المعاد يوم القيامة

علي موسى الكعبي

المعاد يوم القيامة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-362-4
الصفحات: ١٥٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

يكونوا حجارة أو حديداً أو شيئاً ممّا يتصورّون أن تبديله إلى إنسانٍ أبعد وأصعب من تبديل الرفات أو التراب إليه ، فليكونوا ما شاءوا ، فإنّ الله تعالى سيعيد إليهم خلقهم الأول بعد بعثهم ، وفي ذلك إشارة إلىٰ أن القدرة الإلهية المطلقة لا يشقّها شيء تريد تجديد خلقه ، سواء أكان عظاماً أو رفاتاً أو حجارةً أو حديداً أو غير ذلك (١) .

ثالثاً : برهان الحكمة

إنّ الله تعالى حكيم في أفعاله ، وكلّ ما يصدر منه جلَّ وعلا في عالمي التكوين والتشريع يخضع لمبدأ الحكمة والهادفية ، فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة ، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام ، وكذلك تخضع المفردات التشريعية في وجودها وحركتها وتفاعلها إلى مبدأ الحكمة الإلهية والغاية الحكيمة التي تتجافى عن العبث واللغو والباطل ، قال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (٣) وقال تعالى ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ) (٤) .

ويمكن صياغة صورة هذا البرهان على شكل قياس ، يتركب من

__________________________

١) اُنظر : الميزان / الطباطبائي ١٣ : ١١٦ .

٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٥ .

٣) سورة ص : ٣٨ / ٢٧ .

٤) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٦ .

٤١
 &

مقدمتين :

الاُولى : إن الله حكيم . الثانية : الحكيم لا يفعل العبث ، إذن فالله تعالى لا يفعل العبث ، ولو لم يكن للإنسان معاد لكان خلقه عبثاً ، ومقتضى الحكمة الالهية أن الله تعالى لا يفعل العبث ، إذن فلا بدّ للإنسان من معادٍ يوم القيامة تتجلّىٰ فيه الحكمة الالهية .

فلو كان الإنسان ينعدم بالموت ، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء ، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً ، لأنّ الفعل لا يخرج عن العبثية إلّا إذا ترتّب عليه فائدة أو غاية عقلائية ، وترتب الفائدة أو الغاية موقوف على وجود المعاد ، لأنّه إذا انعدم الإنسان بالموت ، فذلك يعني أنه ليس ثمّة غاية من خلقه غير هذه الحياة المحدودة التي تعجّ بالمتضادات ، والمحفوفة بأنواع المصائب والبلايا والفتن والفجائع ، ويعني أيضاً أن الله تعالى قد اقتصر في خلقه على الإيجاد ثم الاعدام ، ثم الإيجاد ثم الاعدام ، وهكذا دون أي هدفٍ غائي في أفعاله سبحانه ، وذلك ما لا نقبله على الإنسان العاقل ، فكيف نقبله على فعل الخالق ، جلّت حكمته ، الذي لا يعتريه الباطل ولا يتجافى عن الحكمة ؟ ! تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً .

وعليه فلا بد من وجود عالم آخر يتّضح فيه هدف الخلقة ، وذلك هو عالم البقاء الأبدي المعبّر عنه بالحيوان ، قال تعالى : ( وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) .

ومن هنا أكدت الآيات القرآنية على أن وجود عالم الآخرة يقتضيه

__________________________

١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٤ .

٤٢
 &

خلق العالم بحكمة ، قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) (١) .

وقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (٢) .

رابعاً : برهان العدالة

١ ـ وجود التكليف يقتضي وجود المعاد

من المعلوم أن الله تعالىٰ جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان ، ووهبه النوازع الخيّرة إلىٰ جنب النوازع الشريرة ، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء ، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر ، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق ، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل ، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب ، قال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) (٣) ، وقال سبحانه : ( وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ) (٤) ، وقال تعالى : ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) (٥) .

__________________________

١) سورة الروم : ٣٠ / ٨ .

٢) سورة الدخان : ٤٤ / ٣٨ ـ ٤٠ .

