّ عن ذكر الصّلة ، وهو مع ثقته بالتّلميذ وشغله بربّه لا يباشر قراءة الكتب ، وفي آخر أمره .. طالعه بالحال ، فعاتبه يسيرا ، ثم وقف ذلك المال على أولاده سواء فيهم الذّكر والأنثى ، والعالي والسّافل ، لا ينقطع إلّا نصيب من يموت ، ولا يزال يصل للسّيّد بو بكر بن حسن صاحب الحديدة الآتي ذكره في الرّباط ، يصل نصيبه ونصيب أولاده ممّا يفضل عن أيدي العابثين من غلّات ذلك الوقف.

وإلى جانب الغيل الشّرقيّ : الرّقيميّ والسّاحة الّتي حواليه ، وهي إقطاع من السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ لهمّام بن سعيد بن همّام ، ولا يزال بيدهم أصل ذلك الإقطاع ، وفي أوله البسملة ، وعن يمينها الخاتم ، وعن يسارها الإمضاء ، ونصّه بخطّه : عمر بن جعفر أشهد الخط أنت ؛ لأنّ العمدة عليك بأنّا أعطينا النّقيب همّام بن سعيد بن همّام الرّقيميّ والسّاحة ؛ الصائرة إليه بالمشترى ، وملّكناه ذلك تمليكا شرعيّا في مقابل مصاريف منكسرة لأولاده في بيت المال ، يعتمد ذلك الواقف عليه من العمّال والخدّام ، ومن خالف .. فلا يلومنّ إلّا نفسه ، ثاني شهر الحجة الحرام سنة (١١٢٤ ه‍).

وفيه ذكر بعض الحدود ؛ فبحريّا : دار أحمد بن عمر بن بو بكر ، وشرقيا : السّاقية. وفيه خرم أصلحناه بالذّوق. والله أعلم.

وفي أخبار الفتن الّتي بين القعيطيّ من جهة وآل كثير والعولقيّ من الأخرى : أنّ آل كثير وآل عمر باعمر والعوالق .. أحاطوا بثمانين من عبيد القعيطيّ ، يرأسهم عنبر عبيد ، ولمّا أشرفوا على الأسر أو الهلاك .. استغاثوا بهمّام بن امبارك وجماعته آل همّام أصحاب حصن الرقيميّ ، وبقيت مدافع آل كثير والعولقيّ وألفافهم أربعة أشهر وهي تدوّي عليهم ، تباكرهم وتماسيهم.

وفي الغيل مدرسة داخليّة ، كلّ نفقاتها على الحكومة القعيطيّة ، تسمى : (الوسطى) لارتفاعها عن التّعليم الابتدائيّ ، وقصورها عن التّعاليم العالية ، غير أنّ الحكومة ترسل البعثات من خرّيجيها إلى الشّام والسّودان ؛ ليتمّموا بها دراستهم ،

__________________

(١) مال دثر : كثير.

١٥٠

وهي الآن تضمّ بين جدراتها زهاء المئة والخمسين طالبا. ومحلّها المؤقّت قصر الأمير منصّر بن عبد الله بن عمر القعيطيّ ، الّذي سمّاه : (الأزهر).

وممّا يستحقّ الإعجاب : أنّ المنازل العليا من ذلك القصر مخصّصة للتّدريس والطّلبة ، وأمّا المنازل السّفلى .. فللماليّة وللمحاكم العرفيّة والشّرعيّة. ورفع التّعليم على الأوليين مليح ، وأمّا على الأخيرة .. فلا.

النّقعة (١)

هي في شمال الغيل إلى جهة الغرب.

والنّقعة ـ كما في «فتح الرّحيم الرّحمن» للشّيخ عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء ـ : (في عرف أهل اليمن مرادف للحوطة في اصطلاح أهل حضرموت).

وأوّل من سكنها : الشّيخ أحمد بن محمّد بن سعيد بن محمّد باوزير ، صاحب عرف. وآل باوزير أهل النّقعة المذكورة من ذرّيّته.

وممّن كان يسكنها : السّيّد محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن علويّ بن محمّد صاحب (مرباط) العلويّ (٢) ، وبها كان موته ودفنه.

وكان يكتفي لخرجه بثمرة شجرة واحدة بها من اللّيمون ، وفي ذلك دلالة على حسن تربتها وبركة عيشتها.

