أدب الطّف - ج ١

جواد شبّر

أدب الطّف - ج ١

المؤلف:

جواد شبّر


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ولا بسطت ايدي العفاة بنانها

الى أريحي منه أندى واكرم

ولا التمع التاج المفصّل نظمه

على ملك منه أجلّ وأعظم

ففيه لنفس ما استدلّت دلالة

وعلم لاخرى لم تدبّر فتعلم

*  *  *

بكم عز ما بين البقيع ويثرب

ونسّك ما بين الحطيم وزمزم

فلا برحت تترى عليكم من الورى

صلاة مصلّ أو سلام مسلم

ما عرف التاريخ من أول الناس حتى يومهم هذا أن شخصاً قيل فيه من الشعر والنثر كالحسين بن علي بن ابي طالب فقد رثاه كل عصر وكل جيل بكل لسان في جميع الازمان ووجد الشيعة مجالا لبث احزانهم ومتنفساً لآلامهم من طريق رثاء الحسين سيما وهذه الفرقة محاربة في كل الحكومات وفي جميع الادوار ومما ساعد على ذلك أن فاجعة الطف هي الفاجعة الوحيدة في التاريخ بفواجعها وفوادحها فتميزوا بالرثاء وابدعوا فيه دون باقي ضروب الشعر فاجادوا تصويره وتنميقه .

وكان السبب الكبير الذي دفع بالشيعة لهذا الاكثار من الشعر هو حث ائمتهم لهم على ذلك وما اعد الله لهم من الثواب تجاه هذه النصرة قال الامام الصادق عليه السلام :

من قال فينا بيتاً من الشعر بنى الله له بيتاً في الجنة (١) .

وقال عليه السلام : من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى ، غفر الله له ، ووجبت له الجنة .

ثم احتفاء اهل البيت بمكانة الشاعر وتقديره وتقديم الشكر على نصرته لهم

__________

(١) عيون اخبار الرضا للصدوق .

٢١
 &

والدعاء له بأجمل الدعاء وألطفه كما جاء من دعائهم للكميت ، ودعبل ، والحميري واضرابهم في تلك العصور التي كمت الافواه وغلت الايدي عن نصرة اهل البيت ولم يعد يجسر احد من الشعراء على المجاهرة برثاء الحسين عليه السلام لشدة الضغط الاموي الا الشاذ الذي ينظم البيت والبيتين ينطلق بهما لسانه ، وتندفع بهما عاطفته و كذا الحال في الدور العباسي .

مضى على الذكريات الحسينية ردح من الزمن وهي لاتقام إلا تحت ستار الخفاء في زوايا البيوت وبتمام التحفظ والاتقاء حذار أن تشعر بهم السلطة الزمنية .

قال ابو الفرج الاصبهاني قي مقاتل الطالبيين : كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين عليه السلام مخافة من بني امية وخشية منهم .

وفي تاريخ ابن الاثير عندما اورد قصيدة اعشى همدان التي رثى بها التوابين الذين طلبوا بثار الحسين التي منها :

فساروا وهم ما بين ملتمس التقى

وآخر مما جرَّ بالامس تالب

قال : وهي مما يكتم في ذلك الزمان (١)

وقال ابو الفرج في مقاتل الطالبيين : قد رثى الحسين بن علي « ع » جماعة من

__________

(١) اقول والقصيدة مطلعها كما في الاعيان ج ٣٥ ـ ص ٣٢٨

المَّ خيالٌ منك يا امّ غالبِ

فحييت عنا من حبيب مجانب

فما انس لا انس انتقالك في الضحى

الينا مع البيض الحسان الخراعب

تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشى

لطيفة طيّ الكشح ريّا الحقائب

فتلك النوى وهي الجوى لي والمنى

فاحبب بها من خلة لم تصاقب

ولا يبعد الله الشباب وذكره

وحب تصافي المعصرات الكواعب

فاني وان لم انسهن لذاكر

رويّة مخبات كريم المناسب

٢٢
 &

متأخري الشعراء استغنى عن ذكرهم في هذا الموضع كراهية الاطالة واما ما تقدم فما وقع الينا شيء رثى به ، وكانت الشعراء لاتقدم على ذلك مخافة من بني امية وخشية منهم انتهى .