٣) سورة الملك : ٦٧ / ٢ .

٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٨ .

٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٥ .

٤٣
 &

وعليه فإن واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات الراحة والعناء ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والإقبال على الأشرار والإدبار عن الأخيار ، هو امتحان وابتلاء ، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء ، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة ، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وإلّا لبطلت فائدة التكليف ، ولكان عبثاً ولغواً .

وفي بيان ذلك يقول الفاضل المقداد : لو لم يكن المعاد حقاً لقبح التكليف ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، ذلك أن التكليف مشقّة مستلزمة للتعويض عنها ، فإن المشقّة من غير عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل في زمان التكليف ، فلا بدّ حينئذٍ من دار اُخرى يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلّا لكان التكليف ظلماً ، وهو قبيح ، تعالى الله عنه (١) .

٢ ـ العدل الإلهي يستلزم وجود اليوم الآخر

يقول النصير الطوسي في إثبات وجوب المعاد : وجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث . وذكر العلّامة الحلي في شرحه : إن الله تعالى وعد بالثواب ، وتوعّد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين ، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده (٢) .

إذ لا ريب أن الناس لا يصلون إلى الثواب أو العقاب الملائم

__________________________

١) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر / الفاضل المقداد : ٨٦ ـ ٨٧ ـ انتشارات زاهدي ، ونحوه عن العلّامة الحلي في مناهج اليقين في اُصول الدين : ٣٣٧ ـ تحقيق محمد رضا الأنصاري .

٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلّامة الحلي : ٤٣١ .

٤٤
 &

لأعمالهم في هذا الزمان المحدود ؛ فالمحسنون الذين قضوا أعمارهم في العبادة ونشر الفضائل والإصلاح في الأرض ، وتحمّلوا الكوارث والمحن والأرزاء في هذا السبيل ، لا يمكن لأي سلطة في الأرض أن تعطيهم مرادهم ، وتوصلهم إلى ثوابهم ، والمجرمون الذين ارتكبوا الجرائم الفظيعة بحقّ الإنسانية ، وتوفّروا على النعم والملذّات والحياة الرغيدة أكثر من غيرهم ، قد لا يقعون في قبضة القانون ، وإذا وقعوا فإن عقابهم لا يتناسب مع الجرائم التي ارتكبوها ، فقد يقتص منهم مرة واحدة ، وتبقىٰ أكثر الجرائم التي ارتكبوها تمرّ بلا عقاب ، وعليه فليس ثمّة قوة في هذه النشأة المحدودة تستطيع استرداد جميع الحقوق المهضومة للناس .

وإذا كان الإنسان ينعدم بالموت ، ويفد الظالمون والمظلومون والمصلحون والمفسدون إلى مقابر الفناء دون محكمة عادلة تثيب المحسنين وتضع المجرمين في أشدّ العذاب ، فإن ذلك خلاف العهد الإلهي الذي يقتضي التفريق بين الفريقين من حيث المصير والثواب والعقاب ، وبما أن ذلك غير متحقق في النشأة الاُولىٰ ، فيجب أن يكون المعاد لتجسيد العدالة الإلهية تجسيداً عملياً ، وتحقيق الوعد الرباني الصادق في الوفاء للأنبياء والأولياء والشهداء والأبرار من عباد الله الصالحين والانتقام من الظالمين والمفسدين .

وقد صرحت الآيات الكريمة بهذا الدليل على مستويين :

الأول : التأكيد على الفرق بين العاصي والمطيع في النشأة الاُخرى ، لتحقيق الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، وذلك مقتضى العدل الإلهي .

قال تعالى : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ

٤٥
 &

شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) (١) ، وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ) (٢) .

والثاني : التنديد بالتسوية بين الفريقين وإنكارها .

قال تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) (٣) ، وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٤) ، وقال تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (٥) . وقال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٦) .

__________________________

١) سورة يونس : ١٠ / ٤ .

٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٧ ـ ٤١ .

٣) سورة السجدة : ٣٢ / ١٨ .

٤) سورة ص : ٣٨ / ٢٨ .

