المعاد يوم القيامة

علي موسى الكعبي

المعاد يوم القيامة

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-362-4
الصفحات: ١٥٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وغربته ، إنّ القبر يقول كلّ يومٍ : أنا بيت الغربة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود والهوامّ . . . » (١) .

وهناك يستبدل الإنسان بظهر الأرض بطناً ، وبالأهل غربةً ، وبالنور ظلمةً ، وبسعة العيش ورفاهيته ضيق القبر ووحشته ، فينقطع الأثر ، ويُمحى الذكر ، وتتغير الصور ، وتبلى الأجساد ، وتنقطع الأوصال .

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ ، وأنيق لونٍ ، كان في الدنيا غذيَّ تَرَفٍ ، وربيبَ شرفٍ ، يتعلّل بالسرور في ساعة حزنه ، ويفزع الى السلوة إن مصيبةٌ نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحاحةً بلهوه ولعبه . . » (٢) .

٢ ـ ضغطة القبر أو ضمّته : ورد في الأخبار أنّ الميت يتعرّض إلى ضغطة القبر ، أو ضمّة الأرض ، إلى الحدّ الذي تُفري لحمه ، وتطحن دماغه ، وتذيب دهونه ، وتخلط أضلاعه ، وتكون بسبب النميمة وسوء الخلق مع الأهل ، وكثرة الكلام ، والتهاون في أمر الطهارة ، وقلّما يسلم منها أحد ، إلّا من استوفى شرط الإيمان ، وبلغ درجات الكمال .

قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيفلت من ضغطة القبر أحد ؟ فقال : « نعوذ بالله منها ، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر . . ! » (٣) .

وتعرّض لضغطة القبر الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي‌الله‌عنه ( ت ٥ هـ ) حيث جاء في الروايات أنه لمّا حُمِل على سريره شيعته الملائكة ، وكان

__________________________

١) أمالي الطوسي : ٢٨ / ٣١ ، بحار الأنوار ٦ : ٢١٨ / ١٣ .

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٣٤٠ / الخطبة ( ٢٢١ ) .

٣) الكافي / الكليني ٣ : ٢٣٦ / ٦ .

١٠١
 &

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تبعه بلا حذاء ولا رداء ، حتى لحّده وسوّى اللبن عليه ، فقالت أمّ سعد : يا سعد ، هنيئاً لك الجنة . فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أُمّ سعد مَه ، لا تجزمي على ربك ، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة » وحينما سُئل عن ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنه كان في خُلقه مع أهله سوء » (١) .

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم » (٢) .

٣ ـ سؤال منكر ونكير : وفي عالم البرزخ ينزل الله سبحانه على الميت وهو في قبره ملكين ، وهما منكر ونكير ، فيقعدانه ويسألانه عن ربه الذي كان يعبده ، ودينه الذي كان يدين به ، ونبيه الذي أُرسل إليه ، وكتابه الذي كان يتلوه ، وإمامه الذي كان يتولّاه ، وعمره فيما أفناه ، وماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، فإن أجاب بالحقّ استقبلته الملائكة بالروح والريحان ، وبشرته بالجنة والرضوان وفسحت له في قبره مدّ البصر ، وإن تلجلج لسانه وعيي عن الجواب ، أو أجاب بغير الحقّ ، أو لم يدرِ ما يقول ، استقبلته الملائكة بنُزلٍ من حميم وتصلية جحيم ، وبشّرته بالنار .

وقد تظافرت بذلك الأخبار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام واتفق عليه المسلمون (٣) ، فهو ممّا يجري مجرى الضرورة من الدين .

__________________________

١) علل الشرائع : ٣٠٩ / ٤ ، أمالي الصدوق : ٤٦٨ / ٦٢٣ ، أمالي الطوسي : ٤٢٧ / ٩٥٥ .

٢) ثواب الأعمال / الصدوق : ١٩٧ ـ منشورات الرضي ـ قم ، علل الشرائع / الصدوق : ٣٠٩ / ٣ ، أمالي الصدوق : ٦٣٢ / ٨٤٥ .