وفي «ديوان الشّيخ عبد الصّمد باكثير» (٣) ذكر واقعة النّقعة بين آل العموديّ وآل

__________________

(١) هذه هي النقعة القديمة وهي بلدة كبيرة تتبع مديرية المكلا ، وباسمها سميت نقعة آل جنيد التي في حضرموت الداخل قرب حوره.

(٢) وهو المعروف بالنّقعي في كتب الأنساب والطّبقات ، مولده بتريم ووفاته بالنّقعة ، أخذ عن والده الفقيه أحمد المتوفّى بتريم سنة (٧٢٠ ه‍) ، وصحب جماعة من العارفين ، وكان زاهدا متقلّلا من الدّنيا ، واختار العزلة عن أبناء زمانه ، وأقام بالنّقعة وتخلّى للعبادة ، وكان يزرع اللّيمون ، وكان يجني من ثمار اللّيمون ألف حبّة ، ينفق ثمنها في وجوه البرّ ، وله كرامات ، ولم يؤرّخ لسنة وفاته ، إلّا أنّها في النّصف الثّاني من القرن الثّامن الهجري. «المشرع» (١ / ١٧٢ ـ ١٧٣).

(٣) عبد الصّمد باكثير ؛ علّامة فقيه ، شاعر أديب ، مولده بتريس سنة (٩٥٥ ه‍) ، ووفاته بالشّحر سنة (١٠٢٥ ه‍). ترجمته موسّعة في «البنان المشير» (٦٢ ـ ٧٣) ، وفي «خلاصة الأثر» (٢ / ٤١٨)

١٥١

كثير ، وهي الّتي كان فيها قتل الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله العموديّ على يد السّلطان عمر بن بدر بوطويرق (١) ، وقد هنّأه عبد الصّمد بقصيدته المستهلّة بقوله [من البسيط]

الله أكبر هذا الفوز والظّفر

فتحا مبينا مع التّأييد يا عمر (٢)

وعلى اسم هذه النّقعة كانت نقعة آل جنيد (٣) الواقعة شماليّ حوره بالكسر.

وفي حوادث سنة (٩١٧ ه‍) من «تاريخ شنبل» [ص ٢٤٧] : (أنّ العوابثة قطعوا بعض خريف النّقعة (٤) وغيل باوزير ، وعطّلوا الحرث).

ومن فضلاء النّقعة : العالم العامل المعمّر الشّيخ سالم بن محمّد باوزير (٥) ، ولد

__________________

و «ملحق البدر الطّالع» (١٢١) ، و «الأعلام» (٤ / ١١) ، و «سلافة العصر» (٤٣).

أمّا «ديوان عبد الصّمد» .. فمنه نسخة بمكتبة الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير ، مؤلّف «البنان» ، آلت إلى ابنه عمر (ت ١٤٠٥ ه‍) ، ولعلّها محفوظة عند ورثتهما ، وذكر الشّيخ محمّد أنّ الحبيب عليّا الحبشيّ لديه نسخة منه.

وفي «مصادر الفكر الإسلاميّ» (٣٧٢) : أنّ نسخة آل باكثير آلت إلى الأديب محمّد عبده غانم ، ومنه نسخة أخرى بمكتبة عارف حكمت ب (المدينة المنوّرة) على ساكنها الصّلاة والسّلام ، صوّرتها جامعة الملك سعود بالرياض.

ومن المصادر الّتي تحدّثت عن عبد الصّمد وشعره : «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (٦٤ ـ ٦٦) ، و «نشر النّفحات المسكيّة» لباحسن ، «الحركة الأدبيّة في حضرموت» للصّبّان (٨٨ ـ ٩٣).

(١) السّلطان عمر ابن السّلطان بدر بوطويرق ، وخليفته من بعده ، كان عالما فاضلا عادلا حسبما تقول المصادر ، له سياسة مرضيّة ، وأخلاق سويّة ، توفّي سنة (١٠٢١ ه‍). وقد كان الشّيخ عبد الصّمد يكنّ له حبّا جمّا ، وله قصائد كثيرة فيه ، مدائح ومراث ، تسمّى ب : «العمريّات» ، ينظر المراجع الّتي سبق ذكرها في ترجمة عبد الصّمد.