٥) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢١ .

٦) سورة القلم : ٦٨ / ٣٤ ـ ٣٦ .

٤٦
 &

الفصل الثالث :

حقيقة الروح والمعاد

المبحث الأوّل : حقيقة الروح وتجرّدها

حقيقة الروح غامضة

من الحقائق المسلّمة أن روحك التي بين جنبيك هي أقرب الأشياء إليك وأشدّها لصوقاً بك ، إلّا أن حقيقتها غيبية مجهولة ، لم يستطع العقل البشري أن يتوصل إلى معرفة أسرار كنهها واستجلاء ماهيتها .

ومن هنا تعدّدت آراء الفلاسفة ونظريات المتكلمين في ماهية الروح ، وهل هي عرض أو جوهر (١) ، وفي نشأة الروح وهل هي قديمة أو حادثة ، وفي علاقة الروح بالبدن ومحلّها منه وتعلّقها به ، وفي خلودها بعد الموت ، وحقيقة سعادتها وشقاوتها ، وغيرها من المباحث الكثيرة (٢) .

__________________________

١) العرض : الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع يقوم به ، والجوهر : ما قام بنفسه ، راجع : تجريد الاعتقاد / نصير الدين الطوسي : ١٤٣ ـ مكتب الاعلام الإسلامي ، دستور العلماء / القاضي الأحمدنگري ١ : ١٩٨ و ٤١٨ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، المقابسات / أبو حيان : ٢٥٩ ـ دار الأدب ـ بيروت .

٢) راجع : الروح / ابن القيم : ١٢٩ و ١٥٨ و ١٩٥ ـ دار القلم ـ بيروت ،

٤٧
 &

وقد أعرضنا عن ذكر أقوالهم وآرائهم المختلفة مكتفين ببحث معاني الروح الواردة في التنزيل العزيز والسنة المطهرة ، وبذكر ما قيل في تجرد الروح عن ماهية المادة وصفاتها ، واستقلالها خالدةً بعد الموت رغم اضمحلال البدن وتلاشيه ، لما لهذا البحث من أثر في معرفة حقيقة المعاد .

الروح في القرآن والحديث

غاية ما قيل في الروح : إنها ما يقوم به الجسد ، ويقوى على الإحساس والحركة والارادة ، ولفظها في اللغة يذكر ويؤنث (١) . وقد تكرّر ذكرها بهذ المعنى وغيره في آيات كثيرة مكية ومدنية ، وفي ما يلي نذكر بعضها مرتّبةً حسب معانيها ، مع ما جاء فيها من الحديث والأثر :

١ ـ الروح التي هي سبب الحياة : قال تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) (٢) وللمفسرين في هذه الآية عدة أقوال (٣) ، أظهرها أن المراد بها روح الحيوان التي بها قوام الجسد ، ويساعد على ذلك سبب النزول (٤) ، وبعض الحديث الوارد عن

__________________________

تفسير الرازي ٢١ : ٤٠ ـ ٥٣ ، روح المعاني / الآلوسي ١٥ : ١٥٥ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، بحار الأنوار ٦١ : ١ ـ ١٥٠ ، دائرة معارف القرن العشرين / محمد فريد وجدي ٤ : ٣٤٠ ـ ٣٤٦ ـ دار الفكر ـ بيروت .

١) راجع : لسان العرب / ابن منظور ـ روح ـ ٢ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤ .

٢) سورة الاسراء : ١٧ / ٨٥ .

٣) راجع : تفسير الرازي ٢١ : ٣٨ ، روح المعاني / الآلوسي ١٥ : ١٥٢ . ، مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٧٥ ـ دار المعرفة ـ بيروت ، الميزان / الطباطبائي ١٣ / ١٩٩ .

٤) راجع : مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٧٤ ، روح المعاني / الآلوسي ١٥ : ١٥٢ .

٤٨
 &

أهل البيت عليهم‌السلام .

منه ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر الباقر ، أو أبي عبد الله الصادق عليهما‌السلام قال : سألته عن قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ . . . ) ما الروح ؟ قال : « التي في الدواب والناس » . قلت : ما هي ؟ قال : « هي من الملكوت من القدرة » (١) .