٣) راجع : الكافي / الكليني ٣ : ٢٣٢ / ١ و ٢٣٦ / ٧ و ٢٣٨ / ١٠ و ١١ و ٢٣٩ / ١٢ ،

١٠٢
 &

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من أنكر ثلاثة أشياء ، فليس من شيعتنا : المعراج ، والمُساءلة في القبر ، والشفاعة » (١) .

٤ ـ عذاب القبر وثوابه : وهو العذاب أو الثواب الحاصل في عالم البرزخ ، وهو واقع لا محالة ، لإمكانه ، ولتواتر السمع بوقوعه بدلالة القرآن الكريم والأخبار الصحيحة عن نبي الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، ولانعقاد الإجماع عليه ، واتفاق الاُمّة سلفاً وخلفاً على القول به (٢) .

أدلته القرآنية : الآيات القرآنية التي أشارت إلى عذاب القبر وثوابه وأرشدت إليهما أو فُسّرت بهما كثيرة ، ذكرنا بعضها في أدلة التجرد ، وفيما يلي نذكر اثنتين منها :

١ ـ قوله تعالى في آل فرعون : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (٣) وهي نصّ في الباب ، لأنّ العطف بالواو يقتضي المغايرة لما قبله ، فقد ذكر أولاً أنهم يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً ، ثم عطف بعده بذكر ما يأتي يوم تقوم الساعة ، ولهذا عبّر عن الأول بالعرض ، وعن الثاني بالادخال (٤) .

__________________________

الاعتقادات / الصدوق : ٥٨ ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٩٩ ـ ١٠٠ ، شرح المواقف / الجرجاني ٨ : ٣١٧ ـ ٣٢٠ .

١) أمالي الصدوق : ٣٧٠ / ٤٦٤ .

٢) راجع : كشف المراد / العلّامة الحلي : ٤٥٢ ، المسائل السروية / المفيد : ٦٢ ـ مسألة ( ٥ ) ، الأربعين / البهائي : ٢٨٣ و ٤٨٧ ، حق اليقين / عبد الله شبّر ٢ : ٦٨ .

٣) سورة غافر : ٤٠ / ٤٥ ـ ٤٦ .

٤) انظر : تفسير الميزان / الطباطبائي ١٧ : ٣٣٥ .

١٠٣
 &

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسيرها أنه قال : « إن كانوا يعذّبون في النار غدوّاً وعشياً ، ففيما بين ذلك هم من السعداء . لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قوله عزَّ وجلَّ : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) » (١) .

٢ ـ قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) (٢) قال كثير من المفسّرين : إنّ المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية ، بقرينة ذكر الحشر بعدها معطوفاً بالواو الذي يقتضي المغايرة ، ولا يجوز أن يراد به سوء الحال في الدنيا ، لأن كثيراً من الكفار في الدنيا هم أحسن حالاً من المؤمنين ، وفي معيشة طيبة لا ضنك فيها (٣) .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « واعلموا أن المعيشة الضنك التي قالها تعالى : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) هي عذاب القبر » (٤) .

أدلته من السنة : تكاثرت الروايات الدالة على عذاب القبر وثوابه من طرق الفريقين (٥) ، وتوسعت في بيان تفاصيله ، وقد ذكرنا بعضها في

__________________________

١) مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٨١٨ .

٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٤ .

٣) الأربعين / البهائي : ٤٨٨ .

٤) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٦٩ ـ دار إحياء الكتب العربية ـ مصر ، أمالي الطوسي : ٢٨ / ٣١ .

٥) راجع : الكافي / الكليني ٣ : ٢٣١ ـ ٢٣٩ ، ٢٤٤ ـ ٢٤٥ و ٢٥٣ / ١٠ ، المحاسن / البرقي : ١٧٤ ـ ١٧٨ ـ دار الكتب الإسلامية ـ قم ، بحار الأنوار / المجلسي

١٠٤
 &

أدلة تجرد الروح ، ونقتصر هنا على ذكر ثلاث منها :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « القبر إما حفرة من حفر النيران ، أو روضة من رياض الجنة » (١) .