وقال الشيخ عباس القمي في ( الكنى والالقاب ) راوياً عن معجم الشعراء للمرزباني ان عوف بن عبد الله الازدي ـ كان ممن شهد مع علي بن ابي طالب في صفين ـ له قصيدة طويلة رثى بها الحسين ، وكانت هذه المرثية تخبأ ايام بني امية وانما خرجت بعد كذا ، قال ابن الكلبي منها :

ونحن سمونا لابن هند بجحفلٍ

كرجل الدبا يزجي اليه الدواهيا

اقول وأول القصيدة :

__________

توسل بالتقوى الى الله صادقا

وتقوى الآله خير تكساب كاسب

وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها

وتاب الى الله الرفيع المراتب

تخلى عن الدنيا وقال طرحتها

فلست اليها ما حييت بآيب

وما انا فيما يكره الناس فقده

ويسعى له الساعون فيها براغب

توجه من نحو الثوية سائرا

الى ابن زياد في الجموع الكتائب

بقوم هم اهل التقية والنهى

مصاليت انجاد سراة مناجب

مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة

ولم يستجيبوا للامير المخاطب

فساروا وهم ما بين ملتمس التقى

وآخر مما جرَّ بالامس تائب

فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلاً

اليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب

يمانية تذري الاكف وتارة

بخيل عتاق مقربات سلاهب

فجاءهم جمع من الشام بعده

جموع كموج البحر من كل جانب

فما برحوا حتى أُبيدت سراتهم

فلم ينج منهم ثمَّ غير عصائب

وغودر اهل الصبر صرعى فاصبحوا

تعاورهم ريح الصبا والجنائب

فاضحى الخزاعي الرئيس مجدلا

كأن لم يقاتل مرة ويحارب

٢٣
 &

صحوت وودعت الصبا والغوانيا

وقلت لاصحابي اجيبوا المناديا

وقولوا له إذ قام يدعو الى الهدى

ـ وقبل الدعا ـ لبيك لبيك داعيا

سقى الله قبراً ضمن المجد والتقى

ـ بغربية الطف الغمام ـ الغواديا

فيا امة تاهت وضلت سفاهة

أنيبوا فارضوا الواحد المتعاليا

وستذكر في ترجمته .

من اجل ذلك كان للمجاهر بفضل اهل البيت قسط كبير عندهم ، قال الامام الباقر عليه السلام للكميت لما انشده قصيدته : من لقلب متيم مستهام . لا تزال مؤيداً بروح القدس (١) واستأذن الكميت على الصادق عليه السلام في ايام التشريق ينشده قصيدته ، فكبر على الامام ان يتذاكروا الشعر في الايام العظام ، ولما قال له الكميت إنها فيكم ، أنس ابو عبد الله عليه السلام ـ لان نصرتهم نصرة لله ـ ثم دعا بعض اهله فقرب ، ثم انشده الكميت فكثر البكاء ولما اتى على قوله :

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم

فيا آخراً اسدى له الغي أولُ

رفع الصادق يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدم وأخر وما اسر وأعلن واعطه حتى يرضى (٢) .

وهكذا فقد صبغت حادثة الامام الحسين عليه السلام ، ولا تزال تصبغ ادب الشيعة بالحزن العميق والرثاء المؤلم موشحاً بالدموع واستدرار البكاء حتى ظهر ذلك على غنائهم وشكواهم من احبابهم وعتابهم لأصدقائهم .

وبالوقت الذي نقرأ في شعرهم اللوعة والمضاضة نحس بالاستنهاض والثورة فهي نفوس شاعرة متوثبة صارخة بوجه الظلم والطغيان والفساد والاستبداد منددة بالولاة الجائرين والظلمة المستهترين ، واليك نموذجاً من ذلك :

__________

(١) رجال الكشي ص ١٨١

(٢) الاغاني ج ١٥ ص ١١٨ ومعاهد التنصيص ج ٢ ص ٢٧

٢٤
 &

إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم

فلا مشت بي في طرق العلا قدمُ

لابد أن أتداوى بالقنا فلقد

صبرت حتى فؤادي كله ألم

عندي من العزم سر لا أبوح به

حتى تبوح به الهندية الخذم

لا أرضعت لي العلى ابناً صفو درّتها

إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم

إلِّية بضبا قومي التي حمدت

قدما مواقعها الهيجاء لا القمم

لأحلبنَّ ثديَّ الحرب وهي قناً

لبانها من صدور الشوس وهو دم

ما لي أسالم قوماً عندهم ترتى

لا سالمتني يد الايام إن سلموا

هذه أبيات من مطلع قصيدة للسيد حيدر الحلي لا تقل ابياتها عن السبعين بيتاً وهي على هذا اللون من الاستنهاض للهاشميين وشيعتهم وحتى يقول فيها والخطاب للحجة المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم :

ما خلت تقعد حتى تستثار لهم

وأنت أنت وهم فيما جنوه همُ

لم تبق أسيافهم منكم على ابن تقى

فكيف تبقى عليهم لا أباً لهم

فلا وصفحك إن القوم ما صفحوا

ولا وحلمك إن القوم ما حلموا

ويلتفت الى بني هاشم فيقول :

يا غادياً بمطايا العزم حمّلها

هماً تضيق به الأضلاع والحزم

عرِّج على الحي من عمرو العلى فأرح

منهم بحيث اطمأن الباس والكرم

وحيَّ منهم حماة ليس بابنهم

من لا يرفُّ عليه في الوغي العلم

قف منهم موقفاً تغلى القلوب به

من فورة العتب واسأل ما الذي بهم

جفّت عزائم فهر أم تردى بردت

منها الحمية أم قد ماتت الشيم

أم لم تجد لذع عتبي في حشاشتها

فقد تساقط جمراً من فمي الكلم

اين الشهامة أم اين الحفاظ اما

يأبي لها شرف الاحساب والكرم

٢٥
 &

تسبى حرائرها بالطف حاسرة

ولم تكن بغبار الموت تلتثم

وقصائد السيد حيدر المعروفة بالحوليات تزيد على العشرين كلها على هذا اللون وهذا النسق والاتجاه ولهذا الشاعر نظائر تضيق بتعدادهم بطون الدفاتر لا زالت ترددها المحافل وتسير بذكرها القوافل ، وحسبك ان تجد حتى الطبقة الاميَّة من أبناء الشيعة يحفظ هذه الأشعار الحسينية ويستشهد بها ويستعذب انشادها وترديدها ، والحق ان المآتم الحسينية من اكبر وسائل التهذيب عند الشيعة وهي التي جندت اكبر عدد من أنصار اهل البيت والدعوة الى مبدأهم ونصرتهم ولفتت انظار الناس الى مظلوميتهم وحقهم المغتصب فلا تعجب اذا حاربها المعاند والجامد وراح يهزأ بها ، والمتجاهل المكابر ، حتى قال :

هتكوا الحسين بكل عام مرة

وتمثلوا بعداوة وتصوروا

ويلاه من تلك الفضيحة إنها

تطوى وفي ايدي الروافض تنشر

وقال بعضهم :

لا عذّب الله يزيداً ولا

مدت يد السوء الى رحله

لأنه قد كان ذا قدرة

على اجتثاث الفرع من اصله

لكنه ابقى لنا مثلكم

عمداً لكي يعذر في فعله

فيجيبه الشاعر الخفاجي (١) بقوله :

يا قاتل الله يزيداً ومن

يعذره الكافر في فعله

اطفأ نوراً بعضه مشرق

يدل بالفضل على كله

والله ابقى الفرع حرباً على

من رام قطع الفرع من اصله

ليظهر الدين به والهدى

ويجعل السادة من نسله

__________

(١) هو عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي ، صاحب قلعة عزاز ، له شعر في امير المؤمنين « ع » توفي سنة ٤٦٦ هـ .

٢٦
 &

اما البيتين المتقدمين فقد ذكرهما السيد محمود شكري الآلوسي في ( مختصر التحفة الاثنى عشرية ) ص ٣٨٣ والمطبوعة بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة ١٣٧٣ هـ وعليها تعليق محب الدين الخطيب وبعد أن عاب المظاهر الحسينية التي تقوم بها الشيعة قال : ولله در من قال : هتكوا الحسين بكل عام مرة . . . البيتين .

اقول وتقدم من شعراء الشيعة مدافعين عن عقائدهم بالرد على هذا الشاعر ، منهم العلامة الجليل الشيخ محمد رضا المظفر حيث يقول مشطراً :

( هتكوا الحسين بكل عام مرة )

قوم على تلك المآتم انكروا

قد حرموا فيه المواكب والبكا

( وتمثلوا بعداوة وتصوروا )

( ويلاه من تلك الفضيحة إنها )

أبداً على مر الليالي تذكر

احسبتم آثار هذا الدين ان

( تطوى وفي ايدي الروافض تنشر )

وقلت مشطراً :

( هتكوا الحسين بكل عام مرة )

اذ تبعث الذكرى فظائع تذكر

قد حاربوه وهو بضعة احمد

( وتمثلوا بعداوة وتصوروا )

( ويلاه من تلك الفضيحة انها )

عار بوجه امية لا ينكر

يا ساتراً وجه الحقيقة لا تخل

( تطوى وفي ايدي الروافض تنشر )

أقول وقد جمع العلامة البحاثة السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم هذه الردود في كتابه ( عاشوراء في الاسلام ) .