ويستفاد من أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) عدّة معانٍ ، أشهرها :

الأول : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية بكون الروح من سنخ الأمر ، ثمّ عرّف سبحانه أمره في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) فبيّن أن أمره تعالى من الملكوت ومن القدرة ، وهو قوله للشيء ( كن ) ، وهي كلمة الايجاد والحياة التي يلقيها إلى الأشياء فتكون ويحييها بمشيئته ، دون توسط الأسباب الكونية الأخرى بتأثيراتها التدريجية ، ومن غير اشتراط قيد الزمان والمكان ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (٣) فاتضح أن الآية قد بينت أنّ ماهية الروح من سنخ الأمر الذي ذكرناه (٤) .

الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ماهية الروح ، فأجابت الآية : ( الرُّوحُ

__________________________

١) تفسير العياشي ٢ : ٣١٧ / ١٦٣ ـ المكتبة العلمية الإسلامية ـ طهران .

٢) سورة يس : ٣٦ / ٨٢ ـ ٨٣ .

٣) سورة القمر : ٥٤ / ٥٠ .

٤) راجع : الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥١ و ١٢ : ٢٠٦ و ١٣ : ١٩٦ ـ ١٩٨ .

٤٩
 &

مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أي مما استأثر ربي بعلمه ، ولم يُطلع عليه أحداً (١) .

الثالث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الروح ، أهي قديمة أو حادثة ، فأجابت الآية : ( الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أي من فعله وخلقه ، فأراد أن الروح حادثة تحصل بفعل الله وتكوينه وإيجاده (٢) .

ويساوق معنى الروح في الآية المتقدمة ، قوله تعالى في خلق آدم عليه‌السلام : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) (٣) ، وقوله تعالى في خلق عيسى عليه‌السلام : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٤) . وقوله سبحانه : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) (٥) ، فالروح هنا تعبير عن القوة الخفية التي بها سرّ الحياة ، وعن سرّ الروح الالهي الذي يحوّل الجماد إلى كائن حيّ ، وقد خصّ تعالى روح آدم وعيسى عليهما‌السلام بالذكر ، لأن خلقهما على غير جري العادة في سائر الخلق ، وأضاف لفظ الروح إليه سبحانه إضافة تشريفية تعبّر عن الاختصاص بالإكرام والتبجيل والتعظيم ، كما أضاف البيت إليه في قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) (٦) .

__________________________

١) الكشاف / الزمخشري ٢ : ٦٩٠ ـ نشر أدب الحوزة ، مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٧٥ .

٢) تفسير الرازي ٢١ : ٣٨ ، مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٧٥ .

٣) سورة الحجر : ١٥ / ٢٩ .

٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩١ .

٥) سورة النساء : ٤ / ١٧١ .

٦) راجع : تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٣٢ ـ نشر مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم ،

٥٠
 &

٢ ـ الروح بمعنى جبرئيل عليه‌السلام : قال تعالى : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) (١) والمراد به جبرئيل عليه‌السلام (٢) ، ووصفه تعالى بالأمانة والطهارة في قوله تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ) (٣) وقوله تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ ) (٤) وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في تفسيرها أنه قال : « هو جبرئيل ، والقدس الطاهر » (٥) وإضافة الروح إليه سبحانه في الآية الاُولى للتشريف مع إشعار بالتعظيم (٦) .

٣ ـ الروح بمعنى مخلوق أعظم من الملائكة : يبدو من الآيات والروايات أنه مخلوق سماوي رفيع المكانة عند الله سبحانه ، وأنه تعالى يوكل إليه المهمات المرتبطة بالغيب والوحي ، بمفرده أو مع الملائكة ، في الدنيا أو في الآخرة ، قال تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ ) (٧) ، وقال : ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) (٨) ووصف هذا المخلوق في الروايات بأنّه خلق أعظم من الملائكة (٩) ـ أو ملك أعظم

__________________________

مفردات الراغب ـ روح ـ : ٢٠٥ ، روح المعاني / الآلوسي ١٥ : ١٥٦ والآية من سورة الحج : ٢٢ / ٢٦ .