٢ ـ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يسلّط على الكافر في قبره تسعة وتسعين تِنِّيناً ، فينهشن لحمه ، ويكسرن عظمه ، ويتردّدن عليه كذلك إلى يوم يبعث ، لو أنّ تنِّيناً منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعاً أبداً . . . » (٢) .

٣ ـ وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٣) قال : « هو القبر ، وإن لهم فيه لمعيشة ضنكاً ، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران » (٤) .

إثارات : هناك بعض الاثارات والشبهات حول عذاب القبر وثوابه ، وأغلبها يتعلّق ببيان كيفية العذاب أو الثواب ، والخوض في تفاصيلهما ، وهو أمر لم نكلّف به ، ولا يلزمنا إلّا التصديق به على الجملة ، والاعتقاد بوجوده ، لإمكانه ، وثبوته عن طريق السمع من المعصوم ، وهذا شأن جميع اُمور الغيب ، لأنّها من عالم الملكوت الذي لا تدركه عقولنا ولا تبلغه حواسنا . . وفيما يلي نذكر أهمّ الشبهات المتعلقة بالحياة البرزخية ، ونجيب

__________________________

٦ : ٢٠٢ باب ( ٨ ) ، سنن النسائي ٤ : ٩٧ ـ ١٠٨ ـ كتاب الجنائز ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ، كنز العمال / المتقي الهندي ١٥ : ٦٣٨ وغيرها .

١) سنن الترمذي ٤ : ٦٤٠ / ٢٤٦٠ ـ كتاب صفة القيامة ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، إحياء علوم الدين / الغزالي ٥ : ٣١٦ .

٢) أمالي الطوسي : ٢٨ / ٣١ .

٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٠ .

٤) الخصال / الصدوق : ١٢٠ / ١٠٨ .

١٠٥
 &

عنها على ضوء الآيات والأخبار :

١ ـ إذا كان البدن هو وسيلة وصول العذاب إلى الروح ، فكيف تعذّب الروح أو تُثاب وقد فارقت البدن ، وتعرّض هو للانحلال والبلى ؟

الجواب : دلّت الأخبار على أن الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمساءلة ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه ، أو لعذاب إن كان يستحقه ، وذلك إمّا بإحياء بدنه الدنيوي ، أو بالحاق روحه في بدن مثالي ، وفيما يلي نبين كلا الأمرين مع أدلتهما من الحديث .

أولاً : إحياء البدن الدنيوي : أي أن الله تعالى يعيد الروح إلى بدن الميت في قبره ، كما تدلّ عليه ظواهر كثير من الأخبار ، منها ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث ـ قال : « تعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه » (١) .

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « فإذا دخل حفرته ، رُدّت الروح في جسده ، وجاءه ملكا القبر فامتحناه » (٢) .

وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : « ثم يدخل ملكا القبر ، وهما قعيدا القبر منكر ونكير ، فيقعدانه ويلقيان فيه الروح إلى حقويه » (٣) .

ومن هنا قيل : إن الحياة في القبر حياة برزخية ناقصة ، ليس معها من آثار الحياة سوى الاحساس بالألم واللذة ، أي إن تعلّق الروح بالبدن تعلّقٌ ضعيف ، لأنّ الله سبحانه يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدرما يتألم

__________________________

١) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٢٨ .

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٢٣٤ / ٣ .

٣) الكافي / الكليني ٣ : ٢٣٩ / ١٢ .

١٠٦
 &

ويلتذّ (١) .

ثانياً : التعلّق بالجسد المثالي : ورد في الأخبار أن الله سبحانه يسكن الروح جسداً مثالياً لطيفاً في عالم البرزخ ، يشبه جسد الدنيا ، للمساءلة والثواب والعقاب ، فتتنعّم به أو تتألم إلى أن تقوم الساعة ، فتعود عند ذلك إلى بدنها كما كانت عليه (٢) .

عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين . فقال : « في الجنة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت فلان » (٣) .

وعن يونس بن ظبيان ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالساً فقال : « ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ » قلت : يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش . فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير . يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا » (٤) .