(٢) ويلي هذا البيت قوله :

فمن رعته عنايات الإله فلا

يخش المعادين إن قلّوا وإن كثروا

من كان معتصما بالله كان له

عونا وسار بما يختاره القدر

وكلّ باغ فإنّ الله خاذله

ولم يفز من بغير الله ينتصر

(٣) آل جنيد أحد بيوت آل باوزير.

(٤) الخريف : الثّمر الّذي يجنى في فصل الخريف ، ولا يراد به عند الحضارمة سوى الرّطب.

(٥) الشّيخ سالم بن محمّد باوزير (١٢٠٠ ـ ١٣١٨ ه‍) ، ولد بالنّقعة وبها توفّي ، ورحل إلى مصر والشّام وفلسطين ، وأقام بالحرمين مجاورا (١٤) عاما في مكّة ، و (٧) سنين في المدينة المنوّرة على ساكنها الصّلاة والسّلام ، ثمّ عاد إلى الشّحر. ترجمته في : «تعليقات السّقّاف على رحلة الأشواق

١٥٢

بها ، وطلب العلم بالشّحر وحضرموت والحجاز ومصر والشّام ، وأقام مدّة طويلة ينشر العلم بالشّحر ، ثمّ عاد إلى النّقعة ، وبها توفّي سنة (١٣١٨ ه‍) عن مئة وستّة عشر ربيعا تقريبا ، وكان متمكّنا من علم الأوفاق والحروف.

القارة

وبإزاء النّقعة وشمال الغيل إلى جهة الشّرق في غربيّ الحزم .. قرية يقال لها : القارة ، لا يزال بها جماعة من العوابثة ، وآل عمر باعمر ، وآل بكير ، وأصلهم من الرّييدة القرية الّتي في شمال بور إلى الغرب في أطراف وادي مدر ، يحترفون بإثارة الأرض وبناء المساقي.

ومن آل بكير أصحاب القارة : قاضي القضاة الآن : الشّيخ عبد الله بن عوض بكير (١) ، وهو رجل دمث الأخلاق (٢) ، بعيد القعر (٣) ، مرن ، هشّ بشّ ، وله ابن يسمّى عبد الرّحمن (٤) ، ذكيّ ، نبيه ، له شعر جميل.

__________________

القوية» (٤) وفيه : أنّه توفي عن (١١٨) سنة.

(١) الشّيخ العلّامة عبد الله عوض بكير. عالم ، فقيه ، قاض ، ولد بغيل باوزير سنة (١٣١٤ ه‍) ، وانتقل في سنّ مبكّرة إلى القارة حيث قرأ بها القرآن في كتّاب صغير بالقرية ، ثمّ بدأ دراسته على الشّيخ عمر امبارك بادبّاه في قرية الصّداع ، وأكب على القراءة والمطالعة في العلوم الشّرعيّة ، لا سيّما الفقه.

التحق بخدمة القضاء الشّرعيّ في الدّولة القعيطيّة سنة (١٣٥١ ه‍) ، وتقلّب في الوظائف حتّى صار رئيس القضاة الشّرعيّين عام (١٣٥٦ ه‍). وتطوّر القضاء في عهده ، وامتازت أيّام رئاسته للقضاء الشّرعيّ بإصلاحات هامّة ، واتّسع نطاق المحاكم الشّرعيّة ، وتضاعف نفوذها وسلطانها ، وأصبحت كلّ منطقة في السّلطنة تختصّ بمحكمة شرعيّة وقاض شرعيّ. وهو الّذي طلب من العلّامة السّيّد محسن بونمي أن يقوم بتدريب فريق من القضاة ويشرف عليهم ، فكان نظام الكورسات الّذي قدّمنا الحديث عنه ، وأرسل بعضا من النّابهين لإكمال دراستهم في السّودان ؛ منهم : ابنه الشّيخ عبد الرّحمن ـ الآتية ترجمته ـ والسّيّد عبد الله محفوظ الحدّاد. له مصنّفات ناقصة ، توفّي رحمه الله سنة (١٣٩٩ ه‍). عن كتاب «شذور من مناجم الأحقاف» (١٠٣ ـ ١٠٦).

(٢) دمث الأخلاق : ليّن الأخلاق.

(٣) بعيد القعر : بعيد الغور ؛ أي : دقيق النّظر.