١) سورة مريم : ١٩ / ١٧ .

٢) تفسير القمي ٢ : ٤٨ ـ دار الكتاب ـ قم .

٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤ .

٤) سورة النحل : ١٦ / ١٠٢ .

٥) تفسير القمي ١ : ٣٩٠ .

٦) الميزان / الطباطبائي ١٤ : ٣٦ .

٧) سورة النبأ : ٧٨ / ٣٨ .

٨) سورة القدر : ٩٧ / ٤ .

٩) بصائر الدرجات / الصفار : ٤٨٤ / ٤ ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران .

٥١
 &

من جبرئيل وميكائيل ـ كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مع الأئمة عليهم‌السلام (١) .

عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا . . . ) (٢) قال : « خلق من خلق الله ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة من بعده » (٣) .

٤ ـ الروح بمعنى الإيمان : قال تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) (٤) وقد روي عن الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّ المراد بالروح في هذه الآية الإيمان (٥) .

وعن أبي بكير ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا زنا الزاني فارقه روح الايمان ؟ » قال عليه‌السلام : « هو قوله تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) ذلك الذي يفارقه » (٦) . وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام نحوه (٧) .

وقيل : إن كلامه تعالى على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً اُخرى تفيض عليهم حياةً اُخرى ، وتصاحبها قدرة وشعور جديدان ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي

__________________________

١) تفسير القمي ٢ : ٤٠٢ .

٢) سورة الشورى ٤٢ : ٥٢ .

٣) الكافي / الكليني ١ : ٢١٤ / ١ .

٤) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢ .

٥) الكافي / الكليني ٢ : ١٢ / ١ ، و ١٣ / ٥ .

٦) الكافي / الكليني ٢ : ٢١٣ / ١١ .

٧) قرب الاسناد / الحميري : ١٧ ـ مكتبة نينوىٰ ـ طهران .

٥٢
 &

الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) (١) .

٥ ـ الروح بمعنى الكتاب والنبوة : قال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٢) وقال تعالى : ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (٣) روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في الآية الاُولى قال : « بالكتاب والنبوة » (٤) .

وقيل : إنما اُطلق لفظ الروح هنا على النبوة والدين والوحي وغيرهما مما تحصل بها حياة الأرواح والعقول ، لأن بها تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله ، والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف (٥) .

تجرد الروح

المراد بالروح ما يشير إليه الانسان بقوله أنا ، أو ما يسمى بالنفس الناطقة (٦) ، والمراد بتجردها هو عدم كونها عنصراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان (٧) ، وكون حكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية

__________________________

١) تفسير الميزان / الطباطبائي ١٩ : ١٩٧ ، والآية من سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢ .

٢) سورة النحل : ١٦ / ٢ .

٣) سورة غافر : ٤٠ / ١٥ .

٤) تفسير القمي ١ : ٣٨٢ .

٥) تفسير الرازي ٢١ : ٣٨ ، وراجع مصطلح الروح في : الإنباء بما في كلمات القرآن من أضواء / الكرباسي ٣ : ١١٠ ـ ١١٣ ـ مطبعة الآداب ـ النجف ، مفردات الراغب ـ روح ـ : ٢٠٥ ، المصباح المنير / الفيومي ـ روح ـ ١ : ٢٩٥ ، لسان العرب ـ روح ـ ٢ : ٤٥٥ ـ نفس ـ ٦ : ٢٣٣ .

٦) الأربعين / البهائي : ٤٩٩ ـ جماعة المدرسين ـ قم .

٧) تفسير الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٦٤ ، المعاد / المطهري : ٢٢٤ ـ مؤسسة أُمّ القرى .

٥٣
 &

الاُخرى (١) .