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم » (٥) ، وهناك أحاديث اُخرى

__________________________

١) راجع : الأربعين / البهائي : ٤٩٢ .

٢) راجع : أوائل المقالات / المفيد : ٧٧ ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : ٨٨ ـ ٨٩ ، المسائل السروية / المفيد : ٦٣ ـ ٦٤ ـ المسألة ( ٥ ) ، الأربعين / البهائي : ٥٠٤ .

٣) التهذيب / الطوسي ١ : ٤٦٦ / ١٧٢ .

٤) التهذيب / الطوسي ١ : ٤٦٦ / ١٧١ ، الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٥ / ٦ .

٥) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٤ / ١ .

١٠٧
 &

تدلّ على ما ذكرناه (١) .

وعلى ضوء ما تقدّم ، فإنّ المراد بحياة القبر في أكثر الأخبار هو النشأة الثانية للإنسان في عالم البرزخ ، والذي تتعلّق فيه الروح ببدنها المثالي ، وبذلك يستقيم فهم جميع ما ورد في آيات وأخبار دالة على تجرّد الروح وعلى ثواب القبر وعذابه ، واتساعه وضيقه وحركة الروح وطيرانها ، وزيارة الأموات لأهلهم وغيرها .

العلم يؤيد وجود الجسد المثالي : وتقرر تجارب علماء استحضار الأرواح حقيقة الأجسام المثالية ، حيث يقول أشياع هذا المذهب : إن الموت في حدّ ذاته ليس إلّا انتقالاً من حال مادي جسدي إلى حال مادي آخر ولكن أرقّ منه وألطف كثيراً ، وأنهم يعتقدون أن للروح جسماً مادياً شفافاً لطيفاً ألطف من هذه المادة جداً ، ولذلك لا تسري عليه قوانينها (٢) .

هل إن ذلك من التناسخ الباطل ؟

وقد يتوهّم أن القول بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها بأشباح اُخر هو ضرب من التناسخ الباطل ، وهو غير صحيح ، لأنّ العمدة في نفي التناسخ ضرورة الدين وإجماع المسلمين ، وقد قال بالأبدان المثالية كثير من المسلمين من المتكلمين والمحدثين ، ودلّت عليه أخبار الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ، والتناسخية إنما كفروا بانكارهم المعاد والثواب والعقاب ، وقولهم بقدم النفوس وتردّدها في أجسام هذا العالم ، وإنكارهم النشأة الاُخرى ، وإنكارهم الصانع والأنبياء ، وسقوط التكاليف ، ونحو ذلك من

__________________________

١) راجع : الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٤ / ٣ ، و ٢٤٥ / ٧ .

٢) دائرة معارف القرن العشرين / وجدي ٤ : ٣٧٥ .

١٠٨
 &

أقوالهم السخيفة (١) .

٢ ـ والشبهة الثانية في هذا المقام ، هي كيف يكون عذاب القبر وثوابه وليس ثمّة جنة أو نار ؟

الجواب : دلت الآيات والأخبار التي ذكرناها في أدلة عذاب القبر على وجود الجنة والنار وكونهما مخلوقتين ، ويدلّ على ذلك أيضاً ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام وقد سئل عن أرواح المؤمنين ، فقال « في حجرات في الجنة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها » (٢) .

وقال عليه‌السلام : « إن أرواح الكفار في نار جهنم ، يُعرَضون عليها » (٣) .

وقال الشيخ الصدوق رحمه‌الله : اعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دخل الجنة ، ورأى النار حين عُرج به ، وأنه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة أو النار (٤) .

وقال النصير الطوسي : والسمع دلّ على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن ، والمعارضات متأولة . وبيّن العلامة في شرحه موضع الخلاف في ذلك حيث قال : اختلف الناس في أنّ الجنّة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا ، فذهب جماعة إلى الأول ، وهو قول أبي علي ، وذهب أبو هاشم والقاضي إلى أنهما غير مخلوقتين .

احتجّ الأولون بقوله تعالى : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (٥) و ( أُعِدَّتْ

__________________________

١) حق اليقين / عبد الله شبر ٢ : ٥٠ ، الأربعين / البهائي : ٥٠٥ ، بحار الأنوار ٦ : ٢٧١ و ٢٧٨ .