(٤) الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله بكير. ولد بقرية الصداع سنة (١٣٤٢ ه‍) ، ودرس على يد والده ، وعلى عدد من علماء السّاحل ، رحل إلى السّودان لدراسة الشّريعة بجامعة الخرطوم ، وحصل على

١٥٣

وبالقارة المذكورة ناس من آل باعمروه ، وآل باسويد ، وآل بايمين ، وآل بالجعد.

وفيها عيون غزيرة ، استأثر الغيل بنسبتها إليه لاشتهاره وخمولها ، كما استأثر المخاببنّ اليمن ؛ لاشتهاره به من القديم ، مع أنّه لا يوجد به شيء منه الآن.

ويقال : إنّ القارة أقدم من الغيل ، وإنّ الشّيخ عبد الرّحيم باوزير كان يجلب الأكرة منها ؛ لبناء مسجده بالغيل.

وفيها جامع منسوب للسّيّد عليّ بن عبد الله المغربيّ ، يقال : إنّه بناه في القرن الثّامن.

وكان أهلها ـ من العوابثة وغيرهم ـ في ليل حالك من الجهالة ، فما زال المغربيّ المذكور ينشر فيهم دعوة الإسلام ، ويعلّمهم مبادئه ، حتّى انكشف عنهم ليل الجهل ؛ إذ صادفت دعوته ثرى طيّبا ، ونفوسا سليمة. وقد قال يزيد ابن الطّثريّة [من الطّويل] :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

الحزم وصداع

هو أرض واسعة من أعمال غيل باوزير ، كانت بها عين ماء وشلة (١) ، فما زال الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ في علاجها حتّى انبثقت ماء غزيرا ، وفيه اليوم معيانان ، وله جامع.

ومن سكّانه : الشّيخ الصّالح المعمّر عمر بادبّاه (٢) ، يقال : إنّ سنّة اليوم ينتهي إلى مئة وأحد عشر عاما.

__________________

الامتياز سنة (١٩٥٣ م). عيّن مساعدا إداريّا بمجلس القضاء الشّرعي الأعلى. ثمّ مفتّشا قضائيا ، وعضوا بالمجلس العالي الشّرعيّ. ثمّ مستشارا قضائيّا عام (١٩٦٧ م). ولا زال الشيخ المترجم يفيد الطالبين ، وهو مقيم بالمكلا ويتردد على القارة حفظه الله ونفع به المسلمين.

(١) وشلة : قليلة الماء.

(٢) هو الشّيخ العلّامة الصّالح ، المربّي القدير ، والعالم النّحرير ، والنّاسك الأوّاب عمر بن امبارك بن عوض بادبّاه الحضرميّ (١٢٥٧ ـ ١٣٦٧ ه‍). ولد المترجم له في حصن العولقيّ ، وحصن العولقي عبارة عن قرية تلتفّ بهضبة صخريّة ، يتوّجها الحصن الكبير الّذي لم تبق إلّا آثاره. نشأ المترجم له في هذا الحصن ، وترعرع فيه ، ثمّ مع بلوغه سنّ الإدراك والتّمييز .. سافر إلى الهند سنة (١٢٨٢ ه‍) ،

١٥٤

وفي حوالي سنة (١٢٦٠ ه‍) : كانت المنافسات قائمة على قدم وساق بحيدرآباد الدّكن بين الأمير عمر بن عوض القعيطيّ والأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ وفي جانبه الأمير غالب بن محسن الكثيريّ ، وكلّهم في خدمة الجيش الآصفيّ.

فاتّفق العولقيّ وغالب بن محسن على تكوين دولة لهم بحضرموت ، وكان العولقيّ كثير المال ، كريم النّفس ، شجاع القلب ، فطفق يرسل إلى حضرموت بكثير من الأموال ؛ لمواصلة العلويّين ، ولبناء المساجد والسّقايا وما أشبه ذلك.