وتلك مسألة ذات علاقة بخلود الروح ، وهي من أكبر المسائل الفلسفية التي تنازعتها الفلسفات المتضاربة بالايجاب والسلب قروناً متمادية ، لأنها أعلق المسائل وأمسّها بقلب الانسان ، وأكثرها علاقة بشأنه ، إذ هي مُطْمَأنّ آماله عندما ينقطع عن عالم الحسّ . وكان النزاع على أشدّه بين الماديين المنكرين لخلود الروح ، وبين القائلين بتجرد الروح وخلودها ، وفي ما يلي نذكر طرفاً من مقالات المذهبين وبعض أدلتهم :

١ ـ الماديون : اختلفت أقوال الماديين في محل الروح من الجسد وفي أقسامها ، ولهم مذاهب مختلفة في ذلك (٢) ، لكنهم جميعاً اعتبروا الانسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وليس ثمة وجود مستقل عن المادة يسمّى بالروح ، بل هي من خواص الجسد ، وتخضع لجميع القوانين التي تحكمه ، ومجموع ظواهر الشعور والعقل والارادة والفكر ، ما هي إلّا وظائف عضوية مثلها كمثل جميع الوضائف البدنية الاُخرى ، وكذا الآثار الفكرية والمعرفية عندهم ما هي إلّا نتائج وآثار فيزيائية وكيميائية للخلايا العصبية والعقلية ، وجميع تلك الآثار والنشاطات الروحة تظهر بعد ظهور العقل والجهاز العصبي ، وتموت بموت الجسد ، فإذا مات الانسان بطلت شخصيته ، واندثر بدنه ، وزال معه كلّ ما بلغه من محصول عقلي وارتقاء نفسي وكمال روحي (٣) .

__________________________

١) تفسير الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥٠ .

٢) راجع : بحار الأنوار ٦١ : ٧٣ ـ ٧٧ عن شرح المواقف والصحائف الالهية .

٣) راجع : دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٣٠ ، الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية / عبد الله نعمة : ١٧٨ .

٥٤
 &

وتجاهلت الفلسفة المادية الحديثة كل الخصائص والآثار الروحية التي لا تخضع لقانون المادّة ، وأعلنت أن الروح ومظاهرها من الشعور والعلم لا وجود لها كوحدة متميزة عن جسم الانسان المادي ، وإنّما هي في ذاتها وظيفة له ونتيجة لعلاقته بالعالم الخارجي ، وأن الأفكار والأماني لا توجد إلّا من خلال عملية مادية ، كحصول الحرارة نتيجة احتكاك قطعتين من الحديد مثلاً ، وأن جميع الخصائص التي يتمتع بها الانسان ما هي الا نتيجة لردّة فعل للعالم الخارجي ، على نحو ما قاله ( بافلوف ) في نظريته حول ( الفعل المنعكس الشرطي ) ، وأن الوعي بمختلف مظاهره ليس إلّا نتاج مادة عالية التنظيم ، أي نشاط الدماغ ووظيفته .

وقالوا : إن المادية الجدلية ترفض تصوّر أن الروح شيء قائم في استقلال عن المادة ، فما هو روحي هو وظيفة المادة في أعلى أشكالها العضوية نتيجة النشاط العملي والاجتماعي (١) .

وتمسّك الماديون في الدلالة على مذهبهم القائم على إنكار الروح ، بجملة افتراضات غارقة في الغموض وتفسيرات واهية لا تملك أدنى رصيدٍ من الإثبات (٢) .

٢ ـ القائلون بالتجرد : كانت غالب الاُمم القديمة تعتقد بوجود الروح وخلودها ، كالهنود والمصريين وأهل الصين وفارس واليونان وفلاسفتهم

__________________________

١) الأدلة الجلية في شرح الفصول النصيرية / عبد الله نعمة : ١٨٤ ـ ١٨٥ .

٢) راجع : تفسير الرازي ٢١ : ٥٢ ـ ٥٣ ، تفسير الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٦٥ ـ ٣٧٠ ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٣٢ ، التفسير الأمثل ٩ : ١٠٥ ـ ١٠٧ ـ مؤسسة البعثة ـ بيروت .