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٤ / ٤ .

٣) الكافي / الكليني ٣ : ٢٤٥ / ٢ .

٤) الاعتقادات / الصدوق : ٧٩ .

٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٣ .

١٠٩
 &

لِلْكَافِرِينَ ) (١) و ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) (٢) و ( عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ) (٣) وجنة المأوى هي دار الثواب ، فدلّ على أنها مخلوقة الآن في السماء .

واحتج أبو هاشم بقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٤) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن ، لوجب هلاكها ، والتالي باطل ، لقوله تعالى : ( أُكُلُهَا دَائِمٌ ) (٥) .

وأجاب العلّامة عن ذلك بقوله : إن دوام الأُكل إشارة إلى دوام المأكول بالنوع ، بمعنى دوام خلق أمثاله ، وأُكل الجنة يفنى بالأكل ، إلّا أنه تعالى يخلق مثله ، والهلاك هو الخروج عن الانتفاع ، ولا ريب أنّ مع فناء المكلفين تخرج الجنة عن حدّ الانتفاع ، فتبقى هالكة بهذا المعنى (٦) .

المبحث الثالث : أشراط الساعة

معناها اللغوي : الأشراط في اللغة : جمع شَرَط ، ويراد به العلامة ، وأشراط الساعة : أعلامها ، أو علاماتها الدالّة عليها ، وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : معالمها ، قال تعالى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً

__________________________

١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤ .

٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٥ .

٣) سورة النجم : ٥٣ / ١٥ .

٤) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨ .

٥) سورة الرعد : ١٣ / ٣٥ .

٦) كشف المراد / العلامة الحلي : ٤٥٣ ، وراجع شرح المواقف / الجرجاني ٨ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ .

١١٠
 &

فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) (١) ، وهذه الآية تدلّ على اثنتين من خصال القيامة :

الاُولى : أنّها تأتي بَغْتةً ، أي فَجأةً ، كما في قوله تعالى : ( لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) (٢) وهو يدلّ على أنّ وقت حدوثها مختص به تعالى ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ) (٣) .

الثانية : إذا بدأت مقدمات القيامة وظهرت أشراطها لا تنفع عندها الذكرى ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (٤) فلا تُقبل عند حدوثها التوبة ، ولا ينفع الإيمان والطاعة لزوال التكليف .

أنواعها : على ضوء ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، يمكن تقسيم أشراط الساعة إلى قسمين :

الأول : ما يخصّ سلوك الناس في آخر الزمان ، وما يتّصل بذلك من فتن وحروب ، وقد أسهبت الأحاديث في وصف ذلك الزمان سواء على صعيد وصف تعامل الناس ، أم الأحداث التي تُلمّ بهم .

منها ما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من أشراط الساعة : إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم

__________________________

١) لسان العرب / ابن منظور ـ شرط ـ ٧ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ١٥٤ ، تفسير الميزان / الطباطبائي ١٨ : ٢٣٦ ، والآية من سورة محمد : ٤٧ / ١٨ .

٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧ .

٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧ .

٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٨ .

١١١
 &

أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يُذاب قلب المؤمن في جوفه ، كما يُذاب الملح بالماء ، ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره » (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء » قيل : يا رسول الله وما هي ؟ قال : « إذا كانت المغانم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته وعقّ اُمّه ، وبرّ صديقه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرمه القوم مخافة شرّه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف ، ولعن آخر هذه الاُمة أولها ، فليرتقب عند ذلك الريح الحمراء أو الخسف أو المسخ » (٢) .

الثاني : ما يكون على شكل حوادث في الأرض والكواكب المحيطة بها ، وهي كما يلي :

١ ـ إخراج الدابة ، قال تعالى : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) (٣) .

٢ ـ ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام ، وفي قطعية ظهوره قبل قيام الساعة أحاديث يصعب حصرها ، من أشهرها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من عترتي ( أو قال من أهل بيتي ) يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وعدواناً » (٤) .