ولمّا بدأ غالب بن محسن بشراء الغرف من أسافل حضرموت .. بدأ العولقيّ بشراء الحزم هذا ، واختار القارة المعروفة هناك لبناء حصنه الحصين عليها ، وهو المعروف بحصن صداع ، الّذي يقول فيه شاعرهم :

سلام الفين يا حصن مبني فوق قاره

بناك العولقي ما يعوّل بالخساره

ولمّا شعر القعيطيّ بذلك .. أرسل أولاده محمّدا وعبد الله وعليّا وعوضا إلى القطن من أرض حضرموت ، وزوّدهم بالأموال الطّائلة ، وبعث معهم بعبدين داهيين محنّكين ، يقال لأحدهما : ألماس ، وللآخر : عنبر ، ووافق ذلك هوى من يافع ،

__________________

ثمّ عاد إلى وطنه سنة (١٢٩٣ ه‍) بعد أن حصل على معلومات قيّمة دينيّة وطبيّة واجتماعيّة وعسكريّة. وبعد عودته إلى بلده .. تحرّكت همّته إلى الاتّصال بالسّيّد الكبير عليّ بن محمّد الحبشيّ في سيئون ، الّذي كان يواصل الجهود لإخراج أكبر مجموعة من العلماء في السّاحل والدّاخل ؛ لتقوم بواجبها في عموم القطر.

فحصل الاتّصال بين المترجم له مع الإمام الحبشيّ ، ونهل من علومه ومعارفه ما برّز فيه ، وفي أحد المرّات كان الإمام الحبشيّ يمازح تلميذه المترجم له .. فقال المترجم له : ما أنا إلّا دبّاه ـ يشير إلى شجرة القرع ـ فقال له شيخه : ولكنّها ستلقي قحازيز. (وهي كلمة عامّيّة ، معناها : صغار القرع). ثمّ استمرّ عند شيخه في سيئون خمس سنوات ، كلها جدّ ودرس وتحصيل. ثمّ استأذن شيخه في العودة إلى بلده صداع .. فأذن له شيخه ، فعاد إلى بلده وقد سبقه إليها صيته ومكانته العلميّة ، وما إن مرّت سنوات قليلة حتّى صارت بلدة الصداع مقرّا وموئلا لطلبة العلم ، ومقصدا للعلماء وطلّاب العلاج. ولم يقتصر على هذه النّاحية ؛ فقد باشر أعمال الإصلاح بين النّاس .. حتّى سرت محبّته في القلوب ، وأخذ ينشر الدّعوة والتّعليم في القرى. تخرّج عليه جملة صالحة من العلماء ؛ منهم : الشّيخ العلّامة سالم بن امبارك الكلالي ، والشّيخ العلّامة عبد الله بن عوض بكير ، والشيخ عبد الله الناخبي وغيرهم ، وكانت وفاته سنة (١٣٦٧ ه‍).

١٥٥

إلّا أنّهم اختلفوا مع عبديه في مخزن التّموين ، فأراد العبدان أن يكون بسيئون ، فامتنعت يافع خوفا من رسوخ قدم القعيطيّ فيها وهم لا يبغون بها بديلا.

ولمّا أحسّ آل كثير ـ بعد اللّتيا والّتي (١) ، وبعد هروج ومروج مستوفاة ب «الأصل» (٢) ـ بأنّهم عاجزون عن مناهضة القعيطيّ .. عقدوا حلفا ثلاثيّا من الكساديّ ـ الّذي استمالوه إليهم ، وكان هو والقعيطيّ على رأي لأنّهم يافعيّون ـ ومن العولقيّ والكثيريّ ، وكان ذلك في سنة (١٢٩٠ ه‍).

وكانت للعولقيّ عدّة مراكب شراعيّة تمخر عباب البحر ، وتنقل ما يحتاجه من الهند إلى الحزم وصداع.

وجرت بينهم حروب كثيرة ، كانت النّهاية فيها ـ كما ب «الأصل» (٣) ـ انهزام العولقيّ والكساديّ وآل عمر باعمر ، وتراجع آل كثير ، واستيلاء القعيطيّ على الغيل وعلى الحزم وعلى صداع ، وكان ذلك في سنة (١٢٩٣ ه‍).

وسمعت من الثّقات : أنّ نفقات العولقيّ على الحزم وصداع بلغت ثمانية آلاف ألف روبيّة ، وكان كثير النّدم على ما كان في أيّام حياته من ذلك ، وتمنّى أن لو كانت في سبل الخيرات.