٥٥
 &

وشعرائهم ، وكان سقراط وإفلاطون يعتقدان أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل ، وعندما يكتمل الجنين في بطن اُمّه تتعلق به الروح ، ثمّ تعود بعد الموت إلى محلّها الأول ، ويرى إفلاطون أن هناك روحين : إحداهما الروح العاقلة وهي الخالدة ومحلها الدماغ ، والاُخرى غير خالدة ولا عاقلة ، وهي قسمان : غضبية ومستقرها الصدر ، وشهوية ومكانها البطن .

وذهب أرسطو إلى الاعتقاد بحدوث الروح مع حدوث البدن ، فعندما يتكامل البدن توجد الروح دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها ، وعدّ ثلاثة صنوف من الأرواح منبثّة في مجموع البدن ، وهي : الروح العاقلة ـ أو النفس الناطقة ـ وهو يقول بتجردها ، والروح الحاسة أو الحيوانية ، والروح الغاذية ، ولا يقول بتجرد الأخيرتين (١) .

واهتم ديكارت ( ت ١٥٦٠ ) بتمييز الروح عن الجسم ، وتحديد خصائص كلّ منهما ، فاعتبر الروح جوهراً أخصّ صفاته الفكر ، ولا يتصوّر فيه إمكان التجزّي والانقسام وعدم التجانس في أجزائه ، واعتبر الجسم جوهراً أخص صفاته الامتداد ، ومن أحواله الصورة والحركة ، ويقبل الانقسام والتجزّي والتغير بطبيعته (٢) .

وأقوال فلاسفة الغرب القدامىٰ والمحدثين في الروح كثيرة ، نكتفي بما ذكرناه منها .

__________________________

١) راجع المعاد / مطهري : ١٦٨ ـ ١٦٩ ـ مؤسسة أُم القرى ، روح المعاني / الآلوسي ١٥ : ١٥٧ ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٢٤ ـ ٣٢٦ .

٢) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٢٧ .

٥٦
 &

أما علماء وفلاسفة المسلمين فقد قال الشيخ الصدوق : الاعتقاد في الروح أنّه ليس من جنس البدن ، وأنه خلق آخر لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (١) ، وإذا فارقت الأبدان فهي باقية ؛ منها منعّمة ، ومنها معذّبة إلى أن يردّها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها (٢) .

وقال نصير الدين الطوسي : النفس جوهر مجرد ، وقال العلّامة الحلّي في شرحه : اختلف الناس في ماهية النفس ، وأنها هل هي جوهر أم لا ، والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجردة أم لا ، والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الامامية ، والمفيد منهم ، والغزالي من الأشاعرة أنّها جوهر مجرد ليست بجسم ولا جسماني (٣) ، متعلّقة بالجسم تعلّق التدبير والتصرّف . .

وذهب إلى هذا الرأي أيضاً الراغب الأصفهاني والفخر الرازي من الأشاعرة ، ومعمر بن عباد السلمي من المعتزلة ، ويؤيده العلامة الحلي والشيخ البهائي من الإمامية وغيرهم كثير (٤) ، وادّعى بعض المتأخرين أنه

__________________________

١) الاعتقادات / الصدوق : ٥٠ ، والآية من سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤ .

٢) الاعتقادات / الصدوق : ٤٧ .

٣) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة : ١٩٥ .

٤) انظر : المسائل السروية / الشيخ المفيد : ٥٩ ـ مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم ، الأربعين / البهائي : ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، بحار الأنوار / المجلسي ٦١ : ١٣ و ٧٥ ـ ٧٦ ، تفسير الرازي ٢١ : ٤٥ ، روح البيان / الآلوسي ١٥ : ١٥٦ ، دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٣٨ .

٥٧
 &

يستفاد التجرد من كثير من الأخبار (١) .