بوركت يا سيد الشهداء وبوركت نهضتك الجبارة فما عرف التاريخ أيمن منها واكثر بركة ، انها علمتنا معنى العزة والكرامة والرجولة والشهامة ، وكيف يكون المؤمن بربه حقاً ، واذا عددنا امجاد العرب ففي مقدمة ذلك جهاد الحسين وثورة الحسين وإباء الحسين منذ الف وثلثمائة عام تمر بالعصور

٢٧
 &

فتستخدمها ويمر يوم ذكراه فيقيم الدنيا ويقعدها بالرغم من تقلب الزمان وتطور الاحداث يقول الكاتب المصري ابراهيم عبد القادر المازني :

لا يزال مصرع الحسين بعد اربعة عشر قرناً يهز العالم الاسلامي هزاً عنيفاً ، ولست اعرف في تاريخ الامم قاطبة حادثة مفردة كان لها هذا الاثر العميق على الزمن في مصائر دول عظيمة وشعوب شتى .

ولقد بلغت من الذيوع والشهرة ، ان اصبح يرويها الكبير والصغير والمسلم وغير المسلم .

وبعد فهي موضع الشاهد ومضرب المثل في كل ما يمر في هذه الحياة وسلوة المصاب وعزاؤه إذ انها تصغر عندها المصائب على حد قول الشاعر :

أنست رزيتكم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

وفجائع الأيام تبقى مدة

وتزول ، وهي الى القيامة باقية

يقول الشاعر العلوي السيد محمد سعيد الحبوبي مؤبناً السيد ميرزا جعفر القزويني ـ قائد الحركة الأدبية في عصره في الحلة الفيحاء موطن الادب والشعر ـ وكان الفقيد قد لبّى نداء ربه في اول محرم الحرام وبه تعود ذكرى الحسين فقال من قصيدة له :

كان المحرم مخبراً فأريتنا

يا جعفر فيه الحسين قتيلا

فكأن جسمك جسمه لكنه

كان العفير وكنت انت غسيلا

وكأن رأسك رأسه لو لم يكن

عن منكبيه مميزاً مفصولا

وجبينك الوضاح مثل جبينه

بلجاً وليس كمثله تجديلا

وحملت أنت مشرّفاً ايدي الورى

وثوى بنعش لم يكن محمولا

٢٨
 &

إن تنأ عنا راحلاً كرحيله

فلرب سجاد تركت عليلا

ويدخل القاضي الرشيد ابو الحسين احمد بن القاضي الرشيد علي المصري الاسواني الى مصر بعد مقتل الظافر بالله العباسي وجلوس الفائز بالله ويحضر المأتم وقد حصر شعراء الدولة فأنشدوا مراثيهم على مراتبهم فقام هذا الشاعر في آخرهم وأنشد قصيدته التي أولها :

ما للرياض تميل سكراً

هل سقيت بالمزن خمرا

إلى أن وصل إلى قوله :

أفكربلاء بالعراق

وكربلاء بمصر أخرى

فتذرف العيون ويعج القصر بالبكاء والعويل وتنثال العطايا من كل جانب على الناظم لاهتدائه لحسن المناسبة .

ويتكرر اسم الحسين عليه السلام على لسان امير الشعراء احمد شوقي فيقول في رثائه للزعيم مصطفى كامل باشا ـ مؤسس الحزب الوطني ـ في قصيدته التي أولها :

المشرقان عليك ينتحبان

قاصيهما في مأتم والداني

ومنها :

يزجون نعشك في السناء وفي السنا

فكأنما في نعشك القمران

وكأنه نعش الحسين بكربلا

يختال بين بكى وبين حنان

ويقول شوقي بك في قصيدته الحرية الحمراء :

في مهرجان الحق أو يوم الدم

مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليها نورَ نورُ دمائها

كدم الحسين على هلال محرم

٢٩
 &

ويفجع دعبل بن علي الخزاعي بولده الصغير احمد فيتأسى بمصارع آل محمد ، ويقول :

على الكره ما فارقت احمد وانطوى

عليه بناء جندل ورزين

ولولا التأسي بالنبي وأهله

لأسبل من عيني عليه شؤون

هو النفس ، الا أن آل محمد

لهم دون نفسي في الفؤاد كمين

اضرَّ بهم ارث النبي فأصبحوا

يساهم فيهم ميتة ومنون (١)