__________________

(١) بعد اللّتيّا والّتي : مثل عربيّ معناه : بعد الدّاهية الكبيرة والصّغيرة. وكنّى عن الكبيرة بلفظ التّصغير تشبيها بالحيّة ؛ فإنها إذا كثر سمّها .. صغرت ؛ لأنّ السّمّ يأكل جسدها. وقيل : أصل هذا المثل : أنّ رجلا من جديس تزوّج امرأة قصيرة ، فقاسى منها الشّدائد ، وكان يعبّر عنها بالتّصغير ، فتزوّج امرأة طويلة ، فقاسى فيها ضعف ما قاسى من الصّغيرة ، فطلّقها وقال : بعد اللّتيّا والّتي .. لا أتزوّج أبدا.

فجرى ذلك على الدّاهية.

(٢) كان انعقاد الحلف في رمضان (١٢٩٠ ه‍) ، كما نقل ذلك في الأصل عن «تاريخ الحبيد» والكلام في هذا يطول ، وهو في «بضائع التابوت» : (٣ / ٢٦ ـ ٣٤).

(٣) كانت بداية نهاية الحلفاء في وقعة شحير في صفر (١٢٩٢ ه‍) ؛ إذ هجموا على شحير بعد طلوع الفجر ، فلاقاهم عسكر القعيطيّ من يافع وغيرهم إلى خارج شحير ، واشتدّ الحرب وانتهى بعد أن استحرّ بالحلفاء القتل والهزيمة. ثمّ جهّز القعيطيّ في رجب على غيل باوزير ، وانهزم الحلفاء أيضا ، ولم يكن لهم ملجأ بعد ذلك إلّا إلى الحزم وصداع مع فلول الأحلاف. وفي شوال (١٢٩٣ ه‍) ..

جهّز السّلطان عوض بن عمر القعيطيّ على حصن صداع والحزم بثلاث فرق ، وحاصر من فيها أربعة أشهر حتّى استسلمت حامية الحصن وهم العوالق ، وآل عمر باعمر ، فسفّر العوالق بعضهم إلى أرضهم جهة القبلة ، والبعض إلى الهند ، وسجن آل عمر باعمر.

١٥٦

وللعامّة في تمنّيه ذلك أشعار كثيرة ، ومن يك وكلاؤه آل كثير (١) .. فإنّه جدير بمثل ذلك.

وما أدري ، أكان ما أنفقه ولده محسن بعد وفاته في حروب الحزم وصداع داخلا في ذلك القدر ، أم كان علاوة عليه؟

إلا أنّه انتبه لآل كثير واحتاط منهم ، ولذا لم يحمد بينهم المآل ولم يبلغوا الآمال.

وينتهي نسب العولقيّ إلى ذي يزن الحميريّ ، وقيل : إلى معن بن زائدة الشّيبانيّ ، وقيل : إنّه من آل باحلوان ، وهو من بني حلوان بن عمر بن الحاف بن قضاعة ، وإنّ الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ من ذرّيّة عبد الله بن قيس بن زمليّ بن عمرو الفهميّ الآتي ذكره في الغرفة ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، ومهما يكن من الأمر ..

فما سوّدته عامر عن وراثة

أبى الله أن يسمو بأمّ ولا أب (٢)

وله أخبار عظيمة ، ومناقب كريمة ، وأنف حميّ ، وقدر سميّ.

والله أعطاه المحبّة في الورى

وحباه بالفضل الّذي لا يجهل

نفس مشيّعة ورأي محصد

ويد مؤيّدة ورأي فيصل (٣)

إلى جود ضخم ، ومجد فخم ، وعقل راجح ، وسيف طامح.

وزنوا الأصالة من حجاه وإنّما

وزنوا بها طودا من الأطواد

ووراء ذاك الحلم ليث خفيّة

من دون حوزته وحيّة وادي (٤)

ولم تكن الهزائم المشار إليها في الحزم وصداع إلّا بعد خمود ريح دولته بموته في حيدرآباد الدّكن سنة (١٢٨٤ ه‍).

__________________

(١) الرّجل الّذي كان يزجّ بالعولقي في تلك الوقائع هو الأمير عبود بن سالم الكثيريّ ، وقد فرّ من السّاحل بعد هزيمته والعولقيّ في صداع.

(٢) البيت من الطّويل ، وهو لعامر بن الطّفيل بنحوه كما في «لسان العرب» (١١ / ٥٩٣).

(٣) البيتان من الكامل ، وهما للبحتري في «ديوانه» (١ / ٣٣). رأي محصد : رأي سديد.