__________________________

١) تفسير القمي ٢ : ٣٠٣ ، بحار الأنوار ٦ : ٣٠٦ / ٦ .

٢) الخصال / الصدوق : ٥٠٠ / ١ و ٢ .

٣) سورة النمل : ٢٧ / ٨٢ ، وانظر تفاصيل الأقوال في كتاب الرجعة / مركز الرسالة : ٢٧ ـ ٣٢ .

٤) مسند أحمد ٣ : ٣٦ ، صحيح ابن حبان ٨ : ٢٩٠ / ٦٢٨٤ ، المستدرك على الصحيحين ٤ : ٥٥٧ .

١١٢
 &

٣ ـ نزول عيسى بن مريم عليه‌السلام (١) وفُسّر به قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (٢) فقد صرح الكثير من المفسّرين أن الآية بخصوص نزول عيسى بن مريم عليه‌السلام في آخر الزمان (٣) .

٤ ـ خروج يأجوج ومأجوج (٤) ، قال تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٥) .

٥ ـ الدخان المبين ، قال تعالى : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٦) وجاء في الآثار أنه يملأ ما بين المشرق والمغرب ، ويمكث أربعين يوماً وليلة (٧) .

٦ ـ وهناك علامات اُخرى كثيرة ورد ذكرها في الحديث ، منها : نارٌ تخرج من قعر عدن ، تسوق الناس إلى المحشر ، ولا تدع خلفها أحداً ،

__________________________

١) راجع : الخصال / الصدوق : ٤٤٩ / ٥٢ ، جامع الاُصول / ابن الاثير ١١ : ٨٧ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٦١ .

٣) معالم التنزيل / البغوي ٥ : ١٠٥ ـ دار الفكر ـ بيروت ، الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢٦ ، تفسير الرازي ٢٧ : ٢٢٢ ، تفسير القرطبي ١٦ : ١٠٥ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، تفسير أبي السعود ٨ : ٥٢ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

٤) راجع : الخصال / الصدوق : ٤٣١ / ١٣ ، الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٣٨٠ .

٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٦ ـ ٩٧ .

٦) سورة الدخان : ٤٤ / ١٠ ـ ١١ .

٧) تفسير الطبري ٢٥ : ٦٨ ـ دار المعرفة ـ بيروت .

١١٣
 &

تنزل معهم إذا نزلوا ، وتقيل معهم إذا قالوا ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف في الأرض : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وظهور الدجال (١) ، وأن يفشو الفالج وموت الفجأة (٢) . ويطلع الكوكب المذنب ، ويكون المطر في غير أوانه (٣) ، وتظهر الريح السوداء (٤) .

المبحث الرابع : مشاهد يوم القيامة

القيامة : يوم البعث ، يقوم فيه الخلق بين يدي الحيّ القيوم ، قيل : أصله مصدر ، يقال : قام الخلق من قبورهم قيامةً ، وقيل : هو تعريب قِيَمْثا ، وهو بالسريانية بهذا المعنى (٥) .

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبب تسمية القيامة ، فقال : « لأنّ فيها قيام الخلق للحساب » (٦) .

واُشير إلى يوم القيامة بأسماء عديدة وردت في القرآن الكريم ، كالآزفة ، والحاقة ، والقارعة ، والطامة الكبرى ، والواقعة ، والصّاخّة ، والساعة ، ويوم الجمع ، ويوم التغابن ، واليوم الموعود ، واليوم المشهود ،

__________________________

١) الخصال / الصدوق : ٤٣١ / ١٣ ، الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٣٨٠ ، مسند أحمد ٢ : ٢٠١ ، جامع الاصول / ابن الأثير ١١ : ٨٧ .

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٢٦١ / ٣٩ .

٣) تفسير القمي ٢ : ٣٠٤ و ٣٠٦ .

٤) بحار الأنوار ٦ : ٣١٥ / ٢٤ .

٥) لسان العرب / ابن منظور ـ قوم ـ ١٢ : ٥٠٦ .

٦) علل الشرائع / الصدوق : ٤٧٠ .