وكان ابن سينا يؤمن بتجرد القوة العاقلة فقط ، لكن صدر المتألهين الشيرازي يؤمن أن جميع القوى الحيوية للانسان لها وجهة مادية ووجهة تجردية ، وأن جميع القوى المادية للانسان ترافقها قوى مجرّدة بحيث إن الانسان عندما يموت لا ينفصل عنه العقل لوحده ، بل العقل والخيال والذاكرة والباصرة والسامعة . (٢)

أدلّة القائلين بالتجرّد

استدل كثير من فلاسفة المسلمين ومتكلميهم على كون الروح مجردة عن صفات البدن وأعراضه ، ولا تفنى بالموت ، بل تبقى خالدة ، إما في نعيم وسعادة ، أو في جحيم وشقاوة ، بأدلة نقلية وعقلية كثيرة نذكر منها :

أولاً ـ الأدلة القرآنية ، وهي تشتمل على ما يلي :

١ ـ الآيات القرآنية الدالة على أن أرواح الشهداء والصدّيقين لا تموت بموت البدن ولا تفنى بفنائه وتبدد أجزائه ، بل تبقى في عيش هنيء ونعيم مقيم ، كقوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . . . ) (٤) وقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا

__________________________

١) حق اليقين / عبد الله شبر ٢ : ٤٨ .

٢) راجع : المعاد / مطهري : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، فلسفتنا / الشهيد الصدر : ٣٣٥ ـ دار التعارف ـ بيروت .

٣) سورة البقرة : ٢ / ١٥٤ .

٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٩ .

٥٨
 &

النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) فثبت أن الإنسان قد يكون حياً بينما جسده في التراب ، وذلك يلزم كون حقيقة الانسان غير هذا البدن (٢) .

٢ ـ الآيات الدالة على أن الكفار يعذّبون في النار بينما أجسادهم في القبور ، كقوله تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ . . . ) (٣) ، وقوله تعالى : ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ) (٤) فهم أحياء يعذّبون بعد موت أجسادهم ، وذلك يستلزم كون حقيقة الانسان شيئاً غير هذا الجسد (٥) .

٣ ـ الآيات التي ذكرت مراتب الخلقة الجسمانية ، كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) (٦) فأفادت أن الإنسان لم يكن إلّا جسماً تتوارد عليه صور مختلفة متبدلة ، ثمّ إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) أي أنشأ هذا الجسم الجامد الخامد

__________________________

١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٦ ـ ٣٠ .

٢) راجع : الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥٠ ، تفسير الرازي ٢١ : ٤٠ ـ ٤١ .

٣) سورة غافر : ٤٠ / ٤٥ ـ ٤٦ .

٤) سورة نوح : ٧١ / ٢٥ .

٥) راجع : تفسير الرازي ٢١ : ٤٢ .

٦) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٢ ـ ١٤ .

٥٩
 &

خلقاً آخر ذا شعور وإرادة وفكر وتصرف وتدبير إلى غير ذلك من الخواص والأفعال التي لا تصدر من الأجسام والجسمانيات ، وهو تصريح بأنّ ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من الصور الجسمية المتبدّلة الواقعة في الأحوال الجسمانية ، وذلك يدلّ على أن الروح شيء مغاير للبدن (١) .

وكذلك قوله تعالى في خلق الإنسان : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) (٢) وقوله تعالى في خلق آدم عليه‌السلام : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) (٣) فلمّا ميّز تعالى بين التسوية ـ وهي خلق الأعضاء والأبعاض الجسمية ـ وبين نفخ الروح ، دلّ ذلك على أنّ جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد (٤) .

٤ ـ الآيات التي ميّزت بين ما هو مادي مضمحلّ من الانسان ، وبين ما هو حقيقة باقية يتوفّاها الله إليه ، كقوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٥) وهي تدلّ على أن الإنسان روح وبدن ، وأن الروح هي التي تسيّر البدن وتدبّره بأمر الله تعالى ، والموت

__________________________

١) راجع : تفسير الرازي ٢١ : ٥١ ، تفسير الميزان / الطباطبائي ١ : ٣٥٢ .

٢) سورة السجدة : ٣٢ / ٧ ـ ٩ .

٣) سورة الحجر : ١٥ / ٢٩ ، وسورة ص : ٣٨ / ٧٢ .

٤) تفسير الرازي ٢١ : ٥١ .

٥) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢ .

٦٠