(٤) البيتان من الكامل ، وهما أيضا للبحتري في «ديوانه» (١ / ١٨٦).

١٥٧

والمشهور : أنّه مات على فراشه ، وقال بعضهم : إنّها وقعت بينه وبين الشّاوش صلاح الضّبيّ اليافعيّ واقعة قتل فيها صلاح وجماعة من عسكر الطّرفين ، ولكنّ ملك حيدرآباد أصلح بينهم ، غير أنّ يافعا بعد عامين من الصّلح كادت للأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ مع خروجه لصلاة العصر ، وأطلقت عليه الرّصاص ، وكان كما قال الأوّل :

مضى مثل ما يمضي السّنان وأشرقت

به بسطة زادت على بسطة الرّمح

فتى ينطوي الحسّاد من مكرماته

ومن مجده الأوفى على كمد برح (١)

وقد وقع رداؤه على ولده محسن (٢) ، وكان على قدّة أبيه (٣) ، جودا ونجدة وشهامة ، ولكنّه لم يكن مثله ـ ولا بقريب منه ـ لا في العلم ولا في الدّين ، فانطبق عليه قول ليلى الأخيليّة [من الطّويل] :

فنعم فتى الدّنيا وإن كان فاجرا

وفوق الفتى لو كان ليس بفاجر

وهذا البيت من الكلام الجزل (٤) ، الّذي لا يعلكه إلّا لحي بازل فحل (٥) ، فمجيئه من لسان هذه المرأة يفتح للنّساء أبواب الفخر والاحتجاج على الرّجال بمصاريعها ،

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما أيضا للبحتري في «ديوانه» (١ / ٧٤).

(٢) خلف محسن بن عبد الله والده في حكم الحزم وحصن صداع ، وهو الّذي جرت بينه وبين القعيطيّ الحوادث السّالفة الذّكر ، عقب دخوله في الحلف الثّلاثيّ. وقد ترك له والده تركة وميراثا يقدّر بعشرين مليون روبية أو تزيد ، ويروى عن الأمير عبد الله بن علي قوله : تركت لولدي محسن عشرين ألف ألف روبية نقدا ، فضلا عمّا يناسبها من العقار والأثاث والمجوهرات ، ثمّ إن كان فحلا .. فلن يحتاجها ، وإن كان فسلا .. فلن تنفعه. «بضائع التابوت» (٣ / ٢٦). قال السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ ـ الأخير ـ : ولقد سمعت بنفسي من مجموعة من الثّقات المسنّين بأنّه عندما احترق قصره في أيّام أحفاده نتيجة لإصابته بصاعقة .. شوهدت المعادن ـ مثل الفضة وغيرها ـ تسيل في المجاري بسبب الحرارة.

(٣) قدّة : طريقة.

(٤) الجزل : ضدّ الرّكيك.

(٥) في هذا الكلام كناية على رفعة هذا الكلام ، وأنّه لا يتكلّم به إلّا الفحول من الرّجال.

١٥٨

فلقد أراد حبيب أن يتعلّق به .. فانهار رجاه ، وأخطأته النّجاه ؛ إذ لم يأت إلّا بقوله [في «ديوانه» ١ / ٣٧٧ من الكامل] :

إنّ الطّلاقة والنّدى خير لهم

من عفّة جمست عليك جموسا (١)

لو أنّ أسباب العفاف بلا ندى

نفعت .. لقد نفعت إذا إبليسا (٢)

وقوله [في «ديوانه» ١ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨ من الكامل] :

إن كان بالورع ابتنى القوم العلا

أو بالتّقى صار الشّريف شريفا

فعلام قدّم وهو زان عامر

وأميط علقمة وكان عفيفا (٣)؟

ثمّ رأيت المبرّد يقول في أواخر «الكامل» [٣ / ١٤١٠ ـ ١٤١١] : (لقد كانت الخنساء وليلى متقدّمتين لأكثر الفحول ، وربّما تتقدّم المرأة في الصّناعة ، ولكنّه قليل ، والأغلب ما قال تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) ، وأطال في هذا الباب ، ويرد عليه : أنّ هذا ليس من كلام الله ، وإنّما هو محكيّ عن فرعون (٤) ، ولقائل أن يستثني منه بفرض الرّواية عند البحتريّ أو الشّجريّ في «الحماسة» إبدال (فاجر) بفاخر .. فقلت له : ليس الفخر بعاب عند العرب حتّى يسلك به فجه فهو ظاهر الغلط ، لا سيّما وقد قال توبة [الخفاجيّ من الطّويل] :

لقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها (٥)

__________________

(١) جمست : جمدت. يقول : طلاقة وجهك وجودك .. خير لهم من عفّتك ؛ لأنّ هذه يعود نفعها عليك ، أمّا الطّلاقة والنّدى .. فنفعهما عليهم.