دعتهم ذئاب من امية وانتحت

عليهم دراكاً أزمة وسنون (٢)

ويقول الحسين بن احمد الكاتب النيلي البغدادي المشهور بابن الحجاج من شعراء القرن الرابع الهجري :

وأبرصٌ من بني الزواني

ملمّع أبلق اليدينِ

قلت وقد لجَّ بي أذاه

وزاد ما بينه وبيني

يا معشر الشيعة الحقوني

قد ظفر الشمر بالحسين (٣)

ويقول ابن عبدون احد شعراء الاندلس :

أراك ترنو إليّ شزراً

بمقلة تستجيز حيني

كأنني من بني زياد

وأنت من شيعة الحسين

ويقول الشيخ حمادي الكواز في معرض العتاب على الحبيب :

__________

(١) ساهم : قارع ( من القرعة ) واراد بالمنون : الاغتيال .

(٢) الدراك : المداركة ، اي الملاحقة . والسنة الازمة والقحط .

(٣) ذلك ان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين عليه السلام كان ابرصا .

٣٠
 &

شاب رأسي والحب فيكم وليد

وبلى الجسم والغرام جديد

قتل الصبر كالحسين شهيداً

لا لذنب والهجر منكم يزيد

ومر الشاعر جعفر بن محمد الخطي سنة ١٠١٩ في سفينة مائية عابراً البحر بين كتكان وثوبلي وبوبهان ـ من قرى البحرين ـ وبينما هو في السفينة وثبت سمكة من البحر وهي من نوع السبيطي فشقت جبهته اليمنى فنظم قصيدة غراء اولها :

برغم العوالي والمهندة البترِ

شاب رأسي والحب فيكم وليد

الى ان يقول والقصيدة طويلة :

لعمر أبي الخطى إن بات ثأره

لذي غير كفو وهو نادرة العصر

فثار علي بات عند ابن ملجم

وأعقبه ثأر الحسين لدى شمر

وحتى عند السكر والخمريات يكون منه موضع الشاهد فهذا شميم النحوي من شعراء القرن السادس والمتوفى سنة ٦٠١ يقول :

أمزج بمسبوك اللجين

ذهبا حكته دموع عيني

لما نعى ناعي الفراق

ببين من أهوى و بيني

وأحالها التشبيه لما

شبهت بدم الحسين

خفقت لنا شمسان من

لألائها في الخافقين

وبدت لنا في كأسها

من لونها في حلتين

فاعجب هداك الله من

كون اتفاق الضرتين (١)

ويقول سعيد بن هاشم العبدي احد شعراء القرن الرابع الهجري :

__________

(١) ترجمه اليعقوبي في البابليات ـ الجزء الاول .

٣١
 &

أنا في قبضة الغرام رهين

بين سيفين أرهفا ورديني

فكأن الهوى فتى علوي

ظن اني وليت قتل الحسين

وكأني يزيد بين يديه

فهو يختار أوجع القتلتين

وهكذا راح اسم الحسين وقصته يترددان على الافواه ويتخذ الناس منهما شاهداً ومثلاً وتأسياً واستشهادا .

بكاء الكائنات :

كان لعظم هذه الفاجعة التي لم يقع في الإسلام أفظع ولا أشنع منها ان تجاوبت الأرض والسماء بالعزاء . روى الآلوسي في شرح القصيدة العينية ان عبد الباقي العمري الموصلي رثى الحسين بقوله :

يا عاذل الصبِّ في بكاه

بالله ساعفه في بكائك

فانه ما بكى وحيداً

على بني المصطفى اولئك

بل إنما قد بكت عليهم

الإنس والجنّ والملائك

ويقول في ملحمته الكبيرة كما في الديوان :

قضى الحسين نحبه وما سوى الله عليه قد بكى وانتحبا

ويقول ابو الفرج ابن الجوزي في ( التبصرة ) :

لما كان الغضبان يحمر وجهه عند الغضب ، فيستدل بذلك على غضبه وأنه امارة السخط ، والحق سبحانه ليس بجسم فأظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين بحمرة الافق وذلك دليل على عظم الجناية .