١١٤
 &

ويوم التلاقي ، ويوم التنادي ، ويوم الحساب ، ويوم الفصل ، ويوم الحسرة ، ويوم الوعيد .

والقيامة من المنازل الشديدة والمواقف العصيبة على ابن آدم ، لما فيها من شدّة الأهوال ، ورهبة الفزع ، وطول الوقوف ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (١) .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كلّ شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فيكفيكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر » (٢) .

ومواقف القيامة كثيرة ، وساعاتها طويلة ، ومقاماتها مختلفة ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا عليها ، فانّ للقيامة خمسين موقفاً ، كلّ موقف مقداره ألف سنة » ثمّ تلا قوله تعالى : ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٣) .

وفيما يلي نذكر تلك المشاهد من نفخة الصور إلى انتظار النداء بفصل القضاء ، إما بالإسعاد في الجنة ، أو الإشقاء في النار :

١ ـ نفخة الصعق ، أو صيحة الموت : قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي

__________________________

١) سورة الحج : ٢٢ / ١ ـ ٢ .

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١٧٠ / الخطبة ( ١١٤ ) .

٣) الكافي / الكليني ٨ : ١٤٣ / ١٠٨ ، أمالي الطوسي : ٣٦ / ٣٨ ، والآية من سورة المعارج : ٧٠ / ٤ .

١١٥
 &

الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ) (١) وقال سبحانه : ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) .

ورد في التفسير أن الصور : هو قرن ينفخ فيه ، وقيل : هو جمع صورة ، فإنّ الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صورهم في أرحام الاُمهات ، ثم ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام اُمّهاتهم (٣) .

لكن ظاهر الآيات وصريح الأحاديث يدلان على المعنى الأول ، فقد ورد في الأخبار المتضافرة أن الله تعالى خلق إسرافيل وخلق معه صوراً له طرفان : أحدهما في المشرق ، والآخر في المغرب ، وهو قابض عليه ، منتظرٌ لأمر الله تعالى ، فإذا أمره نفخ فيه (٤) .

ومن نتائج تلك النفخة أن لا يبقى ذو روح في السماوات والأرض إلّا صعق ومات ، ولا يبقى للحياة عين ولا أثر إلّا ما شاء الله سبحانه ( لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٥) .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقتٍ ولا مكانٍ ، ولا حينٍ ولا زمانٍ ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون

__________________________

١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٨ .

٢) سورة يس : ٣٦ / ٤٩ ـ ٥٠ .

٣) مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٧٦٦ .

٤) راجع : تفسير القمي ٢ : ٢٥٧ ، بحار الأنوار ٦ : ٣٢٤ / ٢ .

٥) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨ .

١١٦
 &

والساعات ، فلا شيء إلّا الله الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الاُمور » (١) .

٢ ـ تغيير النظام الكوني : الحياة في الآخرة هي نشأة ثانية تقوم على نظام جديد يكتسب صفة الخلود ، ويشتمل على محض السعادة أو الشقاء ، ويتمّ ذلك بعد تغيير النظام السائد في النشأة الدنيا القائمة على الزوال والفناء ، قال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) .

وقد وصف الله تعالى ذلك التغيير الحاصل في السماوات والأرض في آيات كثيرة ، يدلّ مضمونها على تسيير الجبال ونسفها حتى تكون قاعاً صفصفاً ، أو كثيباً مهيلاً ، أو كالعهن المنفوش ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتكون الأرض بارزةً كما دحاها أول مرة ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ثم تتزلزل وترتجف وتندكّ ، وتتكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتتهافت النجوم وتنكدر ويذهب نورها ، وتحمرّ السماء ، فتكون وردةً كالدهان ، وتنشقّ وتتصدّع ، وتُطوى كطيّ السجل للكتب .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف ذلك اليوم : « يوم عبوس قمطرير ، ويوم كان شرّه مستطيراً ، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشقّ السماء فهي يومئذ واهية ، وتتغيّر فكأنّها وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعدما كانت صُمّاً صلاباً . . . » (٣) .

__________________________

١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٢٧٦ / الخطبة ( ١٨٦ ) .

٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٨ .