(٢) يقول : إنّ أسباب العفاف بلا تقى لا تنفع ؛ لأنّها قد توجد مع البرّ والفاجر ، وقد توجد مع إبليس ، ولو أنّها تنفع بلا تقى .. لنفعته ؛ لأنّه لا يأكل حراما ، ولا يأخذ أموال النّاس بالباطل ، وكذلك عفّتك إن لم يكن معها تقى ولا ندى .. فهي لا تنفع.

(٣) عامر : هو عامر بن الطّفيل ، وكان زنّاء. علقمة : هو ابن علاثة وكان عفيفا. وأشار بقوله : قدّم : إلى أنّ الأعشى قدّم عامرا على علقمة حينما تنافرا إليه. وقصّة منافرتهما موجودة في «جمهرة خطب العرب» (١ / ٤١) ، فليرجع إليها من أحب.

(٤) في قوله تعالى : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) والله أعلم.

(٥) البيت من قصيدة رائعة لتوبة الخفاجي ، الذي هو أحد عشاق العرب ، ومحبوبته هي ليلى الأخيلية الشاعرة العفيفة ، التي لم يحظ منها بشيء ؛ إذ زوّجها أبوها لغيره ، ومن أشعارها فيه :

١٥٩

أمّا قول ليلى [من الطّويل] :

معاذ النّهى قد كان والله توبة

جوادا على العلّات جمّا نوافله

أغرّ خفاجيّا يرى البخل سبّة

تحالف كفّاه النّدى وأنامله

عفيفا بعيد الهمّ صلبا قناته

جميلا محيّاه قليلا غوائله

إنّما جاءت به مكابرة لقول معاوية ـ أو عبد الملك ـ ويحك يا ليلى ؛ يزعم النّاس أنّه كان عاهرا فاجرا. ورأيها مع النّاس أقوى حجّة من وصفه بالعفاف مع الضّعف ؛ بأمارة الإيجاز الّذي لم يتجاوز اللّفظة الواحدة فيه.

وسمعت من غير واحد من أهل حيدرآباد أنّ بغيّا قالت لمحسن هذا : أتوجد مئة ألف روبيّة مجموعة معا في مكان واحد؟

فقال لها : نعم.

فقالت : أمّا أنا فلا أصدّق بذلك ، وإن كان واقعا .. فإنّي أتمنّى أن أراه.

فأمر بإحضار مئة ألف روبيّة ، ونثرها في بقعة واحدة ، ثمّ أمرها أن ترقص عليها ، لا أدري أبثيابها أم عريانة ، ثمّ سوّغها إيّاها.

ومن محاسنه : وقفه ليشحر الآتي ذكره بموضعه (١).

وقد أثّرت على حياة محسن حادثة الهزيمة في الحزم والصداع ، لا سيّما وأنّ آل القعيطيّ أحضروا سدّة (٢) صداع إلى حيدرآباد ووضعوها في الطّريق الواسعة ، فمات غبنا (٣) في سنة (١٢٩٤ ه‍) عن ولد يقال له : حسين ، لم يكن بدون أبيه في

__________________

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

وأنت لأخرى صاحب وخليل

وللبيت الذي معنا قصة رائعة ، موجودة في «جمهرة خطب العرب» (٢ / ٤١١) .. فليرجع إليها.

(١) ونصّ وثيقة الوقفيّة في «بضائع التابوت» (٣ / ٣٧) كتبت سنة (١٢٨٦ ه‍).

(٢) السّدّة : هي بوّابة مدخل البلدة المسوّرة ، وإنّما فعل آل القعيطي ذلك نكاية وأذيّة للعولقيّ وسخرية منهم به.

(٣) في «بضائع التابوت» : أنّ محسنا مات مسموما ، سمّه طبيب ، ولمّا فطن ولده حسين بالأمر .. استلّ خنجره وطعن الطّبيب.

١٦٠