والى قتل الحسين عليه السلام وحمرة السماء يشير أبو العلاء المعري في قصيدة اولها :

٣٢
 &

عللاني فان بيض الاماني

فنيت والظلام ليس بفان

إلى أن يقول فيها :

وعلى الدهر من دماء الشهيدين عليٍ ونجله شاهدان

فهما في اواخر الليل فجران وفي أولياته شفقان

ثبتا في قيمصه ليجيء الحشر

الحشر مستعدياً الى الرحمن

ومن لطيف الاستنتاج ما أنشدنيه الشيخ عبد الحسين الحويزي لنفسه :

كل شيء في عالم الكون أرخى

عينه بالدموع يبكي حسينا

نُزّه الله عن بُكاً ، وعلي

قد بكاه ـ وكان الله عينا ـ

روي أن أم سلمة سمعت هاتفاً يقول كما روى الطبري في ج ٦ ص ٢٦٩ ، وابن الاثير في ج ٤ ص ٤٠ :

أيها القاتلون جهلاً حسيناً

ابشروا بالعذاب والتنكيل

قد لعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الانجيل

وروى ابن قولويه في الكامل : انهم كانوا يسمعون نوح الجن في الليالي التي قتل فيها الحسين عليه السلام فمن شعرهم :

ابكي ابن فاطمة الذي

من قتله شاب الشعر

ولقتله زلزلتموا

ولقتله انخسف القمر

ومن نوحهم ما رواه هو وغيره :

نساء الجن يبكين

من الحزن شجيّات

ويلطمن خدوداً

كالدنانير نقيّات

ويلبسن الثياب السود

بعد القصبيات

ادب الطف ـ ( ٣ )

٣٣
 &

ويسعدن بنوح

للنساء الهاشميات

ويندبن حسينا

عظمت تلك الرزيات

ومن نوحهم ما رواه الشيخ المفيد رحمه الله عن رجل من بني تميم قال كنت جالساً بالرابية ومعي صاحب لي فسمعنا هاتفاً يقول :

والله ما جئتكم حتى بصرت به

بالطف منعفر الخدين منحورا

وحوله فتية تُدمى نحورهم

مثل المصابيح يملون الدجى نورا

لقد حثثت قلوصي كي أصادفهم

من قبل ، كيما ألاقي الخرّد الحورا

فعاقني قدر والله بالغة

فكان امراً قضاه الله مقدورا

كان الحسين سراجاً يستضاء به

الله يعلم اني لم أقل زورا

فقلت من أنت يرحمك الله ، قال وليٌ من جن نصيبين أردت أنا وأبي نصرة الحسين ومواساته فانصرفنا من الحج فرأيناه قتيلا .

وذكر ابن نما رحمه الله عن أبي حباب الكلبي قال : لما قتل الحسين « ع » ناحت عليه الجن فكان الجصاصون يخرجون بالليل الى الجبانة فيسمعون الجن يقولون :

مسح الحسين جبينه

فله بريقٌ في الخدودِ

وأبوه من أعلى قريش

وجده خير الجدود

وناحت عليه الجن فقالت :

لمن الأبيات بالطف على كره بنينا

تلك ابيات الحسين يتجاوبن رنينا

٣٤
 &

قال السيد الامين في الأعيان : والشك في ذلك ينبغي له التشكيك في قوله تعالى : ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ) .

وروى أن القوم لما ساروا برأس الحسين وبسباياه نزلوا في بعض المنازل ووضعوا الرأس المطهر فلم يشعروا إلا وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم :

أترجوا امة قتلت حسيناً

شفاعة جده يوم الحساب

كذا في مجمع الزوائد لابن حجر ج ٩ ص ١٩٩ ، والخصائص للسيوطي ج ٢ ص ١٢٧ ، وتاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٤٢ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ والكواكب الدرية ج ١ ص ٥٧ ، والاتحاف بحب الاشراف ص ٢٣ ، وفي تاريخ القرماني ص ١٠٨ وصلوا الى دير في الطريق فنزلوا فيه ليقيلوا به فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه هذا البيت .

ومن ألوان الرثاء على الحسين ما رواه الشيخ يوسف البحراني عن زهر الربيع قال : ذكر بهاء المللة والدين أن أباه الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي دخل مسجد الكوفة فوجد حجراً أحمراً مكتوباً فيه :

أنا درٌ من السما نثروني

يوم تزويج والد السبطين

كنت أصفى من اللجين بياضاً

صبغتني دماء نحر الحسين

كذا في الكشكول للشيخ يوسف البحراني ص ١٧ عن كشكول الشيخ البهائي .

وما رواه السيد ابن طاووس أن الحسين عليه السلام لما نزل الخزيمية (١) أقام بها يوماً وليلة فلما اصبح اقبلت اليه اخته زينب فقالت : يا أخي أأخبرك بشيء سمعته البارحة ، فقال الحسين « ع » وما ذاك ، فقالت خرجت

__________

(١) الخزيمية بضم أوله وفتح ثانيه . تصغير خزم منسوبة الى خزيمة بن حازم وهو منزل من منازل الحج بعد الثعلبية من الكوفة .