٣) أمالي الطوسي : ٢٨ / ٣١ .

١١٧
 &

٣ ـ نفخة الإحياء ، أو صيحة البعث : وهي النفخة التي تحيا بها جميع الكائنات في النشأة الآخرة ، قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (١) .

وقال سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (٢) .

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تنشقّ الأرض عن أحدٍ يوم القيامة إلّا وملكان آخذان بضبعيه ، يقولان : أجب ربّ العزّة » (٣) .

فيجيبون الداعي بعد أن تشقّق الأرض عنهم ، سراعاً إلى عرصة الموقف ، خشّعاً أبصارهم ، ترهقهم ذلّة ، كأنّهم جراد منتشر ، أو فراش مبثوث ، قال تعالى : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (٤) .

٤ ـ الحشر : الحشر : الجمع ، يقال : حشر القوم : جمعهم وساقهم ، ويراد بالحشر هنا : اجتماع الخلق يوم القيامة حيث يحشرون حشراً عاماً لا يستثني أحداً ، قال تعالى : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ

__________________________

١) سورة يس : ٣٦ / ٥١ ـ ٥٣ .

٢) سورة ق : ٥٠ / ٢٠ ـ ٢١ .

٣) الأمالي / الصدوق : ٤٩٧ / ٦٨١ .

٤) سورة المعارج : ٧٠ / ٤٣ ـ ٤٤ .

١١٨
 &

أَحَدًا ) (١) ويشمل الوحوش والدوابّ والطيور ، لقوله تعالى : ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (٢) وقوله : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (٣) .

والحشر من المنازل التي تذهل العقول وتروّع القلوب حتى تبلغ الحناجر ، حيث يُساق الخَلْق إلى أرض المحشر في يوم الفزع الأكبر ، كما خلقهم ربهم أول مرّة ، حفاةً عُراةً غُرلاً ، قد ألجمهم العرق من ضيق المكان .

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، خضوعاً ، قياماً ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متّسعاً » (٤) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين ، مثل السهم في القرب ، ليس له من الأرض إلّا موضع قدمه ، كالسهم في الكنانة ، لا يقدر أن يزول هاهنا ولا هاهنا » (٥) .

ويعرض الناس على ربهم صفاً لفصل القضاء ، لا تفاضل بينهم في نسب أو مال أو جاه أو مقام ، بارزين لا تخفى منهم خافية ( يَوْمَئِذٍ

__________________________

١) سورة الكهف : ١٨ / ٤٧ .

٢) سورة التكوير : ٨١ / ٥ .

٣) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨ .

٤) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ١٤٧ / الخطبة ( ١٠٢ ) .

٥) الكافي / الكليني ٨ : ١٤٣ / ١١٠ .

١١٩
 &

تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) (١) فيتبدّل الغيب شهادةً ، والسرّ علناً ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٢) وتظهر كلّ فعلةٍ أو عقيدة خافية ظهوراً بارزاً في أرض الموقف ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) (٣) .

ويتفاوت حشر الناس بحسب أعمالهم الظاهرة ، فيحشر المتقون ركباناً ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا ) (٤) وعلى وجوههم مظاهر الفرح والسرور ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ) (٥) بما اُعدّ لها من الثواب والفوز العظيم ، ولهم نور وبهاء يميزهم عن أهل الموقف ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ) (٦) .

ويحشر المجرمون من الكافرين والمشركين مقرّنين مع أوليائهم من الشياطين جثياً ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) (٧) ومع ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (٨) ويتميزون عن أهل الموقف بوجوههم المسودّة ومظاهرهم الكئيبة ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) (٩) .

__________________________

١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٨ .

٢) سورة الطارق : ٨٦ / ٩ .

٣) سورة غافر : ٤٠ / ١٦ .

٤) سورة مريم : ١٩ / ٨٥ .

٥) سورة عبس : ٨٠ / ٣٨ ـ ٣٩ .

٦) سورة الحديد : ٥٧ / ١٢ .

٧) سورة مريم : ١٩ / ٦٨ .

٨) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٧ .

٩) سورة عبس : ٨٠ / ٤٠ ـ ٤١ .

١٢٠