٣٥
 &

في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف ويقول (١) :

ألا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا

بمقدار الى انجاز وعد

فقال لها الحسين « ع » يا أختاه كل الذي قضى فهو كائن (١) .

__________

(١) ولدت زينب الكبرى بعد الحسين « ع » في الخامس من شهر جمادى الاولى في السنة الخامسة من الهجرة وهي الملقبة بالصديقة الصغرى للفرق بينها وبين امها الصديقة الكبرى .

والقابها : عقيلة بني هاشم . عقيلة الطالبيين . الموثقة . العارفة . العالمة . والعقيلة في اللغة هي الكريمة في قومها والمخدرة في بيتها . وروت الحديث عن ابيها امير المؤمنين وعن أمها فاطمة وروت خطبتها الشهيرة عنها .

ولدتها الزهراء سلام الله عليها بعد شقيقها الحسين بسنتين . وجاء في خيرات الحسان وغيره ان مجاعة اصابت المدينة فرحل عنها بأهله عبد الله بن جعفر الطيار الى ضيعة له في الشام وقد حمت زوجته زينب من وعثاء السفر او ذكريات احزان واشجان من عهد سبي يزيد لآل رسول الله صلوات الله عليهم ، ثم توفيت على اثرها في النصف من رجب سنة ٦٥ ودفنت هناك حيث المزار المشهور المعمور ومنذ سنين لا تقل عن عشر والعمران قائم على قدم وساق والهدايا والنذور والتبرعات جارية .

وقد كتب على جبهة الباب الرئيسي :

ألا زر بقعة بالشام طابت

لزينب بضعة لابي تراب

فقل للمذنبين ان ادخلوها

تكونوا آمنين من العذاب

ولما اهدي القفص الفضي المذهب الذي يزن ١٢ طنا المحلى بالجواهر الكريمة النادرة نظم المرحوم الشيخ علي البازى مؤرخاً كما رواه لي هو :

هذا ضريح زينب قف عنده

واستغفر الله لكل مذنب

ترى الملا طراً واملاك السما

ارخ « وقوفاً في ضريح زينب »

ويقول الخطيب الشهير الشيخ قاسم الملا رحمه الله من قصيدة له عدد فيها كرامة الحوراء زينب :

لمرقدها بالشام تروى ثقاتها

وقيل بمصر ان هذا لا عجب

لمرقدها بالشام دلت خوارق

لها ينجلي من ظلمة الشك غيهب

٣٦
 &

زيارة الحسين وفضلها

جاءت الروايات بأسانيدها الصحيحة عن النبي وأهل البيت عليهم السلام في فضل زيارة الحسين وأن الله عوَّض الحسين عن شهادته وتضحيته بأن كان الشفاء في تربته والأئمة من ذريته واستجابة الدعاء عند قبّته ، وأن الله ينظر الى زوار قبر الحسين عشية عرفة قبل أن ينظر الى حجاج بيته الحرام . ذلك لأن الحسين حفظ حرمة البيت الحرام . فقد قال لابن عباس عندما خرج من مكة المكرمة قبل ان يتم حجه يا بن عباس لو لم اخرج لهتكت حرمة البيت .

وجاء عن الإمام الباقر « ع » ان الحسين قتل مظلوماً فألى الله أن لا يأتي قبر الحسين مظلوم الا تكفل برد مظلمته ، وأن الحسين قتل مهموماً حزيناً كئيباً فألى الله أن لا يأتي قبر الحسين مهموم إلا فرّج عنه . الى أمثال هذا كثير وكثير فقامت الشيعة بكل شوق تقصد قبر الحسين من البلدان النائية والأقطار البعيدة ولا يصدها عن ذلك تعب ولا نصب ولا خوف ولا خطر وتضحي بكل غال ورخيص في سبيل زيارة الحسين لتقف في مرقده المطهر وتستوحي من روحانية أبي الشهداء دروس العزة والتضحية ولترجع بذنب مغفور وطرف مقرور ، ومن اعظم المواسم التي تقصدها الشيعة ـ كما ارشدهم أئمتهم هي ليلة عاشوراء والتي في صبيحتها كان استشهاد الحسين عليه السلام . والكثير من الشيعة يحيى هذه الليلة بالدعاء وإقامة العزاء وتلاوة مقتل الطف والبكاء لأن الحسين عليه السلام أحياها بالصلاة والاستغفار وقراءة القرآن هو وأصحابه كما جاء في الرواية : بات الحسين وأصحابه ليلة العاشر من المحرم ولهم دوي كدوي النحل من التهجد والتضرع والدعاء والاستغفار ، فقال فيهم شاعرهم :

سِمة العبيد من الخشوع عليهم

لله أن ضمّتهم الأسحار

واذا ترجلت الضحى شهدت لهم

بيض القواضب أنهم احرار

٣٧
 &

كربلاء في يوم عاشوراء

كلما عاد شهر محرم الحرام عادت معه ذكرى أبي الشهداء وشهيد الاباء أبي عبد الله الحسين عليه السلام . عادت حافلة بالعَبرة والعِبرة وعادت الذكرى للحادثة الدامية فما من بقعة من بقاع الارض وفيها شيعة لأهل البيت ، إلا وأقيمت ذكرى الحسين « ع » وانتصب منبر الحسين وعزاء الحسين « ع » .

أما كربلاء ـ بلد الحسين ومحل استشهاده ومصرعه ـ فانها تلبس الحداد وتتجلبب بالسواد وتحمل شارات الحزن فلا تجد مكاناً ولا محلا ولا مخزناً ولا مسجداً إلا وعليه شعار الحسين ويجتمع الناس وتغص كربلاء بالوفاد من جميع الأقطار الإسلامية فليس هناك منظرٌ أعظم من ذلك المنظر في اللوعة والتفجع وتتوالى المواكب والاجتماعات فكل موكب يمثل بلداً من البلدان يحمل شعاره ويردد أناشيد الحزن والعزاء ، فهذا موكب شباب الكاظمية في ليلة عاشوراء يحف بالراية العراقية ويشق

٣٨
 &

طريقه الى حرم الإمام الحسين « ع » تتقدمه المشاعل الكهربائية والأعلام الحسينية وتتعالى نغمات الأناشيد قائلة :

أيها الذائد عن شرع الهدى

أنت رمز للمعالي يا حسين

يومك السامي سيبقى خالداً

أبد الدهر يهز الخافقين

وذاك موكب قضاء ( بلد ) قد كتب على الراية بحروف بارزة :

رزء الحسين السبط عم الورى

ما بلد أولى به من ( بلد )

ويتلوه قضاء ( القورنة ) قد كتب على الراية :

من بلد ( القرنة ) جاءت لكم

شيعتكم تسعى إلى نينوىٰ

إن طاح بالطف لواكم فقد

جاءت لكم ترفع هذا اللوى

وهذا موكب بغداد يكتب على قطعة قماش :

صرخ النادبون باسم ابن طه

وعليه لم تحبس الدمعَ عينُ

لم يصيبوا الحسين إلا فقيداً

حينما أرخوه ( اين الحسين )

ويمر موكب النجف الاشرف وهو أضخم موكب يكون ليلة عاشوراء مجلل بالوقار إذ يتقدمه الروحانيون بعمائمهم وشعاراتهم الدينية ويتوسطهم علم الحسين قد كتب عليه:

سيكون الدم الزكي لواء

لشعوب تحاول استقلالا

ينبت المجد في ظلال البنود الحمر يهوى نسيجها سربالا

وهذا الصحن الحسيني على سعته يغص بالناس وفي الجهة الجنوبية الشرقية من الصحن الحسيني خزان ماء مبرد قد أسسته والدة السلطان عبد الحميد العثماني وعليه تاريخ التأسيس سنة ١٢٨١ هـ ببيت من الشعر

٣٩
 &

سلسبيل قد أتى تاريخه

اشرب الماء ولا تنس الحسين

وتملكك الروعة عندما تشاهد الصحن وروعته وقد كتب القرآن على جوانبه بخطوط بارزة تقرأ جلية بالرغم من ارتفاع جدران الصحن حوالي ١٥ متر ، وأول ما تشاهده في وسط الصحن هو الإيوان الذهبي بجدرانه الذهبية المشعة وابواب الحرم الحسيني الذهبية وقد كتب عليها بالذهب الخالص :

فداء لمثواك من مضجع

وهي قصيدة من أروع الشعر لشاعر العرب ـ اليوم ـ الأستاذ محمد مهدي الجواهري ، وقصيدة الشاعر الكبير المرحوم السيد حيدر الحلي ومنها :

يا تربة الطف المقدسة التي

هالوا على ابن محمد بوغائها

إلى غير ذلك من القطع الشعرية التي تزدان بها جدران الحرم الحسيني المقدس .

٤٠